“التلصص”.. مغامرة صنع الله الجديدة
رواية جديدة لصنع الله إبراهيم حدث لا يمكن تجاهله. وفي روايته الأخيرة الصادرة عن دار المستقبل العربي بعنوان “التلصص” يضعنا صنع الله من الغلاف أمام صورة قديمة لرجل وقور وصبي صغير، لنتعرف من الفصل الأول على طفل وأب وكاتب يحاول استعادة زمن ما يتسرب من بين يديه من خلال كتابة عمل على غلافه كتبت كلمة “رواية” تتضافر معه السيرة الذاتية للكاتب نفسه. بالطبع هذه منطقة جديدة لصنع الله الذي بدأ الكتابة بعمل مدهش ومغامر “تلك الرائحة”، ليتحول عنها بعد ذلك ويعود إلي أحضان الواقع والهموم الاجتماعية، محاولاً تقديم ديوان حال المجتمع المصري.
في الحقيقة لم يكتفي صنع الله فقط بالمجتمع المصري، فقد انتقل بنا إلي بيروت وعمان، وحتى أمريكا لم تسلم من شغفه التسجيلي. في كل هذه الأعمال حافظ صنع الله على لغة حية لكنها حيادية، حيث نادراً ما يستخدم التشبيهات أو المجاز هو فقط يكتفي بتسجيل الواقع –أو ما يعتقد أنه كذلك- بلغة باردة متقشفة، تولد إيقاعها من المفارقة والسخرية مع كم هائل من القصاصات الصحفية والمراجع التاريخية.
أعمال صنع الله وجدت ولا تزال نجاحاً كبيراً. بالنسبة للكثيرين مثلت أعماله قطع من الحلوى التي لا تكتفي بطعم السكر بل تقدم أيضاً المعلومات المفيدة بشكل مبسط يجذب الجماهير. هناك أيضاً الموقف السياسي والأخلاقي المستقل لصنع الله الذي لا يستحق سوي الاحترام من الجميع. كل ما سبق كان من الطبيعي أن يمنح صنع الله لقب “الأستاذ” بجدارة. وحينما نقول الأستاذ فالمقصود هو المعنى التعليمي أكثر من اللقب الاجتماعي، فلقد أصبح صنع الله المعلم الكبير لجيل عريض من الشباب والقراء. هكذا كانت صورة صنع الله، التي لمعت وزادت تألقاً بعد رفضه لجائزة الرواية العربية.
في روايته الأخيرة “التلصص” يستدعي صنع الله ذاكرته البعيدة، لكي يرسم لوحة لمصر الأربعينات من خلال عين طفل يعيش وحيداً مع أبيه، بينما تتلقى أمه العلاج النفسي في إحدى المصحات النفسية.
البعض كان يتوقع من تلصص صنع الله أن تأتي مثل أعماله السابقة، محملة بالمعلومات القيمة والدروس التي توضح لنا مساوئ الرأسمالية وتكشف لنا ألعابها الشريرة الموجودة داخل زجاجة الكوكا كوولا. لكن صنع الله لم يرد أن يلعب هذه المرة دوراً تثقيفياً بجانب الإبداع الأدبي، بل أراد فقط أن يقدم مقطوعة موسيقية هادئة من أربع حركات/فصول دون قفزات أو أبحاث تاريخية. لقد اختار أن يقدم قصة بسيطة: ولد وأب عجوز يكتفه المرض والاحتياج لأنثى ومسئولية تربية ابن لوحده. كل هذا مع صور تثير الحنين لشوارع القاهرة ومظاهر حياة الناس في الأربعينات.
لكن هذا ما يبدو فقط على السطح، ففي العمق تشعر طوال الوقت بحالة توتر خفيف، شيء ما يفسد الطبخة، لا يجعلها رواية عن الحنين للماضي، ولا عمل عن العلاقات الأسرية المعقدة. هناك جزء ما محذوف أو مكتوب بتردد، ربما يكون هذا لأن الرواية كلها هى حالة تلصص، يقدمها الكاتب من ثقب باب يطل منه على الماضي دون أن يكشف كل أوراقه. فليس الابن فقط هو الذي يتلصص على جارته “ماما تحية”، بل الكاتب أيضاً يتلصص على سيرته الذاتية خائفاً من الكشف الكامل.
تتميز لغة صنع الله في معظم أعماله بالسلاسة وخفة الروح، فهو كمعلم قدير يعرف كيف يجعل عين القارئ تنساب مع الجملة دون معوقات، وكيف يخلق مفارقات صغيرة تعتمد على السخرية تكسب الإيقاع حيويته. لكن هذه اللغة تتحول في التلصص إلي جميل قصيرة جداً مقطوعة بحدة، كل جمله تشبه مشهد واحد فقط: “أنكمش من البرد. أضع الهون فوق المائدة. أتناول ثمرة يوسفندى. أقشرها وألقي بالقشر والبذر أسفل السرير” صـ 80
وبالرغم من امتلاء الرواية بالمشاهد الحميمة، سواء الولد مع أمه المريضة، أو وصف لحظات ضعف الأب، واستكشاف الغريزة الجنسية، يحافظ صنع الله على اللغة كما هي لينجو من النوستالجيا وفخ تحويل الرواية لبكائية عن المعاناة والماضي، تاركاً القارئ حراً في اتخاذ الانفعال الذي يريده دون أن يتعاطف مع شخصية علي حساب الأخرى. لكن هذه المساحة الانفعالية الحرة التي يتركها صنع الله للقارئ تتحول في بعض أجزاء العمل إلي حيرة. فنحن لا نعرف مشاعر الطفل من أبيه أو أمه أو “ماما تحية”. والطفل الذي يفترض أن يكون حساساً تجاه كل هذه التفاصيل العاطفية يبدو وكأنه عجوز بارد فقد القدرة على التجريب والانفعال مكتفياً بمشاهدة الحياة ورصدها.
لهذا يمكننا اعتبار التلصص مغامرة حقيقة تختلف عن أعمال صنع الله السابقة. مغامرة حقيقة أن يكتب كاتب يعرف تقنيات ودهاليز الرواية جداً رواية مثل تلك. لكن صنع الله كسب مغامرته ونجحت “التلصص” مثل العديد من أعماله التي تعكس الموهبة والحرفة في آن واحد.