معاناة المواطن.. أرباح لآخرين – أزمة الإسكان في مصر (الجزء الأول)

تبدأ أغلب المقالات والحوارات الصحفية والتليفزيونية التي تتناول أزمة الإسكان في مصر بديباجات مكررة عن أهمية الإسكان وكيف أنه احتياج أساسي للمواطن، ثم تستمر في تناول الأزمة في صورة معادلات رياضية خطية تقارن بين المستهدف من الوحدات السكنية والمتاح، لتصل بنا أغلب هذه المقالات إلى نتائج متشابهة تتمثل في ضرورة تدخل الدولة لحل الأزمة سواء من خلال مزيد من التسهيلات للجمعيات التعاونية والقطاع الخاص أو المزيد من القروض المالية الموجهة لمشروعات الإسكان المتوسط والشعبي. هذا طبعا بعد إلقاء اللوم على الزيادة السكنية وندرة الأرض.
تتناسى هذه المقالات إخبارنا أن سياسة الإسكان ما هي إلا انعكاس للتوجه السياسي العام للنظام الحاكم، وتنسى أيضا تفسير كيف أن بلدا مأزوم إسكانيا مثل مصر تحوي أرضه وحدات سكنية غير مُستغلة تساوي تقريبا عدد الوحدات التي ينتظرها محدودي ومعدومي الدخل.
بالتالي من المهم في هذه الأيام – أيام فصل الجماهير عن الحياة السياسية – أن نقرأ ملف الإسكان في مصر في سياقه السياسي بشكل يربط بين المطالب الاجتماعية للجماهير والسياسات الاقتصادية التي تتخذها الدولة بعيدا عن اختزال الأزمة في التعداد السكاني المتزايد ومساحات الأراضي المتناقصة لكي نتمكن من تحديد الأبعاد الحقيقية للأزمة وكشف معاناة المواطن التي قد تكون مصدرا ربحيا لطغمة رجال الأعمال والحكام.
الأزمة تتشكل وتزداد تعقيدا من نظام لآخر
انفرد القطاع الخاص قبل 1952 بتوفير الوحدات السكانية وارتبطت أسماء العقارات في الأحياء الراقية بالمدن الكبرى بأسماء كبار ملاك الأراضي الزراعية والمحال التجارية من البرجوازية المصرية؛ ومع تطور الصناعة وارتفاع معدلات الهجرة من الريف للحضر زاد الطلب على مواد البناء من ناحية وبدأت ظاهرة المساكن العشوائية المتاخمة لأحياء المدن الكبرى في الانتشار.
لتوضيح الأمور بالنسبة لظاهرة المساكن العشوائية فإن ظهورها، وإن بدأ متوافقا مع صعود الصناعة في مصر، إلا أن اتساع الظاهرة كان ولا يزال مثالا حيا حتى وقتنا هذا لكل مرة يتم إنشاء مجموعة من المصانع أو المشروعات الكبرى بالمدن على حساب إهمال الريف والجنوب.
الإحصاءات الرسمية توضح ارتفاع نسبة ساكني العشوائيات حتى صار ثلث سكان مصر تقريبا من قاطنيها. لذلك فظاهرة العشوائيات هي دائرة مستمرة، فمع ازدياد الطلب على العمالة الرخيصة غير المدربة في المصانع أو مع ضيق العيش في الريف و المدن الأفقر حيث يزداد النازحون نحو المدن الكبرى ويزداد الطلب على مزيد من المساكن الشعبية والعشوائية بكل ما تحمله من أوجاع اجتماعية وصحية.
في ديسمبر 1953 صدر القانون رقم 601 الذي أوكل للدولة، من خلال شركة التعمير والمساكن الشعبية، إقامة مشروعات للإسكان الشعبي (1)، و للإنصاف لا يمكن إنكار النجاح الذي حققته مشروعات الحقبة الناصرية في توفير المساكن لقطاع كبير من الطبقات الأفقر خاصة بالمقارنة بالفترات السابقة لناصر التي تركت محدودي الدخل لنار العرض والطلب، لكن هذا النجاح تحوَّل لعبء على كاهل النظام المدعي للاشتراكية بسبب الإصرار على تبني رأسمالية الدولة حيث تم الزج بالدولة كمقاول كبير في سوق البناء؛ وفي الوقت الذي صدرت فيه قوانين تخفيض القيمة الإيجارية للوحدات السكنية كان القطاع الخاص يحجم عن الاستثمار في مشروعات الإسكان فوجد النظام الناصري نفسه في منافسة مع القطاع الخاص بسعر اليوم في سوق البناء دون عوائد تغطي التكاليف، وبالتالي انتهى حلم المسكن الناصري المنخفض الإيجار ليتلقاه انفتاح السادات.
لم يتبق من تجربة ناصر في مجال الإسكان سوى الجهاز البيروقراطي المعني بالإسكان بتأشيراته الحكومية وتصاريح البناء الرسمية والإمضاءات النافذة المنفذة؛ هذا الجهاز الذي سرعان ما عقد الصفقات الرسمية وغير الرسمية مع حيتان الانفتاح ليبدأ عهد جديد من أزمة الإسكان لا يُرفَع فيه إلا شعار الربح؛ نعم يمكننا أن نقول دون تجني أن ناصر بتجربته أفرز لنا البيروقراطي الطامع في الصعود الطبقي باستغلال صفته الرسمية (مشروع مرتشي)، وأن السادات أطلق يد أصحاب الأموال والأعمال (راش لا يبحث سوى عن الربح) حيث التقى كلاهما في جو من الانفتاح الاقتصادي أحل كل شيء باسم حرية السوق ليعود المواطن مرة أخرى للبحث عن جحر يتسع له وأبنائه في المقابر أو العشوائيات.
أزمة الإسكان لم تأتِ أبدا محض صدفة أو نتيجة لثنائية (زيادة سكان/نقص مساحات) الساذجة أو أطروحة (غرباء من فلاحين وصعايدة أتوا لمدينتنا ليزاحمونا في مساكننا) المنحطة.
بعد أن تغير التوجه السياسي للدولة وبدأ عهد الانفتاح الاقتصادي، حرصت دولة السادات على تشجيع القطاع الخاص للقيام بدور أكبر في بناء الوحدات السكنية منخفضة ومتوسطة التكلفة (الإسكان الشعبي والإسكان الاجتماعي)؛ فقامت الدولة بإعفاء شركات القطاع الخاص من بعض الرسوم الجمركية على مواد البناء المستوردة ودعم بعض المواد محلية الصنع، إضافة لتسهيل عمليات الاقتراض الموجهة لمشروعات الإسكان حيث بلغ حجم القروض الميسرة لشركات المقاولات العاملة في مشروعات الإسكان 185 مليون جنيه في الفترة من 1977 حتى 1982. (2)
من المنطقي في ظل تبني الدولة لسياسات تشجيع القطاع الخاص أن ينطلق هذا الأخير للبحث عن الربح وتعويض ما فاته أيام رأسمالية الدولة، وهذا ما حدث بالفعل، ففي الوقت الذي دعمت فيه الدولة القطاع الخاص في مجال البناء لحل أزمة الإسكان، أحجمت شركات المقاولات عن المشاركة في مشروعات المساكن الشعبية لقلة عوائدها وتوجهت نحو بناء المساكن الفاخرة ومتوسطة التكاليف. ومن وراء رجال الأعمال، جاءت زمرة السياسيين المتواطئين التي وفقت التقارير والتوصيات في اتجاه يخدم مصالح كبار المقاولين.
وبحسب ما ذكر في دراسة عن سياسة الإسكان في مصر صادرة عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، فقد أصدر مجلس الشورى في عام 1983 تقريره عن الإسكان الذي يوصي فيه أن تتولى الدولة (من خلال شركات القطاع العام) مهمة إنشاء المساكن الشعبية وأن يتوجه القطاع الخاص بكل طاقته نحو المساكن الفاخرة ومتوسطة التكاليف، بل وأكد التقرير أن اشتراك القطاع الخاص في إنشاء المساكن الشعبية حتما سينتهي للفشل. (3)
باختصار أراد الساسة تحت قبة البرلمان أن يتحمل القطاع العام، والمواطن البسيط من ورائه، خسارة المساكن الشعبية وأن ينفرد القطاع الخاص بأرباح المساكن الفاخرة ومتوسطة التكاليف.
بالتالي شهدت فترة نهاية السبعينات والثمانينات تدهورا في أحوال شركات القطاع العام التي تورطت في مشروعات إسكان بدأت خاسرة، وبينما شهد سوق البناء ارتفاعا في عدد الوحدات السكنية المنشأة بلغ 115% إلا أن 14% فقط كان موجها للإسكان الاقتصادي الموجه للمواطن البسيط المأزوم فعليا والأشد احتياجا للمسكن. (4)
استمرت نفس سياسات دعم القطاع الخاص على حساب المواطن في عهد مبارك إلا أن شبكة المصالح ازدادت تعقيدا وفسادا وجاءت مشروعات مبارك للإسكان ومشروعات المدن الجديدة والتعاونيات كمحاولات، ليس لحل الأزمة، بقدر ما جاء معظمها للتهدئة واحتواء الجماهير كما سنوضح لاحقا في نفس المقال.
الأزمة الحالية كما يصفها المسئولون بأجهزة الدولة
قبل أن نبدأ في شرح أزمة الإسكان بشكلها الحالي من واقع تصريحات المسئولين يجب أن نوضح سريعا أن السياسات المباركية بخصوص أزمة الإسكان لم تتوقف يوما واحدا منذ 25 يناير 2011؛ كل ما أصاب سوق البناء من تغيير هو بعض الأيام من التوقف نتيجة الظروف الأمنية إضافة إلى مزيد من تغول مؤسسة الجيش الاقتصادية على حساب نصيب رجال الأعمال (في منافسة بين طرفين للبحث عن الربح) أما إذا بحثنا عن أي تغيير في مصلحة المواطن فلن نجد إلا تغييرا بنفس القدر الذي أصاب أزمات العلاج والمرور والتعليم. ليس هذا على سبيل السخرية وإنما يعود بنا إلى السؤال حول أجندة الثورة المصرية وماذا كانت تحوي وأي انحياز كان ينبغي لها أن تحمل، بمعنى آخر يعود بنا هذا إلى الثورة كفعل وكفكرة، هل هي مجرد هذا الغضب الفضفاض الذي يتشارك فيه أصحاب المال والأعمال جنبا إلى جنب مع العاملين بأجر في حب البلد المختلف تعريفا ودلالة، جملة وتفصيلا بين الطرفين، لينتهي بصب الغضب على رأس السلطة ويعود النظام وينتج نفسه من جديد بعد شهور أو سنوات، أم أن الثورة تحتاج لمزيد من المقابلة والمواجهة بين مَن لا يملك مسكنا ملائما وبين مَن يتلاعب بأزمة الإسكان ليجني المزيد من الأرباح؟
نعود لأزمة الإسكان تحديدا في السنوات الثلاثة التالية ليناير 2011؛ برغم قصر الفترات الزمنية التي يصعب معها بحث سياسة الإسكان في ظل حكم المجلس العسكري أو في حكم محمد مرسي – خصوصا وأن مشروعات البناء تستغرق من الوقت ما لا يقل عن سنة لإتمامها – إلا أن المقدمات التي رصدها الجميع في هذه السنوات الثلاثة ستصل بنا إلى نفس النتيجة المباركية لأزمة الإسكان والتي يرسمها حاليا السيسي وزملاؤه الجنرالات بمهارة مباركية أكثر سعارا على الربح.
في نوفمبر 2013 صرح إبراهيم محلب، وزير الإسكان وقتها، أن 8 مليون وحدة سكنية جديدة ستحل مشكلة الإسكان في مصر نهائيا (5)، بينما تأتي الأنباء متضاربة حول عدد الوحدات المُنشأة سنويا بين 250 ألف و400 ألف وحدة سكنية. وفي الوقت نفسه صرحت نفيسة هشام رئيسة قطاع الإسكان بوزارة الإسكان أن هناك 7.7 مليون وحدة سكنية غير مستغلة – حسب الإحصاء الأخير للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء – لأسباب تختلف بين غلق أصحابها لها لبيعها فيما بعد أو تمليكها للأبناء لاحقا أو لسفر أصحاب هذه الوحدات للخارج أو لمشكلات تتعلق بالخدمات والمرافق. (6)
لا تقف المسألة عند الفجوة بين عدد الوحدات المطلوبة وعدد الوحدات المُنشأة سنويا أو التباين بين المطلوب من الوحدات وغير المستغَل منها؛ لكن تأتي الأحياء المغلقة بالكامل لرفاهية الطبقة البرجوازية والشريحة العليا من الطبقة الوسطى لتزيد الأمور تعقيدا؛ فحجم الإنشاءات على طول الساحل الشمالي، الشبه مهجور أغلب شهور السنة، لا يناسب أبدا مشهد ساكني القبور والعشوائيات ليحمل الواقع المصري طبقية وقبحا أكثر فجاجة من ذلك المشهد العبثي الذي تنقله إلينا الإعلانات التلفزيونية في شهر رمضان بين إعلان للتبرع وآخر للتملك على شواطيء مصر المختلفة التي تضمن لك عدم الاختلاط بالمهمشين من منتظري تبرعاتك في الإعلان السابق.
أما إذا تتبعنا ثنائية (زيادة سكانية/نقص مساحات) الاختزالية في هذا الجزء فقط من المقال، سنجد أن شبكة الفساد من أعضاء الحزب الوطني وعائلاتهم لم تترك هذا الباب دون أن تقتحمه لمراكمة أرباحها، ففي مقال بجريدة الأهرام بعنوان “مافيا الأراضي تبحث عن حصانة” يسجل المقال مساحات من الأراضي المنهوبة لصالح عائلات أسماؤها مازالت مسجلة بقوائم الحزب الوطني وغالبا ما سنراها في الانتخابات البرلمانية المقبلة. بلغت مساحة الأراضي المنهوبة 40 فدان على بحيرة المنزلة مقسمة بين محافظات بورسعيد ودمياط والدقهلية و2000 فدان على الطريق الساحلي بين جمصة وبلطيم كانت جزءا من مشروع لإنشاء مدينة المنصورة الجديدة ومساحات أخرى بقرية السيالة بمحافظة دمياط تعدت 100 فدان. (7)
وفي السياق نفسه نشرت جريدة الوفد تقريرا في أكتوبر 2011 عن كشف هيئة الرقابة الإدارية لإهدار 196 مليون جنيه على الخزانة العامة في عملية بيع أكثر من 2 مليون متر مربع من أراضي الساحل الشمالي غرب الإسكندرية بالمخالفة للقانون. (8)
تتنوع هذه الأراضي بين كونها جزءا من بحيرات تم تجفيفها لتوجيهها للمشروعات السكنية وفقا لقانون أصدره وزير الزراعة السابق يوسف والي، أو مساحات مملوكة للدولة كان مقررا إقامة مدن جديدة عليها أو أراض كتلك المطلة على الساحل الشمالي التي خصصت منذ البداية لإقامة مشروعات لفئة معينة من أصحاب القوة الشرائية الفعالة والاستفادة من عوائد بيعها، لكن البلطجة المقننة والمحمية بالحصانة البرلمانية لا يفوتها أن تفسد ثنائية (زيادة سكانية/نقص مساحات) على مَن تبناها من المسئولين ليبرأ ساحته، ونحن أيضا يجب ألا يفوتنا كشف ارتباط أزمة الإسكان بالنائب البرلماني بيده المرفوعة للموافقة في البرلمان و يده الأخرى التي يضعها على أراضي جماهير انتخبته ليمثلها.
بقي لتكتمل الصورة الحالية لأزمة الإسكان أن نورد ما صدر عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء بأن مصر بها 1221 منطقة عشوائية تشكل حوالي 37% من جملة التكتلات العمرانية بمصر يسكنها أكثر من 17 مليون نسمة دون خدمات أساسية مثل مياه الشرب والصرف الصحي والكهرباء، وفي حوار لجريدة الأخبار المسائي مع ليلى إسكندر وزيرة التطوير الحضاري والعشوائيات – وزارة استحدثت مؤخرا – تقول الوزيرة أنها لا تستطيع أن تحدد متى تنتهي مشكلة العشوائيات في مصر!
يبدو أن الوزارة تم استحداثها فقط لتزيد المواطن إرباكا وتزيد الأزمة غموضا وصعوبة في الفهم. (9-11)
مراجع
1- “الإسكان منخفض التكاليف لماذا؟ و لمن؟ و إلى أين؟” – ورقة بحث مقدمة للمؤتمر الدولي للإسكان بالقاهرة – فبراير 1992.
2- “إدراك النحبة الحاكمة في مصر لقضية إسكان ذوي الدخل المنخفض” – ورقة بحث مقدمة للمؤتمر الدولي للإسكان بالقاهرة – فبراير 1992.
3- مجلس الشورى – تقرير اللجنة الخاصة عن مشكلة الإسكان في مصر – دور الانعقاد العادي الثالث – 1983.
4- مجلس الشورى – مصدر سابق.
5- حوار تليفزيوني مع إبراهيم محلب وزير الإسكان –قناة mbc مصر – نوفمبر 2013.
6- جريدة اليوم السابع – 23 / 2/ 2015.
7- جريدة الأهرام اليومي – 29/ 11 / 2014.
8- جريدة الوفد – 23/ 10/ 2011.
9- جريدة اليوم السابع نقلا عن تقرير صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء – 18/ 4/ 2009.
10- كلمة ليلى إسكندر وزيرة التطوير الحضري والعشوائيات في المنتدى العربي للمجتمعات المستدامة و الأبنية الخضراء – ديسمبر 2014.
11- حوار صحفي مع ليلى إسكندر وزيرة التطوير الحضري والعشوائيات في جريدة المساء – 6/ 8/ 2014.