المضحكون في السينما المصرية
قد يبدو الأمر غريبا بعض الشيء، لكن ربما تكون صناعة الضحك داخل الوسائط الإبداعية المختلفة هي الأكثر تأثرا، ضمن الإبداع الفني والثقافي عموما، بالتحولات الاجتماعية والسياسية. يعود ذلك إلى شعبية الإبداعات الضاحكة وانتشارها الواسع، وأيضا إلى قدرتها على ترويج الرؤى والمفاهيم وزرعها في وعي الجمهور بطريقة سلسة دون الحاجة إلى تحريضه أو الضغط على مشاعره. ولأن السينما الروائية هي أكثر الفنون المعاصرة شعبية وقدرة على التأثير الواسع، ما يجعلها تقوم بدور محوري في تشكيل وجدان الجماهير، لذا فغالبا ما تعكس صناعة الضحك داخلها التحولات الجارية في المجتمع خارجها، تتأثر بها وتؤثر فيها في ذات الوقت.
والحقيقة أن السينما الروائية المصرية لم تؤثر فقط في ذوق الجماهير، لكنها تأثرت أيضا بالمعايير الثقافية الأكثر شيوعا وسطهم. فالعلاقة بين الصور وأنماط السلوك التي تروج لها الأفلام الروائية، وبين الذوق العام السائد علاقة جدلية، أي تتشكل وتتغير عبر التأثير المتبادل. وعادة ما يحدث هذا التأثير في كل مرحلة بعينها على خلفية من الشروط الاجتماعية والسياسية السائدة وقتها بما تفرزه من معايير وقيم. وغالبا ما تكون الأفلام الكوميدية هي الأكثر دلالة على شرح ذلك التأثير المتبادل. فالإضحاك يقوم من جانب على السخرية من السائد عاكسا الرغبة في التمرد عليه، لكنه من جانب آخر يلعب دورا في تكريس الأنماط المتكررة الأكثر شيوعا باعتبارها هي الأصل. وعبر الإيهام يسهم الضحك في تحرير المتلقي من ضغوط الواقع، كما يدفعه إلى قبول حياته انتظارا للفرج.
وعلى عكس الأنواع الأخرى من الأفلام الروائية، كالأفلام البوليسية مثلا، غالبا ما تقدم الأفلام الكوميدية نمط المواطن “العادي”. ففي معظم الأحوال نجد بطل الأفلام الكوميدية شخصا عاديا من أبناء الطبقات الفقيرة أو الطبقة الوسطى التقليدية، أي يشعر أغلبية المتفرجين بأنه يمثلهم شخصيا، أو على الأقل هو شخص يمكن أن يجدوه حولهم في حياتهم العادية. أما بطل الأفلام البوليسية، فغالبا ما يكون مفارقا للعادة – قاتل محترف، ضابط مباحث مغامر، الخ – أو على الأقل شخص يبدو عاديا، لكنه يكشف عن طبيعته المفارقة في مواجهة مأزق درامي. وكلما كان بطل الأفلام البوليسية مفارقا للعادة، كلما نجح الفيلم في إيهام المتفرج، بينما ينجح الفيلم الكوميدي عادة في إيهامه عندما يجسد بطله النمط العادي المتكرر.
وعلى امتداد عمر السينما في مصر لعبت صناعة الضحك دورا مركزيا في صناعة الأفلام الروائية، طالما كان الضحك هو الوسيلة المثلى لتحقيق الهدف المركب بقبول الواقع الصعب من جانب، وإرضاء الرغبة في التحرر منه من جانب آخر. وعلى مر مراحل ازدهار السينما المصرية ظهر الأبطال المضحكون كأهم نجوم عصرهم، وعكس كل منهم سمات عصره وأنماطه المتكررة وأحلام المواطنين الفقراء العاديين في التحرر من واقعهم البائس، أو ما يتم ترويجه بينهم بصفته الحل ومفتاح الفرج. وفي كل مرحلة برز وسط المضحكين نجم مسيطر تجسّد على الشاشة كمثال للمواطن العادي: نجيب الريحاني في الأربعينات، وإسماعيل ياسين في الخمسينات، وفؤاد المهندس من منتصف الستينات إلى مطلع السبعينات، وعادل إمام منذ منتصف السبعينات وحتى نهايات التسعينات.
لقد نجحوا جميعهم عبر طرق أدائهم وكاريزماتهم الشخصية، وبواسطة شبكة منتقاة من الكتاب والمخرجين الذين صنعوا أفلامهم، في التعبير عن شقاء الفقراء وصياغة أحلامهم. وهذا المقال مجرد محاولة لرصد لمحات عامة للتأثير المتبادل بين صناعة الضحك في السينما المصرية وبين المؤثرات الفاعلة في وعي الجمهور العربي، الناتجة عن التحولات السياسية والاجتماعية في كل مرحلة.
الريحاني ابن المدينة البائس
هو مواطن مديني بائس تعيس الحظ دائما. ورغم صدقه التلقائي إلا أنه يقع عادة في مفارقات لم يكن له يد فيها، تدفعه إلى التورط مع من هم أقوى وأعلى شأنا. لكنه يقدر دائما على الخروج من الورطة بسبب موهبته وذكائه الفطري – الذي لا يُقدره أحد في العادة! وغالبا ما يتجاوز عبر خروجه من الورطة وضعه الاجتماعي والمادي إلى الأفضل، كما يتجاوز حالة الوحدة العاطفية التي يعيشها، وتتفتح أمامه جنة الأحلام.
نحن الآن في الأربعينات حيث الانقسام الطبقي في مصر هو من طبائع الأمور من وجهة نظر الأيديولوجية السائدة. لكننا أيضا في ذات المرحلة التي بدأ فيها التمرد على وجهة النظر هذه يأخذ منحى اجتماعي وجماهيري واسع. نحن في زمن الحرب العالمية والاضطراب السياسي وشيوع الفساد، زمن النقابات والانتفاضات والاغتيالات السياسية، زمن حرب فلسطين وصعود حركة التحرر الوطني والأفكار القومية، باختصار نحن في زمن يعلن تحديه الواضح للاحتلال الإنجليزي وسلطة كبار ملاك الأراضي ورأسماليي بورصة القطن.
مديرو الأملاك الزراعية الكبيرة فاسدون ومرتشون على غرار العم في “سي عمر” (1941)، والأب في “أبو حلموس” (1947). وينجح الريحاني – البائس المتورط – في كشف الفساد، ليس لرغبته في مقاومته، وإنما كسبيل وحيد للخروج من الورطة. وجائزته هي الفتاة البضة الممتلئة، بنت الأكابر التي تتحدث الفرنسية وتهيم حبا بذلك البائس غير الوسيم. ومعها يحصل على ثروتها أو جائزة اليانصيب التي تقع عليه من السماء عندما يبتسم الحظ له أخيرا.
هكذا نحن أمام رجل عادي فقير تعس الحظ في مواجهة طبقة تتهاوى بسبب فسادها وانحطاطها الأخلاقي. يقاومها بصدقه وإخلاصه، لكنه لا يمس حقها “التاريخي” في السيطرة، وإنما ينتصر عليها بأن يلتحق بها فيطهرها بأخلاقه ونبله. الرسالة واضحة: ثق أن الحظ سيبتسم في النهاية، لا تتمرد وإنما تمسك بصدقك ونبلك فهما طريق خلاصك. وإذا كانت “القناعة كنز لا يفنى” – وهو الشعار الذي افتتح به الريحاني “لعبة الست” (1946) – إلا أن عليك أن تتبع حظك، ستجده أمامك مرميا على الطريق مثل القرش الصدئ في “لعبة الست”، أو في ورقة لوترية تتورط في شرائها كما حدث في “أبو حلموس”، أو في عُقد ماسي يلقيه أحدهم في جيبك صدفة مثلما جرى الأمر في “سي عمر”.
نجح الريحاني بصوته المشروخ وكاريزمته الشخصية وقدرته الفذة على التعبير عن مشاعره وعن انفعالاته، في تجسيد نمط المواطن البائس في زمن شديد التقلب. نجح في التعبير عن سخط ذلك المواطن – الذي يتابعه أمام شاشة العرض – على بؤسه وفساد الواقع. ونجح أيضا في أن يمنحه الحلم بأن بؤسه مجرد سوء حظ لن يستمر إلى الأبد. فالحظ السعيد قادم وسيحصل على ما يستحقه، فقط إذا ما استمر على منواله في الصدق وعدم التطلع.
إلا أن البائسين الذين خرجوا من دار العرض منتشين بالحلم لم يجدوا القرش الصدئ على قارعة الطريق! لقد ازدادت حياتهم تأزما، إلى أن خرجت نخبة عسكرية من أوساطهم في مطلع الخمسينات لتطيح بسلطة طبقة لم تعد قادرة – بسبب ترديها الشديد –على الحكم.
العسكري إسماعيل ياسين
المؤكد أن ما حدث في يوليو 1952 فَجر طاقة هائلة من الأحلام. فالأمور تتغير بسرعة البرق: الطبقات القديمة تتهاوى بعالمها ومعاييرها، وتحل محلها أنماط جديدة ومعايير مختلفة. إذن فكل الأحلام قابلة الآن للتحقق حتى لو كانت مفارقة للعادة بشكل غير مسبوق. وربما يكون الفيلم الوحيد في تاريخ السينما المصرية الذي عبر عن هذا الشعور الجارف بالتفاؤل وقتها هو “الآنسة حنفي” (1954)، الذي تحول فيه إسماعيل ياسين من رجل إلى امرأة تزوجت وأنجبت، في كوميديا فريدة من نوعها لم تتكرر أبدا بهذا القدر من الوضوح والأمل. إلا أن التفاؤل الجارف هذا لم يستمر طويلا. ففي عام 1954 نفسه حدثت خطوة واسعة في اتجاه العسكرة قضت على أي احتمال للتحول الديمقراطي. وهذا لم يؤد في الحقيقة إلى الإحباط. فالأحوال كانت لا تزال تتحسن في مناحي عدة، لكنه تسبب في حالة من الارتباك لوقت.
لم يعد المواطن البائس ساخطا الآن، لكنه لا يزال غير قانع بحياته ويتطلع للأفضل. هو بالطبع يستحق ذلك لطيبة قلبه وحسن نيته. لكن عليه إدراك قلة موهبته وعدم فطنته. فهو يُسيء التصرف ولو تُرك لحاله لأفسد كل شيء. لذا عليه إطاعة الأوامر والالتزام بالنظام. هكذا سيحقق أحلامه دون حاجة إلى ورقة اللوترية والقرش الصدئ، وإنما بدعم ومساندة زملاءه الجنود وقادته الضباط، فنحن اليوم في زمن العسكرية والانضباط.
هي الخمسينات زمن سلطة يوليو الصاعدة. الحكم الآن في يد حفنة من شباب الضباط الذين تظهر صورهم في الصحف ممشوقي القامات بملابسهم العسكرية ووجوههم الممتلئة صلابة وتحدي. الشعار المرفوع هو: “الاتحاد والنظام والعمل”, والانضباط العسكري أصبح النموذج المهيمن كوسيلة لتحقيق الغايات النبيلة. لكنه في ذات الوقت نموذج خانق ومربك لم يعتده الجمهور من قبل.
ومن التعسف بالقطع اختزال عالم إسماعيل ياسين السينمائي الحافل في مجموعة أفلامه التي قدمها كعسكري متنقل ما بين فصائل الجيش والشرطة. لكن، وبلا شك، تعكس تلك المجموعة تناقضات النظرة للأمور، ما بين الرغبة في الانفلات من الانضباط العسكري الخانق المفروض على الجميع، وبين ضرورة الرضوخ له حتى تنصلح الأحوال.
هو دائما متورط في المهمة العسكرية التي يؤديها، ولم يخترها بإرادته: دخل الجيش مجبرا في “إسماعيل ياسين في الجيش” (1955)، وانتقل من شرطة الدورية إلى المباحث مضطرا بحثا عن وقت فراغ يقضيه مع خطيبته في “.. في البوليس” (1956)، واضطر إلى التطوع في الأسطول ليرضي زوجة عمه التي يحب ابنتها في “.. في الأسطول” (1957)، ويتم تجنيده بمؤامرة تدبرها العصابة التي تدير الملهى الذي يعمل فيه في “.. في البوليس الحربي” (1958)، ويقوم بتقليد أخوه الطيار وارتداء ملابسه وتقمص شخصيته ليجذب انتباه زميلته الكومبارس التي يحبها في “.. في الطيران” (1959)، ويتم نقله إلى مكتب مكافحة الجرائم معاقبة له في “.. بوليس سري” (1959).
تكرار الورطة يكشف عن الإحساس العام بمأزق العسكرة، الذي يؤكده الأداء المنفلت دوما للعسكري إسماعيل، وانعدام القدرة والرغبة لديه على الانضباط والتقيد بالأوامر، تلك الحالة التي خرجت منها كل المفارقات الكوميدية اللصيقة بأدائه. هو أيضا لا يحسن التصرف في جميع الأحوال. ودائما ما يتسبب في أخطاء قد تودي بحياته، كأن يقود طائرة وهو لا يعرف الطيران، أو يغرق في تدريبات السباحة، أو يبتلع الطُعم ويقع في فخ العصابة التي تستعد لقتله، وهكذا. لهذا السبب تصبح مهمة ضبطه وتلقينه الأوامر حياة أو موت، حتى لو تمت بطريقة جلفة على يد الجاويش الفظ الذي اعتاد على توبيخه.
لقد جسد إسماعيل ياسين ببراعة أداءه وتركيبة شخصيته صورة حسن النية محدود المواهب، الذي يجب أن يسلم قياده لمن هم أدرى بمصالحه وقادرون على حمايته، الذين هم بالطبع الأعلى منه مرتبة في الهرمية العسكرية. ودائما يأتي الفرج عندما يثق في قدرة الانضباط العسكري على تصحيح الأمور، ويبدأ في الالتزام. بينما تأتي الانفراجة هنا بطريقة مختلفة عن الماضي، فحلم الثروة التي تهبط من السماء مع ابتسامة الحظ لم يعد له معنى في زمن يفكك الثروات ويهمش الطبقات الحائزة عليها. الطموح المشروع للمواطن “العادي” الآن هو الحصول على ترقية لرتبة أعلى، وبعدها يذهب ليرتاح في حضن محبوبته بعد أن قضى على الشر ووصل إلى بر الأمان بفضل الانضباط العسكري.
المهندس فؤاد وزمن الترقي
انتهت الخمسينات بسلسلة من التحولات ذات الشأن، وخرجت الستينات للوجود بشلال متدفق من الأحلام الوردية. لقد خلع رجال يوليو ثيابهم العسكرية، وباتوا يُصدّرون صورة جديدة عن أنفسهم. لقد تحولوا من ضباط انقلابيين إلى قادة ومنظرين، يتحدثون عن الاشتراكية والتحرر الوطني وخطط التنمية والتقدم. الأبواب مفتوحة الآن أمام الفقراء للتقدم في مجتمع يدعي أنه في سبيله إلى تصفية كافة الانقسامات والاحتكارات الطبقية. التعليم مجاني وفرص الترقي متاحة للجميع، لذا يجب أن تتجاوز الصورة النمطية للمواطن “العادي” حالة البائس الباحث عن ابتسامة حظ، أو محدود الموهبة الذي يجب أن يسلم قياده لمن هم أدرى بمصالحه. المواطن “العادي” الآن يجب أن يكون مهندسا أو مخترعا أو فنانا مبدعا.
لكن هذا لم يكن إلا وجها واحداً من العملة التي يتسم وجهها الآخر بالفزع من المجهول. فأحوال الفقراء تتحسن الآن بالفعل، لكنهم جزء من مجتمع يخوض مغامرة واسعة في اتجاه الصعود لازالت نهايتها غير واضحة المعالم. كما أن حالة العسكرة تزداد قسوة في الحقيقة، وإن كانت تحدث اليوم خلف سطح لامع لا يكشف ما يحدث وراءه، ما يُعمّق فزع الجمهور من المجهول الذي ينتظرهم. باختصار يحتاج مواطننا “العادي” اليوم لمن يحرره من فزعه، ويُغرقه في حلم وردي عن مستقبل يفوق خياله.
لذا نجحت كاريزما فؤاد المهندس – التي كانت طاقتها الكوميدية تتفجر من المزيج المتناقض ما بين الثقة الشديدة بالنفس والرعب الجارف من أشياء لا قيمة لها – في التعبير عن الميول السائدة في وعي جمهور الستينات. أداء المهندس في العديد من المفارقات الكوميدية كان يدفع مشاهديه إلى السخرية من أنفسهم بسبب فزعهم غير المبرر من أمور تافهة وعادية: توتره الشديد من الحوار العاطفي مع الفتاة التي يريدون تزويجه بها في “عائلة زيزي” (1963)، رعبه المبالغ فيه من الفأر الذي دخل حجرته في الفندق في “أنا وهو وهي” (المسرحية 1963، والفيلم 1964)، الانهيار العصبي الذي أصابه بعد وقوعه بسهولة في فخ أنه سينجب من صديقة زوجته في الحلم في “اعترافات زوج” (1964)، انهياره وتصديقه أنه على وشك الموت بسبب خدعة من صديقه الطبيب في “اقتلني من فضلك” (1965)، خوفه الشديد من الفتاة التي تتخيله خطيبها الراحل في “غرام في أغسطس” (1966)، ارتباكه وتردده في التعامل مع جارته التي تحاول مغازلته في “إجازة غرام” (1967)، وهكذا. السخرية من الفزع كانت تدفع إلى التحرر منه، وبالتالي إلى تجاهل ذلك المجهول الخفي غير محدد المعالم.
وفي جميع الأحوال قبل هزيمة 1967، ومنذ أن أصبح نجما لأفلام واسعة الانتشار، كان فؤاد المهندس يتقمص على شاشة السينما شخصيات حديثة ومتقدمة – أبناء الطبقة الوسطى الصاعدون – مبتعدا عن بؤساء الماضي وفقرائه، تجسيدا لرقي المواطن “العادي” في الستينات الوردية. هو مهندس ومخترع في “عائلة زيزي”، ومحامي في “أنا وهو وهي”، وموسيقار في “اعترافات زوج”، ومهندس في السد العالي في “إجازة غرام”، وهكذا. واستمر بعد الهزيمة في تقمص شخصيات كهذه: مضيف جوي، أو مخترع، أو أديب، الخ، لكن لأن الهزيمة كانت قاصمة، وانتهى معها زمن الأحلام الوردية، لذا بات من الملح البحث عن تجسيد آخر لشخصية المواطن العادي.
لقد كشفت الهزيمة المستور، ولم يعد المجهول مجهولا بل صار واقعا ملء الأبصار. خدعة زوال المجتمع الطبقي سقطت وحلم الصعود انتهى، وعاد المواطن “العادي” بائسا كما كان. وتحت التأثيرات المتداخلة لذلك الوضع، اتجه المهندس إلى إعادة إنتاج الريحاني – وهو تلميذه النجيب، وكثيرا ما استلهمه في مسرحياته – فبدأ عبر المسلسلات الإذاعية ومن بعدها السينما في إعادة إنتاج شخصية البائس المتورط الذي ينتظر ابتسامة حظ. سنجد هذا البائس في “شنبو في المصيدة” (1968)، و”العتبة جزاز” (1969)، و”عريس بنت الوزير” (1970)، و”إنت إللي قتلت بابايا” (1970). والحقيقة أن إنتاج المهندس السينمائي خلال تلك الفترة لم يقتصر على ذلك النموذج. فوقتها كان واسع الانتشار ويقدم نماذج متنوعة. لكن تبقى لتلك المجموعة من الأفلام دلالتها بما تكشف عنه من رغبة عامة في التحرر من البؤس، في ظل أجواء تشبه الأربعينات بتقلبها وحروبها ومظاهراتها وفقرها وفسادها.
والملفت أن المهندس هنا اعتمد على كل التيمات الرئيسية في أعمال الريحاني. فهو دائما الفقير الموهوب تعس الحظ صاحب الأخلاق النبيلة، الذي يتورط مع طبقة ثرية ومسيطرة يعشش الفساد الأخلاقي في جوانبها، وعبر محاولاته للخروج من الورطة ينجح في فضح الفساد، ويكسب قلب بنت الطبقة المدللة، ومعها يبتسم له الحظ وتنفتح أبواب الجنة. إلا أن هذا النمط لم يكن مقدرا له أن يستمر، ففكرة انتظار الحظ السعيد لم تعد قادرة الآن على إلهام أو طمأنة أحد.
عادل إمام.. مسجل خطر
هو غالبا صعلوك بشكل أو آخر، يعيش على الهامش، ويصل به الأمر في أحيان كثيرة إلى الوقوف على الحافة. وفي بعض الأحيان يسقط منها بالفعل. حرامي أو نصاب أو متورط في عمليات سرقة، طالب فاشل أو موظف مقهور يحاول أن يجد لنفسه مخرجا بالتحايل، ريفي يجمع بين اللؤم والسذاجة ويبحث عن المتعة، مغامر أو بلطجي أو مروج مخدرات، الخ.. المهم أنه في معظم أعماله بين منتصف السبعينات ومنتصف التسعينات، وأيضا في بعض الأعمال فيما بعد ذلك، ستجده غالبا على الهامش.
لقد انتهى حلم الستينات الزائف بهزيمة شديدة الوطأة. ومن قلب الحلم خرج مجتمع جديد إلى الوجود، مجتمع يندفع بكل طاقته طوال العقود التالية في اتجاه استقطاب طبقي حاد. أثرياء جدد يصعدون إلى القمة في سرعة البرق ويستحوذون على ثروات هائلة، وجموع واسعة من الفقراء تندفع إلى الحضيض. هكذا أصبح الحال بدءا من منتصف السبعينات فصاعد، ونتج عن ذلك غضب متراكم يصحو حينا ويخبو أحيانا، لكنه يواصل تراكمه بشكل مستمر. فالأثرياء الجدد يفتقدون للمشروعية من وجهة نظر الفقراء. هم لا يملكون الحق “التاريخي” الذي امتلكه كبار ملاك الأرض في الأربعينات، وما بحوزتهم من ثروات نتيجة مباشرة لانحلال المجتمع وشيوع الفساد والنهب، وأيضا سبب واضح لانتشار البؤس والفقر. لذا يحتاج الفقراء لمن يحررهم من غضبهم، بفضح هؤلاء الأثرياء والانتقام منهم والإيقاع بهم.
هذا تحديدا ما فعله عادل إمام، الذي يكاد يكون أبرع من جسّدوا نمط المواطن “العادي” على الشاشة، بما امتلكه من ذكاء فطري وحضور وتلقائية وقدرة على التواصل السريع مع جمهوره، وبراعة شديدة في التعبير بأفعاله وردود أفعاله عن المشاعر المركبة للقهر والغضب والرغبة في التحايل. سنجده حرامي ونصاب يوقع بالأثرياء وينتزع منهم نصيبه ونصيب أمثاله الفقراء: “المحفظة معايا” (1978)، “المشبوه” (1981)، “عصابة حمادة وتوتو” (1982)، “اللعب مع الكبار” (1991). ومتحدي تدفعه الرغبة في الانتقام من علية القوم الذين تسببوا في إيذاءه أو إيذاء من يحبهم: “حب في الزنزانة” (1983)، “سلام يا صاحبي” (1986)، “النمر والأنثى” (1987)، “مسجل خطر” (1991). وهو رغم بؤسه شهم ومقاتل شديد البأس يتصدى بصلابة للوحوش التي تعصف بالمهمشين أمثاله: “الإنسان يعيش مرة واحدة” (1981)، “شمس الزناتي” (1991)، “المنسي” (1993). هو أيضا أفّاق مغامر يتلاعب بالكبار ويسعى بكل الحيل للتخلص من بؤسه: “الأفوكاتو” و”حتى لا يطير الدخان” (1984)، “طيور الظلام” و”بخيت وعديلة” (1995). كما أنه مندفع وراء شهواته يضرب عرض الحائط بكل المحاذير فهو لا يملك ما يخسره: “رجب فوق صفيح ساخن” (1979)، “شعبان تحت الصفر” (1980)، “عنتر شايل سيفه” (1983)، “الهلفوت” (1985).
تلك الأفلام مجرد أمثلة. فلعادل إمام رصيد واسع لازال يتواصل حتى اليوم. لكن نادرا ما ستجد له فيلما منذ أن أصبح النجم الأكثر لمعانا على الشاشة وحتى منتصف التسعينات لا يجسد فيه نوعا من الشخصيات الهامشية، اللهم إلا بعض الأعمال المحدودة. إلا أن هناك وجه آخر للأمر. فأفلام عادل إمام لا تكتفي بتحرير جمهوره من الغضب، لكنها أيضا تفتح لهم بابا للخلاص بالتصالح مع الواقع والاكتفاء بهذا القدر من المغامرة. هكذا أعاد ماهر المسدس للضابط الذي يطارده في “المشبوه”، وتزوج شمس الزناتي من حنة ليستقر بعدها في الواحة، كما عاد عنتر وشعبان في نهاية المطاف إلى قراهما بعد أن اكتشفا ثمن المغامرة. وللحق لا ينطبق هذا على كل الحالات ففي حالات أخرى كحالة بخيت تتواصل المغامرة، أو يحدث انقلاب درامي فتصبح المغامرة هي الأصل كتحول رجب إلى صائد ريفيين محترف، أو ينتهي الأمر بمأساة كسقوط فهمي ميتا في “حتى لا يطير الدخان”.
لكن رغم الاستثناءات يبقى التصالح مع الواقع والتوقف عن المغامرة هو الأكثر شيوعا في أفلام عادل إمام. وهو لا يفوز عادة في نهاية المغامرة بجوائز الريحاني، ولا يحصل على رتبة أعلى كإسماعيل ياسين، ولا تحقق اختراعاته ومؤلفاته النجاح مثل فؤاد المهندس. هو فقط يحصل على السكينة بعد تعب، ومعها قدر ما من المرارة يتفاوت من حالة لأخرى. ربما يكون السبب وراء ذلك حالة التشاؤم العامة طوال الثمانينات والتسعينات، وإحساس الجماهير الفقيرة في مصر بانعدام الفرصة في تغيير واقعها البائس، ما يجعل الحل الوحيد أمامها هو قبول الواقع والتصالح معه، وبالطبع يعكس هذا الحل بوضوح وجهة نظر الإيديولوجية الرسمية.
هكذا نجح عادل إمام في أداء الدور المركب بتفريغ طاقة الغضب لدى الفقراء، ودفعهم إلى التصالح مع واقعهم في آن واحد. وبدءا من النصف الثاني من التسعينات اندفع بشكل واضح في الكثير من أعماله التالية إلى الحرب ضد “الإرهاب” – معركة “التنوير” في مواجهة “الظلامية” – حاشدا جمهوره وراء موقف هجومي على تيارات الإسلام السياسي، بينما هو يوجه نقده في ذات الوقت إلى شيوع الفساد الحكومي من موقف المعارضة الوسطية في مصر.
ومع مطلع الألفية الثالثة ظهر جيل جديد من المضحكين بات ينازع عادل إمام على عرشه: محمد هنيدي، والراحل علاء ولي الدين، ثم هاني رمزي، ومن بعدهم محمد سعد، ومؤخرا أحمد حلمي. إلا أن عادل إمام نجح في تجديد نفسه والثبات في موقعه كنجم الكوميديا الأول، رغم تخليه عن نمط المواطن “العادي” وتحوله إلى تقمص شخصيات سوبر كالوزراء وكبار رجال الأعمال. ولم يقدر أحد من المضحكين الجدد بعد على تهديد مكانته، ربما لأن أحدا منهم لم يستطع حتى الآن التعبير عن تناقضات وعي فقراء المصريين في الحقبة الحالية. فجميعهم بشكل أو آخر حاولوا الترويج لنمط “العصامي”: هذا المواطن “العادي” الذي ينتقل من القاع إلى القمة، وذلك في الحقيقة تبني ساذج لوجهة نظر الأقلية المترفة في مصر اليوم، لا يمكن أن يتحول إلى حلم أو أمل قادر على تحرير الفقراء من مخاوفهم وإشباع رغباتهم، في ظل واقعهم المتردي الذي يعيشونه. فما حققه المضحكون الجدد من نجاح نابع من قدرتهم على “التهريج”، أي إلقاء الإيفيهات وابتكار الحركات المضحكة، لكن أيا منهم حتى الآن لم ينجح في خلق كاريزما قادرة على أسر الجمهور وشحذ مشاعره كما فعل من سبقوهم. لكن هذا موضوع آخر.