بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

في البدء كان الإحساس

* الكتاب: حيوانات أيامنا (كتاب قصصي)
* المؤلف: محمد المخزنجي
* الناشر: دار الشروق
* تاريخ النشر: 2006

ما وجه الشبه بين عالم البشر وعالم الحيوانات؟ هل هناك ثمة مشترك بين هذه العوالم التي تبدو مختلفة؟

كثير من الكتابات اهتمت بهذه المسألة وحاولت إظهار التقاطعات والمشتركات. وقد استعان المخزنجي بالعديد منها كاستهلال لقصصه. وبالرغم من عدم اطلاعي على معظمها، ففي تقديري أن ما كان يشغل بال المخزنجي أثناء الكتابة شيئا لا يخرج كثيرا عن ثنائية الإنسان/الحيوان، ولكن في إطار قصصي مختلف، ربما يحلو للبعض من نقادنا الكلاسيكيين تسميته بأدب الرحلات، أو تصنيفه على أنه محاولة للسير على درب كليلة ودمنة. ولكن ما قرأته أثبت لي أن المخزنجي، الذي طالما كتب عن البشر وحياة الشعوب ومعاناتها، والذي زار العديد من بلدانها – ومعظمها في العالم الثالث – قد سار على درب مختلف.

فحيوانات المخزنجي وطيوره وسمكاته، لا يمكنك أن تفرق بينهم وبين بشر طيبين مثلهم في القصص. أو ربما تكون قد عرفتهم في حياتك! بشر تعبوا وذاقوا مرارات وحلموا وسعوا ولا زالوا يحاولون. لذلك يمكنني أن أجزم بلا أي مبالغة أن المشترك بين هذه العوالم في قصص المجموعة هو الإحساس، بما يعنيه من عملية وجدانية تساعد على بناء نوعية من الكائنات تتمتع بصفات دُرج على تسميتها بالـ”إنسانية”.

وكما أن الإنسان ضحية لعالم الشر وحب التملك والسيطرة، سنجد في عوالم حيوانات المخزنجي أوضاع شبيهة. فالغزلان الوديعة صارت وليمة لجنود المارينز الذي اقتحموا قصر الرئاسة – ربما في العراق أو في أي أرض أخرى. لكن الأسود التي كانت تستطعم لحم من يغضب عليهم ابن الرئيس المخلوع، فقد تم الاحتفاظ بها. والمهر الصغير لا يستطيع عمل شيء لأمه المسلوبة من بين يديه – ربما لاغتصابها كما حدث مع العراقيات. والجراء الصغيرة، وهي الوحيدة القادرة على سماع تآوهات من يعذبون في غياهب معتقلات قابعة تحت الأرض، ترتجف وتبكي من هول ما تستشعره. والبغال التي تجر الأحمال لعصابات التهريب التي تقوم برشوة أفراد الحراسات، ويمكن التضحية بها إن أراد النظام، تدفع وحدها ثمن كل هذا بما فيه رميها بالرصاص في واحدة من الغضبات النظامية. والفيل الوديع يُستخدم كمادة جديدة للإرهاب بوضع نمل في أذنه ليهيج ويتسبب بهياجه في تدمير وقتل دون أن يكون له أي ذنب.

تتحرك الحيوانات في أكثر من قصة رافضة أوضاعها المهينة. سنجد الجنادب، التواقة للحرية والكارهة لكل أشكال الزيف الذي حولها إلى مسخ نحاسي، تتحين الفرصة للهروب والانطلاق. وهناك أيضا الحصان الذي يعيش حياة رتيبة تبعث على الاكتئاب وتنشأ بينه وبين أحد راكبيه حالة انسجام ويرفض، بعدما تنتهي مهمته في توصيله، التسليم بالعودة للاكتئاب والوحدة، فيرتعد حزنا على فقدان من كان سببا في نشوته. أيضا سنجد الجواميس التي هاجت رافضة وضعا استمر لسنوات ظلت خلاله تعمل ليل نهار مما أعطى لمنتوجها صفات الهزال والرداءة.

وفي قصص شديدة الجمال والعذوبة سنجد السمكات الأرجوانية الصغيرة التي تشعر بمن يطعمها ولا تستجيب لمن عداه. والسيدة “المجنونة” التي تضاجع الدببة، فقط لأنها مرت بتجربة اكتشفت من خلالها كيف يكون الحب وكيف تكون التضحية مع دب هام بها في وقت كانت مُعدّة فيه كطعم لاصطياده.

وبالمعكوس نجد رجلا كادت حياته أن تضيع في البحر في واحدة من إغراءات البحر مع السمكة الفراشة، نجده بعد سنوات وهو قعيد الكرسي المتحرك لا يزال يذهب لنفس المكان في نفس الوقت ليتذكر – بشكل يومي – المغامرة برمتها. أيضا هناك الرجل الذي تحول إلى فيل أفريقي كبير من فرط حبه الشديد وتعلقه بدور هذا الأخير كرادع سلمي في الغابة.

نجح المخزنجي في أنسنة حيواناته. لكن ظلت العوالم التي تحياها تدفع في اتجاهات أكثر قبحا وتشيؤا من جرّاء تسييد أنماط حياتية شريرة معادية للحياة، أنماط تضغط بشدة لهزيمة كل ما هو نبيل.