بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

أدباء وفنانون من أجل التغيير

واقع ثقافي جديد يتشكل الآن في مصر على خلفية المد الجماهيري المنظم ولم يكن المثقفون بعيدين عن هذا الواقع. يعرض خالد الصاوي لآفاق حركة أدباء وفنانون من أجل التغيير مشيرًا إلى أهمية انفتاح حركات التغيير على بعضها البعض.

لم يعد المثقف أو المبدع المعارض حدثًا استثنائيًا كفؤاد نجم أو محسنة توفيق، إذ تكتل المعارضون من المشتغلين بالإنتاج الثقافي والإبداعي فشكلوا قطبًا جاذبًا لكل من هم “غير متوافقين” مع النظام لأسباب قومية أو طبقية أو مهنية بحتة، قطبًا نشطًا يستمد شرعيته من نضال الشارع لا من ثرثرة الغرف المكيفة، ويتلمس قوته التدريجية من محاولاته لتنظيم وتوسعه الاحتجاجات المتتالية، وتبنيه لطموحات وهموم مختلف قطاعات الطبقة الوسطى التي انحدر منها هذا القطب وشكلته جزئيًا أزمتها المعاصرة.

ويومًا بعد يوم تزداد حركة المعارضة داخل أوساط المثقفين والمبدعين ثقة وعددًا وارتباطًا بالنضال بديلاً للمساومة، وتأخذ مطالبها منحى أكثر جذرية نتيجة للواقع المعقد الذي يبدد كافة المحاولات الإصلاحية المهادنة، فيزداد اليقين العام أنه بالحركة الجماعية المنظمة – لا بالتأمل السلبي – وبخبرة النضال المتراكمة بسرعة في هذه الأيام الساخنة يقفز الوعي الجمعي للأمام في معركة التغيير ويسترد المثقف والمبدع مكانهما الهام في مقدمة الصفوف..

فلاش باك:
من الصف الأول جاء رفض الروائي الكبير صنع الله إبراهيم جائزته احتجاجًا على سياسات النظام الحاكم، فنقل حالة التذمر في ميدان الثقافة والإبداع إلى مواجهة مكشوفة ما بين منطق المثقف/ المبدع العاجز رغم نجاحه المهني عن التوافق مع النظام السائد، ومنطق السلطة المتحجرة في مواجهته. وعقب وزير الثقافة على هذا الموقف “المحرج” بأنه دليل على مدى استمتاع صنع الله بالمناخ الديموقراطي الذي يزين حياتنا، وبشر الوزير بعودة الأديب إلى “حظيرة وزارة الثقافة” التي يستوعب حضنها شطحات المبدعين!

لقد كشف التعبير المجازي لوزير الثقافة عن حقيقة رؤية الدولة للحقل الثقافي والإبداعي بما لا يتجاوز الوصف الذي أطلقه عليه الوزير.. أي “الحظيرة”! فمقارنة بالملايين التي تنفقها الحكومة على تشجيع الاستثمارات المزعومة وتعبيد الطريق للمزيد من الاستغلال، تنفق الملاليم على الثقافة والفنون استكمالاً لنهجها الانسحابي من عدة حقول حساسة – كالتعليم مثلاً – وفوق هذا نجد نخبوية مريضة وتمييزًا غير إنساني حيث تتم التضحية بقطاعات فقيرة – هي بالآلاف – من المثقفين والمبدعين لصالح النخبة أو “قشدة الوسط الثقافي والإبداعي” – أي مستثمريه ومديريه ونجومه المحظوظين. ويمتد بؤس الصورة داخل “حظيرة الثقافة” كما يتغلغل في جميع حظائر هذه الدولة وفي سائر الأوساط. فالفساد والمحسوبية على أعلى المستويات، والاستغلال يتنامى ويتوحش بمعدلات غير مسبوقة، والتناقضات المزمنة تعصف بالعقد الاجتماعي الذي حررته الطبقة الوسطى مع قيادة الثورة قبل نصف قرن وتم بمقتضاه إدماج الجيش في السلطة السياسية والاقتصادية بعدما تبنى وبلور المشروع الاجتماعي للطبقة الوسطى في مساراته التنموية/ التحررية/ الوحدوية، والتكافلية أيضًا. نفس الدولة التي فتحت الأفق للطبقة الوسطى وقتها تغيرت الآن كليًا بحيث تخلت عن أحلام الطبقات الشعبية جميعًا ولم تعد تعكس إلا مصالح ورؤى كبار المستثمرين والاحتكاريين طبقًا لمنظومة العولمة الرأسمالية العنيفة التي استسلم النظام لكل شروطها للأسف.

قصة شريحة:
في إطار الدولة “الليبرالية” التي بنيت على أنقاض المد الثوري لعام 1919 تطور قطاع المشتغلين بالإنتاج الذهني، ونجحت مؤسسات الثقافة والفنون في جذب وتطوير المواهب المحلية والإقليمية، وانتعشت برجوازية الإنتاج الذهني حتى أصبحت السينما المصرية أهم مصادر الدخل القومي بعد القطن (هذا بالرغم من تبعيتها المعنوية شبه الكاملة للأفق الهوليودي وهي سمة أصيلة في البرجوازيات العربية عامة حيث الركاكة والسطحية والعبودية الكاملة للطراز الغربي واضطرابات الهوية).

وعلى مدار العصر الليبرالي المصري تبلورت التناقضات الحادة الجديدة، ونمت بالتالي إرهاصات التبشير بالمجتمع الجديد الذي صاغت مبادئه بأمانة حركة الجيش في 1952. وهكذا انفتح أمام الطبقة الوسطى أفق جديد، حيث اقتربت كثيرًا من السلطة والثروة بعدما كان مجرد التفكير في اقتسامها مع القصر والقنصلية البريطانية وزمرة الملاك البرجوازيين من محرمات العهد السابق. وجندت سلطة يوليو الإنتاج الثقافي والفني لبث دعاية صديقة لها. ومن خلال سيطرتها الكاملة ثم ملكيتها للغالبية الفاعلة من وسائل الإنتاج الذهني من المطبعة إلى دار العرض، ثم توظيف واستئجار المثقفين والمبدعين وإدماجهم في الدولاب البيروقراطي على النمط العقيم للكتلة الشرقية وقتها. رغم ذلك خلقت الدولة مؤسسات ثقافية طموحة كجهاز الثقافة الجماهيرية، ومؤسسة السينما، ومعاهد وكليات الفنون. وبدا خلال التجربة الناصرية أن مجتمع الكفاية والعدل ممكن.

بدءًا من عام 1967 ومع هزيمة المشروع الناصري، وبشكل أكبر مع انفراد السادات بالسلطة، بدأ عصر الانفتاح والتطبيع والتعلق بالإمبريالية الأمريكية. انشغلت الدولة عن برامجها التثقيفية والإبداعية، وانفتحت طاقات النهب والفساد والانحطاط داخل وخارج مؤسسات الدولة الثقافية والفنية. هكذا انقلب سلم القيم، وعلت التفاهة والابتذال، واستحالت الجدية كآبة واغترابًا. بعدها اتسعت الفجوات المذهلة بين مستويات أعضاء المجال الفني الواحد، حيث خلت الساحة للقطاع الخاص واستثمارات البترودولار، وانقلبت الساحات الثقافية والفنية الرسمية إلى خرائب منهوبة تباعًا وقد كانت مشاريع لمؤسسات قومية كبرى على طراز الحلم الناصري للطبقة الوسطى.

بوصول مبارك للحكم تم تطليق الدولة للطبقة الوسطى غيابيًا ونهائيًا. وارتمت الدولة في الحضن الدافئ لليبرالية الجديدة – بطولة ريجان وتاتشر – وأعيدت هيكلة الحياة الثقافية والفنية كجزء من برامج إدماج مصر في السوق العالمية بحيث يتمكن الاستثمار الجديد من أرزاق البشر بسلاسة، وأشاد معسكر الاستعمار الرأسمالي كله بحنكة النظام المصري في إدارة عمليات البيع الشاملة من المؤسسات الحيوية – والفاشلة – للقطاع العام إلى طرح شروط ميسرة لحل الصراع العربي/ الإسرائيلي.

تغيرت الدنيا خارج وداخل مصر، وأصبحت مؤسسات الإنتاج الذهني مجرد بيوت استثمار للتسلية الفارغة، وصار لدينا مساران ثقافيان/ فنيان متناقضان كليًا: المسار التجاري التقليدي والمسار الجاد المهمش. وعلى هذه الخلفية امتد عصر فاروق حسني خلفًا للوزير الدرعمي السابق عليه د. هيكل والذي تراخى قليلاً مع التيار السلفي فتبنت السلطة فنانًا تشكيليًا وإداريًا إيطالي الدراسة والخبرة ليحقق تقاربًا أوروبيًا ويعيد تلوين الحياة الثقافية المصرية في عيون العالم الغربي، ويطهر الوزارة من متعلقات الإرث الثقافي الداكن لثروت عكاشة.. وقد كان.

وتطورت عناصر الاستغلال الخاص والنهب العام بتحول الفساد إلى منظومة متكاملة، وازدادت الفجوات الاجتماعية والفكرية فيما بين المثقفين والمبدعين أنفسهم، وازدادت التناقضات وتباعدت المسافات بين الغالبية الساحقة منهم والدولة والمجتمع كله من جهة أخرى. واستحوذت المناصب على مريديها المتعبدين فيها وسيطر على الساحة جو الكرنفالية الموسمية والسياحة الثقافية المنحطة. انتفخت جيوب المديرين الحكوميين بحوافز الإنتاج وسائر أشكال الاستغلال والبلطجية البيروقراطية بينما فنانو الثقافة الجماهيرية يخاطرون بحياتهم لتقديم مسرحية وأدباء الأقاليم مطرودون من الفردوس الإعلامي للعاصمة. تخلت الوزارة عن السينما في قاع بؤسها وانهيارها في التسعينيات، وانهمك المنهمكون في استثمارات الآثار، وانطلق مارد الفيديو كليب من عقالة وانتصرت تجارة الجسد والجنس الافتراضي على الفضائيات وتوحشت البرامج الفنية في تكامل نادر بين تفاهة الأجهزة الثقافية والفنية وسخف ونفاق الأجهزة الإعلامية. واضطر الجميع للانحناء لعاصفة التحديث الرأسمالي، خاصة وأن الفضل يرجع عمليًا لهذه المؤسسات الوليدة في إعادة الانتعاش لسوق الفنون بعدما انهار منتجو التسعينيات وتكلست أجهزة الدولة.

حركة جديدة في مسار التغيير:
ودع العالم القرن العشرين السفاح بعيون كسيرة ما بين تراجع الحركات الجماهيرية وتوحش الاستغلال. وفجأة اندلعت الشرارة الجماهيرية في العرين نفسه حيث نهضت جماهير العالم الرأسمالي الغربي من مشارب شتى للاحتجاج على سياسات العولمة الرأسمالية ضد قطاعات ضخمة من الفقراء والمهمشين والمضطهدين. ودشنت انتفاضة الأقصى قداسة المقاومة وأشعلت تشوق الجماهير العربية والعالمية إلى النضال من أجل الهدف بدلاً من الاستجداء العقيم. واندفعت مظاهرات القاهرة تندد بالصهيونية والعدو الأمريكي والسلبية العربية المريبة. وتشكلت لجان التضامن هنا وهناك، وانخرط فيها المثقفون والفنانون المعارضون كالعادة ولكنهم جاءوا وراء الجماهير هذه المرة. فقد انكشفت للجماهير اللعبة القذرة للإمبريالية وأعوانها، وتبدد وهم الرخاء ليحل محله كابوس الفاقة، وصار ملموسًا أن الانفتاح والتطبيع والخصخصة والكويز هي مسميات مختلفة لعملية واحدة أو توصيف لمراحلها المتعاقبة في سياق الغرض النهائي الذي تسعى لنيله الطبقات الحاكمة في العالم الرأسمالي – أي ثروات وامتيازات العرب – بتحالف تقليدي مع البرجوازيات العربية الراضية بالفتات والغارقة في الفساد.

ومع انقضاض جيوش العولمة على الجماهير العراقية احتلت الجماهير في مصر ميدان التحرير رابطة بين النضال ضد الاستعمار والنضال ضد الاستغلال عامة والاستبداد العربي خاصة. ومن رحم ذلك اليوم الفريد – 20 مارس 2003 – بعث الأمل الذي يؤمن به كل اشتراكي جذري: أن التغيير لصالح الجماهير لا يتم مطلقًا إلا بأيدي هذه الجماهير.

موقع حركة المثقفين والمبدعين من برنامج الطبقة الوسطى للتغيير:
هناك ثلاثة مطالب جوهرية يمكن قراءتها بين سطور جميع حركات التغيير الحالية.

الأول: القضاء على الفساد إنعاشًا لمبدأ تكافؤ الفرص.

الثاني: إعادة تمثيل الطبقة الوسطى في السلطة وإقرار مطلبها بإعادة تقسيم الثروة القومية.

والثالث: توفير الاستقرار اللازم لحماية نمط الإنتاج الرأسمالي نفسه سواء من بطش المنافسة الدولية أو من الثورات الجماهيرية. ذلك أن الطبقات الوسطى العربية واقعة تحت تأثير الطبقات الحاكمة والتي تؤمن بإمكانية التطول الآلي السلس على طريق الديموقراطيات الليبرالية بالغرب واليابان دون اعتبار لتغير الظروف وسيادة الأزمة الرأسمالية عالميًا. كل ما في الأمر أن للطبقة الوسطى بصمتها الخاصة حيث لا تتخيل العيش دون حائط صد اجتماعي هو الدولة المركزية نفسها والجاهزة للتدخل لإنقاذها لدى الحاجة. تريد الطبقة الوسطى إذن نصف ثورة اجتماعية لأنها تخشى تداعيات الحماس الثوري للجماهير. تريد نصف معركة مع الاستعمار الرأسمالي بهدف قبولها ودمجها ولو في قاع مؤسساته، إن التغيير على طريقة الطبقة الوسطى إذن هو التوصل إلى حل وسط بين الأطراف المتناقضة ولهذا فهو تغيير شكلي في نهاية الأمر وتسويف للحلول ومجرد ذريعة للاسترخاء البيروقراطي. الأزمة هنا.. في تبني أو تجاهل الطبقة الوسطى للمطالب الأكثر شعبية وجذرية والتي تقدمها على استحياء الشرائح الاجتماعية الكادحة والمطحونة، وهي لا زالت أغلبية الكتل الجماهيرية.

إننا كاشتراكيين نساند برنامج حركة الأدباء والفنانين للتغيير كما نساند كل حركة تبشر بدفع العجلة للأمام من منطلق التوحد على القاسم المشترك بيننا جميعًا خاصة وأنه حد أدنى مرتفع ومحترم.. فطبقًا لبيانها التأسيسي، وأوراقها الأولي، نادت حركة كتاب وأدباء وفنانون من أجل التغيير بجمهورية ديموقراطية بكل سمات التداول السلمي للسلطة، ودافعت عن حريات الفكر والإبداع واستقلال حركة الجماهير، كما أعلنت رفضها النفوذ الأجنبي والتطبيع، ولمحت إلى ضرورة إعادة توزيع الثروة. ودار سجال داخل الحركة حول مدى استقلالها عن حركات التغيير الأخرى، ولم يحسم هذا الأمر بالمناقشة ولكن حسمته محرقة قصر ثقافة بني سويف بوقائعها الكابوسية والمهينة والتي أججت حركة الاحتجاج في أوساط المثقفين والفنانين تحت اسم جماعة 5 سبتمبر حيث تضامن معها عدد من الحركات والحملات الشعبية على مطالب محددة ممكنة التحقيق كمحاسبة المسئولية من الوزير للخفير، معاملة المتوفين والمصابين كشهداء ومصابي حرب، وتقديم ضمانات واضحة لعدم تكرار الكارثة في إطار رقابة شعبية فعالة.

ماذا غدًا؟
هل ستعمل جماعة 5 سبتمبر كرافعة مطلبية لحركة أدباء وفنانون من أجل التغيير؟ هل تنجح الحركة في جذب رموزها الموقعين على البيان التأسيسي في فعاليات الشارع وفي مؤتمرها القادم؟ وماذا بعد؟ هل تنفتح حركات التغيير كلها على بعضها البعض؟ نحن نرحب بالطبع بخلق الطبقة الوسطى لتنظيماتها المستقلة، ليس لإننا نراهن على برامجها “المختلفة” حول مسألة التغيير، ولكن لأنه متوقف على هذا الإنجاز المهم نجاح الطبقة العاملة وسائر الكادحين والعاطلين عن العمل في خلق تنظيماتهم المستقلة وحلفهم الطبقي الواسع ضد مثلث الأعداء السفاحين: الاستغلال والاستبداد والاستعمار.