الرواية المصرية الجديدة: التحول الحضري والشكل السردي
بعد أن كانت ذات يوم منارة سياسية للعالم العربي، أصبحت القاهرة الآن أقرب لمستنقع اجتماعي في المنطقة. ارتفع عدد سكان هذه المدينة العملاقة لحوال 17 مليون، أكثرهم يعيشون في أحياء وبيوت عشوائية مترامية الأطراف تحيط بالقلب القديم للمدينة ومربعاتها السكنية الموجودة منذ أيام الاحتلال. أنتجت سياسة الانفتاح التي تبناها النظام منذ أواخر السبعينات بالإضافة لانهيار النموذج التقدمي وتفاقم الأزمة الزراعية وتسارع الهجرة الريفية إلى الحضر، أنتجت كل هذه الأسباب مناطق جديدة كبيرة مما يطلق عليه الفرنسيون "المدينة الفطرية Mushroom City"، أي "المدن العشوائية". نمت هذه المناطق بعد أن تنحت الدولة عن دورها كموفر للإسكان الاجتماعي منخفض التكاليف، فاتحة المجال للقطاع الخاص والذي تخصص في بناء مساكن للطبقة المتوسطة والمتوسطة العليا والتي تدر أرباحا أوفر. لهذا لجأ الفقراء لسواعدهم، وبنوا مساكنهم بأنفسهم.
ستون بالمائة من التمدد الحضري في الثلاثين عاما الأخيرة عبارة عن تمدد عشوائي. تفتقد هذه المناطق للخدمات الأساسية من مياه وصرف. لا تتسع شوارعها لدخول عربات الإسعاف أو الإطفاء. الأماكن أضيق حتي من مثيلاتها في أزقة المدينة القديمة. أنتج التجاور العشوائي لمبانيها امتدادات من طرق مسدودة والتي تفتقد للتخطيط، وأدت قلة الأراضي إلى غياب تام للمساحات الخضراء أو الأماكن المفتوحة. إن الكثافة السكانية في هذه الأماكن رهيبة حتي بمقاييس الأحياء الفقيرة نفسها. وقد وصلت هذه الكثافة السكانية إلى سبعة أشخاص لكل حجرة في بعض المناطق، وتتسبب في انهيار الحدود الاجتماعية المتعارف عليها مع وجود عائلات كاملة تتشارك حجرة واحدة، وأصبحت بعض الأمراض التي اختفت سابقا – كالربو والجدري – تمثل وباءا.
وبشكل أشمل، واجه الجيل الذي عاش خلال التسعينات أزمة ثلاثية: أزمة اقتصادية اجتماعية، وأزمة ثقافية، وأزمة سياسية. تضاعف عدد سكان مصر منذ عام 1980 ليصل إلى أكثر من 80 مليون بحلول عام 2008 بلا أي زيادة متناسبة في الإنفاق. تصاعدت نسبة الأمية، وعانت المدارس من غياب التمويلات. أما في الجامعات شديدة الإزدحام، عانى أعضاء هيئة التدريس من الدخول المنخفضة وعوضوا هذا عن طريق الحصول على أموال الطلبة مقابل درجات أعلى. ولم يكن حال الخدمات العامة – كالصحة والضمان الاجتماعي والبنية التحتية والمواصلات – بأفضل حالا. وتم نهب القطاع العام بواسطة مجموعة اللصوص في السلطة وأقربائهم، الأمر الذي أدى إلى إنتاج بناءا اجتماعيا "ديناصوريا" مشوها: رأس صغيرة – يمثلها فاحشو الثراء – تتحكم في جسد متنامي من الفقر والبؤس. وفي نفس الوقت أصبحت نسبة البطالة بين الشباب أكثر من 75%.
أصبح المجال الثقافي – وسط هذه الأجواء – ساحة للمزايدات المتعصبة، فريسة لكل من الرقابة الرسمية – التي يقودها وزير الثقافة القديم فاروق حسني – وللرقابة الذاتية في مجلس الشعب والصحافة. على الساحة السياسية، كان يتم تجديد قانون الطوارئ، والذي يتم تطبيقه منذ العام 1981، بواسطة الحزب الوطني الفاسد، وأصبحت السجون المصرية سيئة السمعة متاحة للولايات المتحدة وبريطانيا ودول أوروبية عدة لإرسال المعتقلين من أجل الخضوع لطرق تعذيب "غير تقليدية". وبعد الاتفاق أحادي الجانب للسادات مع إسرائيل في عام 1979، حدث شرخ واسع بين الوجدان الشعبي المصري وبين تواطؤ المؤسسة السياسية مع أسوأ فظاعات الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة ودعمها العملي لحروبهم المتعاقبة: غزو لبنان وعاصفة الصحراء واحتلال أفغانستان والعراق. ولم يؤد تهميش مصر كقوة في المنطقة إلا إلى إحساس الأجيال الجديدة بالمهانة والقنوط.
في هذا السياق، ظهرت الموجة الجديدة من الكتاب المصريين الشباب. تشكل أعمالهم هجرا جذريا للتقاليد المتأصلة، عارضة مجموعة من التبصرات الحادة في الثقافة والمجتمع العربي. تتميز هذه النصوص بالشك الشديد في الذات وبالتشظي السريد واللغوي الذي يعكس بوضوح واقعا مزدوجا وغير منطقيا تصبح كل الأشياء فيه حقيرة. معظم هذه الأعمال صغير – نادرا ما تتجاوز المائة وخمسين صفحة – وتميل للتركيز على أفراد معزولين بديلا عن ملاحم الأجيال التي تميزت بها الرواية المصرية الواقعية. سياقاتها السردية متشبعة بحس الأزمة، على الرغم من أن هذا العالم الذي يصوروه غالبا ما يتم التعامل معه بحس ساخر. أبطال هذه الأعمال عالقون في الحاضر، بلا أي قوة قادرة على التغيير. تشمل هذه الموجة الجديدة بشكل أساسي كتابا مثل سمير غريب على ومحمود حامد ووائل رجب وأحمد غريب ومنتصر القفاش وعاطف سليمان ومي التلمساني وياسر شعبان ومصطفي ذكري ونورا أمين، لكن هناك المئات من الأعمال الروائية التي تنتمي لنفس النوع ظهرت إلى الآن. ومع الظهور الأول لهذا النوع الجديد من الكتابة، أُطلق على هؤلاء الكتاب "جيل التسعينيات".
ظلت المؤسسة الأدبية في مصر مجمعة على إدانة مثل هذه الأعمال. فتحت قيادة جريدة الأخبار، ذائعة الصيت وملحقها الثقافي الأسبوعي "أخبار الأدب"، قام كبار الكتاب بشن حملة مكثفة ضد الكتاب الجدد لسنوات عدة. ورفضت مجلة "إبداع"، وهي الإصدار الأدبي الشهري الكبير، مبدأيا نشر أيا من أعمالهم. اُتهم الكتاب الجدد بأنهم عدميون واُتهموا بفقدان الطريق وافتقاد الاهتمام بالشئون العامة والتركيز الهوسي على الجسد والفقر في الأسلوب وضعف القواعد النحوية وعدم ملائمة مهارات السرد لديهم وبالإبهام الشديد في كتاباتهم. لكنه لم يوجد حتى الآن أي تدقيق نقدي مفصل لهذا الشكل من الأعمال والاتجاهات الجديدة التي تقترحها للأدب العربي المعاصر ولا أي محاولات لربطها بالسياق الاجتماعي والسياسي الأوسع التي خرجت منه.
سأحاول فيما يلي أن اوضح كلا من الإطار والقواسم المشتركة للرواية المصرية الجديدة. كنت قد جادلت سابقا أن هذه الأعمال يجب أن تفهم خارج حدود التقسيم النوعي، فهي تنتقل بحرية بين مختلف أنواع الكتابة في الفضاء النصي. لكنني بدلا من هذا، أقترح أن هذه الروايات تتشارك فعلا في عدد من الخصائص السردية والتي تتضمن بالفعل خروجا على شكل الرواية الواقعية والذاتية وتحولا في مجموعة القواعد التي يرتبط النص فيها بالعالم الخارجي. كما أقترح أنه مهما كان شكلها الحقيقي، فإن هذه الأعمال تتضمن تشابهات رسمة واضحة بينها وبين الأحياء الفقيرة مترامية الأطراف في القاهرة ذاتها.
نوع جديد؟
كانت أول إشارة على وصول هذه الموجة الجديدة في الأدب المصري في عام 1995 مع نشر مجموعة قصصية ذات طابع ذكوري اسمها "خطوط ودوائر" من دار نشر صغيرة اسمها "دار شرقيات" والتي يديرها "حسني سليمان". اشتركت القصص – والتي كتبها وائل رجب وأحمد فاروق وهيثم الورداني وآخرون – في أسلوبها الخال من المؤثرات بلغة أقرب للعامية منها إلى الفصحي، بالإضافة إلى ابتعادها عن المواضيع الكبيرة لتركز على الحياة اليومية وعلى ما هو غير منطقي فيها. بعدها وفي عام 1996 صدرت رواية "سمير غريب علي" الأولى بعنوان "الصقار"، بطلها "يحيى" والذي لا يحمل أي صفة من صفات البطولة، على وشك أن يصبح من العمالة الزائدة المصنع الذي يعمل فيه لأن هذا المصنع – والذي تم تعيينه فيه بلا تخطيط – قد أصبح تحت مطرقة الخصخصة. خلفية الأحداث تكمن في اشتراك مصر في حرب الخليج الأولي، وتكرر مشاهد انتشار الدعارة. ينهمك "يحيى" في شهوته الجنسية النهمة على الرغم من أن نزواته مخضبة باليأس. تزدحم هذه الرواية القصيرة بأناس من جذور مختلفة – سودانيين وصوماليين، لاجئين سياسيين ومهاجرين وموظفين ذوي دخول مرتفعة – كلهم من نفس الفئة العمرية. أصدقاء "يحيى" كلهم عاطلين عن العمل بلا أي اتجاه أو دور في الحياة. حلم العمل بإحدى دول البترول – الدولة التي تحمل اسم عائلة كما يصفها آدم الشاب الصومإلى – يتبخر مع حرب الخليج الأولى ونهاية النمو البترولي. تأتي النظرة الحادة المتشائمة في شخصيات الذكور من عجزهم عن إحداث أي تغيير في وضعهم.
هناك ثلاثة شخصيات نسائية قوية تعاني أقدارا مختلفة. "مستورة" – الفتاة القروية – هربت إلى القاهرة بعد أن تم اتهامها في جريمة شرف. "فونيى" – وهي قبطية متعلمة من الطبقة الوسطى – تعيش في انتظار ورود الأخبار من الولايات المتحدة حيث يحاول حبيبها السابق أن يحصل على البطاقة الخضرا هناك. "ميلندا" الباحثة الفرنسية تحقق في وضع المرأة في مصر. تحارب ميلندا "حرب تحرير" في إطار تجهيزها للـ"انتقام" لوضع المرأة العربية عموما "كما لو كان أسطول نابليون على أبواب الأسكندرية" كما يصفها يحيى، والذي يمدها بقصص فضائحية من أصدقائه عن سلوكهم الجنسي. يتنقل يحيي بين شقة ميلندا الفارهة في الزمالك – وهو حي الأثرياء بالقاهرة الأخرى منذ أيام الإحتلال – وبين أصدقائه المهمشين في القاهرة "الثالثة" – المدن العشوائية – عارضا تباينا حادا بين العوالم المتجاورة. على الرغم من أنه يتوه في شقة الفتاة الفرنسية الفسيحة، إلا أنه يعرف كيف يجد طريقه بكل مهارة عبر متاهة الشوارع الفقية، حيث يقابل أصدقاءه في بيوتهم. تتشارك "مستورة" في غرفة مع امرأة عجوز – "ماما زيزي" – في الطابق الأرضي من عمارة ضيقة طويلة في أحد الأزقة الضيقة حيث تممتد الشرفات كألسنة الكلاب يتقطر منها القطران. لا تتكلم "ماما زيزي" أو تتحرك لكنها "حين أضاجع مستورة تدير وجهها ناحية الحائط". خارج الباب المكسور، تتشاجر جارات الدور الأرضي ويتبادلون الإهانات. للأسلوب شكل إقراري للحقيقة القاسية، يعرض على سبيل المثال شهادوة لإغتصاب جماعي في قسم الشرطة لـ "مستورة" وكأنه حدث عادي: "عادت مستورة بعد الظهر مكتئبة ومتعبة. حاولت أن ادفعها لتحكب لي عما حدث لكنها لم تقل شيئا. تركتها لتنام، وعندما استيقظت اخذتها بين ذراعي. اندفعت مستورة في البكاء وأخبرتني…".
لم يكن هناك أي محاولات لإضفاء صبغة درامية على العلاقات القمعية كما لو أن هناك احتمالا آخر ممكن الحدوث. "مكتئبة ومتعبة" – تعبير بسيط عن وجودهم الغير محتمل. يتميز الأسلوب أيضا باستخدام عدة رواة وبالتكرار – جمل محورية يتم إعادتها – وبالبناء الدائري الذي يخلق ممرا من المرايا السردية. يتم استقبال نفس الحدث ثلاثة إطارات زمنية مختلفة: إطار يتوقعه الراوي، أو تتخيله شخصية أخرى أو إطار متعلق بلحظة الحدوث. يخلق هذا التأثير إحساسا قويا بعدم إمكانية الهروب.
كما هو متوقع، فإن رواية "الصقار" تعرضت للهجوم من جانب أحد أكبر كتاب الأعمدة بجريدة الأهرام – فهمي هويدي – والذي اتهمها بأنها "كتابة شيطانية عدمية تدمر كل ما هو ديني – إسلامي أو مسيحي – وتدمر كل القيم الأخلاقية"، كما دعا إلى مصادرة الرواية. بعدها قام الناشر – الهيئة المصرية العامة للكتاب – بسحب الرواية، وهاجر سمير غريب علي بعدها إلى فرنسا. في روايته الثانية – "الفرعون" – والتي نشرت بعام 2000، نقل سمير غريب المشهد من المدينة إلى الريف في محافظة المنوفية – وهي أكثر مناطق الدلتا ازدحاما بالسكان. يحكي "عصام" – وهو لص صغير – قصة صديقه "سيد" المسجون والذي يعرف باسم "الفرعون". "سيد" كان مدرسا بأحد المدارس القروية، وتم فصله من عمله من قبل المباحث – البوليس السياسي المصري – ليعيش بعدها حياة لاجئ بدون جريمة ارتكبها. يعيش "الفرعون" دائما في حالة هروب محاولا أن يضع نهاية ويطعم عائلته الجائعة. يتنقل الرجلان على أسطح القطارات – وهي وسيلة المواصلات الطبيعية بالنسبة لفقراء مصر – حتي يموت "سيد" وهو في أوائل الثلاثينيات من عمره بسقوطه من على أحد القطارات. نجد السرد هنا في حالة تشظي ويعكس حالة داخلية وإحساسا المهمشين بضعفهم أمام الأحداث يكرر في سياق السرد. مرة أخري، يزدحم العمل بالشخصيات – تماما كالمنوفية نفسها – ويحتوي على الكثير مما يمكن أن نطلق عليه "الحبكات الجانبية" في غياب حبكة رئيسية. هي صورة للمجتمع الذي ينهار معكوسة في مرآة الماضي القريب.
هناك سمة أخرى لهذه الأعمال وهي التركيز على التفاصيل الملموسة للحياة اليومية، وعلى اللحظات الساكنة في الحياة. تقع رواية "وائل رجب" – "داخل نقطة هوائية" المنشورة في عام 1996 – في خمسة فصول مرتبطة بحكاية ثلاثة أجيال، مركزة على الجزء الخارجي من الحدث دون اللجوء للقياسات المنطقية لقصص العائلة. تدور أحداثها في الريف تماما كرواية "الفرعون". تخضع الأحداث القليلة – الغير درامية والغير عاطفية – إلى التحقيق المكثف، ويعيد القارئ – من خلال هذه الشظايا – بناء مسار هذه العائلة ومصائر أبطالها. يتبني الفصل الأول – بعنوان "ضغطة كاميرا" – تكتيكا لعرض الأحداث بصورة محايدة، لكن مع هذا يغلب عليه السخرية والتأثر بالدمار الذي يحدثه الوضع الاقتصادي. وكما في رواية "زينب" – للكاتب "محمد حسين هيكل" وهي الرواية المصرية الأكبر، المنشورة في عام 1912 – فإن الرواية تبدأ ببطلها "محمد يوسف" مستيقظا عند الفجر. لكن سرعان ما نكتشف أن عالمه مختلف تماما عن عالم "زينب" بأفقها المفتوح. شهد "محمد" المرحلة الأخيرة من حلم والده بالتقدم، معايشا الإحباط المر للطموح المصري بموت ابنه. هذا السياق السردي يصبح انعكاسا لتفكك العائلة والغضب من انكسار طموحاتها وتطلعاتها لمستقبل أفضل.
تحتوي رواية "أحلام محرمة" لـ "محمد حامد" – المبنية هي الأخرى عبر التداخل المعقد بين النقاط الزمنية المختلفة وعبر راويين مختلفين – على إيضاح صارخ لعودة الرجل التقليدي القوي – الفتوة – في حياة بلا قانون في "المدينة الثالثة" بالقاهرة. لكنه بينما كان الفتوة القديم ملتزما بقواعد البسالة والشهامة، فإن الفتوة الجديد يعيش كسفاح لا يحركه إلا الطمع أو العنف أو التعصب الديني الأعمى. في فصل بعنوان "الأحد 17 سبتمبر 1978" – وهو اليوم الذي وقعت فيه مصر معاهدة "كامب ديفيد" – يتم اغتصاب "فرحة" بواسطة "عويس" فتوة "كفر الطماعين". وكما هو شائع في الرواية العربية فإن المرأة تعبر عن الدولة. لم تجرؤ عائلة "فرحة" على الانتقام من الفتوة لكنها بدلا من هذا طهرت شرفها بقتل الفتاة نفسها. يقع الفصل الأخير من الرواية على خلفية حرب الخليج مرة أخرى. يقضي "فارس" – وهو صحفي شاب – ليلته الأخيرة في بار مع اصدقائه قبل عودته إلى عمله في الخليج. ومع توديعه لهم، تدافعت ذكريات من حياته في عقله لينتقل السرد من لسان الراوي إلى لسان البطل نفسه ليجد نفسه يتقيأ تحت أحد أسدي كوبري قصر النيل – أحد بقايا الاستعمار البريطاني – ليجد سيارة شرطة تقف بجانبهم: تجمع أكثر من أربعة أفراد يعد أمرا غير قانونيا في ظل قانون الطوارئ الدائم في مصر. يصبح "فارس" أكثر تحديا محدثا نفسه: "خذ نفسا عميقا وقل له: افعل ما تستطيع فعله". تصل سيارة شرطة أخرى حاملة قوات أمن مسلحة: "تحاول أن تهين هؤلاء الذين يهينونك، لكن صوتك لا يقوى على الخروج. يحيط بك الجنود موجهين أسلحتهم صوب ظهرك ويخرج ضابط ذو رتبة كبيرة من السيارة ليتلقى التحية الرسمية من الضابط الذي اعتدى عليك، ليقوم بشرح الموقف. يشير الضابط ذو الرتبة العليا إلى العساكر ليبدأوا في ضربك بمؤخرات بنادقهم. تصرخ وتصرخ، لكن لا أحد.. لتنتهي الرواية.
على العكس من هذا، فإن البطل – الراوي الفصامي في رواية "أحمد العايدي" – "أن تكون عباس العبد" – يجد نفسه في مواجهة محاولات الشخصيات الأخرى للهروب من حدود السياق السردي معا. يحاول اللحاق بموعد دون سابق معرفة – أو في الواقع موعدين: كل شيء في هذا العالم مزدوج. والذي يحدده له صديقه أو "الأنا" العليا له: "عباس العبد"، ليجد الراوي إرشادا يحوي: "كلمني" مع رقم الهاتف المحمول الحقيقي لأحمد العايدي 0106409030 محفورا على جدران أحد المولات بالقاهرة. يبدأ هذا العمل المؤلم بهذه الجملة مكتوبة بلغة الشارع الهجينة والتي تختفي منها مصر الرسمية تماما: "هذه ليست رواية". في النهاية يتم إسقاط هذه الازدواجيات المتسلسلة على الوضع القومي. "لا تصدق ما تقوله للآخرين"، بهذا يحذر البطل – الراوي نفسه الأخري. " كان في مصر جيل نكسة 1967. نحن الآن الجيل التإلى – جيل "ليس لدي شئ لأخسره".
يسيطر السرد المتفتت والانعكاسات السردية على أعمال كاتبات هذه الموجة الجديدة أيضا. فرواية سمية رمضان الخالدة "أوراق النرجس" تعد واحدة من الروايات القليلة في هذه المجموعة الجديدة التي تعالج الموضوع الكلاسيكي لفكرة التفاعل مع الغرب، وهو الموضوع المركزي للأدب العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر. ويعد العمل أيضا غير تقليدي في التعامل مع عالم النخبة والذي يدرك هنا من خلال المكونات الدقيقة للهويات الممزقة بينما تتعامل الأغلبية العظمي من هذه الأعمال مع الطبقات الوسطى أو الفقيرة المهمشة. على نفس المستوى المفاجئ، فإن رواية "نورا أمين" الأولي "قميص وردي فارغ" – والتي نشرت في عام 1997 – قد عرضت صورة حيوية للنفوس المبعدة والمبعثرة. روايتها الثانية "النص" والتي نشرت في عام 1998 والتي قمت بقراءة مخطوطتها الأولى – كانت شديدة الجرأة والتجريبية لدرجة أنها لم تجد ناشرا لها. وتعد روايتها الثالثة "الوفاة الثانية لرجل الساعات" – والتي نشرت في عام 2001 – واحدة من أهم روايات الجيل الجديد على الإطلاق.
تتعامل الرواية مع الطبقة الوسطي المصرية في الفترة التي اندمج جزء صغير منها بنخبة رجال الأعمال الجديدة بينما ترك الباقي وحيدا. "عبد المتعال أمين" هو الشخصية المحورية – وهو الإسم الحقيقي لوالد الكاتبة – كما تظهر شخصية "نورا أمين" نفسها كساردة وكاتبة، وحيدة مع المجموعة الحزينة لساعات اليد التي تخص زالدها بعد وفاته. يتألف هذا العمل من أربعة أقسام: "ساعات" وهو يختار خمسة ساعات من حياة "عبد المتعال أمين"، الساعة الأولي كانت من عام 1970 والأخيرة من أواخر التسعينيات. و"دقائق" تسجل لحظة وفاته وشعائر جنازته، و"ثوان" – وهو الجزء الأكبر والأكثر تأثيرا – عن محاولات نورا إعادة إحياء المسار المهني لوالدها كمقاول عقارات عبر تقليد تفاصيل حياته اليومية: سياراته – من سيارة "رمسيس" الصغيرة في السبعينيات إلى الـ "فيات" في الثمانينيات والـ"مرسيدس" في التسعينيات والتي تعطلت ذات مرة على في الصحراء لتقضي نورا أمين هذه الليلة الشتوية الباردة وحيدة على جانب الطريق. الجزء الأخير هو "خارج الزمن" والذي تستعيد فيه ذكري رجل العائلة الوطني والذي انبهر بوعود الثراء السريع في عصر الإنفتاح لكنه تحطم بفسادها. في أحد المشاهد يسحب "عبد المتعال أمين" ابنته إلى أعلى أحد سقالات البناء بإحدي مواقع البناء الكبيرة – موقع مكتب حكومي – حيث ظلا عالقين: نورا ظلت "نورا" خائفة من أن تتحرك خشية أن تسقط وناقمة على أبيها لإحضارها إلى الأعلى هناك كما لو كانت صبيا، و"أمين" يتشاجر مع العمال الذين يطالبون بأجورهم. رفضه أن يتعامل بحدة مع المسئولين كان معناه أنه لن يتلقي نقوده أبدا، وكعادة العديد من مشاريع فترة الانفتاح، لم يتم الإنتهاء من المبنى أبدا.
ما هي الاستراتيجيات التي توضحها هذه الأعمال المختلفة؟ بكل وضوح، فإن كل هذه الأعمال ترفض السرد الخطي للرواية الواقعية عارضة تجاورا للشظايا السردية والتي تتواجد جنبا إلى جنب بلا أي بنية مهيمنة أو حبكة موحدة: كنزعة "يحيى" الجنسية في "الصقار"، واعتداء الشرطة الذي لا يحمل أي معني متعلق بالحبكة في "أحلام محرمة". الأمر الثاني أن "الخاص" لم يعد في صراع جدلي مع العام ليتوسط الأمر بالحياة الداخلية للشخصيات كما في الرواية الواقعية. أصبح الإثنان في خصومة مع تقلص المساحة القصصية للحياة الداخلية. في الوقت ذاته، تختبر الشخصيات نفسها كجزر معزولة في البيئة الاجتماعية. "نحن جيل من المعزولين، الذين يعيشون كغرباء تحت سقف واحد، يحملون أسماءا متشابهة. هذا أبي، وهذه أمي، وهؤلاء بالقطع إخوتي وأخواتي. لكنني أتحرك بينهم كأجنبي يقابل مجموعة أخرى من القاطنين بنفس الفندق "كما يقول الراوي في رواية "أن تكون عباس العبد".
الأمر الثالث هو أن هذه السياقات السردية لا تثير أية أسئلة معرفية فيما يتعلق بكيفية فهم العالم، وكيف يتحدد موقف الفرد منها. ولا تعرض أي نقاط مبدأية كما تفعل الرواية الواقعية. بدلا من هذا فإن فإن الرواية العريبة تسأل أسئلة وجودية: ما هو العالم السردي؟ وما هي أنماط الوجود التي يخلقها النص؟ ينشغل هذا النوع الجديد من الكتابة – تماما كالرواية الحديثة – بتفكك نصها في إطار سعيها لتجرد القوي المحركة الداخلية لعمليتها الفنية، فالرواة معرضون للخطأ، ومتعددون، ومتعددو الأصوات. لكنه على العكس من الرواية الحديثة، فإن هذه الأعمال تحمل سردا غير متعديا، يركز على الوجود بدلا من تأثير الأفعال. اخيرا فإن محو الإعراف الروائية السابقة من النصوص لا يدفعها اي توقع بترتيب مغاير للواقع بقدر ما تدفعها الرغبة في أي خلع أي شرعية عن الواقع الموجود. فيما يتعلق بالأسلوب، فإنهم يعيدون تقييم وفحص المفردات اللغوية في الحياة اليومية ليظهروا فراغها، وهو ما تم إساءة فهمه كفشل للتمكن من الإيقاعات المعقدة للغة العربية التقليدية بكل ما في المناطق البلاغية فيها من تماسك وثبات. على العكس من هذا، فإن هذه الأعمال الجديدة يجب أن تقرأ كمحاولة لإظهار الجانب الجمإلى من هذا التشتت اعتمادا على بقايا ما كان. تتكون هذه العوالم السردية من حطام المسار الأدبي الرسمي. في هذا النوع الجديد من الكتابة، يجد الراوي وأبطال الرواية أنفسهم في حالة من التشتت محاصرين في ترتيب مزدوج وغير منطقي للعالم، حيث لا تختلف الكلمات عن العوالم نفسها.
مدن وكتّاب
التداخل بين الأشكال الأدبية والواقع الاجتماعي لابد أن يكون دقيقا وغير مبائر ومعقد. عندما ندرس التشابهات بين استراتيجيات السرد في الرواية المصرية وبين التغيرات الحضرية في القاهرة، لا يحمل الأمر أي شكل من أشكال التأثير المباشر المتبادل بينهما. مع هذا فإنه من الممكن تتبع تطور العلاقة بين مشروع التحدسث – والذي تبناه "الخديوي إسماعيل" في سبعينيات القرن التاسع عشر، والذي كان طالبا في باريس في فترة إعادة تصميم "هاوسمان" للعاصمة الفرنسية – وبين الرواية المصرية الجديدة. خطط "إسماعيل" لمدينة جديدة تتكون من جادات واسعة وشوارع كبيرة مفتوحة، وقام ببناء الأوبرا وحديقة الأزبكية في شمال وغرب المدينة القديمة أو المدينة الشرقية – والتي تطورت على مدار ثلاثة عشر قرنا عبر عملية بطيئة من البناء الداخلي – ويفصل بين المدينة القديمة والجديدة شارع "خليج المصري". شكلت المدينة وجهتي نظر مختلفتين وطريقتين مختلفتين للحياة. تحتفظ المدينة القديمة شديدة الإزدحام بترتيبها التقليدي وطابعاه الدين المحافظ بينما تعكس "المدينة الثانية" إيمان حكامها في أفكار التطور والحداثة والعقل. كانت هذه ايضا تمثل رؤية رفاعة الطهطاوي وتلاميذه الذين كانوا شديدي التأثر بالتنوير الفرنسي. استمر هذا التأثير ليشمل أعمال كبار الكتاب المصريين من محمد المويلحي ومحمد حسين هيكل وطه حسين وتوفيق الحكيم ‘لي يحيي حقي ونجيب محفوظ. الإنطباع العام – بأن الإنسان يستطيع أن يبني نفسه وأننا "نكون ما اخترنا أن نكونه" بتعبير "ميراندولا" على المستويين الفردي أو الجماعي – يقع في القلب من الرواية العربية الحديثة منذ البداية. الفكرة المركزية في رواية "زينب" لـ "هيكل" كانت مأساة "زينب" في أن تكون ما تريد أن تكونه. وكانت هذه ايضا هي معضلة "حمدية" في رواية "زقاق المدق" لـ "نجيب محفوظ" – المنشورة في عام 1947م – والتي تفشل هي الأخرى في أن تصبح المرأة العصرية التي تريد أن تكونها.
ولد العديد من رواد الأدب الواقعي في مصر – كالمواليحي والحكيم وحقي وومحفوظ – ونشأوا في المدينة القديمة، لكن موهبته الأدبية تطورت في سياق المدينة الثانية: هم نتاج الممر الواصل بين العالمين بكل رؤاهما وإيقاعاتهما المتناقضة. لم يكن الإنتقال من المدينة القديمة إلى المدينة الجديدة بلا ثمن: في "زقاق المدق"، تحولت "حمدية" إلى عاهرة للجنود البريطانيين بعد أن رحلت عن ملاذ الزقاق الآمن. على الرغم من سعيهم الدائم، فإن معظم أبطال روايات نجيب محفوظ الكبيرة في الأربعينيات والخمسينيات ينتهون من حيث بدأوا أو ربما أسوأ مما كانوا. شكل إحباطهم من انكسار أمانيهم المادة الأساسية للروايات: لكن هذا لم يمنع من مواصلة الكفاح من أجل تغيير مصائرهم. تكمن مثلا قوة ثلاثية "نجيب محفوظ" (1956م – 1957) فيجزء منها في معركة بطلها "كمال" لأن يكون ماي يريده بدلا عما يريده له أبوه. تمككنا افتراضات الحداثة الكامنة في هذا العمل من تفسير أشكال انهيار السلطة الأبوية وتمرد الإبن والإختيارات الحرة للأحفاد بأيديولوجياتهم الفردية والمتضادة. هذه الإفتراضات توضح المسار الذي أخذته الرواية العربية بعد "نجيب محفوظ"، من أعمال يوسف أدريس وعبد الرحمن الشرقاوي وفتحي غانم ولطيفة الزيات مرورا بجيل الستينيات. هنا اقترح أن هناك تشابها بين البنية الحضرية للمدية الثانية بشوارعها الواسعة وتناقضها مع الأزقة الضيقة للمدينة القديمة، وبين البناء الخطي للرواية الواقعية حيث تتكشف الحبكة في علاقتها بالعلاقات الاجتماعية الأوسع.
في العقود الأولي من القرن العشرين، بني حكام القاهرة مناطق منظمة أخرى كـ "جاردن سيتي" إلى الغرب من "قصر الدبارة". تم تخطيط هذه المنطقة لتمثل حاجزا بين المستعمرين البريطانيين وبين الطبقان الوسطي الغاضبة في المدينة القديمة، والذين يطالبون على الدوام برحيل المستعمرين. لم يكن هذا الشكل خطيا ولكن نمطا دائريا معقدا على الرغم من أنه بني على أسس حضرية حديثة. المثير أن هذا الفضاء المتنافر عن عمد لم يجد تعبيرا أدبيا له إلا بعد الإستقلال، حيث بدأت تناقضات المشروع القومي التحديثي في المطالبة بأشكال أكثر تعقيدا ورمزية. أدي هذا إلى صعود السرد الحداثي، والذي انعكس لينتج بناءا دائريا يشمل تفكيرا نقديا لوضع الراوي. وعلى الرغم من أن الرواية المصرية كانت تتميز بالنقد الشديد للوضع الاجتماعي الذي خرجت منه، إلا أنها كانت بالضرورة تمثل سردا للتنوير العقلاني، حيث تحتفظ فكرة التقدم بمعني لها. مرة أخري، فقد كان هناك توازيا مع الأشكال الحضرية. ففي منتصف الستينيات، كانت القاهرة الحديثة قد تجاوزت المدينة القديمة، وبدأ انهيار المدينة التقليدية بسبب ضعف قيمها أمام الشكل العلماني السائد لعصر عبد الناصر.
التحول عن الحداثة
حدث تغير جذري لهذا الوضع قبل مجئ جيل التسعينيات. كل شئ في خبرات هذا الجيل يسير معاكسا لمبادئ سيادة العقل أو المركزية المعرفيةللإنسان. أصبحت الحياة اليومية – بالنسبة للشباب المهمش من جيل التسعينيات والألفية الجديدة – عبارة عن عملية من الإذلال اوالعنف الرمزي. خلقت فترات البطالة الطويلة احساسا بأنه جيل غير مرغوب فيه، وبأن شبابهم سيضيع، ليخلق هذا معه احساسا غريبا بالذنب. لم يعد الإيمان الساذج في مستقبل أفضل خيارا متروحا وأصبحت نقطة البداية تنطلق من التشاؤم والغضب. تحطمت آمال الأجيال السابقة في حل جمعي على صخرة الفساد الذي استشري حتي النخاع في الثقافة المصرية. امتزجت شروط ما بعد الحداثة في مصر – من الانتقال من اللفظي للمرئي ومن سيادة للإعلام التجاري الكبير – برقابة الدولة من جانب وبالوهابية الناصعة ذات التمويل الكبير من جهة أخري. تشدق "السادات" بحرية التعبير بينما سار في بناء ما عرف في الأدب بـ "المناخ الطارد" – مناخ غير مواتي للممارسة الثقافية المستقلة، وهو ما أدى إلى طرد العديد من المثقفين الغاضبين إلى خارج البلاد، واعتمدت الحكومات المتعاقبة هذا الأسلوب التقليدي في التعامل مع الثقافة المصرية. تزامن هذا مع صعود دول البترول – السعودية تحديدا – لتملأ الفراغ الثقافي الذي نشأ بعد نبذ مصر بعد معاهدة "كامب ديفيد" وتدمير بيروت في الحرب الأهلية اللبنانية.
شكلت هذه الديناميكيات بناءا تحتيا لنشوء المدينة العشوائية، وهي المدينة الثالثة في القاهرة، بلا أي خطة عامة، كرد فعل قاصر النظر على أزمة السكان. عكست هذه المدينة العشوائية فقدانا أبديا للثقة في قدرة الدولة على التكفل بالحاجات الأساسية لمواطنيها. خرجت هذه المدينة من وضع تحل فيه المطالب العاجلة محل ما هو استراتيجي وبعيد النظر، بل وتتضارب معه. وبالتإلى أصبحت المدينة الثالثة مليئة بالمآزق والنهايات النغلقة. شكل الحزامين الكبيرين من المسكان شبه الحضرية تراجعا عن التخطيط الحضري للمدينة الثانية بلا اعتبار لأي جمال موجود في المشهد الحضاري – عودة بلا هدف لأشكال الإسكان قبل الحدثية – تماما كما حدث في العلاقات الاجتماعية والسياسية.
سار هذا النمو الفوضوي للمدينة الثالثة يدا بيد مع التراجع عن الحداثة والعودة للمواقف التقليدية – أو ربما الأصولية – لتشكل الدعامة الأساسية للأيديولوجية الوطنية، مع انهيار الثقافة السياسية الأوسع لمصر وصعود مقياس معكوس للقيم الاجتماعية والوطنية.
من الممكن الآن تعقب سلسلة من أوجه التشابة بين الشخصيات الأساسية في الرواية المصرية الجديدة وبين الطبيعة العشوائية للمدينة الثالثة والمأزق الأوسع الذي تمثله هذه المدينة. يكمن التشابة الأول في هذه النصوص في المفارقة في طلبها من القارئ أن يتعامل معها على أنها ‘رواية’ بينما تستمر هي في إرباك التطلعات الجمالية والنوعية التي ينتظرها القارئ والذي يحطمها هذا الشكل الجديد من الرواية. تظهر هذه الأعمال وعيها بالبناء المترسخ للإذلال العربي وللسياق الاجتماعي الغير سليم الذي نشأت منه. تؤكد هذه الأعمال على أهمية أن تكون سيدة قرارها فيما يتعلق بشكلها، بينما تفض على الرغم من هذا بذل أي جهد في حل تناقضاتها على المستوي الرمزي. لا يتم التعامل مع هذه المفارقة على أنها مشكلة بحاجة إلى حل، بل كوضع وجودي للنص نفسه. وبالتإلى أصبح هناك تشابها مع أبنية السلطة في العالم العربي – حيث تظهر سلطة الدولة ليس كقوة حقيقية لها إرادة حرة ومشروع مستقل قادر على تحدي ‘الآخر’ تبعا للمنطق القومي وإنما كصورة زائفة للسلطة – أي كفزاعة. تحاول هذه السلطة دائما – بسبب فقدانها للشرعية – أن تؤكد على سلطتها بالتصعيد من الرقابة متذبذبة بين وهم السلطة وبين الإحساس بالدونية. تصاعدت عير الثلاثة عقود الأخيرة مستويات جديدة من القسر والقمع لتتوافق من الخنوع غير المسبوق للمؤسسة السياسية المصرية لإملاءات واشنطن، بلا حتي أن تتمتع باحترام من سيدها الأجنبي.
تتميز "أنا" الكتابة الأولي للرواية الجديدة بوعيها الحاد بقلة حيلتها وحصارها في الحاضر بلا أي أفق مفتوح. كل وسيلتها في الهرب تكمن في خلق عالم سردي يشبه وجوديا العالم الحقيقي لكنه يسمح بتفاعل حواري معه. لذلك تمثل هذه الكتابة منفذا – كسرا في الأفق المغلق. لا تقدم هذه النصوص منطقا بديلا للواقع الحقيقي لكنها تحاول أن تعترض تماسكه، خالقة فجوات وانقطاعات كي يقوم القارئ بلأها. أحد اللوازم الأساسية لهذه الكتابة أنها تستخدم الشظايا والمتراكبات السردية التي ترفض أي إطار جامع. صفة أخرى أساسية لهذه الكتابة هي طريقة التعامل مع الحبكة حيث يتم التخلص من المواضيع المركزية والوسطية في الرواية التقليدية ليتكون هذا السرد الجديد من بدايات ونهايات، محطمة أي تطور معياري في الحبكة. يخلق هذا اضطرابا جديدا داخل عالم السرد، ليقوم بتشتيت بوصلة القارئ وتركيز المعضلة الوجودية.
يشير هذا الأسلوب أيضا بالطبع إلى انهيار سلطة الراوي باعثة بنداء إلى القارئ – "كلمني" – بلا أي احتمال لتلقي أي رد. إذا كانت "أنا" هذه الكتابة غير قادرة على تأمين وضعها كوعي متحكم في النص، وإذا فقد الكاتب الثقة في الراوي فإن هذا يحدث لأن كلاهما يعبر عن شكلين مختلفين من نفس خاضعة في بلد خاضعة فقدت استقلالها هي الأخرى كما فقدت كرامتها ودوها في المنطقة. يخلق هذا الوضع أزمة في قدرة هذه "الأنا" في أن تتعرف على نفسها، وأن تندمج مع "الآخر" أو مع قضية أكبر. مع هذا فإن هذا السرد قادر على ربط الواقع الخارجي بما هو داخلي كجزء لا يتجزأ منه، بينما تنظر هي – في نفس الوقت – من الخارج من وجهة نظر المهمش الذي لا يشعر بأي أهمية.
الرواية المصرية الجديدة مغمورة في أدق التفاصيل الصغيرة في الواقع الاجتماعي المحيط لكنها على الرغم من هذا غير قادرة على قبولها. أصبح رواية الأفق المغلق نوعا كتابيا جديدا معبرة عن وضع أصبح غير محتمل بالمرة.