بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

حمام النوبة المغرد خارج السرب

أشار عم علي كرار، السائق النوبي إلى جزيرة غرب أسوان، وقال: دي الجزيرة. ولم يجد عم علي ما يميزها أكثر من إن “محمد حمام اتولد هنا”.

مصر الخمسينيات: مجتمع نابض بالأمل والرغبة في التغيير، تصادره حركة عسكرية باسم الثورة، تحتكر التفكير السياسي والمستقبل، ولا تميز، وسط غبار معاركها الداخلية والخارجية، بين أعداء تاريخيين، على رأسهم محترفو السياسة قبل 52، وبين أصدقاء محتملين لشعارات بدأت الحركة في طرحها مبكرا، مثل الاشتراكية والتقدمية.

بكرة يطلع النهار
وفي سجن سيوه الرهيب دفع محمد حمام ثمن الحلم الأول، فكان خريج قسم العمارة بكلية الفنون الجميلة من أصغر معتقلي القبضة الشهيرة: 1959- 1964، بتهمة الانضمام إلى حزب الراية الشيوعي.

سنوات سيوه تحولت إلى ما يشبه الأسطورة، كما صورتها مذكرات من عاشوها. هناك احتفى النظام الناصري بنخبة من فناني ومفكري مصر على طريقته، وعلى مدار السنوات الخمس، تحول المعتقل الرهيب إلى ورشة فنية إبداعية، تؤلف النصوص الجميلة، وتحولها إلى عروض فنية، ويولد المطرب محمد حمام من رحاب أحدها، وهو عرض حدوتة الشاطر حسن، بتأليف جماعي لفؤاد حداد ومتولي عبد اللطيف وشوكت عبد الوهاب ومحمد عبد الغفار.

طعم صوتي مُر ليه؟
بعد المعتقل بحث الجميع عن واقعية تعايش مع النظام، إلا محمد حمام، فهو لا يشبه أحدا.

عندما كان الطريق أمامه ممهدا إلى الإعلام، دخل إلى وجدان مستمعيه بسرعة البرق على جناح “بيوت السويس” و”يا اماه”. وكانت الأخيرة مقدمة لمسلسل الخامسة والربع بالإذاعة، وأتذكر أنه كان موعدا لا ينساه أحد، الأمهات والجدات، ونحن الأطفال، يلتف الجميع حول الراديو حتى تنتهي المقدمة، فنتفرق إلى أشغالنا دون اهتمام بالمسلسل نفسه.

لكن لدى محمد حمام ما يدهش به الجميع، فقد تعامل مع الغناء بطريقة المناضل، واعتبر أن كل ما يفعله هو جزء من قضية كبيرة. الذين وضعوا حمام بعد ظهوره إلى جانب عبد الحليم، نسوا أن الأخير مطرب النظام، الذي قال عنه درويش: “كان المطرب الرسمي يصنع من نسيج جلودنا وتر الكمان، ويطرب المتفرجين”، وكان من الذكاء أن يتفاداه حمام الصاعد وقتها. لكنه ببراءة جنوبية فريدة يظهر في تليفزيون الدولة، ويهاجم مطرب الدولة، ويتهمه بمحاربته، وهو ما اعتبره صديقه الأبنودي خطأ يصعب إصلاحه، فقد تم استبعاد حمام نهائيا من الإعلام الرسمي، عقابا له على مواقفه الوطنية، وعلى صراحته أيضا.

حمام في علاقته بالغناء لغز، فهو دائما على القمة، بحكم مستوى أغنياته وصوته الفريد، لكنه كان دائما بعيدا عن الغناء. ولا يمكن لمن يتابع حياته أن يفهم أين كان يضع الغناء في سلم الأولويات، وهو المهندس والمناضل والمثقف والسياسي النشط الذي يحاول أكثر من مرة دخول البرلمان.

ولا مرة في دقاته يقول غيرك
وحمام شاعر يبدو كأنه يهرب من شعره، فلا يذكره ولا يغني لنفسه، وشعره يشبه جداول النيل البرية بين قرى النوبة التي غرقت تحت البحيرة، بسيط وعفوي. ولوعته نوبية جدا: “قالوا لي النيل ح ياخد أرضكو منكو”. هل يمكن أن يكون الزعل والعتاب أرق من هذا؟

وحمام ملحن، أعرف له مشروعا تلحينيا واحدا، لفيلم كان يستعد للتمثيل والغناء فيه، ولم يخرج إلى النور. وقد استمعت بالمصادفة لأغنيات الفيلم التي لحنها حمام، وكان بعضها مدهشا، مثل هذا اللحن الذي لا يفارقني، ولا أعرف من كتب كلماته:

يدوق القلب طعم المُر مية مرة ولا مرة في دقاته يقول غيرك وتتبدل حاجات حلوة بحاجات مرة ويفضل بس في عروقي حنان ليلـِك

ورغم أن اللحن من مقام مصري شعبي شرقي جدا، هو البياتي، إلا أن اللمسة الجنوبية طاغية، ولم أستطع أبدا أن أهتدي للسر، سوى أن روح الرجل معلقة بوجدان الغناء هكذا، على الطريقة النوبية.

وعندما التقيته مرة وحيدة قبل خمسة عشر عاما، اندهش عندما سألته عن ألحانه لهذا الفيلم، وقال بطيبة: أشكرك يا اخي، بس فكرني باللحن كدا.

تغني لي بصوت متحني حنية
هذه هي علاقة حمام بالغناء، مطرب أصبح “ألفا” من أول يوم، لكنه لا يلتفت إلى مباهج الشهرة والمال، بدليل ما يحكيه الأبنودي عنه قائلا: “كان يؤمن بأن الغناء يصلح لأن يكون وسيلة نضال، ولكن لم يتمكن من تحقيق هدفه الكبير بسبب انقطاعاته وابتعاده المتواصل، ثم إنه صوت تكمن عبقريته في فطريته، أي أنه لم يكن قابلا للقولبة، وهو ما يحتاج إليه فن الغناء، فنحن في النهاية نتعامل مع ملحن وفرق موسيقية وقواعد مستقرة للغناء، وكان يسخر حين نطرح عليه ذلك، فلم يكن الغناء قضية حياة لديه مثل محمد منير، الذي أدرك أنه خارج الغناء مجرد شخص عادي، فأعطي عمره كله للغناء”.

وإذا كان الأبنودي وصف علاقة حمام بالغناء بأنها مضطربة، فقد وصف صوته بأنه فطري يرفض الترويض، هذا من ناحية الأداء، أما خامة الصوت فقد كانت نادرة. مساحة ليست عريضة لكنها مدهشة في القرارات الغنية، المقنعة بحزن وحنان. إنها المنطقة الذهبية لصوت حمام، هامسة بصدق، وغارقة في دفء إنساني لا يعرف الافتعال. وربما أغنتها هذه القرارات المدهشة عن اللجوء كثيرا للجوابات، التي كان كثيرا ما يحيلها إلى همس دافئ أيضا، عبر تقنية غنائه الفريدة، والمثال على ذلك، لمن يتذكرون، لحن الأم.

أما الذين لا يتذكرون فلا عزاء لهم، فقد بحثت عن أشرطة حمام في كل موقع محتمل بوسط القاهرة، ولم أعثر على شيء، سوى إجابة بائع صوت القاهرة في ميدان الأوبرا: “حمام؟ إنسي، مالوش أي شرايط.”

لكن من ينسى قلب مصر النوبي، الذي ترك أغنية وداعه في كل قلب وهو يترنم بكلمات متولي في المسلسل الإذاعي الشهير:
وداع يا بيوت، يا أهل
وداع يا صحاب، يا نخل
يا سواقي، يا طواقي
يا قمر المغرب
يا يوم السوق