تحولات مسرح الرحابنة
* الكتاب: فيروز والرحابنة: مسرح الغريب والكنز والأعجوبة
* المؤلف: فواز طرابلسي
* الناشر: رياض الريس للكتب والنشر بيروت
* تاريخ النشر: 2006
بالتأكيد لعبت تجربة الرحابنة دورا كبيرا، ليس فقط في حياة لبنان وشعبها، ولكن في حياة كل الشعوب العربية، وبالذات مناضليها. وبالتأكيد أيضا الكتابة عن الرحابنة مسألة غاية في الصعوبة لأسباب أهمها غزارة إنتاجهم الفني، ما يزيد عن 1000 أغنية و27 مسرحية، وذلك على مدار ثلاثين عاما حتى رحيل عاصي رحباني عام 1986.
استطاع فواز طرابلسي اجتياز هذه الصعوبات في كتابه الرائع عن تجربة الرحابنة في المسرح الغنائي. فبمهارة فائقة وذكاء المتفرج المتمعن، وبلغة الناقد الذي لم يسقط في التقليدية مطلقا، استطاع طرابلسي تقديم رؤيته عن تحولات الرحابنة ومسرحهم.
قسّم طرابلسي كتابه إلى جزئين، الأول عن مسرح الرحابنة في الصراعات اللبنانية. والثاني عن شخصيات ومواضيع كانت محورية في بناء المسرح الرحباني. ومن وجهة نظري تستحق المقدمة التي أفردها الكاتب للحديث عن طريقة بناء الكتاب، والفصل الصغير الذي يليها والمعنون بـ”فيروز على المسرح: معجزة الصوت/ صوت لمعجزة”، أن يكوّنا جزءا منفصلا يضاف للجزئين السابقين.
كانت “مسرحيات الرحابنة كالعدد السنوي بالنسبة للصحف، يعلق على الأوضاع السياسية داخليا وعربيا وعالميا.” بالتأكيد لم تكن تمثل انعكاسا ميكانيكيا للأحداث، بل إعادة لقراءتها مرة أخرى بلغة غنائية وتمثيلية تحاول طرح موقف من الصراعات الدائرة.
منذ العرض الأول “أيام الحصاد” 1957 وحتى عرض “الشخص” 1968 (14 عرضا)، ظل الرحابنة أسرى البحث عن حلول أقرب ما تكون إلى التوفيقية. ففي مسرحيات تلك الفترة يمكننا أن نرى “تجلي الشعبوية الرحبانية في أكمل صورها، الشعبوية بمعناها الاصطلاحي: أي محاولات التوفيق بين كتل اجتماعية متناقضة وتوجيه رسائل متنافرة، من موقع شعبي أو شعبي افتراضي، إلى جمهور هو نفسه متفاوت المصالح والتطلعات والطموحات”.
فالحاجة إلى المستبد العادل للم الشمل وتحقيق نهضة اقتصادية، أو محاولة التصالح مع الحاكم وتبرئته من المفاسد والاكتفاء بإلصاقها بحاشيته التي لا تحاكم على مفاسدها كمحاولة لتبرير وجوده وإكسابه المزيد من الشرعية، أو تحول قطّاع الطرق إلى خيّرين بسبب موقف عابر، أو تسوية النزاعات بأعجوبة تهبط من السماء، أو تشويه الصراع بين الطبقات واختزاله في مجرد الحاجة لكسر منظومة الاحتكار الاقتصادي، كلها كانت سمات للمسرح الرحباني. يمكننا القول إن الرحابنة قد تأثروا مثلهم مثل باقي مثقفي وفناني المنطقة بضرورة الحفاظ على وحدة النسيج الداخلي تحت شعارات سياسة التحرر الوطني التي كانت سائدة وقتذاك.
ولكن في نقلة مهمة جدا بدأت بـ”جبال الصوان” 1969 واستمرت حتى اختتمت بـ”الربيع السابع” 1984 (13 عرض)، وضع الرحابنة أنفسهم في مقدمة وطليعة المسرح الغنائي السياسي العربي الذي يلعب دورا في توعية الناس وإيقاظ هممهم للبحث عن حلول راديكالية لمشاكل واقعهم التي أصبحت أكثر تفجرا من ذي قبل، خصوصا مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان لأكثر من مرة.
نقلة 1969، بكل ما تعنيه نهاية الستينات من تحولات في الواقع العربي والعالمي، بدّلت مسرح الرحابنة من مسرح تسيطر عليه شخصيات وسمات أقرب ما تكون لقبول الأمر الواقع أو لانتظار الأعاجيب، إلى مسرح يطرح أن الحل دوما يأتي، أو يشار إلى طريقه، من قلب الفعل الجماهيري.. “ما في حدا بيقدر يحبس الميّ، والناس متل الميّ، إلا ما تلاقي منفذ، تنفجر فيه”.
صحيح أن الرؤية السياسية للرحابنة لم تتغير تماما إلى عكس ما كانوا يتبنونه في الماضي. ولكن المياه الكثيرة التي جرت في النهر بعد 67 يبدو أنها بدلت في وعيهم بعالمهم وعززت قناعتهم بضرورة إحداث تغييرات حقيقية.. “ناس بالخنادق وناس بالبارات/ العدالة كرتون … الحرية كذب/ وكل حكم بالأرض باطل”.