بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

تعيش الموسيقى حرة مستقلة!!

يبدو الحديث اليوم عن موسيقى مستقلة أو بديلة في مصر، مثل حديث عن دولة نالت استقلالها مؤخراً، دولة حقيقية بكل ما بها من تيارات وأعراق وقضايا وأزمات؛ حالة واسعة من التنوع والزخم غير المنظم بعد، لكن أكثر ما ستتبينه في تلك الحالة؛ هو الحماس البريء وفورة البدايات.

الموسيقى «المستقلة» أو «البديلة»، مصطلح حديث الظهور، يكافئه في الإنجليزية مصطلح “Independent music” أو”Indie music”. والمصطلحان في العربية أو الإنجليزية يشيران لتلك التيارات الموسيقية التي يُعنى أصحابها بالتعبير عن أنفسهم بغض النظر عن حسابات الموسيقى التجارية ومراحل صناعتها، ربما انفعالاً بأفكار سياسية أو ظروف اجتماعية وحضارية مختلفة، في تجارب يجمع ما بينها روح المبادرة والتطوع – وإن قلّت الإمكانيات – وكذلك عدم وجود نية للتربح المادي كهدف رئيسي. وفي نفس الوقت، هي مشاريع موسيقية مقصودة، أي أنها ليست عفوية تماماً أو موسيقى تتطور بالتواتر بين الناس مثل كثير من أشكال الموسيقى الشعبية المعروفة.

من يرعى الموسيقى؟!

وإن حاولنا تأمل ظروف نشأة مثل هذه الموسيقى في مصر، سنجد أنها تنشأ عموماً بسبب طبيعة العلاقة المتغيرة بين الموسيقيين من ناحية، وبين رعاة الموسيقى من أصحاب رؤوس الأموال والسلطة من ناحية أخرى. فعندما تتعارض رؤى كل من الطرفين فيما ينبغي أن تكون عليه الموسيقى من حيث الشكل أو المضمون، أو عند غياب الطرف الراعي والممول أساساً، فإن الفنان غالباً ما يبحث عن الاستقلال بفنه؛ متحيزاً ساعتها لقيمة ومعنى ما يقدمه، قياساً بقيمة التربح من هذا الفن أو تقديمه لجمهور عريض.

ربما رأينا هذا المثال منطبقاً على موسيقيين مصريين كبار؛ أمثال الشيخ سيد درويش (1892 – 1923)، أو الشيخ إمام عيسى (1917 – 1995). فالأول كانت لديه الكثير من الخلافات مع أصحاب شركات الاسطوانات في زمنه لعدم تقديرهم فنه كما يرى. كما أنه لم يجد من ينفق على أحلامه الموسيقية وطبيعتها الثورية، إذ أنها كانت مكلفة جداً بجانب كونها ثورية ومغامرة، فبادر هو بالإنفاق عليها، ولم يمهله الزمن لإكمالها أو الاستفادة من أخطاءه، حتى توفي فقيراً.

أما الشيخ إمام عيسى فمعروف للجميع الظروف السياسية التي نشأت ألحانه في كنفها. فقد أصبحت أغانيه في السبعينيات علامة مسجلة على معارضة السلطة والنظام في مصر، فلم تحظى بالطبع إلا بتعتيم إعلامي ومطاردة أمنية. وكذلك لم تحصل على فرص للتسجيل والتوثيق بشكل يتناسب وقيمتها الفنية. كما أن أغانيه لم تكن تصلح للاستخدام التجاري لنفس الأسباب وأكثر؛ فكان الاستقلال والمبادرات والجهود الذاتية هي الحل الوحيد. والأمثلة كثيرة لملحنين وشعراء وعازفين مصريين – على اختلاف مستوياتهم وقيمهم الفنية – وجدوا في «الاستقلال» الملجأ الوحيد لفنهم، المختلف عما يرضي رعاة الفنون في أزمانهم.

كرات الدم البيضاء

إذن فظاهرة استقلال الموسيقى أو وجود أنواع بديلة منها للسائد، ظاهرة ليست بالجديدة رغم جدة المصطلحات نفسها. ودائماً ما حظيت التجارب الموسيقية المستقلة والبديلة بالتقدير أو على الأقل بالاهتمام – غالباً في أزمان لاحقة لها – لأسباب عديدة؛ بعضها فكري (الموسيقى المعارضة أو موسيقى عامة الناس، أمام موسيقى البرجوازيين)، وبعضها فني بحت (الموسيقى المجددة والرائدة)، وبعضها إنساني (من استطاعوا قوْل «لا»)، والقضية واسعة كما ترون ومادة خصبة للبحث والتحليل.

وعليه؛ سنكتشف بداهة أن ربع القرن الأخير في حياة الموسيقى المصرية، كان وقتاً مناسباً جداً لازدهار استقلال الموسيقى، أو لظهور أشكال بديلة منها. فمنذ التراجع التدريجي والملحوظ لرعاية الدولة للموسيقى منذ السبعينيات وإلى اليوم، والوجود المتزايد لمقاولي الفنون، وفي ظل حالة تراجع حضاري أشمل؛ أصبحت أعصاب الموسيقى المصرية عارية، ووقع أصحاب المواهب والمشاريع الجادة بين قطبيّ الرحى حيث الاختيار الصعب: البيع أم الاستقلال، بينما تزدهر وتسيطر تجارة المدّعين وأصحاب الرؤى الرديئة بشكل غير مسبوق.

فبعد أن شهدنا مشاريع موسيقية محترمة وجدت لنفسها مكاناً على المستوى التجاري مثل تجارب محمد منير وعلى الحجار ومحمد فؤاد وكل هذا الجيل، رأينا تراجعاً أو تحولاً لدى هذا الجيل سواء بالتماهي مع الشروط التجارية أو الانزواء والظهور على مضض، حتى أن فناناً بموهبة محمد الحلو كان قد قرر الاعتزال ثم تراجع! بينما أثار صوت متميز مثل هاني شاكر تهكُّم الكثيرين؛ لتقديمه نوعية من الأغاني (الخفيفة جداً) تستهدف المراهقين، ولم تعد تقنعهم حتى..!!

هذا ما حدث واستمر إلى اليوم مع تطور أشكال الفن التجاري وزيادة سطوته اقتصادياً وإعلامياً، مع تطور نوعي للرداءة بحد ذاتها. على الجانب الآخر بدأت كرات الدم البيضاء في القيام بدورها، بظهور مجموعات متتالية من الفرق الموسيقية والأفراد التي تقدم أشكالاً متعددة من الغناء والموسيقى البحتة، بإلهام من الموسيقى العربية الكلاسيكية، والموسيقى الشعبية المصرية بكل ما بها من تفريعات، وموسيقى الجاز والروك والميتال وغيرها.

مكانٌ لنغني

بدأ الازدهار الحقيقي لتلك الحركة الموسيقية البديلة، ببداية وجود أماكن مناسبة للعرض. فبعد أن احتكرت المراكز الثقافية الأجنبية تلك الأنشطة منذ الثمانينيات، كان لافتتاح دار الأوبرا المصرية بمنحة من اليابان عام 1987 أثر إيجابي جداً، بقدرتها على استيعاب جزء كبير من تلك الحركة الناشئة، بإمكانات جيدة تقنياً ودعائياً.

استمر الأمر صعوداً وهبوطاً منذ ذلك الوقت، باختفاء لتجارب وظهور لأخرى، بعضها إعادة تقديم لتجارب اختفت. زاد من قوة الظاهرة افتتاح المزيد من أماكن العروض، مثل البيوت الأثرية التي يديرها صندوق التنمية الثقافية بشكل ينتقده الكثير من الفنانين (المستقلين)، من حيث سيطرة الروتين على إدارته، ووجود قوي للمحسوبيات والواسطات، ولكنها حتماً كانت إضافة.

كان لدخول القطاع الخاص في المسألة أثراً جيداً أيضاً، وأتحدث تحديداً عن (ساقية عبد المنعم الصاوي)، التي تحتل مكاناً جميلاً الآن على نيل الزمالك، كان منذ سنوات مقلباً للقمامة. ولا شك أن الساقية قد سحبت البساط من أماكن العرض الحكومية، حيث التعامل أكثر سهولة، والدعاية أكثر قوة بالتأكيد (المكان مملوك لوكالة إعلانات). ورغم شكوى الكثيرين أيضاً من كبار الموسيقيين وصغارهم من عدم حصولهم على نسب منطقية من دخول الحفلات واستئثار الساقية بمعظم الدخل، فمع ذلك لم نسمع أن أحدهم قد قاطع المكان تماماً أو توقف عن العرض فيه، حيث يبدو أن التواجد هو الورقة الأخيرة التي لا يرغب أحد بخسارتها.

ورغم كل تلك الإضافات في أماكن العروض، إلا أن النشاط لا يزال مركزياً بشكل كبير، مقتصراً في الغالب على القاهرة والإسكندرية. أما باقي أنحاء مصر فتعاني من فقر حقيقي في تنظيم وعدد العروض، رغم وجود أماكن صالحة ومجهزة للعروض، تملك الدولة معظمها في كل محافظات مصر، ورغم ثراء كل مكان في مصر بموسيقيين محليين على قدر من التميز والتمكن.

أنيميا الموسيقى المستقلة

ومع هذا التنوع والزخم في التجربة عبر حوالي عشرون عاماً على الأقل؛ فإن تحديات ومشاكل كبيرة وحقيقية تعطل الأمور، ولا يبدو أنها ستختفي قريباً.

أقرب الأمثلة لتلك التحديات هو التحدي المادي. فرغم كوْن معظم الفرق المستقلة لم تنشأ بهدف الربح المادي في الأساس، إلا أن هذا لا ينفي احتياجها للمادة لكي تنشأ من الأصل وتستمر. فقد أثبتت التجربة أن مثل هذه المشاريع الفنية تحتاج لقدر من التفرغ من أصحابها، ومعظمهم شباب صغار، إن استطاعوا توفير النقود لاحتياجاتهم الشخصية، فإنه يصعب عليهم غالباً توفير تكاليف إيجار لأماكن البروفات والآلات وأجور بعض العازفين ومهندسي الصوت المحترفين أحياناً.

مشكلة أخرى حقيقية، ألا وهي مشكلة الإدارة الفنية، فكثيراً ما تتوفر العناصر الفنية الجيدة في المشروع، ولكنه يفتقد لمن يديره ويوجهه ويدفعه للتطور، فتختلط العلاقات الشخصية بالمسألة الفنية، مما يتسبب في إجهاض تجارب جميلة أو على الأقل تعطيلها.

أغاني مصرية معاصرة!!

أما عن الرؤية الفنية، فحدّث ولا حرج. إذ تفتقد المشاريع الموسيقية المستقلة في الغالب لعقول وخبرات موسيقية ناضجة ومثقفة، توجهها وتلهمها. فيعاني عدد غير قليل من تلك المشاريع لضحالة وسطحية أو عدم اكتمال، من حيث نوعية كلمات الأغاني أو الأشكال الموسيقية المنسوخة أو الممسوخة والمتكررة، والافتقاد لشخصية موسيقية واضحة وقوية. ويساهم في تلك الأزمة أيضاً افتقاد الموسيقى العربية عموماً لحركة نقدية حقيقية ونشطة، فما بالك بحركة موسيقية نامية وثائرة بهذا الشكل، تخلّى عنها جيل من الكبار موسيقيين وشعراء، وجدوا أماكنهم أخيراً في برامج على قنوات فضائية، أو انخرطوا بحماس في الموسيقى التجارية والاحتفاليات الحكومية، أو اكتئبوا وقبعوا في منازلهم!

وبعد، فإن إطلاق أحكاماً نهائية على التجربة ليس له مجال هنا. هي فقط انطباعات متابع ومشارك ومستمع متحمس للموسيقى المستقلة في مصر منذ سنوات، رغم صعوبة المتابعة المخلصة لتجربة بمثل هذا الحجم تكبر وتتغير وتنضج يوماً عن يوم. وقد بدأت أخيراً فقط في الحصول على مكانها الطبيعي إعلامياً ولدى الجمهور، ولو أن الطريق لا يزال طويلاً لها ولنا.

كنت أود لو أشفع هذا المقال بأمثلة أكثر عدداً وتفصيلاً، لولا ضيق المساحة عموماً واتساع المضمون، وأعتقد يقيناً أن التجربة لا يكفيها مجرد مقال أو مقالين أو سلسلة مقالات، بل تحتاج لمتابعة منظمة وتحليل ونقد حقيقي ودؤوب من محبي الموسيقى في هذا البلد، فالمنجم به ذهب بلا شك ولكن من ينقيه ويصهره، هذا هو السؤال. تعيش الموسيقى حرة مستقلة.