بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

عن السياسة والفن

هل الفن الحقيقي هو الذي يبعد نفسه عن السياسة أم الذي يبدأ منها؟ الكاتب الاشتراكي الثوري البريطاني جون مولينو يكتب لأوراق اشتراكية عن هذا السجال التاريخي المرير.

دائما ما كانت هناك علاقة ترابط واسعة بين السياسة التقدمية والفنون. فمن ناحية، يلاحظ أن الفنانين في عمومهم – وبالتأكيد ليس كلهم – ذوو ميول يسارية. ومن ناحية أخرى، يعنى الكثيرون من اليسار السياسي بالفنون، وعادة ما يحرصون على تسجيل تعاطفهم. هذا الترابط في محله تماما بما أن كلا من الفن والسياسة التقدمية يعنيان بتنمية وتحسين الجانب الإنساني للشخصية، أي في نهاية التحليل بحرية الإنسان.

على الرغم من ذلك، ظل تحديد العلاقة بين الفن والسياسة محل الكثير من الجدل والسجال على مر السنين. وكان بعض ذاك الجدل مريرا، بل وصلت بعض أشكال السجال إلى حمل مسدس أو إلى دخول السجن. ولا يمكن لهذا المقال أن يستعرض هذا الجدل كله، ولكنه سيسعى في المقابل لأن يدحض اثنين من المبادئ السائدة حول الفن والسياسة. هذان المبدآن على تناقضهما يحولان دون تعاون مثمر بين الفنانين واليسار.

أول هذين المبدأين، هو فكرة أن الفن “الحقيقي” يجب أن يبقى بمنأى عن أي ارتباط صريح بالسياسة، خشية أن يدفعه ذلك الارتباط للتنازل عن نزاهته الفنية. أما المبدأ الثاني، فهو أن الفن إنما أن يجب أن يعلن صراحة عن إنتمائه السياسي ويساند بشكل مباشر القضايا السياسية وإلا يستبعد ويوصم بأنه رجعي أو منحط.

الفن من أجل الفن
ترجع نشاة الفكرة الأولى إلى القرن التاسع عشر، وعادة ما ترتبط في أذهان الناس بشعار “الفن من أجل الفن”. وتجد أصلها في تلك الرؤية الذاتية للفن على أنه ذلك التعبير “النقي” الذاتي للرؤية الداخلية الخاصة للفنان. وتلعب تلك الفكرة على إنعدام الثقة الشعبية تجاه السياسة، على أنها لعبة قذرة، تدور في أغلب الأحوال حول النفوذ والسيطرة. كما أنها أيضا، وعن حق، رد فعل للتجربة التاريخية للمنظمات اليسارية والحكومات التي ارتبطت بالتقليد الشيوعي الستاليني، والتي عمدت إلى إلباس الناتج الفني عباءة سياسية ولو عنوة.

وسوف أعقب على التجربة الستالينية لاحقا. ولكن تلك الرؤية الفردية/ الذاتية للفن خاطئة. فلم يكن الفن قط تعبيرا ذاتيا خالصا. فدائما ما تأثر الإنتاج الفني بمختلف الظروف الاقتصادية والجتماعية والسياسية والتي تراوحت ما بين الأسئلة العملية البحتة مثل ” هل سأتمكن من توفير القماش والألوان؟” أو “هل سيقبل أي مسرح أن يعرض مسرحيتي؟” إلى السؤال حول الرقابة الدينية أو رقابة الدولة أو حتى كل الضغوط التي تمثلها التيارات الإيديلوجية السائدة. وبشكل أكثر عمقا، تصبح تلك الفكرة مرفوضة لأن تلك “الذات” التي يسعى الفنان إل التعبير عنها ما هي إلا ناتج اجتماعي، أو حاصل جمع تجاربه الشخصية، أي تفاعله مع الآخرين، أي المجتمع. فبما أن الفن كله ماهو إلا تعبير اجتماعي وأيديولوجي، بما لا يمكن تفاديه، فلم لا يمكنه أن يتعرض لموضوعات سياسية بشكل مباشر، جنبا إلى جنب مع موضوعات أخرى اجتماعية مثل الحب والعلاقات والطموح أو العلاقة بالطبيعة وخلافه؟

السياسة والأعمال الفنية العظيمة
إلا أن الحجة الحاسمة لإمكانية وجود فن مرتبط مباشرة بالسياسة ليست ذات طبيعة نظرية، بل متعلقة بالممارسة العملية. فمن المعروف عبر القرون وفي العديد من البلدان، أن الكثير الكثير من أقوى الأعمال الفنية، في المجالات المختلفة من الفنون قد استلهمت الأحداث السياسية وتعرضت بشكل مباشر لموضوعات سياسية. ولكن تاريخ الفني التقليدي والأدب والنقد الثقافي بذل جهدا خارقا لطمس تلك الحقيقة، وذلك عن طريق الفصل بين “الأعمال العظيمة” وسياقها التاريخي.. وهناك بعض الأمثلة الكاشفة :

في الفن التشكيلي: هناك عمل لمايكل أنجلو يدعى “دافيد”، الذي أبدعه بطلب من مدينة فلورنسا بهدف سياسي صريح وهو الاحتفال بطرد حكام ميديتشي Medici الطغاة. وهناك أيضا لوحة “موت مارات” للفنان جاك لويس دافيد، والتي تمثل اغتيال اليساري الثوري أثناء الثورة الفرنسية على يد أحد أعداء الثورة. ولوحة الفنان الفرنسي جويا “الثالث من مايو 1808″، والذي يمثل إعدام المتمردين الفلاحين الإسبان على يد جيش نابليون المحتل. وكان يحمل تعاطفا كبيرا مع المتمردين. وهناك العمل الشهير للفنان دولاكروا “الحرية تقود الشعب” الذي يمثل الثورة الفرنسية في 1830. وفي القرن العشرين، عندنا الأعمال الفنية السياسية للفنانين التقدميين مالفيدش ورودشنكو و تاتلين وغيرهم، مستلهمين الثورة الروسية. بالإضافة إلى الفن المعارض للحرب ممثلا في أعمال بول ناش وأوتو ديكس وغيرهما. والأعمال التصويرية المناهضة للنازية ل جون هارتفيلد. وبالطبع هناك لوحة “جويرنيكا” لبيكاسو التي عبر فيها عن معارضته لقصف الطائرات الفاشية بالقنابل لمدينة الباسك أثناء الحرب الأهلية الإسبانية.

وفي الأدب، تكثر الأمثلة عن الكتابة السياسية، مثل الشاعر الرومانسي الإنجليزي شيللي حيث تعتبر قصيدته “قناع الفوضوية” أفدح إدانة كتبت ضد حكومة ما. وأيضا هناك الشاعر الرائع والمسرحي برتولد بريخت، والذي كانت الغالبية الغالبة من انتاجه سياسية الطابع. كما كتب الروائي الفرنسي إميل زولا روايته “جرمينال” عن إضراب عمال المناجم، والروائي الأمريكي جون شتاينبك “عناقيد الغضب” عن معاناة فقراء الريف في الكساد الكبير. وخصص الشاعر آلن جنسبرج قصيدة طويلة باسم “ويتشيتا فورتكس سوترا” عن الحرب الفيتنامية. كما كتب الشاعر الأيرلندي الأشهر دبليو بي ييتس “عيد الفصح 1916″، لتخليد ذكرى إنتفاضة عيد الفصح ضد الحكم البريطاني. ولكم استخدم الشاعر الشيلي بابلو نيرودا شعره لمهاجمة الدور الإمبريالي الأمريكي والدمى الدكتاتورية التابعة له في أمريكا اللاتينية.

أما في الموسيقى، فهناك معزوفة موزارت “الناي السحري” والتي ترتبط بالماسونية، والتي كانت آنذاك قوة جد ثورية في أوربا. ووكذلك عبر بيتهوفن في “السيمفونية الخامسة” و”إفتتاحية إجموند”عن الصراع من أجل الحرية في عصر نابليون. وما أروع صوت بول روبنسون وهو يشدو بأغان سياسية من مختلف أنحاء العالم. وهناط أيضا تلك الأغنية الخالدة “الفاكهة الغريبة” لبيلي هوليداي الذي يهاجم فيها الإعدام شنقا في جنوب الولايات المتحدة. والأعمال السياسية لبوب ديلان مثل “مطر كثيف” و”أمراء الحرب” و”مجرد رهن في لعبتهم”. وهناك أيضا نشيد التحرر الرائع الذي ألفه بوب مارلي بعنوان “أغنية الخلاص”.

وفي الأفلام، هناك روائع آينشتاين “المدرعة بيتومكين” و”إضراب” و”أكتوبر”. وهناك أيضا “العصر الحديث” و”الدكتاتور العظيم” لشارلي شابلن. وللمخرج بونتيكوفو “معركة الجزائر العاصمة” و”كويمادا” الذي يتناول ثورة للعبيد في الكاريبي. ورائعة كين لوتش عن الحرب الأهلية الإسبانية “الأرض والحرية”.

ومن الممكن أن نذكر أضعاف أضعاف تلك الأمثلة. وهي تثبت جميعها بما لا يدع مجالا للشك أن لا تناقض على الإطلاق بين الالتزام السياسي الصريح والإبداع الفني في أعلى مراتبه. فمن الواضح أن مثل تلك الأعمال تساعد القضية الثورية او التقدمية من خلال كسب قلوب وعقول الناس حول مواضيع معينة أو من خلال رفع الوعى والروح المعنوية. فعموما، ينبغي لليسار ينبغى ان يدعم ويشجع ويستخدم مثل هذا النوع من الأعمال الفنية، كلما أمكن.

هل الفن غير السياسي مدان بطبيعته؟
ولكن هناك وجه آخر لهذه الحجة، ولا يقل أهمية عنها. فلو كان من الواجب تشجيع الفن السياسي، لا ينبغي أن يستتبع ذلك فكرة أن الفن غير السياسى هو بالضرورة مدان أو معاب.

فالفن لا ينبغى ولا يمكن أبدا أن يختزل في دعاية أو نقد سياسيين. إذ يعكس الفن ويستجيب لمدى واسع من الاحتياجات والخبرات الإنسانية مثل الميلاد، الموت، الحب، الجنس، النور أو المطر، المشاعر الخاصة باليأس أو الأمل، منظر التلال والأشجار، خطوط وألوان المبانى، لعب وألم الأطفال، دراما السماء ودراما الشوارع، باختصار كل شيء. وصحيح أنه في التحليل الأخير ترتبط كل هذه الأشياء بشكل أساسي بالسياسة، ولكن هذا لا يعني أن كل تعبير فني لهذه المواضيع يحتاج لتعبير سياسي واضح وصريح. وطالما أن هذا التعبير الفنى قوي، ومحرك للمشاعر وجميل أو أصيل، وينمي وسائلنا في التواصل (المرئي، اللغوي أو الموسيقي) فهو بالتأكيد يفيد الانسانية.

فالكثير من الفنانين المذكورين سابقا كمؤلفين لأعمال سياسية مباشرة، قد أنتجوا أيضا أعمالا دون محتوى سياسي مباشر. فمثلا رسم مايكل أنجلو الكنيسة the Sistine Chapel لبابا الفاتيكان. ولم يؤلف الشاعر ييتس “عيد الفصح 1916″، فحسب، بل أيضا قصيدة “بحيرة جزيرة إنيسفري”. وغنى بيلي هوليداي أغنية الحب “حسن ويانع” بجانب “الفاكهة الغريبة”. كما ابتدع بيكاسو الفن التكعيبي، من خلال رسم رجال بالغليون والجيتار، قبل أن يرسم “جويرنيكا”. وسوف يكون من الغباء الشديد ان نحتفي “بالفاكهة الغريبة” ونرفض “حسن ويانع “. أو إذا ما هللنا لهذه اللوحة، واستهجننا الفن التكعيبي. خاصة وأن بيكاسو لم يكن ليرسم “جويرنيكا دون أن يطور أولا الفن التكعيبي.

نعم يجدر تشجيع الفن السياسي، ولكنه يجب أن يكون الاختيار الحر للفنان. فأي محاولة من الأحزاب السياسية أو الحكومات لفرض موضوع معين أو أسلوب على الفن- كما كان الحال فيما يعرف “بالاشتراكية الواقعية” في الاتحاد السوفييتي تحت حكم ستالين (لم يكن كذلك تحت حكم لينين، إحقاقا للحق)، أوفي الصين الماوية وفى دول ستالينية أخرى، وبدرجة ما في الحركة الشيوعية العالمية ككل- إنما تؤدي فقط الى حرمان الإنتاج الفني من كل حيويته.

وهناك نقطة أخرى تستدعى الاهتمام. فالعمل الفنى غالبا ما يكون سياسيا ضمنيا بدلا من أن يكون سياسيا بشكل صريح. فمثلاً، عندما أنتج رامبرانت “كليشيه الشحاذين”، إنما كان يتحدى وينتقد الأسلوب العدائي ضد الفقراء والشحاذين الذي تميزت به الرأسمالية الهولندية في القرن السابع عشر. وفى القرن التاسع عشر، عندما تحول الفنان الفرنسي ن رسم مناظر دينية/ أسطورية كبيرة وبورتوريهات للنبلاء الى تصوير الحياة اليومية للناس، كان ذلك رفضا ضمنيا لمجمل ذاك النظام الأرسقراطي/ البرجوازي. ولما عزف شارلي باركر، وجون كولتران، ومايلز دافيز موسيقى الجاز الحديث، وعندما كان بيسي سميث، وبيلى هوليداى يغنيان البلوز، فكل نوتة وكل جملة كانت تحفل بمعاناة الناس وبرفضهم للعنصرية. ويعتبر هذا في غاية الاهمية، لان الثقافة النقدية السائدة تميل كلما أمكن الى تجاهل أو التقليل من شأن تلك الأعمال السياسية ضمنيا، مفضلين تقديم الفن على أنه “منزوع من السياق المكاني” أو “بدون سياق زمني”. ولهذا فإن على النقاد الثقافيين الثوريين مسئولية إبراز هذا العنصر والإصرار على أن الأعمال الفنية لا يمكن فهمها بشكل كامل إلا من خلال السياق الاجتماعي والتاريخي والسياسي الذي خلقت فيه.

وفى النهاية، من الضرورى التأكيد على أن الفنانين ذوي الأفكار المحافظة أو الرجعية يستطيعون أحيانا أن يبدعوا فنا قيما. فمثلا، الكاتب والشاعر الفكتوري الإنجليزي روديارد كيبلينج، والذي كان مؤيدا للإمبريالية، هذا الشاعر هو نفسه صاحب عبارة “حمل الرجل الأبيض” وكتب قصيدة بشعة بنفس الاسم، وفى نفس الوقت ألف عددا من القصائد والقصص ذات قوة ورؤية حقيقية مثل قصيدة “أغنيات الثكنة”. وأيضا تي.إ س. إليوت والذى كان يمينيا انجلو-كاثوليكي (وهو فصيل محافظ جدا من المسيحية)، وملكيا يداعب الفاشية. وبالرغم من ذلك فقد كتب “الأرض الخراب” the waste land ” والتي استخدمت اللغة بشكل جديد مما كان له أثره على كل الشعر الحديث، كما مثلت نقدا أصيلا للفراغ الروحي للمجتمع الرأسمالي الغربي بعد الحرب العالمية الاولى.

ويوجد تفسيران رئيسان لهذا التناقض الظاهري. الأول هو أن التمسك بموقف محافظ عميق قد يعطي لصاحبه نقطة قوة، تمكنه من عمل نقد فني قوي لسطحية وحقارة الرأسمالية التجارية. والاغتراب الذي تخلقه العلاقات الاجتماعية الرأسمالية. حتى لو كان ذاك العمل لا يقدم سياسيا أي طريق للأمام. والتفسير الثاني هو أن صنع الفن عملية معقدة ومتناقضة وليست دائما بالكامل تحت السيطرة الواعية للفنان، ولذا نجد في بعض الأحيان أن الفن يتعدى محدودية/ حدود أيدولوجية الفنان. وهنا يحتاج النقاد التقدميون في مثل هذه الحالات، لأن يشيروا إلى طبيعة أيدولوجية الفنان، وليس التغطية عليها. وفي كل الأحوال، لا ينبغي أن يؤدي رفضهم لتوجهه الفكري إلى رفض العمل الجيد أينما وجد. فعلى سبيل المثال احتفى كارل ماركس جدا بطريقة تصوير الروائي الفرنسى بلزاك للمجتمع الفرنسى، وهو من كان محافظا ومؤيدا للملكية، وهذا على الرغم من الرفض الكامل من جانب ماركس لموقفه السياسي.

وختاما، فإن التفاعل الحيوي، والتعاون بين السياسة الثورية والفن في كل أشكاله، هو أمر مفيد للجانبين ومرغوب فيه. ومن أجل تحقيق ذلك، يجب أن يتخلص الفنانون من الوهم البرجوازي الذي ينظر للفن على أنه غير اجتماعي وغير سياسي، و يتكامل هذا من جانب اليسار، بمقاربة غير فئوية وغير متعصبة للفن، مبنية على فهم حقيقي يتعاطف مع الطرق المعقدة التي يبدع من خلالها الفن.