بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

فن وأدب

بعد أن اخترقت ألحانه حواجز الظلم وبعد أن صرخ "قوم يا مصري":

“أهو دا اللى صار” يا سيد!

هو «شيخ الموسيقى المصرية» صاحب «القلل القناوي» و«اهو دا اللي صار و ادي اللي كان». هو بلا مقدمات اللحن الذي انجبته ثورة 1919 سيد دريش.

ولد فى أسرة فقيرة فى حي سكندري ”كوم الدكة “ عام 1892. حي يطل على الأحياء الراقية. ولم يكن فى ذلك الوقت بكوم الدكة مدرسة بل كان هناك فقط كتاب لتحفيظ القرآن وبعض التعليم البسيط، واكتشف شيخه قدرته على التحكم فى مقاماته الموسيقية فى التلاوة والموشحات الدينية.

توفي والد سيد درويش و هو لا يزال في السابعة فتحمل المسئولية مبكرا وتزوج فى السادسة عشر من عمره واضطر للعمل والتعليم فى آن واحد.

وأخذ القدر يداعب درويش ويجذبه إلى طرق آخرى غير الفن فعمل كعامل بناء، فإذا به ينسي مشقة هذا العمل بالغناء فبدأ يغنى بين العمال فتأخذهم الهمة و ينهمكون فى العمل أكثر.

اكتفى المقاول بدوره في الغناء لتحفيز زملائه علي العمل فلم يكن لهذا المقاول علاقة بالفن ولكنه رأى فى درويش موهبة حقيقية تعطى شحنة نشاط وهمة للعمال فارتاح درويش من مشقة العمل وظل جالساً بين العمال يغنى لهم فكان غناءه نابع من احساسه بمشقتهم فى العمل.

الشام

ويدأ القدر يتدخل مرة أخرى فى عام 1909 بوجود رجلين من الشام كانا صاحبا فرقة مسرحية بالشام هما أمين وسليم عطا الله بجوار هذا الموقع كان هناك مقهى التقي درويش بهما فيه وسمعا صوته وهو يغني فعرضا عليه العمل بالفرقة مقابل أن يسافر معهما للشام وكان عمره 17 عاما على أن يبقى هناك عشرة أشهر فقط فلم يوفق مادياً ولكنه تعلم أنواع من الموسيقى وجمع تراث من الموسيقى من خلال الموسيقي المخضرم “عثمان الموصلي“ الذي التقى به فى عام 1912 بالشام مع نفس الفرقة وبدأ يدرس ويجمع التراث الموسيقي وتعرف أكثر على المقامات والموسيقيين ومنها فى ذلك الوقت المهجور أيضاًُ وتعمق فى ذلك ورجع بعد عامين بما جمعه من كتب وعلم التراث الموسيقي. وبدأت تتوالي إبدعاته فى الأغانى القصيرة وذات “الرتم“ السريع فى ذلك الوقت وبدأ صيته ينتشر إلى أن وصل للعملاق الشيخ سلامة حجازي، وعندما سمعه طلب منه أن يعمل في فرقته فى ذلك الوقت كان سلامة حجازى هو عملاق المسرح والغناء والموسيقى وكان دور سيد درويش فى المسرح هو الغناء بين الفصول – فواصل أو استراحات – وبدأ انتنشار اسم سيد درويش وزاد الطلب عليه إلى أن طلب منه التلحين لفرقة جورج أبيض ونجيب الريحانى وعلى الكسار ومنيرة المهدية.

مطرب الثورة

فى عام 1919 كان للشيخ سيد درويش فضل فى تنشيط وإثارة الثورة و التعبير عنها عن طريق الأناشيد الوطنية والأغانى فقد اندمج تماماً بالعمال والفلاحين وغيرهم من أصحاب المهن البسيطة وتغنى لهم وأمطر مصر بألحان رائعة مثل “أنا المصرى كريم العنصرين،قوم يامصرى” و “يا بلح زغلول” التي تحايل بها على حظر الاستعمار الغناء لسعد زغلول. و كان له قدرة عجيبة على التلاعب بالمقامات الموسيقية لديه قدرة على يجعل المقامات مرنة فهو كان ينتقل من مقام إلى مقام بحرية و يرجع بأول المقام مرة أخرى ولكن طموحات درويش لم تكن مسرحية ولم تكن مادية بل كانت موسيقية من الدرجة الأولى وكان دائم التطور و كان المسرح هو الوسط الملائم له ولكنه اصطدم بإدارات تلك الفرق التى كانت تبحث عن الهزل والسخرية أكثر من الجد.

فى عام 1920 أنشأ سيد درويش فرقته الخاصة وقدم فيها روايات العشرة الطيبة لمحمد تيمور وشهرزاد لبيرم التونسى والباروكة الإيطالية، وواجه انتقاد وهجوم على بعض من أغانيه مثل “ارخى الستارة اللي فى رحنا “ ولكنه عالج ذلك بأن المسرحيات الغنائية ليس لها قوانين فى الغناء الطربي فكان حوار يدار في قالب موسيقي، إلى أن نجح ذلك مع الجمهور وتآلف هذا مع الجمهور نظرا لبساطة الأفكار والتعبيرات والأداءات الغنائية.

فى ذلك الوقت ظهر عملاقان آخران هما داود حسني وكامل الخلعي وكانا يجيدان تلحين أعقد النصوص حتى الأوبرا، وكان على سيد درويش صاحب البساطة فى الأداء والكلمات والألحان المنافسة، وكان سبب هذا هو اختلاف النوعان فى الموسيقى بين “داود حسنى وكامل الخلعى“ و “سيد درويش“ فكان لكل منهما نوع فى الموسيقى وتعبير وأفكار مختلفة يقدمها للجمهور وقد وفق درويش فى ذلك وخرج من المنافسة بسلام.

من الناس وإليهم

كان درويش يستلهم موسيقاه من الألحان الشعبية البسيطة التى يرددها الناس في المناسبات وكان يستمع إلى كافة طوائف الشعب من باعة جائلين و”شياليين” ومراكبية و”سقايين“ وفلاحين وعمال وغيرهم من الحرفيين والمهنيين وكان له القدرة على تحويل تلك النغمات البسيطة إلى ألحان ذكية يستطيع كل الناس ترديدها فى سهولة ويحكي عنه صديقه “بديع خيرى” أنه كان يصطحبه إلى حى “بولاق“ يستمع إلى بائع العجوة وهو ينادي: “على مال مكة.. على مال جدة.. مال المدينة يا شغل الحجاز“ وظهرت تلك النغمات فى لحنه الشهير “مليحة قوي القلل القناوي“. هذه الرحلة الطويلة تجعلك تقرأ أن التعبير الموسيقي عند سيد درويش يتلخص في اختيارالكلمات والتعبير عن الموضوع والكلمة باللحن وصياغة الجمل اللحنية فى أبسط صورة فكانت صياغة الألحان فى تراكيب حديثة متطورة وإيقاع مليء بالحيوية والبساطة. نشأته في كوم الدكة وتعايشه مع الواقع السياسي والاجتماعي جعلاه يعبر بفنه عن هموم وطنه وشعبه في أصدق صورة بلا تزيين أو تزييف باللحن والكلمة ومن أهم أسباب انتشار موسيقاه أنها بسيطة وسهلة وعميقة التعبير بالنغمات والكلمات والأداء وتأثيرها على الجمهور ولم تكن تحتاج إلى أصوات محترفة للتعبير عنها فقد كانت الأغاني السائدة فى ذلك الوقت من أصول تركية غير معبرة عن البيئة والمزاج المصرى فكانت لا تمت بأي علاقة بين الوضع الراهن وقتها فى مصر من احتلال واستبداد أو لها علاقة بالصنايعية والفلاحين والعمال سواء كانت من الفولكلور والتراث القديم ولكن كان لابد أن يوجد جديد وتطور لدى سيد درويش ليقدمه لهولاء الذي عمل معهم وغنى لهم. بل يمكن القول أنه كسر احتكار النخب الأرستقراطية لتعلم الموسيقى وعزفها وسماعها أيضا.

عاش 100 سنة

لم يتجاوز عمر سيد درويش الفني ست سنوات لكنه ترك كنزا وفيرا من الموسيقى وكانت أشهر اغانيه “قوم يامصري“ وقد كانت عبارة عن كلمات منشورة فى إحدى الصحف فقام بتلحينها لبديع خيري فقد كان الشعور الوطنى آنذاك يوحد بين الكتاب والملحنين والفنانين في وقت ساد فيه الاحتلال وفساد السلطة ولم يكن يتقاضى أجرا على تلحين الأغنية، حدث هذا في معظم ألحانه الوطنية. عندما تريد أن تعرف من هو سيد درويش تراه يتحدث عن نفسه وعن اهتمامته وشغله الشاغل فى أغانيه وعن انتمائه للبسطاء وهذا تراه في أغنيات ”أنا المصرى كريم العنصرين” “قوم يامصرى مصر دايما بتناديك“ “طلعت يا محلى نورها“ ”الحلوة دى قامت تعجن فى البدرية“ “لحن الصنايعية“، والنشيد الوطني المستوحى من كلمات مصطفى كامل “بلادى بلادي لك حبي وفؤادي” و”ياعزيز عينى” و”انا بدى اروح بلدى“ وكانت لكل أغنية من أغاني سيد درويش له علاقة بحقيقة عاش فيها لذلك كان مؤمنا بكل كلمة يلحنها ولذلك هي عاشت إلى الآن. توفي سيد درويش عن عمر يناهز 31 عاماً وترك لنا مقاما موسيقيا جديدا اسمهاه “زنجران” وهذا إن لم تكن التسمية مأخوذة من النغمة العربية القديمة التي وردت في كتاب الأدوار “لصفى الدين عبد المؤمن الأرموى“ المعروفة باسم زنكلاه. هذه النغمة المركبة وتتألف من ثلاث نغمات “العجم / الحجاز كار / الجهار كار“ بشكل مترابط.

و هذا الترابط التي تسميه الزنجير أعطى لهذه النغمة هذه التسمية. وهو مقام السهل الممتنع وقد وقف أمامه موسيقيون آخرون عاجزين عن تفهم أي نوع من العبقرية الموسيقية يمتلك سيد ردويش. فقد رفض أن يكون الغناء مقصورا على المطربين وجعل الغناء للجميع ولأبسط الناس بأن يحسوا ما “ينطقوه من الموسيقى”، وخلص إلى أن الغناء تمرد على الكرسي والسلطنة وغنى للحركة والشعب والعمل والمشقة.