بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

سلطة بلدي.. ولعبة خلط الأوراق

لا يمكن إنكار أن ذكر إسرائيل في أي عمل فني يسبب حالة من التحفز الشديد بين الجميع في هذا الجزء “المنكوب” من العالم. ولكن هذا التحفز يٌفقِد البعض أحيانا التأني اللازم للخروج بموقف مع أو ضد العمل بالنظر إلى قيمته الفنية وموقفه من إسرائيل معا.

من ناحية أخرى يدعي العديد من الفنانين إدعاء ساذجا أنهم ليسوا أصحاب موقف، وكأن الموقف تجاه أي قضية سيفسد فنهم. كما يدعون أحيانا أنه لا توجد علاقة بين الفن والسياسة. وهم، عند مطالبتهم بتفسير مفهومهم عن السياسة يختزلونها في مجريات الأحداث بين الدول، وهو مفهوم قاصر جدا للسياسة رد عليه المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي حين قال إن الفلسطيني عندما يتزوج يحتاج من التصاريح ما يجعل فيلما عن حفل زفاف (إشارة إلى فيلمه عرس الجليل) فيلم سياسي. وفي هذه المنطقة التي نعيش فيها بشكل خاص يبدو وراء كل حدث يمس حياتنا اليومية قرار أو موقف سياسي ما، كما أن لجميع اختياراتنا في الحياة انعكاس من أو على مواقفنا السياسية.

هذه مقدمة كان لابد منها لأننا بصدد الحديث عن فيلم “سلطة بلدي” الذي أثار من اللغط الكثير، بين مؤيد ومعارض ومُقاطع.

لم الشمل:

لقد تم التقديم مرات عديدة لفيلم “سلطة بلدي” على أنه فيلم عن إعادة لم شمل عائلة تفرقت بها السبل عندما فقدت مصر طابعها الكوزموبوليتاني، وعن محاولة هذه العائلة أن تحكي لحفيدها كيف تكونت هويته الأصلية من مجموع حكايات، أو على حد تعبير الفيلم “الأغراب اللي اتقابلوا وحبوا بعض”.

وإذا افترضنا أن الفيلم يكتفي بتقفي أثر أفراد تلك العائلة في المناطق المختلفة من العالم، حتى وإن كان من ضمنها إسرائيل، لاستطعنا أن نكتفي بنقده كفيلم تسجيلي.

أي أن ننقده من زاوية ترتيب الأحداث التصاعدي، وجودة استخدام الكاميرا، والمونتاج، وما شابه. وكان تقييم الفيلم في هذه الحالة سيأتي متوسطا، مع الأخذ في الاعتبار أن الفنون تخضع في نهاية الأمر للذوق الشخصي.

ولكن الفيلم في حقيقة الأمر يأخذ منحى آخر تماما عندما يقتصر البحث عن جذور الحفيد نبيل في البحث عن الأقارب اليهود الذين توزعوا في أنحاء العالم. فالجد “ألي روزينتال” الذي انتقل من اليهودية إلى الكاثوليكية ليتزوج الجدة انتهى به الأمر بلا هوية في إيطاليا بلد الجدة. أما تركيا، بلده الأصلي، فلم تكن على خريطة الرحلة.

فهل يمكن أن نقول إذا إن هذه الرحلة هي حقاً رحلة بحث عن جذور هذا الطفل وعائلته متعددة الجنسيات والديانات والأعراق، أما انها رحلة شخصية تبحث فيها الجدة “ماري روزينتال” عن بقايا عائلتها؟ هل هناك خلط فيما أرادت المخرجة تقديمه، أم أن استغلال قصة الطفل ومصر الحاضر، التي ترى المخرجة أن ما يسيطر عليها هو خطاب إسلامي ينفي الآخر المختلف، هو في حقيقة الأمر بداية مقبولة لفيلم أكثر إشكالية بكثير يتحدث بشكل سطحي عن هجرة عائلة يهودية من مصر؟

وحتى مع كل هذا التشوش كان من الممكن أن لا يصيب الفيلم المشاهد بحالة من الامتعاض، لولا المحاولات التي قامت بها المخرجة لجعل المشاهد يتقبل أن من ستقوم هي بزيارتهم في اسرائيل هم من الأبرياء، كما وُصِفوا في أحد حوارات الفيلم بين “نادية” المخرجة وأمها “ماري روزينتال”. فالأم تقول بشيء من التساؤل إن هناك أشخاص أبرياء في إسرائيل، وإن لا ذنب لهم فيما جرى. وعند وصول العائلة إلى إسرائيل نُفاجأ بأن من أرادت المخرجة أن ننظر لهم على أنهم أبرياء، هم أشخاص غادروا مصر إلى فلسطين عام 1948 عبر إحدى المنظمات الصهيونية، وأن عميد تلك العائلة صهيوني باعترافه.

المقاطعة:

في بداية الفيلم تتحدث “ماري” إلى إحدى صديقاتها الفلسطينيات عن المقاطعة والتزامها بها. فتقدم لها الصديقة الفلسطينية منطقا مقلوبا حين تقول إن العرب في سعيهم لمقاطعة إسرائيل تسببوا في عزل العرب الفلسطينيين ومقاطعتهم بالتالي. ويدهشني شخصيا الغضب الذي بدا أن الصديقة تحمله للأنظمة والشعوب العربية على حد سواء، وكأن المقاطعة، وليس الاحتلال الإسرائيلي، هي السبب في عزلة العرب الفلسطينيين لسنوات عن جيرانهم في مختلف البلاد العربية. تتحدث الصديقة تحديدا عن أن والدتها ماتت دون أن ترى أخواتها وأنها هي شخصيا لم تعرف أولاد عمها سوى في عمر متقدم. وتنصح الصديقة “ماري” ألا تقع في نفس الفخ، وتدعوها بالتالي لزيارة أقربائها في إسرائيل.

إن هذا المنطق يتجاهل تماما أن الفلسطيني المقيم في غزة لا يستطيع أن يرى أقربائه المقيمين في الضفة أو داخل حدود دولة اسرائيل، كما أنه بطبيعة الحال لا يستطيع بسهولة أن يرى أقربائه في الدول العربية أيضا.

في العام 1988 كان المواطن الفلسطيني “أبو صالح القاضي” يبلغ من العمر أكثر من تسعين عاما، وكان على أحفاده إعادته يوميا من الشارع حيث يتسلل ويمشي باكيا باتجاه البحر، محاولا في حالة من الهذيان أن يصل إلى بلدته بالقرب من عكا.

كان “أبو صالح”، المقيم في قبرص بعد خروجه مع عائلته من لبنان نتيجة للاجتياح الإسرائيلي، يتوسل إلى أحفاده يوميا ألا يدعوه يموت غريبا وأن يساعدوه على أن يدفن في بلدته. ولكن “أبو صالح القاضي” دفن في نفس العام غريبا في قبرص بسبب الاحتلال الإسرائيلي وليس بسبب مقاطعة إسرائيل.

هناك خلل جوهري بالتالي في النظر إلى غربة تلك العائلة (التي يستطيع أفرادها ممن يحملون الجنسية الإسرائيلية زيارة مصر بسهولة منذ العام 1979) على أنها نتيجة للمقاطعة العربية.

في مشهد مهم في منتصف الفيلم تحاول المخرجة إقناع اختها والدة الطفل “نبيل” أن تصحبهم إلى زيارة إسرائيل، فترفض الأم قائلة إنها قد تكون ضد السائد في المجتمع وأن المجتمع قد يكون مخطيء ولكنها في الوقت الحالي غير مستعدة للمشي عكس التيار. لا يذهب الطفل إذا إلى إسرائيل، ولا تذهب الأسرة إلى أي من الأماكن الأخرى التي يأتي منها التنوع في جذور العائلة وطفلها بالتالي. نحن لا نرى شارع فؤاد ببولاق حيث تربت الجدة، ولا نرى بلدة الأب الأصلية، كما لا نرى تركيا التي أتت منها الجذور القريبة لوالد “ماري”، وكأن كان هناك هدف واحد من الفيلم وهو أن أشاهد بعض الإسرائليين يستمعون إلى أم كلثوم ويتحدثون العربية، وأن أنظر لهم كأبرياء بغض النظر عن معتقدهم السياسي أو توقيت استيطانهم للأراضي الفلسطينية التي لم تكن تحمل اسم إسرائيل وقت اختيارهم طواعية الهجرة لها.