نهاية وهم اسمه دبي
إذا أردنا البحث عن نموذج لقبح وعبث الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين لن نجد أفضل من إمارة دبي. فقد تحولت تلك الإمارة من قرية صغيرة للصيادين وملجئا للمهربين والقراصنة إلى مركزا ماليا وتجاريا عملاقا خلال فترة لا تتجاوز العقود الأربع الماضية. يحكم هذه المدينة/الإمارة عائلة آل مكتوم منذ عام 1833 والتي نالت رضا الاستعمار البريطاني حتى ستينيات القرن الماضي حين نالت “استقلالها”. ويرجع الفضل في ذلك بالطبع للطفرة النفطية التي شهدتها منطقة الخليج منذ سبعينيات القرن الماضي. ولكن ما ميز تلك الإمارة الصغيرة هو أن نصيبها من النفط والغاز الطبيعي كان محدودا للغاية فقرر حكامها أن يحولوا الإمارة إلى واحة للخدمات المالية تربط بين الثروات النفطية الهائلة في المنطقة وبين المؤسسات المالية العالمية ومركزا حيويا لحركة التجارة العالمية بين الأسواق الآسيوية من جانب والأسواق الغربية من الجانب الآخر. حقق حكام دبي ذلك من خلال تحويل المدينة إلى منطقة حرة من كافة القوانين والضرائب والرقابة المقيدة لرأس المال، فأصبحت المدينة بالفعل نموذجا لمروجي حرية السوق والليبرالية الجديدة. وبالطبع سرعان ما أصبحت أيضا ملجأ آمن للمافيات الروسية والآسيوية وللرأسماليين الهاربين من إيران وحتى للثروات المرتبطة ببن لادن والقاعدة .
ملهى ليلي
أما الجانب الآخر من “الحرية” التي روجها حكام دبي فكانت تحويل المدينة إلى ملهى ليلي كبير يتمتع فيه رجال الأعمال من مختلف أنحاء العالم بالدعارة شبه المقننة وبالخمور وبكافة أشكال الاستجمام والمتعة والتي يحرم منها (على الأقل ظاهريا) الأغنياء في الجوار الخليجي. ومن المدهش أن يعتبر البعض هذه الظواهر دليلا على انفتاح وتحرر حكام تلك الإمارة فالدعارة الروسية والآسيوية التي تملأ حانات المدينة هي نتاج لأبشع صور الاستعباد والتجارة في البشر من قبل عصابات المافيا الروسية. ويكفي أن نضيف إلى هذه الصورة المآسي التي تتعرض لها الخادمات في قصور السادة (أغلبهن من الفلبين) من استغلال جنسي ومعاملة غير آدمية بمعرفة ومباركة وحماية حكام الإمارة لنعرف أن المرأة غير الإماراتية في دبي هي إما عبدة تعذب في البيوت أو سلعة تباع وتشترى في الحانات. أما المرأة الإماراتية فتحكمها نفس التقاليد الموروثة التي تحكم باقي نساء الخليج.
والاستعباد بالطبع لا يقتصر في دبي على هؤلاء بل أن الأكثر جوهرية للنظام هناك هو ما يتم مع مئات الآلاف من العمال الذين يعملون في البناء والتشييد. فهؤلاء أغلبهم يأتون كعمالة مؤقتة من جنوب آسيا ويتم تسكينهم في معسكرات غير آدمية (بلا تكييف أو مياه جارية) خارج المدينة ويمنعون من دخول المناطق السياحية والتجارية ويموت منهم المئات كل يوم في حوادث العمل ومن ضربات الشمس دون رعاية صحية تذكر ويفقد الكثير منهم حقوقهم المستحقة من خلال خداع أو هروب المقاولون الذين يتعاقدون معهم وليس لهم أي حقوق نقابية بالطبع ويتم التعامل مع الإضرابات بالقمع العنيف ثم الترحيل دون أن ينال العمال مستحقاتهم كما حدث في 2004، 2006، 2008.
هذه هي جنة دبي التي ينبهر بها رجال الأعمال والشرائح العليا من الطبقة الوسطى في مصر. هي بالفعل جنة لرجال الأعمال وكبار الموظفين وجحيم لا يطاق للغالبية العظمى من السكان من العمالة المهاجرة.
الفقاعة و الأزمة
وقد استطاعت الإمارة بهذه التوليفة من “الحريات” الاقتصادية والترفيهية من جذب كم هائل من الاستثمارات الخليجية والأجنبية. وكل ذلك بالطبع جعل عائلة مكتوم الحاكمة من أغنى العائلات في العالم. فالعائلة هناك هي الدولة وهي المالكة للأراضي وهي التي تقرر ماذا يباع وماذا يشترى كما تقرر كل شيء فالإمارة إمارتهم والاستبداد واحتكار السلطة هو الأساس كما في بقية دول ودويلات الخليج. وأصبح حاكم دبي الحالي محمد بن راشد المكتوم يتعامل مع دبي كشركة خاصة هو مالكها ورئيس مجلس إدارتها. وكغيره من الحكام المستبدين أصبح مهووسا بأن يترك بصمته التاريخية. فبدأ في تنفيذ مشاريع عملاقة مجنونة (أعلى مبنى في العالم، أكبر مول تجاري في العالم، جبل ثلجي مغطى لرياضة التزلج على الجليد، فندق من 200 طابق تحت البحر، سلسلة ضخمة من الجزر الصناعية على شكل خريطة العالم، الخ.
وقد بدأت هذه المشاريع العملاقة في ظل فقاعة عالمية للأسواق العقارية حيث كانت أسعار العقارات والأراضي في حالة ارتفاع جنوني شبه دائم خلال الأعوام الأولى للقرن الجديد. وقد مكن هذا الوضع من تدفق التمويل والقروض من مختلف بنوك العالم لتمويل تلك المشاريع العملاقة. وأخذ حاكم دبي “الشاعر” و”الفيلسوف” ورئيس مجلس الإدارة العبقري في الهذيان حول أحلامه القائمة فقط على المضاربة وفقاعة القطاع العقاري حتى أتت الأزمة المالية العالمية وانهارت أسعار العقارات في كل الأسواق القائمة على المضاربة فانهارت معها أسعار العقارات والأراضي في الإمارة فخسرت خلال 2008-2009 أكثر من 60٪ من قيمتها. وتراكمت الديون على الإمارة/العائلة/الشركة حتى تجاوزت 100 مليار دولار في أقل التقديرات. وظهرت تجربة دبي على حقيقتها ليس كنموذج عبقري لنجاح الرأسمالية بل كإثبات جديد لفوضى السوق والمضاربة وعبث نموذج التنمية الرأسمالي.
مصر ودبي
قد دخلت أزمة دبي مرحلة جديدة حين أعلنت شركة دبي العالمية للاستثمارات العقارية عدم قدرتها على سداد قسط من ديونها في ميعاده (تقدر ديون الشركة بـ59 مليار دولار) وكان يتوقع المستثمرون أن تتدخل الحكومة لتسدد تلك الأقساط كوم الشركة مملوكة للحكومة، ولكن بعد بعض التخبط أعلنت الحكومة أنها لن تقوم بذلك، خالقة زلزال من الخوف في أوساط المستثمرين الذين لم يعد واضحا لهم من الضامن لاستثماراتهم في تلك الشركات التابعة للدولة.
وقد امتدت حالة الذعر لبقية أسواق العالم على رأسها أسواق المنطقة. فشركات دبي كانت توسعت في عدد من البلدان منها مصر خاصة في مجال العقاري الذي يشهد هو الآخر فقاعة مجنونة لن تنتهي إلا بالانفجار. هذا إلى جانب الاستثمارات المصرية في دبي. فقد بلغ عدد الشركات الإماراتية المستثمرة في مصر بنهاية 2008 أكثر من 400 شركة، تأسس أغلبها خلال الأعوام الثلاث الماضية.
أيا كان مصير دبي الاقتصادي وتداعياته في المنطقة وفي مصر فمن المؤكد أن دورها كواحة أمان لرأس المال لم يعد مضمونا فقد تكشفت تعقيدات ذلك التداخل بين الحكومة ورأس المال والعائلة الحاكمة المستبدة مما سيؤدي دون شك إلى هروب الاستثمارات وتردد البنوك في المزيد من التمويل. وفي كل الحالات فنموذج دبي -وهو نموذج مصغر من الرأسمالية- لا يدعو إلا للاشمئزاز والرفض والمفترض، ليس الانبهار بعبقرية ذلك الأبله المدلل محمد الراشد المكتوم بل العمل على التضامن مع كل تحرك يقوم به عبيد القرن الجديد في تلك الواحة من العذاب من عمال وخادمات وغيرهم ممن يستعبدون وتمتهن كرامتهم ضد مستغليهم سواء من العائلة الحاكمة أو من رجال الأعمال.