بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

وتوقف الماغوط عن جمع الرسائل

أطفأ الموت عيناً من أجمل عيون الشعر العربي، فقد رحل عنا الماغوط قبل أن يتم عامه الثالث والسبعين، وحتى قبل أن يرى واحداً من أحلامه يتحقق.. فلازال هناك ملايين السجناء والجوعى في العالم. نور الدين خالد يستدعي لنا سمات فن هذا الشاعر الكبير المنحاز للبسطاء.

لقد توقف قلب الماغوط اليوم عند الكوارث نفسها التي ولد بينها قبل سبعة عقود في إحدى قرى “حماة” عام 1943 من الزمن العربي البطيء، كتب خلالها شعراً ومسرحيات وكتب للسينما والتليفزيون وأصبح دليلاً جديداً على عبقرية الشعر حين لا يحلم إلا بالعدل والحرية.. كان لا يكتب إلا عن الخائفين والمشردين ولا يتطلع إلا إلى المدن المعتمة منتظراً ـ مع فقرائها وجائعيها ـ أن ترى النور والحرية، وتتخلص من حكامها الخونة المستبدين.

فمنذ “حزن في ضوء القمر”، و”غرفة بملايين الجدران”، و”الفرح ليس مهنتي”، يكتب الماغوط رسائله الشعرية من داخل بيوت الجائعين ومقاهي المهاجرين وحانات المشردين، على نحو يدعو إلى الإعجاب. ولعبت عناوين قصائده الأولى دوراً في إكساب شعره لمعة جديدة: “رجل على الرصيف”، و”تبغ وشوارع”، و”سرير تحت المطر”، و”وجه بين حذاءين”، و”بدوي يبحث بلاد بدوية”، و”اليتيم”، و”النخاس”، و”الفائض البشري” كلها قصائد لمس فيها قاع الشارع العربي وبؤسه لمسات تركت بالغ الأثر على جسد الشاعر وروحه، ومن ثم على شعره.

وقد لا يحتاج المرء إلى المقارنة بين الموقع الاجتماعي الذي كتب منه الشعراء الرواد لقصيدة التفعيلة وبين الموقع الذي كتب منه الماغوط. هم كانوا ينعمون بعطور القومية العربية القادمة من باريس، وهو كان يحطم الصخرة التي كان اسمها “الحياة العربية” جالساً في الحانات والمقاهي فيما روائح الفضلات البشرية والفقر هي أكثر ما يشمه، وربما لهذا السبب قال في قصيدته الخالدة “خوف ساعي البريد”:

أيها السجناء في كل مكان/ ابعثوا لي بكل ما عندكم/ من رعب وعويل وضجر/ أيها الصيادون على كل شاطيء/ ابعثوا لي بكل ما لديكم/ من شباك فارغة ودوار بحر/ أيها الفلاحون في كل أرض/ ابعثوا لي بكل ما عندكم/ من زهور وخرق باليه/ بكل النهود التي مزقت/ والبطون التي بُقَرت/ والأظافر التي اقتلعت/ إلى عنواني.. في أي مقهى/ في أي شارع في العالم/ إنني أعد ملفاً ضخماً عن العذاب البشري/ لأرفعه إلى الله/ فور توقيعه بشفاه الجياع/ وأهداب المنتظرين/ ولكن يا أيها التعساء في كل مكان/ جّل ما أخشاه/ أن يكون الله “أمّيًا”..

وبينما رفع محمود درويش أسلحة البلاغة والتفعيلة والمقاومة العربية في مواجهة الاستعمار الاستيطاني لجيش الاحتلال الإسرائيلي، رفعت قصيدة الماغوط راية الفقراء العرب في مدن لم تقاوم، وحارات يبيت أطفالها لياليهم جائعين، وشوارع يكمل أهلها العرب ليلتهم نوماً.. وخوفاً من أكفّ المخبرين.

لقد كتب الماغوط قصيدة الذين لم يقاوموا.. قصيدة تلك المدن التي لم يستعمرها الغرباء، ولم تحصدها الجيوش، ولم تدكها المدافع.. قصيدة المدن التي لم يُقتل أهلها في الحصون.. وربما كان يقصد أن يقول ذلك في قصيدته “المصحف الهجري”:

على هذه الأرصفة الحنونة كأمي/ أضع يدي وأقسم بليالي الشتاء الطويلة:/ سأنتزع علم بلادي عن ساريته/ وأخيط له أكماماً وأزراراً/ وأرتديه كالقميص/ إذا لم أعرف/ في أي خريف تسقط أسمالي/ وإنني مع أول عاصفة تهب على الوطن/ سأصعد أحد التلال/ القريبة من التاريخ/ وأقذف سيفي إلى قبضة طارق/ ورأسي إلى صدر الخنساء/ وقلمي إلى أصابع المتنبي/ وأجلس عارياً كالشجرة في الشتاء/ حتى أعرف متى تنبت لنا/ أهداب جديدة، ودموع جديدة في الربي..

لقد أدرك الماغوط أولاً أنه سيرحل وأن قصيدته لن تبقى إلا في وجدان البسطاء.. وأدرك ثانياً أن غياب قصائده عن الدرس النقدي ـ الأكاديمي وغير الأكاديمي ـ يمنحه شرفاً عظيماً، فكم من العجزة تدرس قصائدهم التي تمتليء بكل شيء إلا الشعر. وأدرك ثالثاً أن الوطن لا يمكن اختزاله إلا إلى “فقراء”.. حين يقول:

أظنها من الوطن/ هذه السحابة المقبلة كعينين مسيحيتين/ أظنها من دمشق/ هذه الطفلة المقرونة الحواجب/ هذه العيون الأكثر صفاء/ من نيران زرقاء بين السفن..

وعلى العكس من شعراء كثيرين اختزلوا الأوطان في معان مثالية، ضفر الماغوط الهمين العام والخاص في ضفيرة واحدة، بل في قصيدة واحدة، وبدا في كثير من قصائده قادراً على استنشاق رائحة الوطن من ملابس المهاجرين، ومن لمعة الحزن في عيونهم، ومن لحظات ضعفهم، وكما يقول أحد الكتاب: كلما كانت الحرية أقل.. كلما كان الإنسان أقل.. نعم كتب الماغوط عن الإنسان العربي الأقل شأناً، وأرسل هذه القصائد إلى العالم لعله يسمع:

أيها العلماء والفنيون/ أعطوني بطاقة سفر إلى السماء/ فأنا موفد من قبل بلادي الحزينة/ باسم أراملها وشيوخها وأطفالها/ كي تعطوني بطاقة مجانية إلى السماء/ ففي راحتي بدل النقود .. “دموع”/ لا مكان لي؟/ ضعوني في مؤخرة العربة/ على ظهرها/ فأنا قروي ومعتاد على ذلك/ لن أؤذي نجمة/ ولن أسيء إلى سحابة/ كل ما أريده هو الوصول/ بأقصى سرعة إلى السماء/ لأضع السوط في قبضة الله/ لعله يحرضنا على الثورة..