بعد ثلاثة عقود من النمو المزدهر: الاقتصاد الصيني أمام نقطة تحول

مثّلت الخسارة في سوق البورصة، تلك الخسارة التي طرحت تريليونات الدولارات من قيمة أسهم الشركات الصينية المشاركة، جانبًا واحد من القصة. إنّ الجانب الأهم يتمثّل في أن معدل النمو الاقتصادي الآن في أدنى حدٍ له منذ 24 عامًا، ومن المتوقع له أن ينخفض أكثر.
تراجعت التجارة الخارجية بنسبة 6%، وأصبحت أسواق التصدير في حالة متدهورة، فضلا عن انخفاض الأرباح الصناعية، وتراجع قطاع الصناعات التحويلية. ويتدفق رأس المال إلى خارج البلاد، ويقل احتياطي العملات الأجنبية.
ليس الاقتصاد الصيني على وشك الانهيار، ولكن السنوات القادمة ستختلف اختلافا كبيرًا عمّا سبقها من العقود الماضية. وتعود أصول العوامل المسئولة عن التباطؤ الاقتصادي الحالي إلى العوامل التي دعمت ظهور الصين كقوةٍ اقتصاديّة عالمية.
التحول الاقتصادي
شهد الاقتصادُ الصيني أعلى معدلِ نموٍّ اقتصاديٍّ بين الدول الكبرى كلها في تاريخ الرأسمالية. فخلال 35 عامًا، ما بين عامي 1979 و2014، كان الاقتصاد ينمو بنسبة 10% في السنة الواحدة، ويزداد حجمه بمقدار الضعف كل ثماني سنوات. لقد نمى الاقتصاد الصيني عشرة أضعاف نمو الاقتصاد الأمريكي منذ عام 1980.
وترجع الأسباب للعديد من العوامل:
أولًا: يرجع ذلك إلى إلغاء نظام المزارع المشتركة في أواخر السبعينات والثمانينات. حيث ألغيت هذه المزارع واستبدلت بمزارع تمتلكها العائلات، ويباع إنتاجها لصالح السوق. وبهذا توترت الإنتاجية الزراعية، محدثةً وفرةً في إمدادات المدن بالغذاء.
ثانيًا: تقديم مشاريع القرية والمدينة (TVEs) – وهي مشاريعٌ تجارية قدّمتها مجالس البلدية في المناطق الريفية. تلك المشاريع التي ازدادت بكثرةٍ في فترة الثمانينات، حيث أنتجت العديد من منتجات الصناعة الضوئية للأسواق، وعززت إيرادات المناطق الريفية. قلّل هذا الأمرُ، لفترة، من المساواة بين المناطق الريفية والحضرية. وقد استوعبت تلك المشاريع العمالة الزائدة التي لم تعد المزارع تحتاج إليها.
كان العنصر الثالث هو إغلاق عشرات الألاف من الشركات القديمة المتوسطة الحجم، ذات الكفاءة الضعيفة، والمملوكة للدولة. كانت تقع تلك الشركات في شمال البلاد الذي كان مركزًا للصناعات الثقيلة. قضى إغلاق تلك الشركات على العديد من الأعمال التجارية الخاسرة، كما وفّر الموارد اللازمة للتصنيع في مناطق أخرى، ولكنه حول شمال البلاد إلى حزام صدئ.
تسببت الإقالة، التي تعرض لها 50 مليون عاملٍ من الذين عملوا في تلك الشركات التي تعود ملكيتها للدولة، في تقليل الأجور في المناطق التي تأثرت مباشرةً بالأمر، ووضعت حدًا للأجور في أنحاء البلاد، حيث أخذ العمال العاطلون في البحث عن العمل من جديد في محافظات أخرى. دمّرت تلك الإغلاقات الشاملة أيضًا تقاليد تضامن الطبقة العاملة – من عمال الشركات التي تمتلكها الدولة – والذين كانوا محور الاحتجاجات الحاشدة في كثير من الأحيان خلال أواخر الثمانينات، لقد بلغت تلك الاحتجاجات ذروتها في الحركة الوطنية الواسعة عام 1989، وهي الحركة المعروفة بـ “الغرب” باسم “ميدان السلام السماوي” ولكنها كانت أكثر انتشارًا وأكثر اهتمامًا بالطبقة العاملة من المعروف عنها بشكل عام.
رابعًا: افتتاح مناطق صناعية جديدة في دلتا نهر اللؤلؤ المجاور لهونج كونج وماكاو في الجنوب، وفى فوجيان بالقرب من تايوان، وحول شنغهاي التي تمثّل المركز التجاري للبلاد. وقد كان إنتاج الصناعات الجديدة التي أُنشئت في هذه المناطق يذهب بشكل شبه كامل لصالح أسواق التصدير التي تُدعم من قِبل الاستثمار الأجنبي. وقد افتتح الزعيم السابق “شياو بينغ” مناطق اقتصادية ذات أسواق حرة وضرائب مخفضة في دلتا نهر اللؤلؤ في أوائل الثمانينات. وقد تدفّقت الاستثمارات الأجنبية إلى تلك المناطق المستهدفة منذ ذلك الوقت، بواسطة الشتات الصيني في هونغ كونغ في البدء، ثم بواسطة شركات غربية يابانية وكورية بعد ذلك.
شُجّعت الاستثمارات الأجنبية، بعد عودة هونج كونج للصين عام 1997 ودخول الصين مؤسسة التجارة العالمية في 2001، باعتبار وجود فرصة من الإمداد المستمر للعمالة الرخيصة، وقد عزّز ذلك الأمر من زيادة فرصة الوصول للأسواق، ورأس المال، والخبرات الإدارية.
يمكن فهم نمو الصناعة في الصين من خلال ربطه بتأسيس سلاسل إنتاج وطنية.
أقامت الشركات التي تمتلكها هونغ كونغ وتايوان، وأشهرها فوكسكون، مصانعَ في البر الصيني الرئيسي؛ لتزويد تجار التجزئة الغربية بالملابس والأحذية والسلع البيضاء والسلع الإلكترونية وأجهزة الكمبيوتر، وغيرها من الأدوات المنزلية. إن صناعات البر الرئيس هذه تصنع المنتج من البداية إلى النهاية، في مجال التصنيع البسيط. أمّأ في حالات أخرى، مثل فوكسكون، تعمل المصانع الصينية كمصانع تجميعٍ، تُجمّع العناصر المنتجة في تايوان وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية ومناطق بعيدة مثل المكسيك.
تُجري الشركات الكبرى عملياتها الصناعية في الصين. فالمنتجون الأوروبيون والأمريكيون الكبار يُقيمون الصناعات التجميعيّة على البر الرّئيسي، سواء أكانت للسوق المحلي المزدهر أو للتصدير. فبحلول عام 2008، جاء ما يقرب من 60% من الصادرات الصينية من خلال الشركات الأجنبية المستثمرة.
تحولت الصين من كونها واحدة من أقل الاقتصادات الكبرى المتكاملة دوليًّا، حيث يمثل إجمالي التجارة 9.5% فقط من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1978، إلى الاقتصاد الأكثر تكاملًا، مع ارتفاع حصة التجارة إلى 60% بحلول عام 2013.
ضمنت الحكومة الصينية القدرةَ التنافسية المستمرة للسلع الصينية، من خلال تكرار تخفيض قيمة العملة، من 1.5 يوان مقابل الدولار الأمريكي في 1978 حتى 8.4 في عام 1990 و8.3 في عام 1994، وهو المستوى الذي قُدّم لمدة 11 عامًا. كان انخفاض قيمة العملة عاملاً آخرًا لجذب الأموال الأجنبية؛ لأنه يجعل الأصول الصينية رخيصة للمستثمرين.
مُدَّد ازدهار الصادرات عن طريق إعادة تدوير الفوائض التجارية في البلاد إلى مشتريات سندات الخزانة الأمريكية. أُبقيت أسعار الفائدة الأمريكية منخفضة، مع تصدُّر الصين كمشترٍ ثري للسندات الأمريكية، معززةً النمو في أسواق الولايات المتحدة، ومؤمنةً لأسواق الصادرات الصينية.
لم يكن الاستثمار مقتصرًا فقط على المستثمرين الأجانب. حيث إنه مازالت العديد من الشركات الصينية تمتلكها الدولة أو تسيطر عليها. إنّ الشركات المملوكة للدولة هي الشركات المهيمنة في مجالات رئيسة كالصلب والاتصالات والتعدين والطاقة والمرافق والنقل وبناء السفن. ويمثلون 30% من قيمة أصول الشركات مجتمعةً.
ليس هناك تمييزٌ صريح في الصين بين الدولة ورأس المال الخاص. أدّى برنامج الخصخصة الشامل في التسعينيات بأقسام من بيروقراطية الدولة/ الحزب إلى أن تتحول إلى رأسماليين. ظهر مديرو الشركات المملوكة للدولة مجددًا كأصحابٍ للأعمال التي كانوا يديرونها من قبل، أو كمديرين للشركات التابعة، التي كانت قد انفصلت كشركات خاصة يملكها موظفو الشركات المملوكة للدولة سابقًا. هذه السرقات كانت تتم على نطاق واسع.
يُعدّ الرأسماليون الأفراد ورأسماليو الدولة جزءًا من الطبقة الحاكمة الصينية المسيطرة. ويرحب الحزب الشيوعي بأصحاب الأعمال. وجد أحد التحقيقات أن أغنى 70 عضوًا في البرلمان الصيني، لديهم ثروة تقدربـ75 بليون دولار. وقدّرت صحيفة نيويورك تايمز، في عام 2012، أنّ عائلة رئيس الوزراء السابق ون جياباو تمتلك أصولًا تقدر قيمتها بـ 2.7 بليون دولار.
تتمتع الشركات، التي تمتلكها الدولة ورجال الأعمال الصينيين، بتأييدٍ واسعٍ من الدولة، التي توفر لهم امتياز الوصول إلى الأراضي والتمويل والمواد الخام وتراخيص التصدير. وتمهّد حكومات المقاطعات الطريق لمزيد من التوسع، فتزود المناطق الريفية بمشاريع السد الكبير، وتستولى على الأراضي من المزارعين، وتغض الطّرف عن محطات الحرق السامة، وتستخدم قوات الأمن لقمع العمال.
كانت مصادرة الحكومات المحلية للأراضي؛ لبناء الشقق السكنية ومراكز التسوق والمجمعات الصناعية، عنصرًا هامًا في التوسع الصناعي الصيني. وقد أثرى ذلك إلى حد كبير البيروقراطية المحلية، والمطورين العقاريين في جميع أنحاء البلاد. عُوِّض المزارعون بمبالغ قليلة، وأُلقي بهم في سوق العمل للتنافس مع آخرين.
إذا كانت الصادرات محركًا واحدًا للنمو، فقد كان الاستثمار محركًا آخرًا. ويمثل من 40 إلى 50٪ من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنةً بـ 20% في الاقتصادات المتقدمة.
أصبحت الشركات المملوكة للدولة الصينية تستثمر بالخارج، إذ أنها تحاول أن تضمن إمدادات موثوقة من الموارد والطاقة لتغذية مصانع الصلب ومشاريع البنية التحتية. نمت الاستثمارات سريعًا في أفريقيا الغنية بالموارد، وآسيا الوسطى، وأمريكا اللاتينية وأستراليا منذ أوائل الألفية الثانية، على الرغم من أن إجمالي مخزون الاستثمارات الصينية في الخارج مازال يقلُّ في الدول المتقدمة. كان المجهود الذي بذلته الحكومة الصينية في السنوات الأخيرة؛ من أجل استخدام وزنها الاقتصادي الكبير لوضع بلدان أخرى في التقسيم الإقليمي للعمالة، بناءً على احتياجات الصناعة الصينية، هو إشارةٌ إلى أنّ الاستثمارات في الخارج أصبحت أكثير منهجيةٍ الآن.
وتمثِّلُ الخطةُ المعروفة بـ “خطة الحزام الواحد والطريق الواحد”، التي أعلنتها الحكومة في العام الماضي، امتدادًا لهذا المشروع، باستخدام كلٍّ من وسائل النقل البحري والبري؛ لتجعل الاقتصادات المجاورة أقرب.
طبقةٌ عاملةٌ جديدةٌ
أصبح ازدهار الإنتاج الصناعي والتشييد المعماري منذ الثمانينات، ممكنًا فقط عن طريق التوسع السريع للعمل المأجور. وحينما كانت الإقالات الشاملة هي القاعدة في الشمال، وجِدت طبقةٌ عاملةٌ جديدة في الجنوب، مكونةٌ من 270 مليون عاملٍ. يأتي أغلب هؤلاء العمال من المناطق الريفية والبلدات الصغيرة في المحافظات الساحلية، ومن مزيد من المناطق الداخلية.
كان الجيل الأول من هؤلاء العمال المهاجرين الشباب صناعًا مبتدئين، وليس لهم أي تاريخ من النضال. لقد حرموا من حقوقهم الأساسية. وكان النموذجُ الماوي القديم، الذي تضمّن وظيفةً مدى الحياة، مع السكن والرعاية الصحية التي تقدمها وحدة عمل الشركات التي تمتلكها الدولة، قد استُبدل بعقود العمل قصيرة المدى. وكمهاجرين، حُرم هؤلاء العمال الجدد من حقوق المواطنة لافتقارهم إلى تصاريح الإقامة الرسمية للعيش في المدن.
أصبح العمال المهاجرون مسحوقين تحت سيطرة الدولة، وخائفين، ومدركين لكون أي انتهاكٍ لقواعد وقوانين المصنع يُمكن أن يؤديَ إلى ترحيلهم لقراهم. كانت أجورهم مخفضةً، وبقيت كذلك.
تحوّلت الصين، بالثروات المركزةِ في أيدي الرأسماليين والبيروقراطيين وقادة الجيش إلى جانب ازدهار الاتصالات التجارية الخارجية، إلى واحدةٍ من أكثر المجتمعات التي تتسم بعدم المساواة في العالم. فقد أصبح جميع أولئك المتشاركين في هذه الثروة، بما يتضمن الرأسماليين الصينيين بالخارج في آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية، متحدين في تصميمٍ على أن تسير الأمور على هذا النحو.
ساهم التجريد من الأمان الوظيفي ونظام الرعاية القديم في النمو الاقتصادي للصين. لقد شجع ذلك العمال الصينيين على ادخار نسبة كبيرة من دخلهم؛ ليتمكنوا من إعالة أنفسهم حينما يتقدم بهم العمر، أو إذا أصيبوا أثناء العمل، أو لدفع تكاليف السكن وتعليم أطفالهم.
كانت البنوك المملوكة للدولة، التي تضم كل مدخرات العمال، تدفع فائدةً أقل من معدل التضخم.
خفّضت الأجورُ المنخفضة والعائدات القليلة على المدخرات المصرفية من الاستهلاك. فقد تراجع استهلاك الأسر من نصف الناتج المحلي الإجمالي إلى الثلث فقط بين عامي 1980 و2005، وهو نصف مستوى استهلاك الأسر في الولايات المتحدة.
استخدمت بنوك الدولة كمية الائتمان الهائلة لإقراض الشركات المملوكة للدولة بمعدلات قليلة وغيرها من الشركات الكبيرة. بعبارة أخرى، لقد تقدّمت الرأسمالية الصينية ليس من خلال استغلال العمال في وحدة الإنتاج فقط، ولكن من خلال رأس المال المدعم والمستثمر، والمسروق من جيوبهم أيضًا.
الخلل الهيكلي
إنّ عدم التوازن بين المستويات غير المسبوقة من الصادرات والاستثمارات من جهة، وضعف مستويات الاستهلاك من جهة أخرى، الذي يمثّل أساس المعجزة الاقتصادية الصينية، هو ما وراء مشكلات الصين اليوم.
تشهد الصين أزمة تراكمٍ زائدٍ للسلع. ويُثقل نمو قدرتها الإنتاجية كاهلَ الأسواق المحلية وأسواق التصدير؛ من أجل استيعاب الكم المعروض من السلع. فعلى سبيل المثال، تعمل صناعةُ الصلب بنسبة 60% فقط من قدرتها. كما تعاني بعض الصناعات الأُخرى من الطاقة الفائضة كالإسمنت وألواح الزجاج والألومنيوم وبناء السفن.
يصف رئيسُ مجلس الدولة ون جياباو الاقتصادَ في عام 2007 بأنه “غير مستقرٍ وغير متوازنٍ وغير منسّقٍ وغير مستدامٍ في نهاية المطاف”. لقد أصبح الوضع أقل استقرارًا، وأقل توازنًا منذ ذلك الحين.
أدّت الأزمة المالية العالمية إلى انهيارٍ في التجارة العالمية. فقد أغلقت الآلاف من الشركات الصينية أبوابَها في النصف الأول من عام 2009، كما فُصل 20 مليون عاملٍ مهاجر في غضون أشهر. فردّت الحكومة ببرنامج تحفيز ضخم يعادل 14% من الناتج المحلي الإجمالي.
كانت نتيجة ذلك زيادةً سريعةً في الائتمان عبر الاقتصاد بأكمله، حيث أقرضت البنوكُ المملوكة للدولة المالَ لهيئات الاستثمار الحكومية المحلية. واستخدمت هذه الوكالات الأموال للشروع في برنامج هائل للمطارات والطرق والسكك الحديدية والجسور وبناء المدن الجديدة. وعلى إثْر هذا فقد أُنشأ أكثر من عشرين فرنًا جديدًا للصلب خلال عام 2013 فقط.
كان التحفيز قد نجح في دفع معدلات النمو للزيادة، ولكنه ترك آثارًا سيئة. فقد أُثقلت الجهات الحكومية المحلية الآن بالديون الهائلة تحت وطأة البنية التحتية الضعيفة حقًا.
ازدادت مديونية القطاع الخاص أيضًا حينما أخذت الشركات قروضًا كبيرةً؛ لتعزيز سعتها الإنتاجية القصوى. وقد مُوِّل جزءٌ كبيرٌ من ذلك من قِبَل القطاع المصرفي الضعيف، وهذا يعني أن المدى الفعلي للمديونية ليس واضحًا.
نمت أسواق التصدير في الغرب ببطء في السنتين أو في السنوات الثلاث الماضية، تلك الأسواق التي كانت تهدف إلى استيعاب القدرة الإنتاجية الزائدة في الصين، خلال النصف الأول من عام 2015، انخفضت صادرات الصين في الواقع بنسبة 1%. وخسرت الحكومة الصينية الرهان على أن الصادرات قد تصل بالصين مرة أخرى إلى تحقيق معدلات نمو تصل إلى 10%.
الاقتصاد الهش
وجد التوسع الكبير في الائتمان طريقه أيضًا إلى سوق العقارات، والتي بدأت تنمو بسرعة كبيرة في عام 2010. وبُنيت الملايين من الشقق انطلاقًا من المصالح المشتركة لمطوري العقارات والبيروقراطيين المحليين. فبحلول عام 2014، تحوّل بناء الشقق وتجهيزيها والمبيعات الناجمة عن ذلك إلى ما يقرب من 25% من الناتج المحلي الإجمالي. اشترى المستثمرون الأفراد من الطبقة المتوسطة، هؤلاء الذين رأوا ارتفاع سوق العقارات كوسيلةٍ لتنمية ثرواتهم، العديدَ من هذه الشقق، كانت الحكومة تبث لديهم هذا الشعور.
انفقأت فقاعة العقارات في عام 2014. فقد انخفضت الأسعار، مع وجود مئات الآلاف من الشقق الفارغة التي لم تُبع بعد. وكان الشيءُ الوحيد، الذي أبقى مطوري العقارات واقفين على أقدامهم، هو القروض الميسرة من بنوك الدولة، لأنّ الحكومة كانت قلقةً بشأن الانطباع الذي يمكن أن تسببه حالات الإفلاس الكثيرة.
بداية من منتصف عام 2014، غُمرت سوقُ الأسهم بالأموال؛ حيث بحث المستثمرون عن عائد أفضل. لقد شجعتهم الحكومة المركزية على القيام بذلك، والتي رأت ارتفاع سوق الأسهم كوسيلةٍ لتعزيز الاستهلاك المنزلي؛ لأن المستثمرين سيكونون أكثر ثقة للخروج وإنفاق الأموال كلما ارتفعت قيمة أسهمهم، ورأتها أيضًا وسيلةً للتخلص من ديون الشركات المملوكة للدولة حيث إنها من الشركات المشاركة في البورصة. كان ذلك أيضا متماشيًا مع القرار الذي اتخذه الحزب الشيوعي بأن الأسواق سوف تلعب الآن الدور “الحاسم” في توجيه الاستثمارات في الاقتصاد.
فعلت الحكومة كل ما في وسعها لفقء تلك الفقاعة. بحلول يونيو من هذا العام ارتفعت البورصة بنسبة 150%. كان سوق الأسهم منقطع تماما عن الاقتصاد الحقيقي، وعن الأرباح التي تحققها الشركات الصينية. كانت المسألة فقط مسألة وقت قبل تحطمها. محاولات الحكومة للحد من السقوط أثبتت فشلها بشكل عام.
أصبحت السلاسل المتعاقبة من الإجراءات التي اتخذتها الحكومة؛ لتحفيز عجلة الصناعة وللتحرك ولزيادة أسعار الأصول، أقلَّ فعاليةٍ في تحقيق النمو الاقتصادي. وتقزّمت قوة التدخل من الحكومة الصينية مع مرور السنين.
الصين في الاقتصاد العالمي
إنّ نجاح الصين كمُصدِّرٍ رئيسٍ جعلها أكثر عرضة لقرارات وتطورات خارج حدودها. فقد كانت صادرات الاستثمارات الأجنبية عنصرًا صغيرًا جدًا من الاقتصاد عندما بدأت الصين في التوسع خلال الثمانينات. كان للتغيرات في الاقتصاد العالمي تأثيرًا ضئيلا.
أصبحت الصين حساسةً للغاية لأي تغيرات في الاقتصاد العالمي، على عكس ما كان البارحة.
وكان ذلك واضحًا خلال الأزمة المالية العالمية، عندما تسبب انهيار أسواق التصدير في انكماش حاد في الصناعة التحويلية الصينية. يشعر المصدرون الصينيون الآن بالضغط مرة أخرى بسبب النمو المنخفض باستمرار في الاقتصاد العالمي.
الفساد والتباطؤ الاقتصادي
يُمثّل تباطؤ النمو أيضًا مشكلة للطبقة الحاكمة؛ لأنه يُهدِّد قدرة القيادة الحزبية على شراء ذمم العصبة المتنافسة في الحزب الشيوعي. قدّمت ثلاثةُ عقودٍ من النمو الأموالَ؛ لضمان أن كل قسم من الطبقة الحاكمة، على المستوى المركزي وعلى مستوى المحافظات والمقاطعات والمستويات المحلية والعسكرية والمدنية، قد حصل على قطعةٍ من الكعكة. جلب هذا حدًا للمعركة القتالية العنيفة التي احتدمت في الحزب فيما بين الخمسينيات والسبعينيات.
مثّل الفساد، الذي كان جزءًا من هذه العملية، نوعًا من أنواع تجريف الاقتصاد، وقد ولّد هذا استياءً وغضبًا شديدين تجاه مسئولي الحزب بين السكان. رأى الشعب الصيني المال يتدفق بكثرة بين مسئولي الحزب وأبناء قادته.
وردّ شي جين بينغ، الذي أصبح رئيسًا في عام 2013، بطلب إلقاء القبض على كبار مسؤولي الحزب، وقادة الأجهزة الأمنية السابقين. تهدف حملته من جهةٍ إلى سحق منافسيه، ومن جهة أُخرى إلى هزِّ القطاعات غير المنتجة في اقتصاد الدولة، ومن جهة ثالثة إلى تهدئة الغضب الجماهيري. ولكن هذا المشروع محفوفٌ بالمخاطر. ويُضعف الفشل من سلطته في نظر خصومه، مثل ازدهار سوق الأوراق المالية التي ترعاها الدولة من 2014 إلى 2015.
كان شي والقيادة الحالية قلقين بشأن تهديد الطبقة العاملة لهم، حينما اضطروا لأن يأخذوا في اعتبارهم منافسيهم في الحزب.
الأجور والعمال
إنّ الطبقة العاملة التي وجِدت الآن هي أكثر ما يهدد الرأسمالية الصينية.
لما لا يرفع الحكام الصينيون الأجور ببساطة؟ أو يوفرون نظام تأمين اجتماعي جيد؟ ويزداد بالتالي دخلُ العمالِ القابل للتصرف ويقل ميلهم للادخار، فمن شأن ذلك أن يساعد في إعادة التوازن للاقتصاد، من خلال زيادة الاستهلاك والحدِّ من التحيّز المفرط في الاقتصاد إلى الصادرات والاستثمار.
تعتمد الإجابة على السلطة الطبقية، وليس على مجرّد منظورٍ اقتصاديٍّ ضيّق.
ارتفعت الأجور الحقيقية في المحافظات الساحلية في السنوات الأخيرة، حيث بدأ يظهر العجز في العمالة تحت تأثير سياسة “الطفل الواحد”، والاستنفاد التدريجي للعمالة الفائضة في المناطق الريفية. تعرض الحكومات المحلية أيضًا أنظمة هزيلة في الضمان الاجتماعي؛ لأن الحزب الشيوعي يخشى العواقب السياسية لاستفحال عدم المساواة.
دفع احتياج الحكومة الصينية للحفاظ على معدلات عالية جدًا من استغلال القوى العاملة إلى الحد من هذه التطورات.
شجّع ارتفاع الأجور في الصين، بجانب ارتفاع قيمة العملة التي أصبحت أقوى من الدولار الأمريكي منذ عام 2005، بعض المستثمرين المحليين وبعض المستثمرين بالخارج، على نقل أعمالهم إلى البلدان الأرخص حاليًا، مثل بنغلاديش وكمبوديا، ويشكل هذا تهديدًا للحكومة الصينية، ولرغبتها في تحقيق أقصى معدل تراكم في الوطن.
إنّ من شأن الزيادات الأخرى في الأجور، أو زيادة الضرائب على الأعمال التجارية؛ لدفع الضمان الاجتماعي، أن تؤدي إلى هجرات جماعية متزايدة. كما أنّ هناك العديد من البيروقراطيين الذين لديهم استثمارات تجارية واسعة، ولذا فلديهم مصالح شخصية في إبقاء الأجور منخفضة.
لا تستطيع الرأسمالية الصينية تحمّل تكاليف ارتفاع الأجور؛ لأن الصين متخلّفة عن معايير الإنتاجية الغربية، كما أنّه من الصعب عليها أيضًا تطوير هذا النوع من الصناعات المتقدمة خارج المؤسسة العسكرية، التي قد تتنافس مع منافسين من الغرب واليابان في مجالات مربحة أكثر. لم تحقق المشاريع التي أنشئها الرأسماليون الصينيون في الخارج نجاحا كبيرًا.
يمكن زيادة الإنتاجية على المدى الطويل من خلال استثمار رأس المال فقط. إنّ مشكلة رأس المال الصيني هي أن، كما كان الحال في اليابان وكوريا الجنوبية من قبل، نسبة الآلات قد فاقت عدد العمال في الصين، وهو ما يسميه الماركسيون بزيادة التركيب العضوي لرأس المال، الأمرُ الذي سيضع مزيدًا من الضغط على معدل الربح ويقلله. انخفض معدّل الربح بالفعل منذ النصف الأول من التسعينيات، وقد قدّرت نسبة الانخفاض من 33% في الفترة ما بين 1985 و1989، إلى 26% في 2005 إلى 2009.
وصلت قدرة الرأسماليين الصينيين، والرأسمالية الغربية والهونغ كونغ، على استغلال قوة العمل الرخيصة والموجودة باستمرار، إلى أقصى حد لها. وسينخفض معدّل النمو في الصين خلال الأعوام المقبلة؛ بسبب انخفاض معدل الربح المتضائل، من خلال تقويض الحافز على الاستثمار.
هذا هو ما حدث في اليابان وكوريا الجنوبية، بعد أن كانت تتمتع ببعض العقود من النمو السريع في السبعينيات والثمانينيات على التوالي. إنّ الفرق بالنسبة للصين أن هذه العملية تحدث في الوقت الذي مازالت فيه مستويات المعيشة أقل بكثير مما كانت عليه عند نقطة مماثلة من تقدم دول أخرى، فالناتج المحلي الإجمالي الصيني للفرد لا يزال 7500 دولار فقط، اعتمادًا على تعادل القدرة الشرائية، على الرغم من أن هذا المتوسط يُخفي فوارق هائلة بين المدينة والريف والمحافظات الساحلية وتلك الداخلية.
يواجه الرأسماليون الصينيون الطبقة العاملة أيضًا، التي تكتسب الثقة لرد تلك الهجمات.
لقد أصبح الجيل الجديد من العمال المهاجرين معتادًا على الحياة في المدن الصناعية الكبرى، ولم يعد يخافها أبدًا، بخلاف آبائهم وأجدادهم الذين انتقلوا من القرى.
إن احتمالات وجود حراك اجتماعي، بالإضافة إلى ما سبق، أصبحت محدودة الآن، تلك الاحتمالات الذي جذبت الملايين من العمال المهاجرين إلى المدن في الفترة السابقة، وسمحت لأقلية منهم بارتقاء طبقات اجتماعية أعلى. أصبحت الهياكل الاجتماعية والتجارية المرنة سابقًا، في المحافظات الساحلية التي تنمو سريعًا، أكثر تحجرًا، تاركةً وراءها مساحةً أضيق للغرباء للتواجد فيها. يضطر العمال المهاجرون للقبول بأنه لو كان آباؤهم عمالًا في المصانع، فإنهم على الأرجح سيظلون عمالًا كذويهم. إذن فطريقهم الوحيد للتقدم هو أن يتحدوا.
كما تنبأ كارل ماركس منذ ما يقرب من قرنين من الزمن، فإنّ تركيز العمال بأعداد كبيرة مثل فوكسكون على سبيل المثال التي توظف 300 ألف عامل في شنتشن الواقعة في قوانغدونغ، قد خلق وعيًا ذاتيًّا جديدًا بسلطتهم. وأصبحوا يعرفون أنهم إذا أضربوا عن العمل، أو نظّموا مسيرات في الشارع، فإن لديهم القدرة على إيقاف عجلة الأرباح.
تنتشر الإضرابات، التي تركزت في البداية في مركز التصنيع في قوانغدونغ، الآن في جميع أنحاء البلاد. أصبحت الصين الآن واحدةً من مراكز الإضراب الرائدة في العالم.
لقد سُبقت نضالات الطبقة العاملة في قطاعات الإنتاج بنضالات سكان القرية؛ للتصدي للاستيلاء على أراضيهم من أجل التنمية الصناعية، وكان ذلك من خلال المعركة التي خاضها سكان القرية ضد بناء المحطات السامة في أحيائهم، فقد فقدوا أحبتهم في العديد من الكوارث التي تُميّز المجتمع الصيني اليوم، كتحطم السكك الحديدية، وانهيار المدارس، وكوارث المناجم، وغرق العبارات، والحوادث الجماعية للتسمم الغذائي. يعرف الشعب الصيني جيدا أن مسئولي الحزب ورجال الأعمال يستفيدون بشكلٍ رائع من خسائرهم وحرمانهم.
إذا كانت السلطات الصينية قد اكتسبت شهرةً خلال ثلاثة عقود من النمو، فإنّ التباطؤ في الاقتصاد الصيني حاليًّا يهدد بمحو ذلك. إنّ الشيء المميز في انهيار سوق الأسهم هو أنّه، بخلاف الاستيلاء على الأراضي، وغرق العبارات وكوارث المناجم، فإنّ هذا التغير الجديد يضع التركيز بشكل مباشر على الحكومة. وكان هذا بمثابة كشف لهوية الرئيس شي، مع ازدهار سوق الأسهم التي سوف يساهم انتهاؤها في زوال هالة القوة التي تحيط بـ “شي الكبير”.
في الوقت الذي تتطلع فيه الحكومة الصينية إلى آليات تمكنها من استعادة النمو، فإن هذا يأتي ضد مشكلات الاقتصاد العالمي الأكثر تعقيدًا، وضد توازن القوى بين الفصائل المختلفة داخل صفوفها، وأيضًا ضد رغبتها في حماية امتيازاتها الخاصة، في اقتصاد مبنيٍّ بدرجةٍ كبيرة على استغلال العمال، وحاجتها للحفاظ على شرعيتها في نظر الطبقة العاملة التي لا تهدأ.
إنّ كيفية حل التوترات الرأسمالية الصينية أمرٌ يستحيل التنبؤ به، ولكن هذا هو حجم الاقتصاد وحجم الطبقة العاملة اليوم، ولذا فإنّ التطورات المستقبلية سيكون لها تداعيات في جميع أنحاء العالم.
* المقال منشور باللغة الإنجليزية في 29 يوليو 2015 على موقع “الراية الحمراء” الأسترالي