«هي فوضى»
مقالة سياسية أفسدت جماليات الفيلم
صناعة السينما، مثلها مثل أي عمل فني آخر، تستند بشكل كبير على فكر وموهبة صانعيها. هذه الخلطة السحرية، التي تربط بين الفكر والموهبة، هي التي تخلق العمل الفني الجيد. غير أنه إذا ما زادت جرعة الموهبة فى العمل الفني بدا العمل وكأن صانعه أراد أن يستعرض إمكاناته الفنية دون مبرر. الأمر الذي يقلل من القيمة الفنية للعمل، ويقربه من إنتاج المبتدئين الذين يريدون أن يشعروا بالثقة فى أنفسهم وأن يقولوا، بكافة الطرق، نحن أفضل فنياً من الآخرين. وعلى الجانب الآخر فإن عنصر الفكر إذا ما زاد فى العمل الفني، تحول العمل إلى مادة جافة ومباشرة في بعض الأحيان تنفر المشاهد وتشعره بأن صانع العمل الفني إنما لديه رغبة في إلقاء محاضرة، وليس إنتاج عملا فنيا.
يوسف شاهين.. بين الفن والسياسة
تاريخ المخرج الكبير “يوسف شاهين” يتحرك بشكل دقيق بين الناحيتين، فهو يقدم عملا فنيا قويا لا يخلو من الشغب مع السياسة، يقترب منها كثيراُ ولكن ليس بإلحاح. بل على العكس فهو يقدم مادته الفيلمية بميزان حساس، إلا في بعض الفترات التي كان السياق التاريخي يفرض ويتحمل جرعة زائدة من الفكر. هذا ما بدا واضحاً في بعض الأفلام التي أخرجها “شاهين” في فترات الستينات والسبعينات، مثل فيلم “الأرض” عام 1969 و فيلم “العصفور” عام 72، تلك الأفلام برز فيها عنصر النقد السياسي أكثر من أي فيلم آخر. أما الأفلام التي تقبلت جرعة زائدة من الفكر الفلسفي فكانت مثل فيلم “الاختيار” في عام 70 وفيلم “عودة الابن الضال” في عام 76. أما الأفلام التي كانت علامة على سيطرة الفكر السياسي على العنصر الفني دون أن يتحملها لا زمن ولا العمل الفني ذاته فكان فيلم “الآخر” في عام 99، والمقطع الذي أخرجه من فيلم “11سبتمبر” الذي شارك فيه 10 مخرجين آخرين من جميع أنحاء العالم، والذي كان أول عرض له في مهرجان فينسيا 2002. ولم ينج من تدخل السياسة فيلم “المصير” الذي شارك به “شاهين” عام 97 في المسابقة الرسمية في مهرجان كان، والذي حصل سنتها على جائزة اليوبيل الذهبي للمهرجان عن مجمل أعماله. فقد كان فيلم “المصير” هو محاولة لمقاومة حالة المد الديني التي جرَت المجتمع المصري للخلف في حقبة التسعينات، وكان من أثرها رفع قضية على “شاهين” من قبل محاميين إسلاميين بسبب وجود عبارة في بداية فيلم “المهاجر” تؤكد أن الفيلم مستوحى من قصة سيدنا يوسف بحجة أن الأزهر قدم فتوى فيما مضى بتحريم تصوير الأنبياء. وربما تكون قضية الحسبة التي رفعت ضد الدكتور نصر حامد أبو زيد، أستاذ الأدب العربي، في عام 95 هي التي ضاعفت من رغبة “شاهين” في تناول موضوع فيلم المصير.
هي فوضى
يمكن تصنيف فيلم “هي فوضى” على أساس أنه ضمن مجموعة أفلام “الآخر” و”11 سبتمبر”، التي يظهر فيها سعياً أساسيا من صانعيها على تقديم وجهة نظر سياسية واضحة .وبالتالي فإن الفيلم يبتعد عن المساحة الفنية المعهودة للفنان “يوسف شاهين”. وإن كان يتعامل مع الأوضاع السياسية بجرأة شديدة تقترب فيها من المساحات المفتوحة لحرية التعبير في الصحف المستقلة مثل “الدستور” و”الفجر” و”صوت الأمة”. غير أن المعتاد في بعض الأفلام التي يسير فيها صانعها (المخرج – كاتب السيناريو- وأحياناً الممثل) على الحافة بين الانجراف نحو نقد سلطة ما وممالأة سلطة أخرى، أن يحيد صانع الفيلم عن تلقائية الفن الممتعة ليصبح أقرب إلى الكميائي الذي يضيف قليلا من مواد يعادلها بأخرى حتى لا يفسد المنتج النهائي. هذا ما حدث لبعض أفلام كاتب السيناريو وحيد حامد، ومنها أفلام قام ببطولتها عادل أمام مثل “اللعب مع الكبار” و”الإرهاب والكباب” وهي من إخراج شريف عرفة، كذلك العديد من أفلام “خالد يوسف” مثل “العاصفة” و”زواج بقرار جمهوري”. والواقع أن الكثير من هذه الأفلام لا تخرج عن كونها أفلاماً تجارية بحتة بعضها مسلي والآخر يفتقد لهذا العنصر. ولم يكن “يوسف شاهين” بأي حال من الأحوال من الستينات حتى التسعينات تصنف أفلامه على أنها أفلاماً تجارية. من الممكن أن يختلف حولها النقاد لكنها تبقى فى تصنيفها الفني.
سيناريو فيلم “هي فوضى” يتحرك بشكل تقليدي من عدد من المشاهد التوثيقية لعدد من المظاهرات في مصر وتنكيل رجال مكافحة الشغب بالمتظاهرين ليصل في النهاية إلى واحد من أمناء شرطة أحد الأقسام في القاهرة وهو “حاتم عبد الباسط” (خالد صالح). وبالتالي فإن خطوط السيناريو كلها تتحرك حول شخصية أمين الشرطة الذي يسعى السيناريو بشكل تقليدي لجعله رمزاً للسلطة.
الخط الرئيسي للفيلم هو مشاعر الرغبة الجنسية الملتهبة التي يشعر بها أمين الشرطة تجاه جارته “نور” (منة شلبي). ويرصد الفيلم حالة الوله المرضية التي يعيشها “حاتم”، والتي هي أقرب لحالة التلصص بمعناها المرضي. فهو ليس فقط يتابع حركتها وهي في طريقها من وإلى المدرسة، بل هو أيضاً يتابع حركتها وهي في المنزل، وهي تستحم.
والواقع أن الفيلم لا يريد رصد حياة “حاتم” بحيادية، إنما هو يسعى لأن يقدمه بشكل مصطنع فيه العديد من المبالغات. فهو مثلا يلتهم عشرين رغيفاً من الحواوشي، وهو يقدم لأهل الحي الخدمة تلو الأخرى مقابل عشرات الجنيهات. ولكي يبرر المخرج – أو المخرجان – المشهد ينهيه بأنه يشرب دواء للحموضة!! يكمل السيناريو دائرة العلاقات من حول “حاتم” فـ”نور” تعمل مدرسة لغة انجليزية في مدرسة حكومية تديرها ناظرة لها تاريخ مع السياسة، فهي شاركت في مظاهرات 77 ضد الغلاء وهناك تعرفت على زوجها وأنجبت منه ابنها “شريف” (يوسف الشريف) الذي يعمل وكيل نيابة، ونراه في أحد المشاهد يفرج عن المعتقلين في التظاهرات في بداية الفيلم.
الكثير من المباشرة
يسعى المخرجان منذ البداية إلى الميل لجانب السلك القضائي عند الحديث عن تجاوزات الشرطة في مواجهة المتظاهرين. وهو الأمر الذي تناولته الصحف والعديد من القوى السياسية في العامين الماضيين إبان المعركة حول الاستقلال القضائي بعد الانتخابات البرلمانية. لا يبدو الخط الذي يقدمه السيناريو لزيادة مساحة وكيل النيابة “شريف” على الشاشة إلا في تكبير المساحة الإنسانية للشخصية وعدم وضعها في مرتبة البطل بالمعنى الكلاسيكي. فوكيل النيابة سليل العائلة الثورية يرتبط بخطوبة بفتاة شديدة الاستهتار تدخن الحشيش في سيارة مكشوفة في منتصف الشارع. هذا بالإضافة إلى أن والد خطيبته، الذي يبدو أنه رجل أعمال غني لكنه غير مهتم بابنته على الإطلاق، يوضع في الفيلم للتنويه فقط عن لجنة السياسات.
ولعل هذا المقطع لا يمت للفيلم بأي صلة، إنما يخرج عن خط سير ونمط الدراما في الفيلم ككل.
المباشرة تصل إلى ذروتها في عدة مناطق منها استعارة اسم “بهية” الذي يشير في العديد من أفلام “شاهين” لمصر، كما في “العصفور” والذي قامت به الممثلة المتميزة محسنة توفيق. أو كما في مشاهد “دروشة رجل الشرطة والسلطة” عندما يذهب ليطلب من رجال الدين الإسلامي أو المسيحي عمل حجاب أو تعويذة يسيطر بها على “نور” ويجعلها تخضع له وتحبه. قمة السطحية والسذاجة كانت في مشهد الاغتصاب الذي يقوم به “حاتم” مع “نور”، وكيف تهرب منه لتقفز في المياه ثم يقفز وراءها إلى نهاية المشهد. ليصل بنا بعد ذلك لحالة الثورة الشعبية التي تجتاح القسم ليس بهدف تحطيمه (بالمنطق الثوري)، إنما بهدف تقديم بلاغات ضد “حاتم عبد الباسط” لينتهي الفيلم نهاية ميلودرامية على “حاتم” وهو ينتحر بعد أن أصاب وكيل النيابة.
ولأن الفيلم لا يريد أن يستعدي الداخلية بشكل عام، فهو يؤكد قبل بداية العرض على أن الفيلم لا يمثل تجريحا لدور الشرطة – الذي يقدره صانعو الفيلم- في حفظ الأمن، إنما هو يعبر فقط عن شخصية البطل. وكأن صانعو الفيلم أرادوا التأكيد على ثوابت سينمائية وفنية وهي أن الخيال هو محض خيال! ليس هذا فقط، بل أن مأمور القسم الذي كان يعتبر “حاتم” رجله الأول يقول له في نهاية الفيلم وقبل أن يموت “أنت اللي عملت في نفسك كده”، وكأنه يتنصل من مساندته له. ليصبح في النهاية أمين الشرطة (الموظف الصغير في هرم الوظيفة العامة) هو الذي تبدأ عنده وتنتهي شرور السلطة المطلقة.
الأشياء التي تميز بها الفيلم هي بعض من المشاهد التي أفلتت من سيطرة الفكر السياسي المباشر والساذج الذي ربما رسم “حاتم” شخصاً شريراً خالصا، وأراد به كاتبا السيناريو “شاهين” و”يوسف” أن يقدما توازنا إنسانيا أو ربما تبريرا واقعيا لشخصية أمين الشرطة. منهم ذلك المشهد الذي يلتقي فيه مع “نور” في مطعم للأسماك على شاطيء النيل واعترف لها بأنه ليس لديه أحد؛ ماتت والدته وهو دون العامين وأباه عندما مات استولى عمه على أرض والده واضطر لأن يرتدى “ثياب والده الميري” ويصبح أمين شرطة مثله. في هذا المشهد استطاع (خالد صالح) أن يُهرِِب في هذه الشخصية الشريرة حالة إنسانية لم تكن واضحة في السيناريو على الإطلاق. وكأن المخرجين أرادا بشكل مباشر أن يُكرِهها المُشاهِد في هذه الشخصية، لا أن يقدما حالة إنسانية خالصة ومركبة.
وكما أفلتت بعض المشاهد الإنسانية من التنميط السائد في الفيلم، فإن بعضا من العلاقات الأخرى أفلتت أيضا. فنجد مأمور القسم (أحمد فؤاد سليم) ضعيف الشخصية الذي لا يسعى إلا للحفاظ على عهدته وسِجل عملياته دون القيام بوظيفته الفعلية كقائد لقسم شرطة في منطقة شعبية. وعلى جانب آخر نجد رئيس مباحث القسم (عمرو عبد الجليل) لديه بعض القدرة على السيطرة على القسم، لكنه أيضا يترك العديد من الأعمال لـ”حاتم” أمين الشرطة. العلاقة بين المأمور ورئيس المباحث كان من الممكن أن يتم تحريكها بشكل أكبر لزيادة جرعة العلاقات الإنسانية والمهنية داخل قسم الشرطة.
جماليات اللقطات والاهتمام بالحلول الإخراجية لحركة الممثلين والتكوين، تلك التي أمتعنا بها “شاهين” بتاريخه الطويل، لم تظهر على الإطلاق في هذا الفيلم. الأمر الذي أظهر الفيلم في حيز العادي إخراجيا باستثناء بعضا من التدقيق في أماكن التصوير، خاصة القصر المتميز الذي تم اختياره لتصوير مشاهد القسم.
الواقع أنه إذا ما أراد صانع العمل الفني تناول أي شيء في المجتمع، فإنه لابد لن يكون أبدا بمعزل عن تناول السياسة. لكن إذا ما كان هدفه تناول السياسة، فإنه لن ينتهي إلى شيء. هذا ما قُدم في السينما والأدب والمسرح عبر تاريخ الفن، وهذا الذي بدا واضحاً في فيلم “هي فوضى”.