بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

فن وأدب

تمصير الفنانين الشوام

إنقاذاً للأرباح.. لا حباً في العروبة

أصبح الفنانون العرب عامة والسوريون بالذات مثار جدل بمصر، لماذا يتوافدون علينا ويتوسع المنتجون في الاستعانة بهم؟ لماذا ينقسم الفنانون بشأنهم بين مؤيد ومعارض؟ وما رأي الجمهور في هذا الأمر كله؟

هناك ثلاثة ميادين فنية أساسية في مصر، يتوافد عليها فنانو العالم العربي في المرحلة الحالية: السينما والتلفزيون والغناء. ويتصدر السوريون القائمة في الدراما التلفزيونية، واللبنانيون في السينما والأغاني. ولكن لماذا يدور هذا التنافس بين هذه الجنسيات الثلاث (مصر وسورية ولبنان)؟ وفي أية مصلحة يصب هذا التنافس؟

فلاش باك

لأسباب تاريخية وجغرافية متنوعة، انبثق من الظلام العثماني للأمة العربية ضوء ثقافي في مصر والشام قادر على الانتشار بسلاسة في سائر بلاد العرب. لهجات سهلة، مزيج متماسك من الثقافات القديمة والإسلامية والأوروبية، سرعة إعادة بناء المجتمع وطبقاته على الطراز الغربي من قبل المحتلين البريطاني والفرنسي، وصعود نجم الأفنديات بفضل الكفاح الجماهيري ومشاركتهم فيه، وعناصر أخرى مختلفة، مكنت القلب لا الأطراف من القيادة الثقافية لبقية الجسد العربي، على أكتاف رواد الفنون والآداب والفكر والصحافة المصريين والشوام.

ولعشرات السنين تكرس في مصر والشام نمطاً للإنتاج الثقافي، والفني قادراً على ملامسة الأمة العربية كلها. فقد تعلم المنتجون ماذا ينتجون وكيف يسوقونه، وتعلم الفنانون كيف يغزلون على نفس النول المضمون، وتعلمت الجماهير العربية كيف تتذوق هذا النتاج وتتأقلم معه.

وخلال النصف الأول من القرن العشرين أصبحت مصر هوليوود العرب، وخلفها وقف الفنانون والمثقفون الشوام مشكلين معها مثلث رأس الحربة، وفتحت مصر ذراعيها للمواهب الوافدة من الشام أولا ثم من أطراف العالم العربي كله.

وبوصول الطبقة الوسطى للسلطة -عبر العسكر ذوي الصبغة القومية- في مصر وسوريا (ذات النفوذ دائما في لبنان)، تم تدشين فلسفة الإعلام والفنون الموجهة، وأنفقت السلطة الكثير من المال والجهد لإيصال الصوتين المصري والشامي، لجميع ربوع بلاد العرب خاصة وأنه صار يحمل رسالة قومية. وهكذا وصلنا إلى نقطة أصبح فيها طريق الانتشار عربياً أمام الفنان المصري أولا ويليه الشامي واسعا، بينما هو ضيق أمام غيرهما من الجنسيات العربية ولو كان فيها إبداع كبير.

خريطة ما بعد النكسة

هزت النكسة جميع الثوابت، سقط صوت عبد الناصر وشعاراته المجنحة، وتقوضت سلطة الطبقة الوسطى المعادية للاستعمار الرأسمالي العالمي، وصعد المعسكر الخليجي والرجعي المضاد، وتقدم الجناح الساداتي ليقابله في منتصف الطريق. وفي خضم مراجعاتها لأفكارها ومواقفها، بدأت الجماهير العربية في الإنصات للأقلام العراقية والمغاربية وتذوق فنون الخليج الذي كتب على الكثيرين من العرب العمل والعيش فيه.

ومن دوامة السبعينيات تولدت خريطة جديدة في مصر. فبعدما سقط الهدف القومي وغطاؤه الحكومي، وبعدما تأزمت الطبقة الوسطى، وانفتح الباب أمام صقور رأسمالية الانفتاح، أصبح الفن المصري تابعا للتمويل الخليجي بدرجة كبيرة، وأصبحت الأفلام معتمدة على سلف التوزيع الخليجية، وصارت المسلسلات تنتج على مقاس الرقيب السعودي، ونشأت شراكة كالتآمر بين التمويل الرجعي من جهة وعُبّاد “السبوبة” من جهة أخرى. ومن هنا نشأت سينما المقاولات مثلا. ومن هنا أيضا توسع المط والتطويل في المسلسل المصري، الذي صار في غالبيته وعاءً تتم تعبئته لتمضية الوقت، إضافة إلى ركاكة وتكرار الفكرة طبعا وانتشار العشائرية والاستسهال وضغط التكلفة من أجل تعظيم هامش الربح. وهذا ما قد يفسر استمرار الدراما التلفزيونية المصرية في الانحطاط، حيث تولى تخطيطها وإدارتها وتسويقها لسنوات، الجانب المتراجع والمتهالك من الإنتاج الثقافي في مصر والخليج معا.

الارتطام بالحائط

ومضى الوضع على هذا المنوال حتى مل المشاهدون العرب المسلسلات المصرية الفقيرة في كل شئ، رغم أن أرباحا كثيرة تتكدس في جيوب الجميع بدءاً من المنتجين والمسوقين المصريين والخليجيين وشركات الإعلانات وكبار النجوم ومنتجي ومقدمي البرامج، ومديري الصفحات الفنية في المجلات المتخصصة.. إلى آخر المتعيشين من هذه “السبوبة”. فالكل يكسب إلا الجمهور العربي، الذي يخرج وحده من المولد بلا حمص، لا في الجيب ولا في الوجدان. ومن هنا نشأ الطلب على المسلسل غير المصري، سورياً كان أو حتى خليجياً. وهكذا بدأت منافسة المسلسل المصري.

لقد سارت سوريا في مسار مختلف عن مصر سياسياً، حيث حاولت إدخال أطراف أخرى غير الولايات المتحدة في المنطقة، كما حاولت التملص من السطوة الخليجية. وأثر ذلك بالتالي على فلسفتها في الإنتاج الثقافي والفني اللذين يقعان بالكامل تقريبا في قبضة الدولة. ورغم أن مساهماتها السينمائية محدودة جداً، إلا أنها استطاعت أن تتخصص مؤخراً في المسلسل التلفزيوني. وقد عاونها على ذلك استمرار السلطة ذات الصبغة القومية في الحكم، بما وفر إمكانيات الدولة للمسلسل السوري التاريخي، الذي أصبح عنوان الجودة في الدراما التلفزيونية العربية وبوابة العبور للفنانين السوريين إلى قلوب الجماهير العربية.

وحيثما تراجعت الثقافة المصرية، تركت وراءها مساحات خالية يتم احتلالها تباعاً من مراكز عربية أخرى. فبدلا من إذاعة صوت العرب في العهد الناصري صارت هناك قناة الجزيرة من قطر والتي تعد أكثر مهنية من التلفزيون المصري، الذي لا يزال يتبع فلسفة صوت العرب القديمة في الإعلام التلقيني. وبعد مشاركاتنا السينمائية في المهرجانات الدولية من زمن صلاح أبو سيف ويوسف شاهين الشاب، إلى زمن محمد خان وداوود عبد السيد في قمتهما، تقدم علينا في هذا المضمار الفيلم المغاربي. وحيث استسهلنا وكررنا أنفسنا في فنون الفيديو كليب وبرامج المنوعات، تقدم الإعلاميون اللبنانيون علينا وقدموا أنفسهم باعتبارهم الورثة الشرعيين لمملكة التفاهة والتعري -أبرز مؤهلات هذه القوالب التلفزيونية- والتي لم يمنع الإعلاميين المصريين من الانفراد بها إلا خشية السلطة من التأثير العكسي للتيار الديني في مصر. وصار واضحا أن مقولة “الريادة الإعلامية المصرية” التي لطالما حاول صفوت الشريف بيعها لنا وللعالم العربي كله انهارت.

الحاضر محصلة للماضي

من جماع هذا كله يمكننا أن نفهم أن استقدام الفنانين العرب للعمل في الحقل الفني المصري لم يحدث إلا استجابة لمتغيرات معينة. فبإقدام عدة ممثلات مصريات على ارتداء الحجاب مثلا واعتراض الباقيات على المشاهد الساخنة في الأفلام حقناً للانتقاد الشعبي، تم استيراد ممثلات ومطربات فيديو كليب لبنانيات مستعدات للمغامرة. وعوضا عن نجوم مصريين يبتلعون ثلث الميزانيات أسندت البطولات لنجوم سوريين لهم اسم في العالم العربي كله وبنصف الأجر، ثم توسع المنتجون وصاروا يستعينون بالمخرجين السوريين وفناني المكياج والأزياء اللبنانيين، وبكل عناصر العمل لو استطاعوا، مع ملاحظة أن كل هذا يتم بالطريقة السطحية الاستسهالية و”الكلفتة”، التي مني بها المصريون عامة منذ النكسة كأثر غائر لهزيمة مفاجئة في الرؤية وفي الأخلاق وليس فقط في المواجهة العسكرية.

وصار نجاح نجم سوري في مسلسل مصري يترجم لدى هؤلاء المنتجين بأن”الظاهر الجمهور عاوز كده” وعليه، وبما أن الممولين العرب يشجعون هذا التوجه أيضا، تم شحن النجوم السوريين لمصانع الدراما هنا.

الحقيقة والوهم

نحن إذن أمام إنتاج مأزوم يبحث عن ترتيب أوضاعه ضماناً لسيولة أرباحه، صحيح أنها أزمة أنشأها رأس المال الانتهازي هذا إلا أن من سيتحملها هم الأجراء كما هو شأن النظام الرأسمالي دائما. وهكذا يجد الفنانون المصريون أنفسهم في تنافس مفروض عليهم مع الفنانين الشوام.. فينقسمون بين فريق مؤيد لأسباب عملية (مشي حالك) أو لأسباب قومية، وفريق معارض يفترسه وهم أن مشكلته الحقيقية تكمن في هجوم الفنانين الشوام على فرصه الضائعة، بينما الحقيقة أن مشكلته الحقيقية هي مع النظام الإنتاجي المستعد للتضحية به دائما في أول منعطف، ورجعية وتخلف هذا النظام الذي أعاق تطور العاملين فيه لعقود محققا ربحه من هذا التخلف ومن هذه الإعاقة.

ويكبر الذعر في نفوس المشتغلين بالفنون الدرامية مع تزايد استقدام الفنانين الشوام، وبينما يفكر كبار النجوم في طرق عملية للاندماج في الوضع الجديد، يكبر الصياح في صفوف نجوم الصف الثاني والثالث رغم عدم تهدد مواقعهم -على الأقل حاليا- ضد عملية الإحلال هذه. ويستعينون في هذا الصدد بكل الدعاوى القبلية المتعصبة وبالوطنية المزيفة لوقف استقدامهم، وتتعكر المياه بين شعوب متقاربة، تعاني في خندق واحد بفضل تدخل الصحافة السطحية والإعلام الأصفر.

وبناء عليه

الفنانون العرب لا يشكلون خطرا على هويتنا الفنية ولا على مصالحنا، إن ما يشكل خطراً على الجميع هو استمرار خضوع الأجراء العرب –ومن ضمنهم الفنانون والفنيون في مصر والشام- لتفاهة وجبن وعشوائية واستبداد بل واستعباد رأس المال العربي سواء كان مصرياً أو خليجياً أو شامياً. وسواء كان خاصا أو مملوكا للدولة، مَلَكية كانت هذه الدولة أو شبه عسكرية. كما أن ما يشكل خطراً مباشراً على فنانينا هو تحويل النقابات الفنية من سلاح ضد استغلال رأس المال إلى سلاح ضد الفنانين العرب. مع بقاء الاستغلال سالما مطلق اليد.