إسرائيلي في رحاب الأوبرا
حينما يأتي ذكر المثقفين المصريين وعلاقتهم بالدولة، ممثله في وزارة الثقافة، ووزيرها، فاروق حسني،لا يملك المرء إلا أن يتذكر الكتاب الشهير للباحث خالد فهمي،”كل رجال الباشا”. حيث تلخص مقولة “كل رجال الباشا” تماما العلاقة بين المثقفين المصريين وفاروق حسني وزير الثقافة، الخالد مثل الفراعنة.
يمثل فاروق حسني حاله فريدة من نوعها، فهو الوزير الذي أمضي في منصبه أكثر من عشرين عاما قابلة للزيادة إلي أمد غير منظور، مشكلا بذلك حاله استثانئية علي مستوي العالم، وربما نراه قريبا في موسوعة جينيس ريكورد، ويتردد في الأوساط الثقافية أن هناك مركز قوى داخل النخبة الحاكمة حريص على بقاءه باستمرار، ولذلك فإن مسالة خروجه من الوزارة في أي تعديل وزاري هي اقرب للمستحيل، ولكن علي أي حال فإنه رغم المعارضة الشديده لحسني وسياساته من جانب الكثيرين، فإن آخرين يرون أنه رغم كل مساوئه، محسوب علي معسكر ما يسمى بــ”التنوير”! ، ووجوده علي رأس وزارة الثقافة أفضل، من وجهة نظر هؤلاء، كثيرا من أن تأتي الدولة بشخص قريب إلي التيار الديني، مثلما حدث في أواخر عصر السادات، حينما أتي بأحمد كمال أبو المجد، ويتناسى هؤلاء في ظل الجدل العلماني-الديني ، إن كلاً من حسنى و أبو المجد يلعب دوره في خدمة الديكتاتورية الحاكمة، بصرف النظر عن اللغة المستخدمة في خ طاب أي منهما.
كما يتناسى هؤلاء أن أوضاع الثقافة المصرية في عهد فاروق حسني، هبطت إلى قاع عميق، فنظرة إلي حال المسرح والموسيقي والفن بشكل عام، تدرك أين ذهبت بنا سياسات الوزير الفنان!
برانبيوم واليونسكو
طوال السنوات، التي تولي فيها المنصب، لا يمر عام واحد إلا وتثار قضية، يكون فاروق حسني أحد أبطالها ، وكان آخرها بالطبع، هي قضيه استضافة دار الأوبرا المصرية للموسيقي الإسرائيلي (دانييل برانبيوم)، وقيامه بقيادة الأوركسترا في الأوبرا، وهي القضية التي أثارت جدلا كبيرا بين المثقفين المصريين، وانقسموا حولها كالعادة، والأكيد أن ما بين السطور في مسالة حضور (دانييل بارنيبوم ) إلي مصر، وفي هذا التوقيت تحديداً، يؤكد أن الأمر مرتبط بترشيحات اليونسكو.
ليست صدفة أن يأتي الموسيقي الإسرائيلي إلي مصر، وبدعوة رسمية، من وزارة الثقافة، في هذا التوقيت بالذات، فالمعروف إن معركة اليونسكو، قد اقترب موعد حسمها ولم يتبقى إلا أشهر قليلة، علماً بأن إسرائيل تقف ضد ترشيح حسني لليونسكو ، وان دعوتها ضد ترشيح حسني تجد استجابة معقولة، ليبدو أن حسني في طريقه فعلاً إلي خسارة حلمه بالمنصب، والمؤشرات علي خسارته للمنصب تتراكم ، فقبل عام ، كان الرئيس السويسري في زيارة لمصر وسائله الصحفيون في المؤتمر إذا كانت سويسرا ستدعم ترشيح حسني لليونسكو ، لكنه اعتذر عن الإجابة بشكل مهذب، بما يعني ضمنا أن سويسرا لن تدعم ترشيحه ، وقبل اربعه أشهر سألت السفير الألماني بالقاهرة (برنارد إربل) حول موقف ألمانيا من حسني واليونسكو، وقال أنهم حتى هذه اللحظة لم يقرروا دعم حسني، هذه التصريحات صدرت من ممثلين كبار لدول فاعله بقوه في الحقل الثقافي علي المستوي الدولي (ألمانيا وسويسرا )، والأكيد أنها لم تكن لتخرج بهذه الصيغة، لولا أن لديهم معلومات ان معركة حسني معركة خاسره، بل إن الأغرب هو ما ردده البعض من أن انسحاب مرشحه المغرب للمنصب لم يكن من أجل عيون حسني، بل كان لما تسرب إلي علمها أن المنصب لن يناله عربي، أنها ففضلت الانسحاب، بهذا الشكل، ليبدو انسحاب المغرب لصالح المرشح المصري.
وعلي ذلك كان لا بد لحسني وسعيا منه لإثبات انه ليس لديه مشكله مع الإسرائيليين إلا أن يأتي بنموذج مثل (بارنيبوم )، ويدعوه إلي مصر، وكان بارنبيوم هو النموذج الأمثل لتحقيق أهدافه في كسب ود المعسكر الإسرائيلي المناوئ له، فــ بارنيبوم يحمل الجنسيه الإسرائيليه ، صحيح أنه معارض لبعض سياسات دولته، لكنه في النهاية إسرائيلي، كما انه من ناحية أخري كان صديقا حميما لمثقف عربي فلسطيني كبير، وهو إدوارد سعيد، وألف بالاشتراك معه كتاب ترجم إلي العربية والعبرية أيضاً، حمل اسم “نظائر ومفارقات في الموسيقي والفن”، وبذلك يكون حسني قد ضرب عصفورين بحجر واحد، أثبت للإسرائيليين أنه ليس لديه مشكله معهم بدليل دعوته لموسيقار إسرائيلي لزيارة مصر، وفي الوقت ذاته يستطيع أن يواجه الهجوم المتوقع ضده في مصر باعتبار أن بارنبيوم مثقف يهودي عالمي مؤيد لحقوق العرب بدليل صداقته الحميمة لإدوارد سعيد.
المثقفون ونهج التبرير
هناك عدد من المثقفين المصريين يمتلك قدره هائلة علي التبرير والتحايل والمراوغة، كان صادما للكثيرين أن يحرص مثقفين كبار عرف عنهم العداء للتطبيع مع إسرائيل، علي حضور حفل الفنان الإسرائيلي، وكان مبررهم في ذلك أن بارنبيوم ليس مجرد إسرائيلي، كما قال أحمد عبد المعطي حجازي نفسه، الذي كان في مقدمه الحضور، مع جمال الغيطاني، أنه اكبر من ذلك إنه موسيقار عالمي يحمل العديد من الجنسيات، وان الفن يسمو علي أي جنسية ، وغيرها من الجمل الرنانة ، ونسوا أن يقولوا لنا: لماذا هو حريص على جنسية هذا الكيان العنصري، إذا كان إنساني النزعة بالفعل، إنه إذا كان الفن يسمو علي أي جنسيه أو قوميه، فلماذا أيد هؤلاء أنفسهم ما قاله حسني قبل أشهر انه لن تترجم كتب إسرائيلية في مصر، ولن يترجم أدب إسرائيلي في مصر (أليس الأدب نوعا من أنواع الفنون ) ، لماذا يحرصون هم أنفسهم علي تجنب نشر أي نص ادبي إسرائيلي في مطبوعاتهم، التي يشرفون عليها ( طالما إن الفن ليس له جنسيه )، إجمالا بدا أن الحرص علي التبرير للوزير، ولهم، هو سيد الموقف ، وليس أي شيء أخر، فإذا كان بارنيبوم فنانا إنسانيا كبيرا وعالميا فعلاً، فلماذا لم نسمع منه كلمه واحدة ضد إسرائيل، فيما فعلته في غزه؟