الهزيمة ومولد الشجن:
الهزيمة ومولد الشجن: ثقافة الحنين إلى الماضي
الالتفات إلى الوراء.. الجري خلف الأحلام الضائعة.. التذكر، والحنين إلى العالم السحري القديم.. البكاء على أطلال الحب، وذكريات الطفولة.. فضح الجراح القديمة ونكأها.. السعي وراء الدفاتر المنسية.. التغني بالأوائل، وتمجيد الصور المخملية الباهتة.. التنقيب عن الجذور، والبحث عن الحاضر في الماضي.. إلى آخر كل الصور والأدوات والأجناس الأدبية التي شاعت وملأت الساحة الثقافية المصرية طوال أربعين عاما، والتي شكلت ما اعتبر دائما أنه الفن “الجاد” “المحترم”، غالبا سنجد أصلها جميعا فيما حدث عام 1967، في الانكسار الشديد الذي أصاب مثقفي الطبقة الوسطى بعد الهزيمة، وعلى الأخص هؤلاء الذين ارتبطوا بمشروع الدولة الناصرية.
الهزيمة وانكسار المثقفين خلقا علامة فارقة على مستوى الإبداع والرؤية الفنية، ويمكن القول دون مبالغة، وبقدر معقول من الثقة، أن ملمح الشجن والحنين إلى الماضي طبع الأهم والأكثر شأنا في كل الإبداعات الفنية المصرية المعاصرة بعد 67، في الشعر والرواية، وأيضا في السينما والمسرح والدراما التليفزيونية، وبالطبع في الموسيقى والغناء. انطلاق الشجن جاء على أيدي هؤلاء الذين صاغوا الحلم الناصري، ربما بسبب رغبتهم في التحرر من الحلم أو شعورهم بالمسئولية تجاهه، وأحيانا بهدف تأكيده وإعادة التعبئة حوله، وفي جميع الأحوال هربا من الواقع المرير إلى خيالات جنة ضائعة. إلا أن شجون هؤلاء انطلقت عفية بقدر حلمهم المهزوم، وامتلكت من القوة ما جعلها تتجاوزهم، حتى تحولت من بعدهم إلى ملمح طاغ على إبداعات الأجيال التي لحقتهم. وبات الشجن على مدار العقود التالية المغزل الذي يفتل خيوط الإبداع، والنول الذي تُنسج عليه منمنماته.
مثقفو الطبقة الوسطى والحلم الناصري
“بالأحضان يا جناين يا مداين.. بالأحضان يا حصاد الثورة يا حلم وعلم”، وإذا اقتضى الأمر فـ”يا أهلاً بالمعارك.. يا بخت مين يشارك.. بنارها نستبارك.. ونطلع منصورين.” ولم لا؟ فصورة الحاضر تزخر بـ”دكاترة وعلما ومعامل.. وأطبا من الشعب العامل.. ورجال سكر على مكاتبها تخدم بالروح لما تعامل”، كما أننا على أبواب “صناعة كبرى.. ملاعب خضرة.. تماثيل رخام ع الترعة وأوبرا.. في كل قرية عربية”.. هي بالتأكيد أغنية طموحة صاعدة تلك التي كانت تملأ الأسماع في الستينات. طموحة بنفس قدر طموح بطل “فجر يوم جديد” ليوسف شاهين، الذي شد يد صديقته الأرستقراطية، المغتربة داخل طبقتها البائدة، وصعد بها على سلالم برج القاهرة في مشهد النهاية في الفيلم، ليحررها من عالمها الرجعي الخانق، ويطلق خيالها إلى آفاق تمتلئ بالرحابة والمدنية.
هو عالم جديد قادم، الجميع يزفون بشارته، يستمعون لدقات طبوله بنفس بهجة واستبشار الفلسطينيين وهم يستمعون للطبول القادمة من بعيد في المشهد الافتتاحي لـ”الناصر صلاح الدين”. عالم جديد قادر على إعادة بناء العلاقات بين أفراد “عيلة الدوغري” لنعمان عاشور على أسس جديدة عقلانية ومنفتحة، قادر على تحرير بطل “السمان والخريف” لنجيب محفوظ من ماضيه وجذبه نحو المستقبل. عالم جديد يصدم بطل “الأيدي الناعمة” لتوفيق الحكيم ويخلصه من أوهامه، ويندفع في اتجاهه أبطال “لا تطفئ الشمس” لإحسان عبد القدوس بثقة وتفاؤل بعد طول معاناة، ويضحي “علي طه” بحياته في سبيل تحققه ليكنس من الوجود كل عفن وفساد “القاهرة 30” لصلاح أبو سيف عن رواية نجيب محفوظ. عالم سيصلون إليه بالجهد والعرق مثلما يؤكد صلاح جاهين في “على راس بستان الاشتراكية”، كما يجب أن يقوم على المساواة بين الجميع مثلما يدافع عن ذلك يوسف إدريس في “الفرافير”. عالم أبطاله على شاكلة عمر الشريف ورشدي أباظة وسعاد حسني، وأمجاده تسطع من حناجر عبد الحليم وشادية ونجاة، وأحلامه تزغرد في موسيقى كمال الطويل والموجي وبليغ حمدي.
هو حلم الطبقة الوسطى المصرية: المساواة والعدالة والعقلانية.. التصنيع والمدنية وازدهار العلوم.. تحرير فلسطين وتوحيد العرب وقطع دابر الاستعمار.. فجأة أصبح هذا الحلم على مرمى البصر، فهل بيننا من كان يصدق قبل بضعة سنوات أن الإنجليز سيرحلون عن مصر؟! وأننا سنؤمم قناة السويس ونبني السد العالي؟! من منا كان يتصور أن تصبح مصر بين ليلة وضحاها رأس حربة النضال العالمي ضد الاستعمار وقاطرة معارك التحرر الوطني، يؤمها زعماء من أمثال نهرو وتيتو ليتفقوا مع ناصر على مهام النضال القادم، ويحج إليها مفكرون من أمثال سارتر وقادة معارك التحرير من أمثال جيفارا، يخطب ودها كنيدي وخروشوف وديجول، وتحتضن لومومبا وبن بيلا ونيكروما، وتنطلق من على ضفاف نيلها ثورات التحرير في الجزائر وفلسطين والكونغو.
ألسنا اليوم بصدد تشييد قلعة صناعية مزدهرة، بعد أن أزحنا عن كاهلنا ملاك الأراضي القدامى ورأسماليي بورصة القطن؟! ألن تضعنا أفران الحديد والصلب في حلوان على أبواب عصر جديد؟! ها هي بذور الصناعة تشق الأرض وتمد جذورها في أسوان والإسكندرية والسويس، وها هم الفلاحون المعدمون يتحولون إلى ملاك أراضي، والعمال يصبحون مشاركين في إدارة المصانع. إذن فالأجراس تدق لنا الآن نحن أبناء الطبقة الوسطى. لقد حان الوقت كي يعتلي “علي يا ويكا”، المتعلم ابن الفلاح الفقير في “رد قلبي”، أعلى المناصب، أن يصبح سفيرا أو وزيرا أو رئيس مؤسسة. التعليم مجاني والجامعات ترحب بأمثاله، وعندما يتخرج سيجد الوظيفة والمرتب الذي يكفيه، وفرص الترقي مفتوحة أمامه بلا عوائق.
فتاة الطبقة الوسطى أيضا تتعلم الآن، ويمكن للشاب والفتاة المتحابان أن يجدا شقة بإيجار معقول ويؤسساها بالتقسيط. إذن يحق للثلاثي الطروب أن يعلنّ تحديهن للرجال المتهربين من الزواج: “هنا مقص وهنا مقص.. هنا عرايس بتترص.. والعرسان ما بتترصش”، فيرد الرجال “دي ماهية على قد الحال”، فتؤكدن “ما إحنا كمان لينا ماهية”، “سنة والتانية وييجوا عيال../ ويّا علاوة وترقية”. ابنة الطبقة الوسطى صارت جامعية ومتعلمة، بل وترأس زوجها في العمل مثلما حدث مع شادية وصلاح ذو الفقار في “مراتي مدير عام”. إذن فعلى لبنى عبد العزيز التي تصرخ “أنا حرة” أن تفهم أن حرية مجتمعها شرط لتحررها، وعلى نادية لطفي أن تخلع “النظارة السودا” عن عينيها كي تتحول إلى امرأة فاعلة ومنتجة.
وكما انطلق الحلم بين ليلة وضحاها، صاخبا ومتحديا، انهار كذلك في ستة أيام سوداء شهدها شهر يونيو الحار في صيف عام 1967، واكتشف الحالمون أن حلمهم لم يكن إلا وهما وسرابا!
الانطلاق العفوي للشجن
“عدّى النهار.. والمغربية جاية بتتخفى ورا ضهر الشجر.. وعلشان نتوه ف السكة شالت من ليالينا القمر.” وانطلق الشجن.. هو في الحقيقة ساعتها كان مجرد جزءا من كل. الهزيمة كانت قاصمة بالفعل، لكنها أيضا كانت صادمة، كشفت المستور وطرحت العديد من الأسئلة. ردود الفعل الأولى كانت شديدة التنوع والحدّة. سنجد العدمية الشديدة الساخطة على كل شيء التي تظهر بوضوح في قصص “تحت المظلة” و”خمارة القط الأسود” لنجيب محفوظ، والتي تواصلت فيما بعد بتجليات مختلفة تمتد من “أميات” نجيب سرور إلى أغنيات أحمد عدوية الذي أطلق “السح الدح إمبو” عام 1969.
سنجد أيضا الانطلاق القوي للنقد السياسي والاجتماعي للنظام، وطرح مسألة طابعه الطبقي واستبداده، هذا النقد الذي صاحب ميلاد حركة معارضة جماهيرية واسعة ومنظمات يسارية جديدة في عام 1968. يظهر ذلك في الأفلام الأولى لعدد من المخرجين الشباب وقتها: “ليل وقضبان” لأشرف فهمي، و”الخوف” لسعيد مرزوق، و”أغنية على الممر” لعلي عبد الخالق، و”شيء من الخوف” لحسين كمال. كما يظهر في “العصفور” ليوسف شاهين، وفي مسرح ميخائيل رومان ومحمود دياب ونجيب سرور، وفي نصوص جاليري 68. ويظهر في أجلى صوره على يد نجم والشيخ إمام اللذان بدآ بـ”الحمد لله خبّطنا تحت باطاطنا.. يا محلا رجعة ظباطنا من خط النار”، وانطلقا بعدها في مسيرة عامرة بالسخرية والتحدي، لم تخل في أحيان كثيرة من الشجن: “مصر يا آمه يا بهية.. يا أم طرحة وجلابية.. الزمن شاب وانتي شابة.. هو رايح وانتي جاية”. وامتد النقد إلى المظاهر الاجتماعية السلبية وشيوع الفساد والتخلف، وربط ذلك بطريقة خافتة ولا صدامية بالأوضاع السياسية العامة، كما حدث في مسلسل “القاهرة والناس” لمحمد فاضل، الذي حاز على شعبية واسعة وقتها.
سنجد كذلك محاولات لإعادة التعبئة ودفق الحماسة وقف النظام وراءها، أو على الأقل شجعها: “سكت الكلام والبندقية اتكلمت”، و”أحلف بسماها وبترابها”، و”يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي” ..الخ. وأيضا ظهرت موجة من الأفلام تعيد استعراض الحياة قبل يوليو 52، بما يؤكد على دور الثورة وأهميتها: “الأرض” ليوسف شاهين، و”غروب وشروق” لكمال الشيخ، وثلاثية نجيب محفوظ التي قدمها حسن الإمام، وغيرها، بالإضافة طبعا إلى خماسية الساقية لعبد المنعم الصاوي التي تحولت إلى سلسلة تليفزيونية ذائعة الصيت ولم تكتمل: “الضحية”، و”الرحيل”، و”النصيب”. وصاحب دفقة الحماسة هذه انطلاق للشجن، لكنه ساعتها لم يكن مقصودا كهدف في ذاته بقدر ما كان عفويا عكَس المشاعر الملتهبة والجرح الذي لم يندمل بعد. أما ملمح الشجن الذي ظهر وقتها وتواصل فيما بعد بشكل أكثر عمقا، فهو الذي عكس أزمة الضمير المتأججة في صدور مثقفي الطبقة الوسطى، وشعورهم بالمسئولية عما جرى.
“ترى من يحمل الآن عبء الهزيمة فينا.. أهو المغني الذي صار يبحث للحلم عن جسد يرتديه.. أم هو الملك المدّعي أن حلم المغني تجسد فيه.. هل خدعت بملكك حتى حسبتك صاحبي المنتظر.. أم خدعت بأغنيتي وانتظرت الذي وعدتك به ثم لم تنتصر.. أم خدعنا معا بسراب الزمان الجميل”. تكاد هذه الأبيات من “مرثية العمر الجميل” لأحمد عبد المعطي حجازي أن تجسد أزمة الضمير تلك. فبعد هدوء العاصفة واستقرار الجرح، بدأ مثقفو الطبقة الوسطى في النظر إلى الوراء بحثا عن الحقيقة. يظهر ذلك في أجلى صوره في “مرايا” نجيب محفوظ التي اعتبرها نقاد من أمثال لويس عوض أفضل أعماله. وبدأت موجة من الهجوم على الذات، على دور المثقف الفرد، والتأكيد على هشاشة ذلك المثقف وضعفه وتلونه وعدم قدرته على الفعل، يظهر ذلك بتلاوين وتنويعات مختلفة في “ليلى والمجنون” لصلاح عبد الصبور، و”حب تحت المطر” لنجيب محفوظ، و”حمام الملاطيلي” لصلاح أبوسيف، و”الاختيار” ليوسف شاهين، وغيرها الكثير.
ربما تكون “عدّى النهار”، التي غناها حليم وكتبها الأبنودي ولحنها بليغ ووزعها علي إسماعيل، والأربعة من رواد أغنية الستينات الطموحة الصاعدة، انطلاقة عفوية للشجن. لكن سريعا ما تحول الحنين إلى الماضي إلى ميل سائد حتى في أغنيات الحب: “ومين ينسى.. ومين يقدر في يوم ينسى.. شعاع أول شرارة حب”، “وتاني تاني تاني.. راجعين أنا وانت تاني.. نضيع ونجري ورا الأماني”، “وكانت ليلة أحلى ليلة.. بس يا خسارة ساعتها.. قلبي كان حاسس ليلتها.. إن الليلة دي آخر ليلة”،.. الخ. ورغم أن الجراح بدأت تهدأ، إلا أنها تركت أثرا غائرا لا يزول، وأصبح جلد الذات والحنين إلى الماضي سمة تزداد عمقا بشكل لافت: “ساعات أقوم الصبح قلبي حزين.. أبص بره الباب ياخدني الحنين.. اللي اشتريته اتباع.. واللي قابلته ضاع.. واللي هويته راح.. وفات الأنين”. لقد كان من الغريب أن تشدو فتاة في السادسة عشرة من عمرها كبطلة “عودة الابن الضال” بمثل هذه الكلمات. لكن ماجدة الرومي كانت تغني ساعتها بصوت صلاح جاهين وكمال الطويل ويوسف شاهين معا.
وبعد عشرة سنوات من الهزيمة أخرج يوسف شاهين “إسكندرية ليه؟”، وهو ليس أول عمل درامي تدور أحداثه في الزمن القديم، إلا أنه كان مختلفا. فهو لم يكن سردا للماضي أو تقييما له بهدف إعلاء شأن الحاضر، وإنما كان بحثا في الدفاتر القديمة وتنقيبا عن الجذور. لقد تحول جلد الذات إلى غرق في الذات، صدمة 67 انتهت بتوقف مثقفي الطبقة الوسطى عن النظر إلى العالم، وصاروا يبحثون عن الحقيقة داخلهم، وهكذا انفتح باب لم يغلق حتى اليوم.
ازدهار الشجن وحضوره الطاغي
“كام عام ومواسم عدوا.. وشجر الليمون دبلان على أرضه.. فينك.. بيني وبينك أحزان ويعدوا.. بيني وبينك أيام وينقضوا”.. إذا كانت سنوات ما بعد الهزيمة، في أواخر الستينات وأوائل السبعينات، قد شهدت الانطلاق العفوي للشجن، فإن الثمانينات كانت عصر ازدهاره وحضوره الطاغي. لقد أصبح الأمر الآن مختلفا، تجاوزنا لحظة الصدمة بعد انهيار الحلم، وتحولت الهزيمة إلى واقع سياسي جديد تماما. مرت أحداث عديدة عارمة: حركة طلابية شديدة الاتساع تتسم بالجسارة والتحدي، يقوم النظام بعدها بشن حرب تهدف إلى كسر اليأس وينجح الجيش في عبور القناة لكنه لا يستكمل تحرير الأرض، يتلو ذلك انحراف شديد في التوجه ويندفع النظام إلى أحضان الإمبريالية ويبدأ في مفاوضات صلح معها، ثم تنفجر موجة من النضالات العمالية الكبرى تنتهي بانتفاضة اليومين الذهبيين (18 و19 يناير 1977) التي تموت سريعا ولا تخلف أثرا، وأخيرا تكتمل المفاوضات مع الإمبريالية بمعاهدة صلح، بينما يولد الآن غول جديد اسمه الإسلام السياسي ينطلق من رفض ونفي قاطع لكل ثقافة وإبداعات العصور التي سبقته بآمالها وأحلامها وأشجانها.
الصدمة تأتي مرة أخرى لكن بشكل مختلف نوعيا، فها نحن نشاهد الآن على شاشات التليفزيون السادات وهو يصافح مناحيم بيجين وجولدا مائير اللذان يستقبلانه على سلم طائرته في تل أبيب، وبعدها بقليل يرتفع علم إسرائيل على ضفاف النيل في سماء القاهرة، وينتهي المشهد بمصرع السادات على أيدي مقاتلين لا يعتبرونه هو وحده الكافر لكنهم يزجون بنا معه في صفوف الكافرين، ويتهمون كل ثقافتنا وإبداعاتنا بالكفر والزندقة. “وآهين يا دي الزمن الكداب.. راجع بتصفي معايا حساب.. من بعد ما دُقت زحام الناس.. تحبسني ويّا قلم وكتاب.. وآهين”.. كانت أغنيات علي الحجار ومحمد منير عنوان شجون الثمانينات. هي ورثت بالقطع أشجان عبد الحليم وشادية الأخيرة، لكنها وضعتها في قوالب جديدة وسياقات مختلفة. وعبر كلمات الأبنودي وعبد الرحيم منصور وسيد حجاب وإبراهيم عبد الفتاح، وألحان عمار الشريعي وأحمد منيب وفاروق الشرنوبي، بات الشجن هدفا في ذاته، وأصبح اجترار الأحزان عنوان على ثقافة عصر.
صار مثقف الطبقة الوسطى يتمحور الآن حول شجونه بصفته الممتلك للمعرفة الصحيحة، التي بدونها سيضيع كل شيء: “الحكمة قتلتني.. وحيّتني.. وخلتني.. باخاف عليكي يا مصر.. وأحكيلك على المكنون”. فالجمهور يفتقد للبصيرة، والشجن هو السبيل لإعلان سخط مثقف الطبقة الوسطى على الظلام الذي يتمدد ويبتلع ما تبقى من نور: “أنا مش أعمى يا هوه.. يا خلق يا عميانين.. أنا قلبي ما في أخوه.. لكن زماني ضنين”. الحنين إلى الماضي هو الآخر تحول، لم يعد مجرد تشبث بحلم ينهار، وإنما صار بحثا عن مدينة فاضلة وجنة مفقودة: “لما الشتا يدق البيبان.. لما تناديني الذكريات.. لما المطر يغسل شوارعنا القديمة والحارات”، “جوه البيت حنزرع نخلة.. تطرح خير.. وتعمل ضلة.. والعصافير تلقط غلة.. في الحوش الكبير والرملة.. يويا يويا”.
تحول الحنين للجنة المفقودة إلى عصا سحرية في يد مبدعي الثمانينات، يبثون به شجونهم، ويعلنون عبره نقدهم للواقع ورفضهم لما هو قائم، ويطرحون من خلاله تصوراتهم عن العالم المثالي. يظهر ذلك الحنين عند عاطف الطيب بطريقة زاعقة في “سواق الأتوبيس”، وبشكل أدفأ كملمح بعيد في “الزمار”. ويظهر أيضا عند محمد خان كحنين لمرح الطفولة وبراءتها لدى “الحريف” و”زوجة رجل مهم”، وفي تمرد الذي “خرج ولم يعد” على المدينة، وفي بحث المواطن الذي عاد ــ في “عودة مواطن” ــ عما تركه وراءه ورحل. ويظهر كذلك عند رأفت الميهي كطموح للمدنية التي تضيء من بعيد على الضفة الأخرى للنهر في “للحب قصة أخيرة”. وفي “تجليات” جمال الغيطاني ينطلق الحنين إلى الجنة المفقودة بحثا في الزمن السرمدي عن حقيقة وتأويل ما يدور في الواقع، بينما تتداعى من حوله الشخوص والأحلام. وبالطبع يتألق هذا الحنين بشكل ساحق في الدراما التليفزيونية التي شهدت عصرها الذهبي في الثمانينات عبر كتابات أسامة أنور عكاشة وآخرين، ومن خلال أعمال محمد فاضل وإنعام محمد علي وإسماعيل عبد الحافظ. سنجدها بوضوح في “بابا عبده”، و”صيام صيام”، و”الحب وأشياء أخرى”، و”رحلة السيد أبو العلا البشري”، و”الشهد والدموع”، و”عصفور النار”، و”ليالي الحلمية”.
شجن التنقيب داخل الذات والحنين إلى الجنة المفقودة شكّل ملامح الإبداع في ذلك العصر. اختفت صدمة الحلم المنهار وحل محلها بحث عن الحاضر داخل الماضي. ورغم قوة وعمق إبداعات الثمانينات المتميزة وتألقها الفريد، إلا أنها جميعا ــ باستثناء الدراما التليفزيونيةــ أصبحت بعيدة بمسافة عن الجماهير وأقرب للنخب المثقفة، ولم يحظ أبدا على الحجار ومحمد منير بشعبية عبد الحليم وشادية، كما لم يحظ أبدا عاطف الطيب ومحمد خان بشعبية صلاح أبو سيف ويوسف شاهين.. الخ. ومع انتعاش الدراما التليفزيونية وكسبها لشعبية واسعة، تحول الحنين إلى الجنة المفقودة إلى تغني وتمجيد بالماضي، وتحول الغرق في الذات إلى النظر باستعلاء وفوقية على الجماهير، وهنا بدأ عصر انحطاط الشجن.
عصر انحطاط الشجن
“ومنين بيجي الشجن.. من اختلاف الزمن.. ومنين بيجي الهوى.. من إئتلاف الهوى”.. هكذا بدأ الشجن يفقد بريقه العفوي القديم ويتحول إلى صناعة قصدية. فجأة امتلأت شاشات التليفزيون بالمعممين والمطربشين، وأصبحت الشعارات الممجوجة والحِكم البالية الملقاة على ألسنتهم هي درة المعرفة. نحن الآن في التسعينات حيث التراجع الواسع لحركة الجماهير، واحتدام الصراع بين النظام والإسلام السياسي، وانفلات رعب مثقفي الطبقة الوسطى “التنويريين” من شيوع الأفكار الرجعية وسط الجماهير الفقيرة. وأصبحت إهانة الفقراء والسخرية منهم بسبب جهلهم وظلاميتهم هي السمة السائدة في الإبداعات المحسوبة على “التقدمية”، انظر مثلا الأعمال التسعينية لعادل إمام، ووحيد حامد، وأسامة أنور عكاشة، وبالطبع يوسف شاهين.
فقراء إبداعات يوسف شاهين السبعينية البارزة، الذين امتلكوا البصيرة والصلابة، وكشفوا عن معدنهم المناضل في مواجهة المثقفين المترددين، تحولوا في التسعينات إلى دراويش وسفهاء، بينما تحول المثقفون إلى أصحاب الحكمة المضطهدين بسبب نضالهم ضد الجهل والتخلف، هذا ما نراه مثلا بوضوح في “المصير”. بهية خيّاطة “العصفور” المبهرة التي انطلقت معلنة بتحدي رفضها للهزيمة، والتي كشفت عن استعداد الفقراء ـ أصحاب المصلحة الحقيقية ـ للتضحية، وإصرارهم على الصمود والمواصلة، تحولت في “المصير” إلى امرأة بلهاء تزغرد عندما يحكم قاضي القضاة “طيب القلب” على ابنها بالسجن. كما تحول شيخ “العصفور” المناضل إلى فقيه متآمر يساوم الأعداء، ويمارس الشعوذة على أتباعه. وتحول الأخ الصعلوك في “الاختيار” المتأجج بالحيوية والتفاؤل والصلابة إلى شاب شرير يذبح كل من يقاوم شروره. بينما تحول صحفي “العصفور” المشاغب، والأخ الكاتب المسرحي في “الاختيار”، الضعيفان المترددان، إلى فارس “التنوير” المزعوم!
هذا ما انتهى إليه حال مثقفي الطبقة الوسطى بعد أن غرقوا في ذواتهم. هؤلاء الذين بشروا الجماهير في الستينات بحلمهم الكاذب، صاروا يناصبونها العداء في التسعينات لخيانتها ذلك الحلم المنهار. وهكذا تحول الشجن إلى مسخ، وتحولت جنة الماضي المفقودة إلى متحف للأنتيكات الباهتة يطل علينا في “ناصر 56” ومسلسل “أم كلثوم” وأشباههما. وصار الولع بالذات هو عتبة باب عالم الإبداع على كل من يرغب في الدخول أن يمر عليها، وأصبحنا نطالع في كل شهر رواية أو ديوان شعر بقلم شباب في مطلع عشريناتهم غارقين في ذواتهم إلى درجة مرَضية، يقصون علينا حكاياتهم الشخصية التافهة، وكأن العالم قد خلا إلا منهم. فهذا التقى بصديقه على المقهى وتحاور معه في السياسة وهما يلعبان الطاولة، ثم صعد إلى صاحبته في فراشهما! وتلك انتهت من إجهاض نفسها، ثم لملمت القطن المبلول بدم حيضها وألقته في بالوعة ذكرياتها! وهكذا.
أربعون عاما من الشجن.. من الحنين إلى الماضي، والتمحور حول الذات، والبحث عن الجنة المفقودة.. ربما قد حان بنا الوقت أن نكتفي، أن نثور على كل هذا الشجن والولع بالذات، أن نعود للالتفات إلى الحاضر، إلى العالم الحقيقي خارج ذواتنا، وأن نسعى إلى التطلع للمستقبل. ربما تكون بعض البدايات على هذا الدرب تطل علينا الآن في مطلع القرن الحادي والعشرين، تتلمس الطريق بصعوبة لكنها تجتهد في الوصول.. ربما.