بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

أيها الظلم تذكر.. لن تختبئ

عصام زكريا يكتب عن الفيلم الفرنسي “مختبيء” عن مذبحة للجزائريين في فرنسا عام 1961، والذي عرض مؤخراً بالقاهرة.

لم أستطع أن أنزع عن رأسي صور المذبحة، التي ارتكبتها الشرطة المصرية ضد اللاجئين السودانيين في حي المهندسين في ديسمبر الماضي، عندما شاهدت الفيلم الفرنسي “مختبئ” ((Hidden/ Cache في افتتاح أسبوع “قافلة السينما الأوروبية العربية” بالقاهرة في أبريل الماضي. ففي يوم ما، بعد عشرين أو ثلاثين عاماً سوف تعود هذه المذبحة، سيكتب عنها المؤرخون بحرية وسوف تنشر شهادات وصور قديمة وجديدة كانت “مختبئة”، والذين عاصروها.. الذين سرعان ما نسوا ما حدث سوف يكتشفون أنهم لم ينسوا أبدا، وأن الماضي حي ويمكنه أن يستيقظ في أية لحظة، مهما حاولنا نسيانه.

“مختبئ” هو آخر أفلام المخرج النمساوي ميكائيل هاينكه (64 عاماً)، الذي صنع ما يزيد عن عشرين فيلماً معظمها من روائع السينما الأوروبية، لعل أشهرها بالنسبة لنا هما فيلما “عازفة البيانو” الذي لعبت بطولته إيزابيل أوبير، و”الشفرة المجهولة” الذي لعبت بطولته جولييت بينوش منذ عدة أعوام. هاينكه اتجه في الفترة الأخيرة من حياته الفنية إلى صنع أفلامه في فرنسا وباللغة الفرنسية أو الإنجليزية، ربما لضمان إنتاجها وتوزيعها بشكل أفضل، وفيلم “مختبئ” امتداد لنفس النهج، فهو قصة فرنسية خالصة ـ من تأليف المخرج نفسه ـ يدور في فرنسا بأبطال فرنسيين هما دانييل أوتي وجولييت بينوش.

منذ اللحظات الأولى للفيلم يمكنك أن تدرك أنك أمام عمل سينمائي مختلف. الدقائق الأولى من الفيلم تصور واجهة منزل في شارع هادئ بأحد الأحياء الباريسية الراقية.. لا شيء يتحرك في المشهد سوى بعض المارة من حين لأخر. أبطال فيلمنا، الزوج جورج لورنت وزوجته آن وابنهما المراهق. أما المشهد الطويل لواجهة المنزل الذي رأيناه في البداية فهو محتوى شريط فيديو تعثر عليه الزوجة في كيس بلاستيك خارج البيت، تركه شخص مجهول، بدون رسالة أو ملحوظة.. مجرد شريط يصور البيت من الخارج، والذي سيتبعه شرائط أخرى بنفس الطريقة.

هذه المشاهد الطويلة التي تفتتح وتختم وتتخلل مشاهد الفيلم، تخلف وعياً مستيقظاً وحائراً لدى المشاهد طوال العرض، فهو لا يستطيع الاندماج لأنه غالباً لا يدرك إذا كان ما يراه هو الفيلم، أم شريط صوره الشخص المجهول. إنه فيلم يحرمك من متعة التماهي، لكنه في الوقت نفسه يجعلك مستيقظاً مؤرقاً في كل لحظة.

جورج مقدم برامج ثقافية ناجح، وآن تعمل في مجال النشر. في البداية يعتقدان أن الشرائط قد تكون مزحة من أحد زملاء ابنهما المراهق، ثم ينتابهما الخوف من أن يكون الفاعل شخص يهدد جورج، خاصة بعد أن يصل مع أحد الشرائط رسم طفولي لوجه باسم ينزف دماً من رقبته. هذا الرسم يوقظ داخل جورج ذكريات قديمة نسيها، ومع الشرائط تتوالى في نومه أحلام مفزعة حول هذه الذكريات، خاصة عندما يأتيه شريط يصور بيت أسرته الكبير في الريف. يسافر جورج إلى مسقط رأسه حيث تسكن أمه العجوز وحدها في الضيعة مع خادمة. يسألها جورج عن هذه الذكريات القديمة ونبدأ بالتعرف على المشكلة.

عندما كان جورج في السادسة من عمرة في عام 1961، كانت هناك أسرة من المهاجرين الجزائريين تعمل لديهم في الضيعة، وكان والداه يحبان هذه الأسرة التي تتكون من الأم والأب وطفلهما الذي كان في مثل عمر جورج. في ذلك العام دعت إحدى الحركات الثورية ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر إلى مظاهرة كبيرة يشارك فيها كل الجزائريين المقيمين في فرنسا. وقد تحولت هذه المظاهرة إلى مذبحة على يد الشرطة راح ضحيتها نحو مائتين من الجزائريين، كان من بينهم الأسرة التي تعمل لدى أسرة جورج. أشفق والدا جورج على الطفل اليتيم بعد مقتل والديه وقررا أن يتبنياه، لكن وبسبب غيرة جورج الشديدة، تدفعهما المشاكل التي يخلقها إلى التخلص من الطفل اليتيم. يسيطر على جورج شعور بأن هذا الولد، الذي أصبح الآن في مثل سنه، قد يكون صاحب الشرائط التي تصله، وأنه يفعل ذلك من باب الانتقام من جورج. ويتأكد من ذلك لدى وصول شريط جديد يصور المكان الذي يسكن فيه هذا الرجل والذي يدعى مجيد (موريس بينيشو). ويذهب جورج للقاء مجيد في شقته الفقيرة البائسة في أحد أحياء العمال في فرنسا، ويتهمه بأنه صاحب الشرائط، وبأنه يفعل ذلك رغبة منه بالانتقام. لكن الرجل المحطم يبدو مصدوماً بما سمع، وينفي عن نفسه التهمة وعن معرفته بموضوع الشرائط. وفي نفس اليوم، يصل إلى بيت جورج شريط عليه مشاهد لمجيد في منزله، عقب مغادرة جورج، وهو في حالة بكاء مرير طويل. كما يتبين لجورج أيضاً أن مجيد لديه طفل في مثل عمر ابنه تقريباً.

يقرر جورج الذهاب إلى الشرطة وتقديم شكوى ضد مجيد، التي تقوم بدورها بمهاجمة بيت مجيد وابنه وتعتقلهما ثم تفرج عنهما لعدم وجود أدلة تدينهما. بعدها يقوم مجيد بدعوة جورج لزيارته وبقوم بذبح نفسه أمام عيني جورج رغبة منه في الخلاص من عذابه. جورج الذي يشعر بالذهول يعود إلى بيته ويتعاطى بعض المهدئات وينام. بعدها بأيام يقوم ابن مجيد بزيارة جورج ويؤكد له أنه ووالده الراحل لا علاقة لهما بالشرائط، ويطلب منه الكف عن ملاحقته. ويعود الخوف ليستوطن جورج.. وينتهي الفيلم بمشهد طويل لإحدى المدارس، قد تكون مدرسة ابن جورج أو ابن مجيد، يصور المشهد التلاميذ يدخلون ويخرجون ويمرحون ويلعبون.

لا تسأل نفسك من أرسل هذه الشرائط، وهل كان الفاعل مجيد، أم ابنه؟ فمع أن المنطق يؤكد ذلك إلا أن الواقع نفسه يؤكد استحالة حدوثه. أم هل هو جورج الذي يرسل الشرائط لنفسه باللاوعي؟ هل يعاني من انفصام في الشخصية بسبب ما فعله في حق مجيد؟ وما الذي سيحدث في المستقبل؟ وإلى غير ذلك من الأسئلة الكثيرة التي تجتاحك مع نهاية الفيلم. لكن الفيلم أيضاً سيترك لديك إحساس بالذنب لن يغادرك لأيام وشهور، وسوف تفكر ليس فقط في جورج ومجيد، بل أيضاً في الاستعمار الفرنسي والدمار الذي أعمله في حياة المستعمَرين، وفيما يفعله جورج الأخر (رئيس الولايات المتحدة) الآن، وما فعله ويفعله كل الطغاة والقتلة في كل مكان ـ بمن فيهم قتلة المهندسين ـ ولن يغادرك الإحساس بأن الظلم لا يُنسى وأن الماضي لا يموت وأنه مثل دراكولا سوف ينهض من قبره ويعود لينتقم في يوم ما.