بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

فن وأدب

صنع الله إبراهيم في السبعين:

حوار في السياسة والتاريخ

يخطو صنع الله إبراهيم حثيثا نحو السبعين. احتفاؤنا بالروائي الكبير في هذه المناسبة كان محاولة “لاستفزازه” سياسيا وفكريا. في هذا الحوار يحدثنا صنع الله عن الإبداع وشروطه، عن الشيوعيين وعبد الناصر، عن التاريخ والمستقبل، عن كفاية والإخوان، وعن أبطال عصرنا الراهن.

* هناك رؤى مختلفة لعلاقة الإبداع بالواقع ولعلاقة المبدع بالواقع، فما تصورك لتلك العلاقة؟

* في بداية حياتي كان هناك مدّ اشتراكي، وكان هذا المدّ منعكسا على المزاج الثقافي. الأسئلة التي كانت تتردد آنذاك كانت تدور حول وظيفة الأدب والفن ودور الأديب. طبعا كان هناك تصوّر مبالغ فيه أن وظيفة الأدب والفن هي “التعبير المباشر عن الواقع”، والتعبير عن الواقع كان لابد أن يكون في إطار ماركسي تحت شعار “الفن للحياة”! وكان هذا متماشيا مع سيطرة المدرسة السوفيتية على المجال الثقافي.

ثم بدأت بعض التساؤلات تطرح نفسها. لم يكن الأمر الذي يثير التساؤل هو البحث عن الفروق الواضحة، بل كان أعمق من ذلك. فعبد الناصر كان اشتراكيا مثلنا. بل كان قبل موته يحاضر في التجمعات شارحا نظرية فائض القيمة بطريقة بسيطة جدا “عمر الشيوعيين ما عرفوا يعملوها”.

لكن عبد الناصر كان في نفس الوقت يضطهد الشيوعيين. وكذلك ستالين، الذي اعتبر رمزا للحركة الشيوعية، كان يضطهد شعبه وشعوبا كثيرة أخرى. إذن، فالمسألة أعمق من مجرد التصنيف المباشر: أنت اشتراكي أم لا؟ أو حتى: أنت اشتراكي ستاليني أم تروتسكي أم ناصري؟

هذه التناقضات والتقاطعات أدت إلى وجود نظرة أوسع من مجرد تحديد دور معين للفن والأدب تُلزم الفنان والمبدع بأن يقدم رسالة واضحة تتفق مع الحركة الشعبية السياسية. فإذا كان عبد الناصر وستالين وآخرون مؤمنين بنفس الهدف النهائي، لكن كل منهم يصوّر الأمر بصورة مختلفة تدّعي أنها الأقدر على فهم الواقع وعلى تحقيق الهدف، فإن هذا يعني عدم وجود فواصل حادة بين الصواب والخطأ. وعدم وجود فواصل حادة بين الصواب والخطأ خلق نظرة أكثر رحابة للفن. أنا أمارس هذه النظرة. أنا لا أطلب من أي إنتاج أن يعبر عن رسالة معينة، ولا أطلب من الفنان أو الكاتب أن ينقل ما يطلقون عليه “رسالة مفيدة” من خلال عمله.

المقياس لجودة العمل من وجهة نظري ــ المقياس للإبداع الجيد ــ هو مقياس جمالي، وهذا يتضمن في طيّاته العناصر الاجتماعية والسياسية. خذ عندك مثلا ثروت أباظة. لا أحد يستطيع أن يقرأ له، ليس لأنه رجعي، وهو كذلك، لكن لأنه يكتب فنا رديئا. في تاريخ الأدب والفن ستجد مبدعين كان لهم رؤى سياسية متخلفة، ومع ذلك فإن فنهم ذو طابع إنساني. يعني أنا مثلا لو كتبت رواية كاملة عن جمال زهرة أو عن علاقة حب بسيطة، فهذا من وجهة نظري انتصار لقيم إنسانية عليا. لا يصح أن يأتي أحد ليقول لي “انت سايب مبارك وسايب الفساد وجاي تتكلم عن زهرة.” فأنا لو نجحت في إيصال الإحساس بجمال الزهرة للقارئ، فسوف أكون قد أوصلت له في نفس الوقت إحساسا بجمال الحياة وبضرورة النضال من أجلها.

* وماذا عن شروط الإبداع، الشروط التي يفرضها المجتمع الرأسمالي على المبدع، مثل الرقابة وتكاليف الإنتاج والتوزيع والدعاية، وغيرها من الأمور الضرورية لإيصال الإبداع إلى الجماهير؟

* أبدأ بالرقابة. فالرقابة والعجز عن تناول تابوهات معينة أمر له تأثير كبير في بلد مثل السعودية أو مصر. هناك موضوعات لا يمكن تناولها، وهذا ما يؤدي إلى ظهور أساليب مختلفة في التعامل مع الواقع، مثل الرمزية والسيريالية، وهي كلها أشكال هدفها، جزئيا، التغلب العملي على مشكلة الرقابة السياسية والاجتماعية.

لكن هنا لابد من التأكيد على أن هناك فارق بين المجالات الإبداعية. هناك مثلا فارق بين الرواية والسينما. السينما تحتاج إلى مساحة حرية أكبر. وهي أيضا تحتاج إلى تمويل رأسمالي ضخم. لكن الرواية لا يتحكم فيها بالضرورة مجموعة من المنتجين هدفهم الربح فقط.

ومن الممكن أن نقول أنه حتى في السينما تتغير الشروط نسبيا من بلد إلى آخر. ففي ألمانيا أو فرنسا مثلا هناك مجموعة من الشركات لا يهمها سوى الربح. لكن بسبب تقدم المجتمع فهناك أيضا فرصة لظهور أعمال جيدة معارضة للنظام الرأسمالي نفسه. أما مجتمعنا فظروفه متخلفة ومهدد ويتعرض لمشكلات. لذا فهو عاجز عن الاستقرار على كود أو شفرة للتعامل على أن هناك حقوق أو قواعد معينة.

هذا الوضع المتخلف ينعكس أكثر على الإنتاج السينمائي. أما الإنتاج الروائي فهو أكثر حرية لأنه غير خاضع لشروط الإنتاج السينمائي المكلّفة. الرواية لا تحتاج لأكثر من كشكول ورق. وحتى لو لم يتوفر ناشر “ممكن أنشر الكتاب على حسابي”.

هذا ما يجعل الرواية تتحرك في فضاء أوسع، وهو ما يجعلنا بالتالي نشعر أن هناك زخم في الإنتاج الروائي في العالم العربي وفي مصر. كل الناس تكتب روايات وشعر. لكن ما نطالب به هو عدم وجود رقابة أو كوابح. وهذه مسألة مرتبطة بتطور المجتمع ككل، وليس فقط بديكتاتورية الدولة وقوانيها الرقابية، فلا ننسى أن هناك رقابة ثانية متغلغلة في المجتمع.

* هناك من يقول أن الفنانين متجاوزين لحالة الاغتراب العامة التي يعاني منها الناس.. هناك من يرى أن الحياة التعيسة التي يعيشها كل البشر المجبرين على وظيفة وحياة لم يختاروها.. يمكن للفنان، وللخيال الفني، أن يهرب منها.. فما رأيك في هذه الفكرة؟ وهل من الممكن لجماعة ما، الفنانين مثلا، أن تقف خارج الصراع الدائر متأملة دون أن تكون طرفا فيه؟

* الإبداع من وجهة نظري لا يقتصر على الفن. أنا اعتبر كل شخص يقوم بعمله بإتقان وحب، وكل شخص يطوّر في نشاطه، بما فيها “الطبيب” و”الجزمجي”، مبدعا. كل واحد لديه قضية تشغل وقته كله، وربما حياته كلها، بدون عائد هو مبدع. كل واحد يحاول إضافة شيء للحياة مبدع.

* لكن أغلب الأطباء في مجتمعنا، والأطباء هم أحد الأمثلة التي ذكرتها، يعانون الاغتراب ولا يبدعون في عملهم على وجه الإطلاق؟

* والفنانون والكتّاب أيضا كذلك! نسبة كبيرة منهم ملتحقة بأجهزة رسمية. أنا لي رواية اسمها “اللجنة” يتم إعدادها لتتحول إلى مسرحية. المناقشة الدائرة الآن بين “المبدعين” العاملين على تحويلها هي: كيف ستمر من الرقابة؟ وما الذي ستطلبه الرقابة؟ لو كان المخرج المشرف على العمل مسالما أو متخلفا أو تابعا للسلطة ستضيق المساحة التي ممكن أن يبدع هو، والعاملين معه، فيها.

* لكن إلى أي مدى يمكن للمبدع أن يكون حرا في مجتمع غير حر؟

* هذه قضية ستظل مطروحة إلى الأبد. فباستثناء فترات معينة، مثلا في الاتحاد السوفيتي فترة ما بعد الثورة الاشتراكية في مطلع العشرينات قبل صعود ستالين، أو في فرنسا وألمانيا 68، وهي فترات محدودة جدا، تخضع أغلب الفنون في أغلب الأوقات للقيود والكوابح.

نلاحظ أن فترات الازدهار تلك ترتبط بالهبات والثورات الجماهيرية. في الاتحاد السوفيتي، وأوروبا، في العشرينات كانت هناك موجة صاعدة من الفن العظيم والحر، ظهرت خلالها أشكال إبداعية جديدة مثل السيريالية.

لكن هذه الحالة المزدهرة لا تستمر إلى الأبد. فسرعان ما ينفجر صراع على السلطة تتغلب فيه إحدى القوى التي تقوم بتحجيم كل النشاطات في المجتمع لصالحها. ويظل الأمر كذلك حتى يتجدد التناقض مرة أخرى بعدها بعشرين أو خمسين سنة. وهكذا دواليك.

لو أخذنا مثلا الوضع في فرنسا أو ألمانيا، وهي بلدان رأسمالية متقدمة ولديها قواعد ومؤسسات مستقرة وخاضعة للسيطرة الاجتماعية، فسنجد أن الإبداع في هذين البلدين لا تتحقق له الحرية الكاملة أو شبه الكاملة إلا في لحظات معاناة النظام السائد من “فوضى” صعود الحركات الجماهيرية المعارضة. أما في الأوقات العادية فبعض الأفلام يتم منعها، وبعض الأفلام تكون عنصرية، والمال يلعب دورا جوهريا.

قد يتخيل البعض أن الفن سيتمتع في أي مجتمع اشتراكي بالحرية لأن الدولة هي التي ستموله. لكن هذا غير حقيقي. فكل دولة تقف وراء أشخاص معينين، ولا تسمح ـ تحت شعار أنها “اشتراكية” و”ثورية” و”تقدمية” ـ بالمساس بأشياء معينة. وهكذا فإن الاشتراكية تستبدل “سلطة الرأسمالية” بـ”سلطة الدولة الاشتراكية”، تماما كما حدث في الخمسينات: استبدلنا سلطة الرأسماليين أو أصحاب شركات الإنتاج السينمائي بسلطة ضباط أو عناصر تمثل الحكومة تدير هذه الشركات. السلطة الجديدة تخلق نوعا جديدا من التناقض يتطور ويتعقد إلى أن يأتي له وقت لينحل. وهكذا. ولا أعتقد أنه سيأتي اليوم الذي يستقر فيه ما يمكن أن نطلق عليه وضع نموذجي ثابت.

* كلامك يوحي بأن لديك “فلسفة للتاريخ” جوهرها أن المجتمع الإنساني لن يتجاوز التناقضات أبدا، وأن كل سلطة جديدة، حتى لو اشتراكية، ستقوم على القهر والتقييد؟

* إلى حد ما. التصور أن المبادئ الاشتراكية لو سادت، فسوف يكون هذا نهاية للتناقضات الاجتماعية، تصور غير واقعي. التناقضات ستستمر إلى الأبد. فلو حتى تم حل تناقضات سكان كوكب الأرض، من الممكن جدا أن تنشأ تناقضات بينهم وبين المريخ! أما على المستوى الفردي، فأيضا ليس واقعيا تصور لحظة يمكن أن تصل فيها البشرية إلى “العلاقة المثلى”. فبشأن العلاقات العاطفية مثلا، لو فرضنا اختفاء المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تؤدي إلى تمزق العلاقات، فإن عناصر أخرى سوف تتضخم وتلعب دورها، مثل الغيرة وغيرها من العوامل.

* القضية المطروحة هنا هي “التناقضات الطبقية”. والسؤال يدور حول إمكانية تجاوز التناقضات الطبقية. فهل ترى الفكرة القائلة أن الإنسانية، التي عاشت آلاف السنين قبل ظهور المجتمع الطبقي، قادرة على تجاوز هذا المجتمع والعيش في مجتمع للأحرار المتساوين، هل ترى هذه الفكرة صحيحة؟

* من الصعب بالنسبة لي تصور عالم بدون طبقات. في ظل المجتمع الاشتراكي السوفيتي تم القضاء على الطبقات القديمة، لكن تبلورت طبقات جديدة. هذه هي المشكلة التي يواجهها أي مجتمع: دائما ما تتركز السلطة في يد مجموعة معينة تنشأ لها مصالح، وتعتمد في تحقيقها على بعض الطبقات التي تحصل على امتيازات، بينما يتم اضطهاد أغلبية الشعب بطبقاته الفقيرة والخاضعة.

أنا رأيي أن فكرة الثورة الدائمة فكرة صحيحة، بمعنى أن نضال البشرية من أجل عالم أكثر عدالة لن ينتهي. الإضرابات العمالية الحالية في مصر توضح أن الخصخصة وترك الحبل على غاربه لرأس المال خطأ. لكن مسألة بلورة شكل آخر للملكية وللنشاط الاقتصادي ليست سهلة. ما أريد قوله هو أن الوصول لنقله مهمة في تاريخ البشرية أمر ممكن ولكنه صعب ولن يحل تناقضات العالم نهائيا، بما في ذلك التناقضات الطبقية.

* هل يعني كلامك أنك لم تعد مؤمنا بإمكانية حدوث ثورة عالمية قادرة على القضاء على هذه التناقضات؟

* على العكس، اليوم أصبح واضحا أكثر من أي وقت مضى أن الحل الوحيد لمشاكل العالم يكمن في وجود نظام مختلف قائم على أسس أكثر إنسانية وعدالة. شكل هذا النظام لا أحد يعرفه، لكن ستفرزه الأيام والمعارك، أنا لا أريد نظاما كالاتحاد السوفيتي، ولا أريد نظاما مثل كوبا. صحيح أن كوبا حققت الكثير وقضت على الأمية وبها ثورة في مجال الصحة والتأمين الصحي، لكن هناك تسلّط وحكم ديكتاتوري أدى إلى استمرار شخص واحد في السلطة أكثر من 40 سنة.

الوصول لنظام أكثر إنسانية وارد بشروط، مثل انهيار الإمبراطورية الأمريكية، لأن انهيارها ضروري جدا للوصول إلى مجتمع مختلف.

وفي رأيي إن العامل الأساسي وراء سقوط الإتحاد السوفيتي أن الاقتصاد العالمي كان تحت السيطرة الرأسمالية. فالتجربة أثبتت أنه من المستحيل قيام نظام فيه عدالة اجتماعية وتنمية مستقلة في جزيرة، لابد أن يحدث هذا على صعيد عالمي، وهو أمر أصبح ممكنا بعد أن حوّل النظام الرأسمالي العالم إلى قرية صغيرة. لكن هذه عملية مركبة ومعقدة وستأخذ وقتا طويلا. ورأيي أن الخطأ الذي ارتكبناه نحن هو أننا تصورنا أن الانتقال إلى الاشتراكية مسألة سهلة و”ممكن تتحل بسرعة”.

* هل المشكلة أنكم تصورتم أنها “ممكن تتحل” أم أنكم تصورتم أنها “ممكن تتحل بسرعة”؟

* “لا هي ممكن تتحل طبعا.” لا توجد مشكلة بلا حل. أنا أتحدث عن جيلنا من الحركة الشيوعية القديمة. عندما كان عمرنا عشرين عاما، كنا نعتقد أننا نحتاج فقط إلى عشرة سنوات حتى نصل إلى الاشتراكية، وكنا أيضا نعتقد أن المجتمع الذي سنصل إليه سيكون مثاليا وخاليا من العيوب والتناقضات وأنه سيحل كل المشاكل. الطريف، أن أحد منا لم ينشغل كثيرا بالحديث عن كيفية تغيير النظام، حتى أن مسألة الاستيلاء على الحكم لم تكن واردة في أدبياتنا. هذه الأدبيات كانت تتحدث فقط عن الكفاح في الشارع وحشد الجماهير ضد الاستعمار والإقطاع. كانت هناك سذاجة في التصور، أو ربما لم يكن هناك تصور من الأساس، إلى حد أن عبد الناصر وضع حلولا لم تطرأ على أذهاننا لمشاكل عديدة ولم نطالب بها قط، مثل مشروع التأمين الصحي مثلا. التجارب علمتنا أن نكون أكثر ارتباطا بالحقائق، أن نختار شعارات واقعية. فلو رفعنا شعار “الثورة العالمية” سوف يكون هذا شيئا مضحكا، شعار كهذا حتى يصبح واقعيا لابد أن تسبقه أشياء كثيرة.

* في الأربعينات كان دور الجماهير أساسيا، وكان حضورها محسوسا، وكان الاعتراف بها وبدورها أمرا لا جدال حوله. اليوم يبدو من يتحدث عن التغيير بالجماهير الشعبية كأنه يتحدث عن زمن مضى. ما رأيك في هذه المسألة؟ هل انتهى عهد الجماهير؟

* طبعا الجماهير لازالت هي الرقم الأساسي في المعادلة. في الأربعينات كان الوفد مكتسحا. وكان أساس اكتساحه وجماهيريته هو كونه حزب ملاك الأراضي والعُمد والرأسمالية الناشئة، وكل هؤلاء كانوا قادرين على “شحن” الناس وراءهم في الانتخابات. كان هذا النمط مقبولا منذ ستين عاما، لكن اليوم هذا أمر غير مقبول وغير ممكن.

الجماهير المصرية اليوم قلقة وفي حالة ثورية، وهي تعبر عن نفسها بالإضرابات والاحتجاجات، لكنها ما زالت بدون قيادة. فلقد انفصلت النخبة ــ الصحفيون والكتاب والمثقفون ــ عن الناس تماما. هؤلاء استفادوا من اشتراكية عبد الناصر وتنظيماتها، ثم استفادوا من السادات، ثم استفادوا من الخليج، وراكموا ثروات أصبحت متحكمة في تفكيرهم ومحدِدة لمصالحهم. هذا هو السبب أن النخبة المصرية أصبحت راكدة.

النخبة الواعية تعلم تمام العلم أننا “رايحين في ستين داهية”. كل عناصرها، في جلساتها الخاصة، تعلن هذا بكل وضوح. لكنهم لا يمتلكون لا الجرأة ولا القدرة على التضحية والنضال ولا القدرة على تحديد رؤية؛ باختصار هم لا يمتلكون أي من عناصر القيادة، ولكن ربما يكون لهم دور محدود في رفع الوعي.

نحن في انتظار قيادة. ما وصلنا له من قلق جماهيري وصعود في النضالات، لم يعد ينقصه إلا قيادة مرتبطة بالجماهير تشعر بها وبهمومها ومصالحها. نحن في انتظار أن تفرز الحركة الجماهيرية قيادات من قلب حركتها.

* وما هو تقييمك لبعض القوى السياسية الموجودة الآن على الساحة مثل الإخوان وكفاية؟ هل يمكنها أن تلعب دورا؟

* الإخوان أكثر وضوحا لأنهم تنظيم له تاريخ ومبادئ بسيطة ومحددة. لقد فعلوا الشيء الذي كان يفعله الشيوعيون في الماضي.

عندما انتشر وباء الكوليرا سنة 1948، أوقف التنظيم الذي كنت انتمي له (حدتو – الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) نشاطه السياسي، وركز كل مجهوده على مكافحة الكوليرا ومساعدة الناس. قد يرى البعض أن هذه فكرة انتهازية بعض الشيء. لكن المسألة هي أن تخلق ارتباطا حقيقيا بالناس. الإخوان يفعلون نفس الشيء، يقيمون المدرسة والمستشفى، وهذا ما خلق لهم قواعد شعبية. أنا لا أعتقد أن شعبية الإخوان تنبع من أفكارهم، بل تنبع من ارتباطهم بالناس عن طريق الخدمات.

في المرحلة الحالية من الصحيح أن نقوم بأعمال مشتركة مع الإخوان. أي قوة تهدف إلى تغيير الوضع الراهن وإسقاط النظام ممكن أعمل معها الآن. لكن بعد تحقيق هذا الهدف سنختلف. الإخوان يريدون دولة إسلامية. اليسار لا يريد هذا. لكن لابد أن ننتبه أن الإخوان، بالرغم من قوتهم في الشارع، لا يختلفون في جوهرهم عن العصابات التي تحكم مصر الآن. الإخوان هم كبار التجار، أي هم جزء من الوضع الاقتصادي القائم الذي يقف ضد مصالح الجماهير، هذا بالإضافة إلى أفكارهم الرجعية.

أما بخصوص كفاية، فمن الصعب الحكم عليها لأنها ليست تنظيما مثل الإخوان. كفاية هي في الحقيقة “نادي” يلتقي فيه ناس من مختلف التيارات لا يعجبهم الوضع الراهن. أما إن كفاية لها القدرة على قيادة عملية التغيير، فهذا أمر صعب جدا في ظل شكلها ووضعها الحالي. لكنه أيضا في علم الغيب، لأن كفاية ممكن تتغير وتدخل في مواجهات. لابد ألا ننسى أن كفاية لا زالت ظاهرة في طور التكوين. وبلا شك هي أضافت الكثير ونحن نحتاج لها.

* هناك أزمة فكرية في مصر: من يسمون أنفسهم بـ”التنويريين” يسيرون في ركاب السلطان، ودفاعهم عن “العقل والحرية والحداثة” يبدو كما لو أنه مجرد معركة ضد الإسلاميين تخاض لصالح السلطة.. ما رأيك؟

* لا شك أن التنويريين لعبوا دورا هاما جدا في تاريخ الفكر المصري. ولا شك أننا ــ كيسار ــ لابد أن نستفيد منهم. يبدو لي أننا مثلا أهملنا الدور الهام الذي لعبه شخص كطه حسين، وغيره من الشخصيات المعاصرة له. واليوم أيضا يلعب أشخاص مثل نصر حامد أبو زيد أدوارا جيدة.

هؤلاء المفكرون يفيدوننا ببحوثهم حول تاريخ الفكر وحول طريقة تحليل الكتابات المقدسة والتاريخ الديني. وهذا ما أسهم بلا شك في تكوين وعي كثير من اليساريين.

لكن أثر التنويريين يقف عند هذا الحد. فعلى المستوى السياسي أنا أتصور أنه لو تبلور وضع ثوري في هذا البلد لن يقف غالبية التنويريين في معسكر الثورة. فهم في الحقيقة يمثلون الطليعة الذكية للطبقة الحاكمة.

* لكن ألا ترى أن ضررهم أكثر من فائدتهم؟ ألا ترى أن فكرة “التنوير” قد تلوثت على أيديهم بسبب تحالفهم مع الدولة؟

* تحقيق التوازن يتوقف على اليسار. التنويري يتحدث عن حقوق أطفال الشوارع، وعن حرية المرأة، وعن حق الانتخاب. لا مانع. لكن هو أيضا يتعالى على جوهر الأزمة. أنت تنظر لكل هذه المشاكل الجزئية على أنها مظاهر لوضع معين ولسيطرة طبقة معينة، واعتقادك هو أنها تستدعي نوعا معينا من المواجهة. إذن فهو مفيد لك مرحليا وجزئيا، مهمتك أن تستكمل الطريق وتوسع النظر.

* ما رأيك في حال اليسار؟

* تاريخيا، لعب اليسار دورا كبيرا في التطوير والتحديث وفي تكوين جبهات مع عناصر جيدة في التيارات الأخرى مثل الوفد، وكان سبّاقا وقائدا في حركات مناهضة الاستعمار ومواجهة وباء الكوليرا ومعارك الفدائيين والنضالات من أجل حرية الصحافة وفي الجبهة الثقافية والفنون والآداب والنشر.

لكن مشكلة اليسار هي الانقسامات المتوالية، وأيضا المشاكل القاتلة للتنظيم السري، طبعا إلى جانب القمع. وبالنسبة للقمع نلاحظ أن كل لحظة ازدهار تتلوها مرحلة ملاحقة واعتقالات، بداية من الحزب الأول وهجمة حكومة الوفد عليه، مرورا بالقمع الذي تلى حركة الطلبة والعمال في 46، وصولا إلى عصر عبد الناصر الذي تعامل مع اليسار كمنافس يملك فرصة خطف الجماهير منه.

الشيء الخطير أن عملية القمع المتواصلة تعزل التنظيم عن الناس. المناضل مثلا يدخل السجن لمدة خمس سنوات، ثم يخرج فلا يجد من كان يعمل معهم، وإن وجدهم يكونون خائفين منه، بل وربما رافضين للتعامل معه. هذه المعضلة عطّلت الحركة الشيوعية كثيرا. في رأيي أن اليسار والحركة الشيوعية لهما مستقبل، لكن بشرط أن يلتحما بالشارع ويتجنبا الانقسامات، وأن يقدما الشعار المناسب، القادر على تجميع أكبر كم من الناس، في اللحظة المناسبة.

أهم عنصر في نجاح اليسار هو “تجنب العزلة عن الجماهير”. في أيامنا كان هناك تيار اسمه “الراية”، وكان معزولا تماما عن الحياة السياسية وعن حركة الجماهير. كل ما كان يفكر فيه هو السرية. هذه العزلة جعلته يأخذ موقفا معاديا لانقلاب يوليو 52 ويصفه بالفاشية. على العكس من تنظيم آخر، هو تنظيم حدتو الذي كنت انتمي له. فلإن اثنين من أعضائه كانوا أيضا قيادات في الضباط الأحرار، كان منطقيا أن يرحب بحركتهم في بدايتها. لكنه تراجع عن تأييد الثورة لاحقا أمام ضغط الشيوعيين.

* وهل تعتقد أن هذا التراجع كان موقفا خاطئا؟

* نعم كان خطأ. ولكنه خطأ له ما يبرره، مثل إعدام الخميس والبقري. كان الأمر يحتاج إلى درجة كبيرة من الحكمة ومن بعد النظر بحيث تدرك أن هذه كانت أمور مؤقتة مرتبطة بالصراعات في مجلس قيادة الثورة، أو أنه كان من الممكن إيقاف مثل هذه المواقف، خاصة وأنه لابد أن نفهم أن سلطة يوليو لم تكن سلطة عمال وفلاحين.

* هل تعني أنه كان من الأفضل للشيوعيين آنذاك ألا يقفوا ضد عبد الناصر لأن أثر هذا كان سجنهم واضطهادهم مما أبعدهم عن الجماهير؟

* نعم كان من الممكن تحقيق نتائج أفضل مع النظام. أعلم أن هذا كلام صعب لأنه يتجاهل حقيقة أن النظام نفسه ربما لم يكن ليتأثر بموقف مختلف للشيوعيين. النظام نفسه لم يكن يريد منافسة. وعبد الناصر لم يكن يطيق، كزعيم نمت جماهيريته، أن يكون له شريك في السلطة.

لكن الوضع كان كالآتي: كل الكوادر الشيوعية ظلت في السجون سنوات، تحت التعذيب والضغط بأوسخ الوسائل لإجبارهم عن التخلي عن العمل السياسي، بينما عبد الناصر يحقق إنجازات مذهلة لم نكن نحلم بتحقيقها في هذا الوقت القصير.. “هو عمل كل حاجة مرّة واحدة، بداية من طرد الإنجليز وصولا للتأميمات.. حاجة مذهلة.”

خرج الشيوعيون من السجون ولم يجدوا ما يقولونه للناس. كل أهدافهم تتحقق بالفعل. لم يكن من الممكن استجماع القوى دون البناء في الشارع، وهو أمر مستحيل في ظل الحالة القمعية. المتاح فقط هو التعاون مع النظام في محاولة للتأثير على توجهاته. ولم يكن هذا ممكنا إلا بحل الحزب، المحلول أصلا. فبعد الخروج من السجن كانت كل الصلات مقطوعة، وتركز النشاط وسط مجموعة من القادة فكروا أن يقوموا بإجراء اتصالات وتكوين تحالفات. ثم خدعهم عبد الناصر، إلى درجة أنه أتت لحظة من اللحظات كان هناك ناس من الحزب يشكّلون، على الورق، لجان في الاتحاد الاشتراكي على أساس أنهم سيدخلون كتنظيم إلى الاتحاد، وطبعا هذا لم يتحقق.

* ألا ترى أنه لو كان الشيوعيون بنوا بطريقة مختلفة وقدموا نقدا فكريا واستراتيجيا للسلطة ولعبد الناصر كانوا استطاعوا بعد سنوات قليلة جدا، بالضبط ثلاث سنوات، عندما ظهرت تناقضات النظام دفعة واحدة بعد هزيمة 67، أن يكون لهم تأثير مختلف بين الناس؟

* هزيمة 1967 كان من الممكن أن تحدث في أي وقت. البلد آنذاك، قبل الهزيمة، كانت في حالة رضاء تام عن النظام، ولم يكن للمعارضة تأثير. ليس هذا فقط، بل إن القمع كان في أشد حالاته. أي شخص “يحدف شمال” يتم اعتقاله فورا. هذا على خلفية النجاحات في السياسة الخارجية وفي البناء الاقتصادي، وعلى خلفية تحقيق مكاسب للناس حتى لو أتت على حساب الحرية. باختصار، فكرة إعادة تجميع الشيوعيين كانت ساعتها فكرة منفصلة عن الناس ولا مستقبل جماهيري لها. أما اليوم فالأمر أصبح مختلف. الثورة أصبحت مطروحة من جديد، وفشل النظام الرأسمالي أصبح واضحا هو الآخر.

* ماذا تقصد بأن “فكرة الثورة أصبحت مطروحة”؟ هل تعني أنها مطروحة في مصر أم في مناطق أخرى من العالم؟

* مطروحة عالميا وفي مصر. عالميا، شعوب أوروبا التي أمكن استيعابها في الماضي داخل النظام الرأسمالي من خلال إعطائها مكاسب معنية ومن خلال نوع من الرفاهية المزيفة، أصبحت منتبهة اليوم لما تعرضت له من خداع، ومنتبهة للنظام المتوحش الذي يهدد مكاسبها ويعتدي عليها. وفي مصر الناس اكتشفت بالتجربة أن هذا النظام لا يحقق مصالحها؛ أعباء الحياة والخصخصة والبطالة تؤسس الآن لحالة رفض كاملة.

* وكيف يمكن لليسار استثمار هذه الحالة؟

* كل الحركات اليسارية في العالم تتصور أنها الوحيدة الفاهمة لما يمكن عمله والحريصة على مصالح الشعب، وأنها لذلك يجب أن تصل منفردة للحكم بثورة أو من خلال انتخابات. لكني أصبحت مقتنعا في السنوات الأخيرة أن العمل المنفرد خطأ. مقياس صحة الموقف هو التفاف الناس حوله، وتقدمهم – تحت قيادة الحركة السياسية – على الطريق خطوات عملية محددة، وهذا لن يحدث إلا بالمشاركة بين اليسار والقوة الأخرى. أتصور أن الوضع الأمثل، وقد يكون وضع طوباوي، هو وجود سلطة مشتركة بين فئات وتيارات من ضمنها الشيوعيين، كل تيار له الحق أن يكون قوة أساسية في هذا التحالف، وأساس وزن أي تيار هو عمله وتأثيره في أوساط قطاع من قطاعات الجماهير.

* هل تقصد حكومة وحدة وطنية بمعنى أو آخر؟

* الشيوعيون ليسوا هم القوة الوحيد في مصر. صحيح هم لديهم الحلم بتحسين الوضع في البلد، وصحيح لديهم القدرة على تحليل الوضع علميا، لكن أيضا شخص مثل عزيز صدقي يرغب هو الآخر في تحسين أحوال الناس.. “طيب ليه ما يكونش معايا”؟ أما كونه ليس مقتنعا بـ”حكاية العمال والفلاحين”، فهو حر.

* لكن هل معنى هذا المنطق أنه من الممكن أن نتحالف مع أجنحة من النظام؟

* نعم من الممكن أن نتحالف مع “أي حد”. لكن مع ملاحظة أن هناك حد أدنى لا يمكن النزول تحته. ممكن التحالف مع “الجن الأزرق” ما عدا الأمريكان ومن يمثلوهم ويتعاونون معهم. ثم لا ننسى أن التحالفات درجات ومستويات، فهناك عمل مشترك لا يزيد على بيان نقوم بالتوقيع عليه مع قوى أخرى، وهناك عمل مشترك أوسع، وهكذا، المهم في هذا كله هو المبدأ: “أوسع جبهة ممكنة”.

* لكنك في رواية “وردة” قدمت نقدا لحركة القوميين العرب، بينما الآن أنت لا تقدم نفس النقد لليسار المصري؟

* القوميين الذين أصبحوا بعد ذلك ماركسيين، ينطبق عليهم كلام لينين عن الطفولة اليسارية. فلقد كانوا يريدون القفز فوق المراحل. وكانوا يتصورون إمكانية تجاوز التطور الرأسمالي وتحقيق الاشتراكية مباشرة. وهذا مستحيل. ما نريده في مصر هو أن يكون لدينا نظام رأسمالي. الموجود لدينا هو نظام مشوه تابع. لكن لو الموجود هو نظام رأسمالي مثل طلعت حرب أو مثل الذي قام بتحديث أوروبا الغربية، فهذا أمر جيد، يا ليت.. لأنه على الأقل سيبلور التناقضات الموجودة.

* وهل من الممكن أن يوجد نظام رأسمالي كالذي تصفه في مصر؟

* أنا لا أعتقد أن هذا ممكن، لأن هناك عنصر فعّال اليوم هو الشركات العالمية المعوّقة لشروط ولادة رأسمالية وطنية. وما أعنيه بـ”وطنية” ليس أن تكون مواقفها وطنية، ولكن أن تقوم بتصنيع وتطوير مصر اقتصاديا.

* سؤال أخير: “وردة” بطلة من زمن مضى، وهي بطلة ثائرة وقادرة على الحلم وعلى السعي لتحقيق الحلم.. ما الذي يمكن أن تقوله عن عصرنا الراهن وعن أبطاله؟

* لا شك أننا في وضع أفضل من التسعينات. حركة كفاية مثلا تحدّت “الهيلمان البوليسي”. صحيح توجد عقبات وتراجعات، لكن الوضع في مجمله أفضل.

لكن من زاوية أخرى، فالوضع أسوأ من ذي قبل. انظر إلى معدلات الفساد ودرجة السيطرة الأمريكية. أمريكا الآن أصبحت مسيطرة على المنطقة ومتحكمة مباشرة في منابع النفط.

أما بالنسبة للمستقبل، فهو يبدو مؤلما. أحيانا استيقظ في الصباح وأتصفح الجريدة، فأفقد القدرة على فعل أي شيء. لهذا السبب أنا أحاول دائما تأجيل قراءة الجريدة إلى المساء، لأن الأخبار تأتي دائما بعشرات الأشياء البائسة والبشعة.

في الستينات كانت المسائل أكثر وضوحا وبساطة. في أيامنا هذه المسائل أصبحت معقدة و”ممكن تلخبط أي واحد”. أحيانا كثيرة تقابل شخصا لا تستطيع “تصنيفه”: فمن ناحية هو “أمريكاني” أو “تنويري”، لكن من ناحية أخرى هو نصير للديمقراطية والعدل ومن الممكن أن يقف مواقف جيدة في قضايا أخرى. هذا هو نموذج المرحلة. فهل يمكن أن يكون “بطلا”؟ شتّان الفارق بين نجوم اليوم وأبطال عصر مضى حين كانت الأمور، والبشر، أوضح.

أنا الآن أشعر أن الإنسان العادي هو “اللي ممكن يبقى بطل”. المواطن الكادح يخوض معركة يومية؛ معركة مع عمل لا يحبه، مع مواصلات مؤلمة، مع أسعار قاتلة.. كل هذا كفاح حقيقي. والغريب أن هذا “البطل” يظل حيا ويستمر في الكفاح.

لكن قبل كل شيء، أنا لدي تفاؤل تاريخي. الحال لا يمكن أن يستمر على ما هو عليه. فكما يقول القول المأثور “اشتدي يا أزمة تنفرجي”.. هذا مفهوم جدلي وماركسي تماما. لكن الشرط، حتى نساعد على انفراج الأزمة، أن نعمل دائما وسط الناس. بدون هذا “مفيش فايدة إطلاقا”.