عرض كتاب العصامية والجربعة للكاتب محمد نعيم

“كانت رحلة المصريين نحو التحديث متمحورة حول معاني ومداخل عصامية وشريفة بالأساس وهي العلم والعمل”
يبدأ الجزء الأول من الكتاب بعنوان “خصال صاحبت رحلة التحديث” باستعراض صورة للفلاحين المصريين في القرن التاسع عشر كإنسان محني الظهر ووجهه في الأرض يحمل الطين -حرفيًا- ولا يفارق العمل الزراعي تحت إمرة الإقطاعي صاحب الأرض، تلك الصورة القاسية التي رسمها الكاتب ببراعة كانت بالغة الأهمية للتمهيد لمصطلح العصامية الذي يصف به بعد ذلك رحلة الفلاحيين المصريين في الترقي الاجتماعي وتحسين ظروفهم. كان التعليم والالتحاق بالميري “الجيش” هما سلاحي الفلاحيين الأساسيين للترقي الاجتماعي، فصار الفلاح أفنديًا وترقى حتى وصل إلى الباشوية.
استفاد المصريين من طموحات محمد علي العسكرية التي اضطرته لتجنيد الفلاحين المصريين، وأدركوا فوائد الانضمام لجيش النظام وجهاز الدولة الإداري. خلال هذا الفصل تطرق نعيم لملاحظات -بعضها لا ينتمي بالضرورة لنفس السياق الزمني- ولكنها ذات دلالات مهمة في السياق المعاصر; منها ملاحظات حول تشكيك قطاع واسع من المصريين في العلم، وبنفس الوقت تقديرهم الشديد للتعليم لكونه وسيلة للترقي الاجتماعي بجانب الالتحاق بالجيش، الذي كان بمثابة العائلة الكبيرة التي يمكن أن ينتمي إليها الفرد ولهذا أطلق عليه الكاتب بلاط الفلاحين. تناول الكاتب أيضًا قابلية المصريين للتغيير وتبني أفكار جديده كالجمهورية وسيادة الشعب والقومية والاشتراكية، وكيف تفاعل المصريين مع كثير من تلك الأفكار في مشروعهم نحو التحديث في مدة قصيرة نسبيًا بعكس عما هو شائع عن الجمود الفكري للمصريين.
ينتقل الفصل الثاني للحديث عما يسميه الكاتب “بالجربعة” والتي لم تكن تعبيرًا عن حالة اقتصادية أو طبقة اجتماعية” بل هي ولدت من داخل رحلة العصامية المصرية وعلى التناقض منها. يضرب الكاتب في هذا الفصل نماذج متعددة لقيم الجربعة كتقديس النزعة الفردية ورفض صيغ العمل الجماعي، أو الانتصار لقيم الاستبداد وقهر المستضعفين.. بمعني آخر، فالجربعة هي محاولة المصريين التنكر لماضيهم وإنكار قصص الكفاح التي خاضوها في رحلتهم للتحديث.
قدم الكاتب أيضًا تفسيرًا لظهور الجربعة باعتبارها المنظومة القيمية، التي صاحبت الصعود الطبقي لبعض المصريين نتيجة للفساد أو المحسوبيات في العهود الملكية، أو بظهور الرأسمالية الطفيلية منذ منتصف السبعينات بسبب سياسات الانفتاح الاقتصادي، واستغلال كبار موظفي الدولة ذلك الانفتاح لمضاعفة ثرواتهم إما عبر الفساد أو احتكار الأنشطة الريعية مستغلين مناصبهم. كما يشير هذا الفصل إلى بعض الخصائص “الجربوعية” الملازمة للطبقة الوسطى، التي لم يكن لديها أي هيمنة ثقافية، فهي طبقات وسطى حديثة بسبب سرعة التحول الاجتماعي، لهذا ظهر بينها “ميلًا غريزيًا” لرفض الوافدين الجدد.
من الأفكار الهامة التي أشار إليها الكاتب أيضًا، تلك الآثار العميقة التي سببتها “الهزائم المدوية” كنكسة 67 التي كانت شرطًا أساسيًا من الشروط المادية لتحقيق الإمكانات الجربوعية على أرض الواقع، فالهزيمة لا تشكك فقط في منطق العصامية، بل تصل لحد التماهي الكامل مع الفشل وإداراته وإعادة إنتاجه.. إدارة الفشل كان العنوان الأساسي للدولة المصرية في السبعينيّات وما تلاها في استثمار السيولة الاجتماعية ورفع يدها عن إدارة المجتمع وتحول الاستقرار “كهدف” في حد ذاته من أجل الاستمرار في السُلطة. يُشار أيضًا في هذا الفصل إلى التيارات التي ساهمت في الحفاظ على استدامة المنطق الجربوعي عبر خلق جدالات فارغة منفصلة عن واقع المصريين المُعاش، ساهم في هذا بعض التيارات آنذاك وعلى رأسها التيارات الإسلامية باعتبارها التيارات التي هيمنت على الفضاء العام وبدعم من السُلطة، والتي تعيد إنتاج نفسها كل فترة، فلا غرابة من ظهور نفس ذات النقاشات الثقافية التي ظهرت حينها في وقتنا الحالي.
أما الفصل الثالث فيعرض بعض من شفرات التمايز الاجتماعي، أو ما يقوم به المصريين لإظهار تميزهم الاجتماعي وتفوقهم على ما هو دونهم كظاهرة مصاحبة للتحولات الاجتماعية السريعة صعودًا وهبوطًا. الفصل به عدد من الملاحظات والمشاهدات حول علاقة المصريين بالعرق، وأفضلية الأعراق ذات البشرة الفاتحة والتباينات بين الرجال والنساء في هذا الصدد، وظواهر مثل الهوس بالحسد وعلاقة ذلك بتاريخ النُدرة والحرمان في مصر، أو الاهتمام المبالغ فيه في التمايز الاجتماعي من خلال اللكنات وتفضيل اللكنة القاهرية على ما سواها من لكنات محلية، وكلما زاد تطعيم اللغة بمصطلحات وبنطق أمريكي كان ذلك مثالًا على الرفعة الاجتماعية.
الجزء الثاني من الكتاب هو رحلة تاريخية يرصد فيها الكاتب المحطات الرئيسية للحراك الاجتماعي وتحري قيم العصامية والجربعة، بدأ من ثورة يوليو 1952 في طوريها الناصري والساداتي انتهاءًا بعصر مبارك. يركز الكاتب في ذلك الفصل على ظواهر بعينها; لذلك لا يتبع بالضرورة سردًا خطيًا.. يبدأ بتبديد ما يطلق عليه “بأوهام الحنين” للعصر للملكي، وعرضه لبعض الحقائق عن أوضاع غالبية المصريين في هذا العصر، فبعيدًا عن أوهام السوشيال ميديا، فالغالبية العظمى للأراضي الزراعية في هذا الوقت كانت مملوكة للأسرة العلوية ويعمل بها غالبية المصريين بالإقطاع وفي ظروف بالغة القسوة، بالإضافة للأوبئة التي كانت تعصف بأرواحهم.
ينتقل الكاتب بعدها للحديث عن ثورة يوليو واستعراض الإمكانات العصامية بها; حيث المحاولة الأولى لإنشاء أول جمهورية. ينتقل بعدها للحديث عن الستينيات والأزمات التي عصفت بعصامية يوليو مع صعود البرجوازية البيروقراطية والعسكرة انتهاءًا بالهزيمة الكبرى في 67.
يُصّر الكاتب على اعتبار 67 هي مرحلة فاصلة وفارقة في تاريخ جمهورية يوليو; حيث شكلت الهزيمة سمات المرحلة المقبلة وما كان فيها من هزائم، في السبعينيات بدأ طور “إدارة البقاء” حيث التطبيع مع الهزيمة والتعامل مع أفق جديد من الانبطاح. ينتقل الكاتب بعد ذلك إلى الحديث عن أبرز ملامح الفترة المُباركية وإلقاء الضوء على ثلاثة ظواهر جديدة وهي “الأمركة المُبكّرة وظهور الطور الجديد من الاستهلاكية الشديدة على النمط الأمريكي، هجرة العمالة المصرية للخليج باعتبارها من أبرز مراحل الحراك الطبقي خارج سيطرة الدولة، والصحوة الإسلامية سواء السياسية أو الاجتماعية”.
“لا شكَّ أننا نعيش أزمة سياسية ممتدَّة منذ صيف 2013، لكن لم تَعُد تلك هي المشكلة الأولى الجديرة بالتعامل الآن، فبالنظر إلى الوضع الذي ترتَّب عليها لاحقًا، سنجد مستوى غير مسبوق من تجفيف ومحاصرة لكل نشاط سياسي أو إعلامي أو ثقافي، تحوَّل معه أي إنتاج رمزي إلى موضع اشتباه في حدِّ ذاته”
الجزء الأخير من الكتاب يتناول بما يسمى “ملامح أزمة إعادة التأسيس الاجتماعي”، يمثل هذا الفصل ذروة الكتاب; حيث ينتهي الكاتب بعد استعراضه لكل ملامح السيولة الاجتماعية في مراحلها التاريخية المختلفة إلى الأزمة الهيكلية في تأسيس الجمهورية، ويشرح أسباب الاحتقان الاجتماعي والسياسي السابق لثورة يناير باعتبارها انفجار حالة الاستقرار في الطور الثاني لثورة يوليو خصوصًا فترات التحول الاقتصادي في عصر مبارك والسادات، بحيث لم يعد من الممكن كنس التراب مرة أخرى تحت السجاد، وأصبحت الأزمات التأسيسية للجمهورية المصرية تمر بمرحلة حرجة.. فالوضع السياسي والاقتصادي الحالي هو النموذج الأبرز لتلك حالة الانحطاط التي يشرّحها الكاتب.
أثار كتاب تاريخ العصامية والجربعة اهتمامًا كبيرًا منذ إصداره، بسبب لغته السهلة والبديعة -بالرغم من أهمية المواضيع التي يتناولها- وإبراز أهم الأزمات السياسية والهيكلية التي أفضت للوضع القائم/القاتم، ينطلق الكتاب في كثير من أجزائه وتحليلاته من مبادئ ماركسية، في فهم الواقع من منظور الصراع الطبقي وموقع الطبقات المختلفة من العملية الإنتاجية.
ولكن رغم سهولة لغة الكتاب والأفكار والملاحظات المهمة التي يتناولها; فالكتاب يحتوي أيضًا على بعض المشكلات، أهمها في رأيي هي السقوط في فخ التعريفات الأخلاقية غير المادية، فوصولًا لنهاية الكتاب لم يكن من السهل الحصول على تعريف متماسك وصلب لكلا من العصامية والجربعة، بالرغم من محاولة الكاتب في بعض أجزاء الكتاب انطلاقًا من ماركسيتيه تقديم تفسيرات منطلقة سواء من ظروف مادية أو من موضع الجماهير من نمط الانتاج، إلا أن غياب التماسك وسيطرة هذه النزعة الأخلاقية على كثير من أجزاء الكتاب أضعفت قدرته التفسيرية.
مشكلة التفسيرات الأخلاقية أنها لا تخلق طريق للتغيير تمامًا كالسرديات التي تفسر الوضع القاتم الحالي كنتيجة للفساد أو الانهيار الأخلاقي والاجتماعي، فهي في النهاية “تفسيرات” منبتة الصلة بالواقع المادي، بجانب أنها لا تُقدّم سُبل تغيير لهذا الواقع كما يحدث في القراءات الجدلية للتاريخ، فأطروحة الكتاب تتعامل كما لو أن العصامية/الجربعة خصائص لا تاريخية ثابتة، وفي كثير من الأجزاء قُدمت كظواهر اجتماعية عابرة للطبقات.
الكتاب يفتقد أيضًا للجودة الأكاديمية وأدوات البحث العلمي المتوقع تواجدها في أطروحات من هذا النوع، سواء للإشارات المرجعية أو الإحصاءات أو حتى الإشارة لأي دراسات تدلل بشكل مادي على استنتاجات الكاتب الحادة، وهذا يُفقد الكتاب الكثير. الكتاب ما هو إلا إعادة وصياغة منشورات الكاتب على الفيسبوك، وليس بحث أو دراسة للتأكيد عليها -وربما هذا سبب تسميتها بالتأملات- ولكن لعله يكون بداية لسلسلة أكثر عمقًا وتماسكًا مثقلة بالعديد من الوقائع التاريخية والإحصائيات لا لتفسر واقعنا “الجربوعي” فحسب، بل وتقدم أدوات لتغييره.
*صدر كتاب “تاريخ العصامية والجربعة: تأملات نقدية في الاجتماع السياسي الحديث” للكاتب محمد نعيم في يوليو 2021 عن دار المحروسة للنشر.