بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

فن وأدب

ثورة الإبداع

رسام؟ شاعر يعني..

في طابور استقبال المعتقلين في 1959، سأل الضابط أحدهم: “أنت بتشتغل إيه؟” فأجاب: “رسام”. علق الضابط “شاعر يعني”، فاحتج الرسام “لأ رسام مش شاعر.. الرسم حاجة والشعر حاجة”. فكان نصيبه علقة ساخنة. كان من نتائجها أن الذي يليه في الصف، وكان رسام أيضا، عندما سأله الظابط “بتشتغل ايه؟”، رد “شاعر..شاعر”.

أدب مجند، إبداع ملتزم.. مصطلحات تذكرنا على الفور بنمط الإبداع والفن المرتبط بالانظمة الاستبدادية، التي حكمت نصف بلاد العالم باسم الاشتراكية، أشهرها الاتحاد السوفييتي، وبالطبع مصر في عهد عبدالناصر.

ما فعلته تلك الانظمة أنها “أممت الإبداع” فتحت مؤسساتها ودور عرضها، ورصدت المكافآت والمنح والجوائز فقط لمن يدور في فلكها، وبغض النظر عن مدى إيمانه أو قناعته بافكارها، فالمهم أن ينتج وفق الخطة الموضوعة.

وبالتالي هناك مجال مفتوح للتافه والمدعي والمفتعل والمصطنع، طالما انه يواكب الموجة، في الوقت الذي يصبح فيه أي مبدع يبتعد خطوة عن “النظام” خارج القطيع مع المغضوب عليهم والضالين.

هكذا احتوت المعتقلات في زمن عبدالناصر على صفوة المبدعين من أدباء وشعراء ورسامين ونحاتين… وكانت هزيمة يونيو 1967 خبطة على رأس الجميع، وانفتح الباب أمام ثقافة الهلس “الطشت قال لي..”

“من لا يملك قوت يومه.. لا يملك حريته”
والمبدع الذي لا يملك فرشاته.. لا يملك حريته، كيف يمكن لامرئ أن يبدع وهو لا يملك لقمة العيش، ولكن آلة الراسمالية لا تكتفي بذلك، فقد تُفاجأ بم يتحايل على “لقة العيش” و”تطق في دماغه يبدع”..

اللعبة الحقيقية هي تحويل كل شيء لصناعة، تجارة، عقود، مديرين أعمال، مواعيد تسليم، شروط.. ولو كانت الانظمة الاستبدادية لديها المعتقلات، فإن الرأسمالية تلعبها بطريقة مختلفة.. “عايز تبدع.. ابدع.. حد حايشك؟” ولكن ستظل تغرد خارج السرب، لا أموال، لا دخل ثابت، لا منح ولا جوائز.

ليس هذا فحسب، بل تتخطى إلى السيطرة على الافكار وعلى الذوق، على اتجاهات النقد والتقييم. فتَحْت دعوى مواجهة “الأدب المجند”، وكيف يمكن ان يحتوي العمل الادبي، او الفني، إلى جانب الرسالة والفكرة، على روح المبدع وتفرده التي يجب ان نعطيها حقها في النقد، وذهبت إلى أقصى درجات التطرف، بإهمال اية رسالة او مضمون، والتركيز فقط على الأسلوب، ووصل الامر إلى اعتبار كل عمل يضعه المبدع له اسلوب لا يتكرر حتى في اعماله الأخرى.

وهكذا اصبحت امام خيارين.. إما أن تجاري السوق، حكوميا أو خاصا، تداهن النظام، أو تصنع ما يحصد الأرباح. أو أن تتقوقع وتجلس في برج عاجي “إيجار جديد”- لأنك مش هتلاقي تاكل- وعندما لا يفهمك الناس “دي مشكلتهم..”، بل وقد يصل الامر إنه لو فهمك الناس “تبقى مشكلة..!”

اصطبحنا في يوم فوجدنا أنفسنا في الميدان، نفترش الارض، وتغطينا السماء. لقد تعرى كل شيء، حتى الإبداع، انفضح وضع، كان مفضوحا بالفعل، “وطرشنا الحامض” الذي كنا نأكله منذ عشرات السنوات، ونحبس بسيجارة.

ارزقية الفن، وحتى فنانين البرج العاجي، هم ايضا انفضحوا، لأنهم في الحقيقة كانوا بعيدين عن الناس، حتى لو بدوا قريبين.
ولهذا تلجمت ألسنتهم واقلامهم وألوانهم، لينفجر بركان إبداع ثوري. الرصيف مسرح، والكعكة الحجرية هي الأوبرا، كل الجدران لوحات “امسح.. وانا هرسم” “سد الشوارع.. وهفتحها بالألوان..”.. غني.. وكل الميدان هيسمعك.. اكتب شعر..قول حواديت “عيل تايه..وعبيط واسمه حسني مبارك….”، اعمل تماثيل من الورق، ومن حديد الخردة..

الإبداع فعل ذاتي، بمعنى أنه يعبر عما بداخل المبدع نفسه. نعم.. ولكنه ايضا “فعل للخارج” أي من يتلقاه هو شخص آخر.. بقدر ما تشعر بمن حولك سيمسهم إبداعك، سيشعرون به. وقدر ما تكون بعيدا عنهم، سيظل إبداعك “يلزمك ولا مؤاخذة”

بعد الثورة، لم يسقط النظام، ولم يسقط حتى “مبدعي النظام”..فاصبحت الثورة موضة، مثلما كانت حرب الخليج وقتها موضة، ومثلما كان الإرهاب موضة، كله يكتب، كله يغني، كله يسجل. لما عفاف شعيب وتامر حسني يعملوا مسلسل عن الثورة.. يبقى ممكن نلاقي اسم مبارك في أول قوائم المصابين. وربما كان أول “تجليات” و”إلهامات” الثورة: أن”شهداء 25يناير..ماتوا في احداث يناير” مش كده وبس “راحوا وفارقوا الحياة”، بصراح أنا “افتوجئت”.. مش انت “افتوجئت؟”

في الناحية التانية مبدعين القاعات، ماهمدوش، أزاحوا التراب عن جذورهم اليسارية والليبرالية، وتحدثوا عن الثورة بلغة “شيطنة الثورة..والتمحور والتمفصل، وممكنات السرد..” وشن الحرب على القوى الظلامية التي احتلت البرلمان.

حقا، إنا قد نواجه واقعا قمعيا وظلاميا مثل إيران، بعد ثورة 1979، ولكن مواجهة كل ذلك لن تكون بالمناطحات في القاعات و في الفضائيات. فالثورة لم تخرج من قاعة ولا حتى من البرلمان..

الثورة خرجت من الشارع، وإبداع الثورة لن يكون إلا في الشارع