الحداثة والإمبريالية
الكتاب: الحداثة والإمبريالية
الغزو الفرنسي وإشكالية نهضة مصر
تأليف: أحمد زكريا الشلق
الناشر: دار الشروق (طبعة أولى)
مكتبة الأسرة 2008 (طبعة ثانية)
«ليس هذا كتابا في تاريخ الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801) لكنه محاولة لمناقشة قضية فكرية في تاريخ مصر الحديث، تتعلق بإشكالية النهضة والحداثة…فينطلق من سؤال هل يمكن ان تأتي النهضة والحداثة في ركاب الغزاة؟ كيف ذلك، وإلى أي مدى؟»يستهل المؤلف كتابه بالعبارة السابقة، وهو يرى أن الإشكالية المشار إليها تنبع من رؤيتين، الأولى ترى أن نهضة مصر وتحديثها بدءا مع الغزو الفرنسي، وبسببه، مثل طرح الكاتب والمفكر كامل زهيري شعار «ذهب المدفع وبقيت المطبعة»، كناية عن المطبعة التي صحبها بونابرت معه إلى مصر، وفي الواقع، فالحملة الفرنسية لم تترك المطبعة. وأصحاب هذه الرؤية، في رأي «الشلق»، ينطلقون من فكرة استشراقية تدعو إلى تكريس المركزية الأوروبية…ويبحثون في التاريخ لينتقوا ما يؤكد ذلك. وهو ما فعله المؤلف نفسه، لإثبات عكس وجهة النظر تلك، في الفصل الأول من الكتاب.
أما الرؤية الثانية، القومية أو المتحفظة، على حد اصطلاح المؤلف ، فهي ترى الحملة كفترة مظلمة ذات تأثير سلبي على الشرق العربي كله وأنها جلبت المطامع الاستعمارية والعادات والتقاليد الغربية-وهي الأقرب لرؤية الإسلاميين-……وأن مصر دخلت العصر الحديث مع «الفتح» العثماني في أوائل القرن السادس عشر-التنصيص في المصدر-
البحث عن الحداثة
لذا كان «البحث عن الحداثة في مصر العثمانية»، هو عنوان الفصل الأول من الكتاب. وفيه يحاول «الشلق» أن يفند الفكرة الراسخة عن الحكم العثماني لمصر، الذي استمر ثلاثة قرون، باعتباره عصر اضمحلال وركود، مستندا إلى دراسات لمؤرخين وباحثين، أجانب ومصريين، بدأت منذ سبعينيات القرن العشرين، مثل أندريه ريمون، مؤلف ( المصريون والفرنسيون في القاهرة 1798-1801) و(الحرفيون والتجار في القاهرة في القرن الثامن عشر. وبيتر جران، مؤلف كتاب(الجذور الإسلامية للرأسمالية في مصر 1760-1840)، كينيث كونو مؤلف كتاب (فلاحو الباشا.. الأرض والمجتمع والاقتصاد في الوجه البحري 1740-1858)، ودانيال كريسيليوس مؤلف كتاب (جذور مصر الحديثة1760-1775) ومؤلفات نيللي حنا، مثل «ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية»، وغيرها. وقد تناول المؤلف مجالات متنوعة من النظام القضائي، ونظام ملكية الأرض، والطوائف الحرفية والتجارة والثقافة، والبناء الاجتماعي.
وحتى لو اتفقنا مع المؤلف في أن القرون الثلاثة للحكم العثماني، لم تكن قرون من الاضمحلال التام، فلا نستطيع أن ندعي أن العكس هو الصحيح، فكيف نرى تلك الفترة بداية للحداثة، حيث أن إخضاع الحكم العثماني، حتى لمعاير العصور السابقة له، في مصر والشام والأندلس، بدلا عن معاير العصر الحديث، لا يشكل هذا لحكم نقلة للأمام، إن لم يكن العكس. إن نظام ملكية الأراضي، والطوائف الحرفية، وكذا البناء الاجتماعي، في العهد العثماني، يحمل نفس صورة المجتمعات الشرقية في العصور الوسطى، دون تغير ملموس.
الولع بمصر
في الفصل الثاني،»ولع فرنسي باحتلال مصر»، يذكرنا المؤلف في البداية بحملة لويس التاسع عشر(1249-1250)، ولا مجال، في رأيي لهذا الربط. ثم يذكر بعد ذلك أسباب قيام الحملة الفرنسية على مصر، وفكرة نابليون في تحويل مصر إلى مستعمرة فرنسية، تكون بمقام الهند بالنسبة لبريطانيا، ولهذا السبب اصطحب نابليون عدد كبير من العلماء والفنانيين، بكل ما يحتاجونه من أدوات ومراجع.
ينتقل الشلق إلى وصف رحلة نابليون حتى إتمام احتلال مصر، وينتهي الفصل بعبارة «هل يحق لنا أن نقتنع أن الغزو الاستعماري مبررات أخلاقية تتعلق بخيالات فلسفة التنوير بشأن تصدير الحضارة الغربية(ص66).
الاحتلال الفرنسي لمصر
في الفصل الثالث، وعنوانه «الحداثة والحكم الفرنسي لمصر» يتناول السياسة الفرنسية تجاه المصريين، ومحاولة استمالتهم، والكثير ن التفاصيل حول النظام الإداري الجديد للبلاد. أما الفصل الرابع، وعنوانه: «الآثار العلمية والثقافية للفرنسيين في مصر، وبعد عرض تلك الآثار ينتهي إلى القول بأن مهام البعثة العلمية كانت جزء لا يتجزأ من مهمة الحملة العسكرية، ولم يكن الهدف منها «تنوير» المصريين. ولا شك في أن الحملة الفرنسية كانت حملة استعمارية في الاساس، إلا أن تحديث المستعمرات، كان يظهر كنتيجة ثانوية، تعد إيجابية، بالنسبة لدول المتخلفة، وهو مالم يكن من الممكن لمسه مع الحملة الفرنسية، التي استمرت ثلاث سنوات تقف على الجمر.
المقاومة المصرية
يتناول الفصل الخامس: «المقاومة المصرية وفشل المشروع الاستعماري»: حيث بدأت مقاومة الاحتلال منذ اليوم الأول، والتي بلغت ذروتها في ثورتي القاهرة، الأولى،20-23أكتوبر1798، والثانية في20مارس1800، والتي كان السبب فيها الإجراءات والممارسات الفرنسية من ضرائب وغيرها، إلى جانب المساس بالدين والتقاليد المصرية. وهنا يجب أن نختلف مع إطلاق الرأي القائل بأن الحملة الفرنسية أيقظت الوعي القومي المصري، فالثابت أن حركة الشعب المصري لم تهدأ في عصر المماليك المتأخر. ثم ينتقل الكتاب إلى حملة نابليون على سوريا، وفشلها، الذي كان بداية العد التنازلي للحملة، ثم انتقال قيادة الحملة من بونابرت إلى كليبر، ثم مينو. والظروف الدولية والإقليمية التي أدت إلى رحيل الفرنسيين.
ماذا تبقى؟
في الفصل السادس والأخير، وعنوانه «الذي بقى من تحديث الغزاة»، يستعرض الكاتب نتائج الحملة الفرنسية التي استمرت ثلاثة سنوات وثلاثة أشهر، أدت إلى لفت انتباه الدول الأوروبية إلى أهمية مصر وظهور اصطلاح «المسألة المصرية». لكن ذلك يناقض حقائق تاريخية، من بينها حملة لويس التاسع، قبل ستة قرون من حملة نابليون، التي استشهد بها المؤلف نفسه، وتبرهن على إدراك الاستعمار الأوروبي لمحورية مصر استراتيجيا. ومن نتائج الحملة، كذلك، كما يرى المؤلف: «إذكاء الشعور القومي»، والغرض منه، في رأي «الشلق»، دفع المصريين إلى الشعور بالاختلاف عن حكامهم، العثمانيين والمماليك. ومن نتائج الحملة، كذلك، تحديث الدوواين وتمصيرها، وهو ما لم يكن من أجل تدريب المصريين على الحكم الذاتي، ولكن لاستخدامها كأدوات للسيطرة. كما أن من آثار الحملة، المجمع العلمي المصري، والصناعات التي تخدم الاحتلال، والمستشفيات الحديثة، وهنا يستدرك المؤلف ليشير إلى وجود مستشفيات في مصر في العصر العثماني. والواقع أن وجود المستشفيات في مصر يرجع إلى عصور أقدم، كالفاطمي والأيوبي، مثلا، وربما أسبق، ولعل هذه الإشارة، تدخل ضمن دفاع المؤلف عن العثمانيين، أكثر منه انتقادا لحملة الفرنسية.
أخيرًا، جاءت الخاتمة، كأفضل جزء في الكتاب، حيث يعرض الكاتب فكرته عن الحملة، بموضوعية شديدة، ويضعها في حجمها، وبأبعادها، الحقيقيين. وانتهى المؤلف إلى عدد من الاستنتاجات منها « أن الحملة الفرنسية على مصر واحتلالها كانت بمثابة صدمة اطلعت المجتمع المصري … على أنماط جديدة من المدنية الغربية، القائمة على العقل والعلم، والآلة، والتنظيم، فرأى المصريون عناصر مختلفة من هذه الحضارة ومكوناتها العلمية … انتقلت إلى بلادهم عنوة وفي ركاب إمبريالية غازية، وفي الوقت لذي كان مجتمعهم يعاني من حالة من الاضطراب والفوضى أدت إلى جموده وضعفه، باستثناء ومضات علمية وثقافية»
وينبه الشلق إلى ضرورة عدم المبالغة في الإشادة بالحملة الفرنسية، كما يفعل البعض، نظرًا «لأن الاتصال الذي تم قسرًا في إطار حملة عسكرية غازية» وواجهها المصريون بمقاومة مستمرة طوال الثلاث سنوات، هذه السنوات فترة قصيرة، تجعل التأثر والتواصل بالفرنسيين الغزاة، أمر لم يكن ذا أهمية كبيرة في المجالين الاجتماعي والثقافي..
أنه كتاب هام يعرض لوجهات نظر متبانية في الحملة الفرنسية على مصر، ويقيمها من منظور تاريخي. أنه حقـاً كتاب بستحق القراءة.