من مبارك إلى مرسي إلى السيسي.. نفس الأزمة ونفس الحلول

طالعتنا الصحف في يوم 12 مايو السابق بخبر استقبال عبد الفتاح السيسي للخبير الاقتصادي البيروفي هيرناندو دي سوتو لإحياء مشروعه في إصلاح الاقتصاد المصري غير الرسمي، وقابله إلى الآن منذ تلك الفترة ثلاث مرات وهو المشروع الذي كان بدأ من قبل مع يوسف بطرس غالي – رجل المالية في عهد المخلوع – وهو الحاصل علي العديد من الجوائز في مجال اقتصاديات السوق، كما أنه مشترك مع مادلين أولبرايت في وضع السياسات الاقتصادية والسياسات المتبعة لعلاج اقتصاديات دول العالم الثالث عن طريق مؤسسته معهد الحرية والديموقراطية والذي يتبني سياسته صندوق النقد والبنك الدوليين، كما هو ملقب بالأب الروحي للطريق الثالث والملهم للليبرالية الجديدة في العالم.
ومن الطريف والجدير بالذكر أن هذا المسمى بالأب الروحي للنيوليبرالية قد قام بنفس الفعل أثناء حكم محمد مرسي، فأيضا طالعتنا الصحف قبل عيد الأضحى بأسبوع بخبر استضافة حزب الحرية والعدالة لما يسمي بالمفكر الاقتصادي الكبير هيرناندو دي سوتو البيروفي لإحياء مشروعه في إصلاح الاقتصاد المصري.
إذاً من هو هيرناندو دي سوتو؟
خدم لفترة من حياته المهنية في الاتفاقية العامة بشأن التعريفات الجمركية والتجارة (GATT)، ومنظمة التجارة العالمية، وفيما بعد رئيسا للمجلس الدولي الحكومي للدول المصدرة للنحاس، وعمل أيضا لفترة محافظا للبنك المركزي في بيرو، وقبلهم الرئيس التنفيذي لإحدى أكبر الشركات الهندسية المتعددة الجنسيات في أوروبا.
هيرناندو دي سوتو وهو على قائمة “must call” من العديد من قادة العالم. والاحتفاء به دائم من قبل الصحافة وبتمويل من وكالات التنمية الدولية، في حين أن له أكثر الكتب مبيعا وقد أشاد به اقتصاديين رأس المال وقالوا عنه أنه من أذكي وأنجح الكتب التي تعرضت للتحدي الحالي أمام إنشاء واستمرار الرأسمالية في العالم الثالث تحديدا.
في ذلك، يقول دي سوتو أنه على الرغم من انتصار الرأسمالية على الشيوعية، فنظام السوق الحر في ورطة كبيرة الآن.
المفتاح لهذه المعضلة تحفيز التنمية وضمان تمكن الرأسمالية، ودخول ما يسمي بثروات الفقراء في العالم الثالث داخل هيمنة رأس المال العالمي بدعوى أنه السبيل للخلاص من استعباد أنظمة البروقراطية والروتين لهم.
وقد حظي هذا الدي سوتو بكثير من تأييد عدد من القادة المتحولين في العالم أمثال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورئيسة وزراء تايلاند، والرئيس فيسنيتي فوكس، والرئيس الأفغاني حامد كرزاي، وقد سطع نجمه مع أحداث سبتمبر 2001 على أمريكا، حيث له خبرة مثيلة لمساعدة الرئيس البيروفي عن طريق مشاركته في قمع “Shining Path” في بيرو للقضاء على اليسار الماوي في 1992، وتحول الشعب البيروفي ضد حرب العصابات التي قد اتخذها الحزب الشيوعي كطريق للنضال ومناهضة الرأسمالية وأطلقوا عليها حرب عصابات الماويين.
إنه هذا اللغز المحير بعمله الدائم بالقرب من دوائر صناع القرار والعلاقات المشبوهة والمريبة حوله وحبه للتكلف والتملق لأصحاب السلطة والسيطرة في العالم.
وتتلخص نظرية دي سوتو في إصلاح الاقتصاد تحديدا في دول العالم الثالث وما يسمي سابقا الاتحاد السوفيتي، فهو يركز على ما يسميه الاقتصاد الأسود الضخم الذي يدار في الخلفية بعيدا عن أيدي الأنظمة الحاكمة في البلدان النامية بالطبع وينصح بدمجه مع الاقتصاد الرأسمالي العالمي بقوانين تحت غطاء إعادة تقنين الملكية، وينظر للفقراء على أنهم يملكون أصولا ضخمة وهائلة تتمثل في منازلهم، عششهم، أكشاكهم أو المناطق التي يقطنونها ومقام عليها عششهم الصفيح أو أكشاكهم، واعتبر بما أنهم لا يملكون الحماية القانونية فبالتالي لا يمكنهم الوصول للاستفادة من ممتلكاتهم أو ما يسمى ممتلكاتهم في الائتمان أو استثمار آمن.
فأصولهم كما يقول هي “رأس مال ميت” بدلا من أن يكون داخل “رأس المال الحي” وهو يدعي أن عشرات الملايين من فقراء العالم الثالث هم في الأصل رجال الأعمال الحقيقيين في هذه الدول حيث أنهم يمتلكون ويديرون أكثر من نصف اقتصاد بلدانهم بعيدا عن أيدي السلطة الحاكمة، وعلى ذلك تأتي مقترحاته الاقتصادية بتقنين الملكية لكل واضعي اليد والباعة الجائلين وساكني عشش الصفيح – أن يسجلوا ما يملكون قانونا لكي يدخلوا تحت طائلة القانون وسيطرة النظام – وترغيبهم في أن هذا الشكل القانوني سوف يسمح لهم بعد ذلك بحماية ملكياتهم وأعمالهم بالقانون وأنهم سوف يستفيدون من هذا عن طريق إمكانية حصولهم علي ائتمان أو الحصول علي استثمار آمن.
وهناك أيضا مكبرين ومهللين له حول العالم ونصبوه منقذ اقتصاد العالم بكتاباته، وأحدها “The Mystery Of Capital”، ووصل بهم الأمر لحد مقارنته بآدم سميث أو كارل ماركس، مع أن من يقرأ هذا الكتاب يجد تكلفا واضحا ولهثا حول التملق لأصحاب المصالح والحكام. وهذا الكتاب ينص صراحة على أن العولمة والليبرالية الجديدة لا تصلح إلا مع سدس من سكان هذا الكوكب أي أن هناك خمس أسداس سكان هذا الكوكب مرغمين ومقهورين علي ذلك وهم الطبقة الغنية والطبقة الوسطي من سكان هذا الكوكب!
وقد انتُقدت نظريات دي سوتو من الكثير من الخبراء في العالم:
- يقول مايك ديفيز في كتابه “كوكب الأحياء الفقيرة” أن الاندماج في الاقتصاد الرسمي سيعود بالفائدة على كبار واضعي اليد، لكنه سيكون كارثي بالنسبة للبسطاء وخاصة المستأجرين الذين لا يستطيعون تحمل نفقات الاندماج في الاقتصاد الرسمي للدولة.
- كما إن مقال مادلين بونتينج لصحيفة الجارديان (المملكة المتحدة) أن اقتراحات دي سوتو في بعض الظروف تسبب ضررا أكثر من المنفعة، وأشارت إلى كتابه ” لغز رأس المال” بأنه مثل ستار الدخان المستخدم لطمس قضية السيطرة والتسلط لنخبة العولمة.
- كما وجه روبرت جيه صامويل سون نفس نقد مادلين بونتينج للرجل، فقد أعرب عن تخوفه من خطة دي سوتو للتمليك من حيث إمكانية تسببها في تقويض كل الأشكال العرفية للحيازة وخصوصا للفقراء من مستخدمي الأراضي، مما سيؤدي بالضرورة لتركيز الملكيات في أيدي النخبة فقط في نهاية المطاف، تعزيز مبدأ الإقطاع بشكل جديد.
- كما انتقده أيضا المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في الغذاء، أوليفييه دو شاتر، مشككا في الإصرار على التمليك كوسيلة لحماية أمن الحيازة بينما أمن الحيازة لن يتحقق إلا من خلال تسجيل حقوق مستخدمي الأرض أنفسهم واعتماد قوانين مكافحة الإخلاء والإيجار، وليس عن طريق إنشاء سوق “لحقوق ملكية الأراضي” والذي سيؤدي حتما إلى حرمان الفقراء مما يتمتعون به الآن من حيازات واستخدام للأراضي، وقد جاء ذلك في تقريره إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في أكتوبر.2010
- في مجلة الأدب الاقتصادي، كريستوفر وودروف من جامعة كاليفورنيا، اتهم دي سوتو بالمبالغة في تقدير كمية الثروة التي قد تحققها الدولة بمجرد تقنين وضع الأراضي المملوكة بصورة غير رسمية، ويقول إن تجربة دي سوتو الخاصة في بيرو تشير إلى أن تسجيل ملكية الأراضي في حد ذاته ليس من المرجح أن يكون له تأثير كبير، بل يجب اتخاذ سلسلة من الإجراءات الهامة قبل الشروع في هذا ، مما يشكل تحديا سياسيا. وتتمثل بعض هذه الخطوات الهامة في تحسين كفاءة النظم القضائية، إعادة كتابة قوانين الإفلاس، وإعادة هيكلة أنظمة السوق المالية والقضاء على الفساد داخل مؤسسات الدولة وغيرها من الخطوات الضرورية.
- وعلق روي كالبيبر الرئيس السابق والرئيس التنفيذي لمعهد الشمال والجنوب، وزميل أول مدرسة التنمية الدولية والدراسات العالمية على نظريات دي سوتو قائلا: تلاحظ أنه غالباً ما يكون من الصعب جدا تحديد من يملك ماذا بين الفقراء ونظريات دي سوتو منحازة ضد تمليك أولئك الذين لا يملكون أرضا والمعدمين تماما.
مما أوضحناه سابقا، فإن حلول عبد الفتاح السيسي وحكومته لا تختلف إطلاقا مع سياسات المخلوع أو سياسات مرسي حيث أنها سياسة مفلسة لابد لها وأن تتزاوج مع النظام الاقتصادي الذي مازال قائما حتى بعد المخلوع، والذي يسعي دائما لمزيد من الاستغلال والذل ورغبة السلطة السيساوية ومن قبلها الإخوانية من فرض السيطرة باتخاذ نفس طرق التجويع والإفقار لقمع الحريات والمطالبة بالحقوق.
إنهم يستخدمون نفس آليات النظام البائد أمثال هذا “الدي سوتو” وفي غفلة تامة من الشعب، تطبق أفكاره ومقترحاته حيث أنها تقريبا نفس مقترحات البنك والصندوق لإصلاح الاقتصاد.
ولكننا نوضح من الآن مخاطر ونقد هذه المقترحات فهم من الآن يستغلون حاجة الفقراء وقاطني العشش الصفيح والباعة الجائلين كي يلمسوا تحسن أو حتى إحساس بالأمان، فيلوحوا لهم بقرارات في ظاهرها معسولة “تقنين ملكية – وحقوق مابعد التقنين – واستثمار آمن – وقروض صغيرة للتنمية” فهم لم ولن يذكروا أن ميزان المنافع ما بين البقاء بعيدا عن ذراع الدولة القانوني أو تحته يميل إلى أين. هو في الحقيقة يكاد يكون ضد هذه الإجراءات الإصلاحية لدمج الملكيات حيث أن هؤلاء قاطني العشش الصفيح سوف تزداد أعبائهم أضعاف مضاعفة على أعبائهم الطبيعية حيث:
أولاً، أنهم من المؤكد يدفعون رشاوي وإتاوات لجماعات لها نفوذا قويا وعلى علاقة وثيقة بالنظام الأمني وذلك لحماية مكان النوم أو الإخراج أو أكل العيش ليس إلا. الآن سوف يكون عليهم أن يدفعوا أيضا للدولة نتيجة التقنين الجديد وأيضا يستمر دفعهم من الرشاوي والإتاوات لهذه الجماعات ذات النفوذ التي هي في الأصل يعتمد عليها النظام الأمني في الدولة للسيطرة على ما جرى تسميتها بالعشوائيات، كما أن هذه الجماعات نفوذها أعلى من أجهزة الدولة المختلفة لأنها مرتبطة بمصالح اقتصادية بالنظام الاقتصادي للمخلوع الذي أعيد استنساخه بأوجه جديدة.
ثانياً، الضرر الأكبر في تقديري في أن ما سيحدث من جراء تطبيق إعادة تخصيص ودمج الملكيات غير المسجلة والأنشطة للباعة الجائلين تحت طائلة القانون سيدفع العديد من المنتفعين لعمليات إخلاء قسري لهذه العشوائيات، وهذا ما يحدث حاليا باستخدام جماعات النفوذ وذلك لغياب سيادة القانون في الأصل، كما سيدفع هؤلاء المستوحشين المعروفين باسم المستثمرين بالقيام بشراء الأراضي بعشوائية بأسعار بخسة من الدولة بحجة الاستثمار من مسئول حكومي الذي يصبح فيما بعد ما هو إلا زكائب لتجميع الأموال فيؤدي أخيرا لنهب أرض الدولة ونهب الفقراء، وفي رأيي الشخصي أن ما يسمونه مستثمرين في هذا العصر ما هم إلا عصابات ممنهجة متوحشة في الأصل هم صناعة فكر وأعمال وسياسات السيد “دي سوتو”.
ثالثاً، في عمق نموذج مشروع دي سوتو لدمج الملكية العشوائية الفردية في الاقتصاد الرسمي أغفل وعمل علي طمث حقيقة قبيحة وهي وظيفة رجال الاقتصاد والسياسة القريبين من دائرة صنع القرار وأن كلهم في الغالب لهم مصالح مرتبطة أو يعملون في شركات متعددة الجنسيات ويديرون بلدانهم لكي تحقق هذه الشركات أقصى استفاده، وهو يدعي أنه يساعدك علي النهوض ولكن في حقيقة الأمر هو يستورد ويستنفذ المادة الخام مما لديك وبسعر بخس ويصدرها لك بعد ذلك مصنعة بأغلى الأسعار وعليك قبولها، كما أنه يفرض عليك محظورات وقواعد من شأنها أن تضيق الخناق على منتجاتك المصنعة له هذا غير فوائد القروض. هذا طبعا لم يرد بأي شكل من الأشكال لا على مسامع السيسي ولا على مسامع السيد دي سوتو حيث أنهم جزء من ماكينات وأدوات تنفيذ هذه السياسة العالمية، وإذا تم الاقتراب منه يشتد البكاء والعويل لأنه يجرح الرأسمالية العالمية في الصميم ويدمي قلبها.
رابعاً، على المستوى الزراعي فإن الفلاحين الأجراء المعدمين سيتم إجلائهم تماما عن الأراضي التي يستخدومنها ويزرعونها مما يعرض نسبة كبيرة من الفلاحين المعدمين لأن يعيشوا في العراء التام لأنهم غير ملاك وغير حائزين حتى وإن كانت حيازتهم بشكل عرفي فهذه القوانين لا تعرف هذه الأشكال، مما يصب في مصلحة الملاك الحقيقيين لهذه الأراضي، كما أن محاصيل الغذاء المنتجة زراعيا من هذه الأراضي سوف تختلف سعرا وموضوعا حيث أن الجشع والاستغلال سوف يسيطر علي الفلاحين الملاك واستخدامهم للمبيدات والأسمدة سيصبح بشكل عشوائي ومتوحش.
وهناك أمثلة موجودة عالميا منها حركات العمال الريفيين المعدمين في بلدان العالم المختلفة التي قُضي عليها وما ظهر بعدها كان الشكل الاستغلالي والاحتكاري في الزراعة، والباقي منها في البرازيل تكافح وتناضل من أجل البقاء في الأراضي التي كانت أساسا مقالب للنفايات وأصبحت منتجة بدون استخدام مبيدات.
فمن الأجدر بنا بدلاً من التوجه لإعادة إنتاج نفس سياسات اقتصاد يوسف بطرس غالي والمخلوع أن تحدث حزمة هائلة من الإصلاحات القانونية والاقتصادية والسياسية بشكل جذري وإلغاء قوانين السوق الاقتصادي الحر وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة وتسجيل حقوق مستخدمي الأراضي وشاغليها ومكافحة قوانين الإخلاء، وفي اعتقادي مثل هذه الإصلاحات مرفوضة بالنسبة لواضعي السياسات والترزية، فهم في الحقيقة لن يستطيعوا الوقوف أمام قوي الإمبريالية ورأس المال العالمي وسيبقي الحال كما هو عليه: اللهث وراء القروض من مختلف الجهات المانحة وتنفيذ شروطها.
———-
المراجع: