معاناة المواطن.. أرباح لآخرين – أزمة الإسكان في مصر (الجزء الثاني)

في الجزء الأول من الدراسة، عرض الكاتب مصطفى عمران مراحل تعمق الأزمة الإسكانية قبل عام 1952 مرورا باللحظة الراهنة، وكيف يسوق النظام تحميل عبء إضافي على المواطنين باعتبارهم من مسببات تلك الأزمة. في هذا الجزء يناقش الكاتب الحلول الالتفافية التي تطرحها الدولة من جانبها والأكاذيب المروجة للاستيعاب الوهمي دون الحل جذريا.
حلول الدولة: محاولات فاشلة لاستيعاب الأزمة
لجأت الدولة منذ السبعينات لحلول متعددة للتأثير على أزمة الإسكان، ويعد أهم الحلول التي لجأت إليها هي إنشاء المدن الجديدة وتشجيع الحلول التعاونية من خلال تسهيلات تقدمها الدولة للجمعيات التعاونية الإسكانية.
أما بخصوص المدن الجديدة فقد بدأت نشأتها كانعكاس ومحاولة لاستيعاب الهجرة الكثيفة من الريف والجنوب إلى مدينتي القاهرة والإسكندرية، وقد تكلف إنشاء المدن الجديدة في مصر أكثر من 50 مليار جنيه منها 4.6 مليار جنيه لإنشاء وحدات سكنية و15 مليار جنيه لقطاع المرافق والخدمات وباقي المبلغ لإنشاء مصانع جديدة واستكمال مصانع أخرى تحت الإنشاء. وبينما أعلنت الدولة مرارا و تكرارا أن المدن الجديدة ستكون محاور جديدة للتنمية واستيعاب 8 مليون نسمة للخروج من أزمة الإسكان الخانقة إلا أن ما تم استيعابه بالفعل هو 800 ألف نسمة فقط.
في عام 2001 أصدر مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بحثا اختص جزءا منه بتقييم ما تم إنجازه بالفعل في المدن الجديدة بعد عقدين على بدء العمل بها، ومدى نجاح الخطة المزعومة للخروج من أزمة الإسكان بناء على معلومات رسمية بتقارير وزارة التعمير المصرية، وقد جاءت النتائج كالتالي:
– مدينة السادس من أكتوبر: المساحة الكلية 360 كيلو متر مربع منها 60 كيلومتر مربع مخصصة للإسكان تم البناء على 17.4 كيلو متر مربع منها فقط.
– مدينة العاشر من رمضان: المساحة الكلية 398 كيلو متر مربع منها 90 كيلو متر مربع مخصصة للإسكان تم البناء على 21.6 كيلو متر مربع فقط.
– مدينة 15 مايو: المساحة الكلية 27 كيلو متر مربع منها 2.8 كيلو متر مربع مخصصة للإسكان وتم إنشاء 21 ألف وحدة سكنية فقط (لا تستوعب أكثر من 100 ألف نسمة بينما الخطة المعلنة استهدفت 250 ألف نسمة).
– مدينة برج العرب: المساحة الكلية 220 كيلو متر مربع لم يتم بناء سوى 8649 وحدة سكنية فقط.
– مدينة المنيا الجديدة: المساحة الكلية 384 كيلو متر مربع لم يتم بناء سوى 500 وحدة سكنية فقط.
والفرق الذي توضحه الأرقام ليس فقط بين ما هو مخصص للإسكان وما تم إنجازه بالفعل، بل إن البحث كشف عن نسبة إشغال للوحدات السكنية المبنية لم تتعدى 40% بسبب مشكلات تتعلق بالمواصلات وعدم اكتمال الخدمات والمرافق وضعف البدائل الترفيهية.
سبب آخر لانخفاض نسبة الإشغال هو القفزة في مقدم الوحدة السكنية الذي رفعته هيئة المجتمعات العمرانية بعد أن بلغت ديون الهيئة ما يزيد عن 8.8 مليار جنيه، أو بمعنى آخر، حاولت الدولة هذه المرة – على خلاف ما حدث في الستينات وبداية السبعينات – أن تحمّل المواطن فاتورة الإسكان في المدن الجديدة فرفعت مقدم الوحدات السكنية ليفضي مشروع المدن الجديدة إلى مشروعات سكنية لم تكتمل ووحدات شاغرة ليست في متناول المواطن محدود الدخل. الطرف الوحيد الذي ربح في المدن الجديدة هي الدولة وليس ربحا بحل الأزمة، وإنما بتهدئة الرأي العام وكسب الوقت في مشروعات ما زالت قيد التنفيذ حتى الآن ولو على الورق فقط (13).
الأسلوب الآخر الذي اعتمدته الحكومة لحل – أو لتمييع – أزمة الإسكان هو التعاونيات، أو تحديدا، تشجيع الجمعيات التعاونية؛ فمن الناحية المؤسسية هناك جهازان في مصر لتولي مسئولية التعاونيات، الأول هو الهيئة العامة للتعاونيات والآخر هو الاتحاد التعاوني الإسكاني المركزي، حيث يضطلع كل منهما بالرقابة والإشراف على 1850 جمعية تعاونية تضم أكثر من 800 ألف عضو منها 155 جمعية متوقفة عن النشاط و599 أنهت مشروعاتها و754 تم حلها (14)، وإجمالي ما شيدته الجمعيات التعاونية من وحدات سكنية هو ما يقرب من 400 ألف وحدة سكنية وتوزيع 102 ألف قطعة أرض. بينما يأتي الوجه الأول لمشكلة التعاونيات على لسان رئيس الاتحاد التعاوني الإسكاني بأن الدولة لا تعطي الأرض للجمعيات بسعر مخفض، بل بسعر استثماري.
يأتي الوجه الآخر للمشكلة في اللوائح المنظمة لهذه الجمعيات التي تتيح التلاعب في انتخاب وإعادة انتخاب أعضاء مجالس الإدارة، وما يستتبع ذلك من توزيع للأراضي والوحدات السكنية بالوساطة والمحسوبية بشكل اضطر أعضاء لجنة الإسكان في مجلس الشعب عام 1998. بالتوصية بتعديل قانون تعاونيات الإسكان لإغلاق الجمعيات الوهمية المتربحة تحت ستار التعاونيات (15).
كانت المدن الجديدة والتعاونيات، ولا زالت، موّالا يتغنى به المسئولون للتملص من أزمة الإسكان، وأمام غياب بدائل حقيقية تنهي الأزمة بشكل جذري اضطر المواطن لتصديق الدولة وانتظار دوره في قوائم المستحقين. للأسف نجح التفاف الدولة حول الأزمة لعقود طويلة لا في حل المشكلة، وإنما تصديرها للمواطن على أنها مشكلته الناتجة عن نقص وعيه وتكاسله عن اقتحام آفاق جديدة في الصحراء ليساعد الحكومة التي لا تنام لحل مشكلته. ساعد في ذلك كم المقابلات التلفزيونية والمواد الفنية ومحاضرات التنمية البشرية التي حاصرت المواطن فكريا وأقنعته بأن “سنبل” نجح في إنشاء بيته ومزرعته في قلب الصحراء معتمدا فقط على نشاطه ورجاحة عقله.
الجيش في سوق البناء
لن نخوض في نشأة امبراطورية الجيش الاقتصادية وفروعها الممتدة في كافة الأنشطة الاقتصادية وما تتمتع به أنشطة الجيش الاقتصادية من امتيازات، لكن يكفي أن نشير إلى هيئات الجيش وشركاته التي تنافس في سوق الإنشاءات، مثل الشركة الوطنية للمقاولات العامة التابعة لجهاز الخدمة الوطنية والهيئة الهندسية للقوات المسلحة والهيئة القومية للإنتاج الحربي والشركة الوطنية للطرق والكباري وشركة وادي النيل التابعة لجهاز المخابرات. تعمل هذه الشركات في كافة فروع الإنشاءات ابتداء من ترميم المدارس والجامعات مرورا بإنشاء الطرق والكباري والمساكن والمستشفيات حتى إنشاء الملاعب والمنتزهات الترفيهية، وانتهاء بتطوير السيرك القومي.
قبل أن نتطرق للسياق السياسي الذي تتحرك فيه مؤسسة الجيش الاقتصادية داخل سوق بناء الوحدات السكنية يجب أن نشير إلى رداءة دولة السيسي بمسئوليها وتصريحاتهم المتضاربة ومؤتمراتهم التي يعلنون فيها عن اللاشيء الذي سيكون له عظيم الأثر على الوطن والمواطنين.
على سبيل المثال، طل علينا وزير الإسكان في مؤتمر صحفي ليقول أن تجربة نقل العواصم فشلت في العالم كله ثم يعود بعد أيام قليلة ليخبرنا أن تفاصيل إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة ستظهر في غضون أسابيع، وفي حوار صحفي لوزيرة العشوائيات ردا على حل لمشكلة العشوائيات أجابت بأن العين بصيرة واليد قصيرة، هكذا دون أرقام أو بيانات!
لكن فيمَا العجب؟ من المنطقي أن دولة على رأسها رئيس اللابرنامج يجب أن تكون دولة اللاخطة. الحقيقة أنها دولة اللاشيء سوى الربح للطبقة الحاكمة ثم الربح ثم الهدوء قليلا للتفكير في مزيد من الربح.
ليس من السهل الوصول لمعلومات موثقة عن حجم الاقتصاد الذي تتحكم به المؤسسة العسكرية المصرية، وبالتالي ليس سهلا الوصول لمعلومات دقيقة عن نسبة ما تستحوذ عليه شركات الجيش الإنشائية من عقود في مشروعات الإسكان، لكن من خلال بعض المقدمات المعلنة يمكننا أن نصل لنتائج مهمة.
أول هذه المقدمات هي ما عُرف بقانون الإسناد المباشر أو تحديدا التعديل الذي أصدره عدلي منصور رئيس الجمهورية المؤقت في سبتمبر 2013 والذي يسمح للمسئول أو الوزير المختص أن يتعاقد مباشرة مع ما يراه مناسبا من الشركات لشراء منقولات أو تلقي خدمات واستشارات أو أعمال مقاولات دون الحاجة لإجراء أي ممارسات أو مناقصات بجميع أنواعها.
أثار هذا التعديل مقاولي القطاع الخاص الذين أبدوا تخوفهم من أن يفتح القانون بابا للوساطة والمحسوبية في التعاقد بحسب ما جاء على لسان أحد أعضاء مجلس إدارة اتحاد مقاولي التشييد والبناء، وناشد الاتحاد عدلي منصور أن يعيد النظر في هذا التعديل (16)، والملاحظ أن العديد من مشروعات الإسكان في الفترة الأخيرة تم إسنادها لشركات الجيش المختلفة بموجب هذا القانون إذ لا يكاد أن تخلو محافظة إلا ولإحدى شركات الجيش مشروعا للإسكان فيها، بخلاف أن هذه المشروعات لا تغطي أزمة الإسكان إلا أنها تشترك في سمة رئيسية وهي أن شركات الجيش كمقاول رئيسي تمنح هذه المشروعات – بعد تقسيم المشروع لمراحل أو تقسيمها تخصصيا أو كميا – إلى مجموعة من مقاولي الباطن ليحصل الجيش على نسبة من أرباح المقاولة تصل إلى 20% دون مجهود يُذكر لهذه الشركات كمقاول عام سوى بعض الأعمال الإدارية والمحاسبية أكثر منها إنشائية.
جدير بالذكر أن مقاولي الباطن العاملين تحت شركات الجيش كمقاول رئيسي لهم دور هام وفعال اجتماعيا، وبخلاف اضطرارهم للعمل تحت إدارة الجيش الذي يقاسمهم الأرباح بالإسناد المباشر وبخلاف قبولهم لما يتبقى على مائدة الجيش من أرباح، فهؤلاء يساهمون اجتماعيا في الدعاية لنظام الجنرالات وتجميل صورته بين العاملين بهذه الشركات وأسرهم، وبين الجماهير عموما؛ هؤلاء هم مَن يأخذون على عاتقهم عمل اللافتات التي تحمل صورا لرئيس الجمهورية بطول العمارات التي يبنونها، وهؤلاء هم الذين تُفتح لهم أبواب المسئولين؛ فهم مقاولو الجيش الذين على صلة وثيقة باللواء “فلان” ويتلقون تعليماتهم من العميد “علان”، وهم المسئولون عن إقامة الاحتفالات بمناسبة ودون مناسبة في حب الوطن الذي يضمن لهم تراكم أرباحهم تحت جناح العسكريين. يمكننا القول أن لو كان للسيسي حزبا فهؤلاء هم أثبت كوادر هذا الحزب طالما استمرت المقاولة.
البعض الآخر من مقاولي القطاع الخاص رفض أن يقوم بدور السنيد في فيلم من بطولة مقاول رئيسي لا إمكانات له سوى بدلته العسكرية التي فتحت له كل باب مغلق؛ ففي حوار تليفزيوني أجراه حسن عبد العزيز رئيس اتحاد مقاولي التشييد والبناء صرح أن من أصل 26800 مقاول عضو بالاتحاد توقف نشاط 14 ألف مقاول (حوالي 50%)، حيث أرجع رئيس الاتحاد سبب انسحاب 50% من سوق البناء لتأخر المستحقات نظرا للأزمة المالية المزمنة التي تعاني منها الحكومة، ونسي أن يخبرنا عن سر التزامن بين هذا الانسحاب – الذي حصل تدريجيا في الفترة من 2011 حتى 2013 – وتوسع شركات الجيش في الاستحواذ على مزيد من عقود المقاولات.
وإذا ربطنا هذا بفترة حكم المجلس العسكري وتصريح لواءاته بأنهم لن يسمحوا لأي طرف كان أن يمس مصالح الجيش، سنجد أن أغلب هؤلاء المقاولين إنما فروا من منافسة غير نزيهة مع شركات الجيش أو أن تغول شركات الجيش واقتحامها لكافة أنواع المشروعات قد طرد بعضهم بالفعل من المنافسة (17).
يبقى أن نشير إلى أن أرباح الجيش من سوق البناء، وخصوصا سوق بناء الوحدات السكنية، إنما هو نقل للأموال من خانة المصروفات تحت بند الإسكان إلى الخانة الغامضة المتعلقة بالشئون المالية للمؤسسة العسكرية، حيث لا رقابة ومسائلة، ليتحمل المواطن فاتورة الإسكان وحده.
الجيش يبني بسعر السوق كأي مستثمر مصري أو أجنبي، فيما توهم الدولة مواطنيها بأنها توفر لهم السكن المدعم.
ملحوظات حول ما تطرحه الدولة من وحدات سكنية
هناك 3 ملاحظات هامة بخصوص ما تطرحه الدولة من وحدات سكنية ينبغي الإشارة لها لنحاول ربط أجزاء الصورة ببعضها، أولها هو التوزيع الجغرافي المشوه للمشروعات القومية للإسكان، وثانيها ملاحظة حول مقدم هذه الوحدات ونظم حيازتها، والملاحظة الثالثة حول التصميمات ومساحات الوحدات وملائمتها لاشتراطات الصحة والسلامة النفسية للساكنين.
– بالنسبة للتوزيع الجغرافي: بينما تحتوي القاهرة الكبرى على 27% من عدد سكان مصر فقد حازت في الفترة من 1982 حتى 2005 على ما يزيد عن 45% من الوحدات السكنية بينما انخفضت هذه النسبة بشدة في محافظات الدلتا (الدقهلية 0.6% و الغربية 0.1%). بينما تراوحت في محافظات الصعيد بين 1% – 2% من إجمالي وحدات المشروعات القومية للإسكان (وهي النسبة نفسها في محافظات القناة). هذا بالطبع تشوه في التوزيع الجغرافي للوحدات السكنية يؤكد سعي الحكومة لتهدئة الأزمة أكثر من السعي لحلها كما سبق و ذكرنا (18).
1- يعيش أكثر من ربع سكان مصر تحت خط الفقر ويتراوح الدخل الشهري للأسر الأكثر فقرا – المفترض استهدافها من مشروعات الإسكان القومية – بين 600 جنيه و800 جنيه في حين أن النسبة الأكبر من الوحدات المطروحة تُطرح بقسط شهري 160 جنيه (رقم متوسط) وبزيادة سنوية 7.5%؛ معنى ذلك أن تنفق هذه الأسر أكثر من 20% من دخلها الشهري لسداد الأقساط، ومع الزيادة السنوية – وزيادة سعر الوحدة في بعض المواقع – يصبح الأمر أكثر صعوبة، وبالفعل يتعثر الكثير من المتقدمين في سداد الأقساط ليتم إقصاؤهم بعد ذلك.
2- شرط آخر يزيد من صعوبة الحصول على وحدة سكنية وهو اشتراط ألا يقل الدخل الشهري للمتقدم للحصول على قرض التمويل العقاري عن 1200 جنيه، وأن يكون موظفا بأحد الجهات الرسمية، وهو أمر شديد الندرة بالنسبة للأسر الأكثر فقرا والتي يعولها غالبا عمال اليومية أو باعة متجولين.
يبقى أن نشير إلى الدراسة التحليلية لموازنة عام 2014/2015 الصادرة عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية والتي جاء في ملخصها أن أقل من 1% من دعم الدولة لمشروعات الإسكان يصل للشرائح الأكثر فقرا. بالطبع باقي الدعم يتوجه للشرائح المتوسطة والأعلى دخلا ليس لأن الحكومة تولي هؤلاء اهتماما أكبر بقدر ما أن هؤلاء يملكون الطلب الفعال في سوق لا يعرف سوى العرض والطلب وليس لمعدومي الدخل مكان فيه (19).
3- يمكننا أن نختصر هذه الملاحظة في أن مساحات الوحدات التي تطرحها الدولة للإسكان الشعبي والمتوسط هي 42 متر مربع للوحدة السكنية و63 متر مربع، و نماذج أخرى ذات أسعار أعلى نسبيا، ومثل هذه المساحات، قد تتعدى بأمتار قليلة، اشتراطات قوانين البناء المصرية لكن أن تتخيل أسرة مكونة من 4 أفراد تعيش في مساحة 42 متر مربع شاملة المناور والحوائط ستعرف كيف أن هذه الوحدات أغفلت تماما الملائمة النفسية والاجتماعية لساكنيها فضلا عن عدم توافر مسطحات خضراء في أغلب المشروعات وغياب الخدمات الترفيهية والمراكز الرياضية والاجتماعية، لتعود الدولة لتتسائل من خلال مثقفيها وفنانينها ونخبتها المدجنة ساكنة التجمعات الفاخرة عن فساد الذوق العام وانتشار الجريمة!
هل يمكن حل الأزمة؟
ليس المقصود من وراء هذا السؤال البحث عن حلول فنية متخصصة للأزمة لأن طرح السؤال بغرض الوصول لإجابات فنية سيؤدي بنا إلى الخروج عن السياق السياسي الذي حاول المقال الالتزام به منذ البداية، إضافة إلى كونه نوع من الإطناب غير المرغوب فيه، لكن يمكننا بإيجاز أن نقول أن تطبيقات الهندسة المعمارية والإنشائية تحمل الكثير من المخططات والبدائل الفنية في التصميمات ومواد البناء المستخدمة، ولو أُخذ رأي المتخصصين في أزمة الإسكان بموضوعية لتغيرت كثير من المآسي التي نراها في أسلوب التخطيط والمنهج المتبع لحل الأزمة.
لكن ليس هذا الغرض من السؤال إذ أن قبل النقاش المتخصص حول البدائل الفنية الممكنة لابد لنا أن نحدد الإطار الذي سيتم فيه حل الأزمة، هذه هي الإشكالية الأهم، وهذا هو السؤال الأولى بالبحث عن إجابة.. في أي إطار يمكن للأزمة أن تنتهي جذريا؟
لنناقش أولا الإطار الذي تتبناه الدولة ونأخذه إلى أبعد مما يمكن لجنرالات الحكم في مصر تخيله. هذا الإطار يمكن أن نسميه إطار العرض والطلب؛ لأن التجارب السابقة منذ الخمسينات وحتى يومنا هذا تتعامل مع الإسكان ليس كاحتياج وإنما كمشروع استثماري يدخله رجال الأعمال لجني الأرباح ويدخله المواطن بما يملك من طلب فعال لينتهي المشروع والجميع سعداء، وحتى فترة الستينات، التي أخذت الدولة على عاتقها توفير المساكن الشعبية للمواطنين، باءت بالفشل داخل نفس الإطار، إطار سعر السوق والعرض والطلب.
إذن يمكننا أن نقول أن هذا الإطار الذي لا يخرج عن قواعد اللعبة الرأسمالية بتشوهاتها ما هو إلا دوائر متصلة من المقاولات الرابحة لرجال الأعمال ومزيد من تعقد الأزمة بين مواطن محتاج لا يملك الطلب الفعال وعرض للوحدات السكنية لا يخاطب إلا مَن له قدرة على الشراء.
إذا كان استغلال الجماهير العاملة و البطالة هي مقومات رئيسية لأي نظام رأسمالي فحتما سيظل هناك طوابير من المنتظرين الحالمين بمسكن متواضع.
حتى لو فرضنا تطبيق نموذجا مثل التجربة البرازيلية المنبثقة عن مجموعة من الإصلاحات السياسية – المستبعدة في دولة السيسي والتي يكررها على مسامعنا الوزراء والمسئولون – وهذا ليس مجال مناقشتها – فإن محاور هذه التجربة الرئيسية (الجهد المشترك بين الدولة ومجموعات متطوعة، والدعم المالي لتطوير العشوائيات، والدمج المجتمعي) تبقى 3 علامات استفهام كبرى في الواقع المصري بعد تجارب التعاونيات والمدن الجديدة المأساوية التي أشرنا لها سابقا فضلا عن كون التجربة علامة استفهام كبرى في الواقع البرازيلي نفسه بعد ما رأينا من مظاهرات حاشدة تزامنت مع فعاليات بطولة كأس العالم التي أٌقيمت في البرازيل لتخبرنا بأن الوضع ليس كما يُكتب عنه في الصحف وأن دائرة العرض والطلب ما زالت هي الأكثر فعالية هناك رغم كل شيء.
إذن يمكننا الآن أن نسمي الإطار السابق إطارا برجوازيا بكل ما تلقيه الكلمة من طبقية في مستوى الوحدات المنشأة وسعي خلف الربح ونظرة لمنتظري قرض التمويل العقاري من راغبي الوحدات السكنية كمغامرات ائتمانية غير جديرة بالثقة. هذا الإطار هو ما زاد الأزمة ويزيدها كل يوم تعقيدا، ولا ترى الدولة – كهيئة إدارية منبثقة عن رجال الأعمال والجيش كمؤسسة اقتصادية – غيره إطارا لحل الأزمة أو بمعنى أدق احتوائها.
في مقابل ذلك الإطار البرجوازي يمكننا أن نؤكد أن أزمة الإسكان – وغيرها من الأزمات – لا يمكن أن تنتهي بشكل جذري إلا من خلال إطار بروليتاري؛ بمعنى إطار يفكر خارج فلك سوق البناء بأرباح المقاولين وبالوحدات السكنية ذات المساحات المحددة وفق الرتبة الطبقية. إطار يعبر عن مصالح الطبقات الأفقر في مقابل مصالح الطبقة الحاكمة ويسمح اجتماعيا قبل أن يسمح إداريا لحارس العمارة بأن يعيش في مسكن مماثل لمسكن هؤلاء من قاطني الأدوار الأعلى دون غضاضة.
إن العلاقات المادية التي تولدت من واقع النظام الرأسمالي هي من أنتجت ساكني العشوائيات وهي من أنتجت ساكني الكومباوندات؛ هي التي خلقت الأفكار التي جعلت ساكن الكومباوندات يشمئز من الآخر ساكن العشوائيات، وهي التي جعلت الأخير يقبل راغما العيش في المقابر حالما بشقة مساحتها 37 متر مربع تجود بها الطبقة الحاكمة عليه، بل ويهتف لمن أسكنوه المقابر لعلهم يُوفّـقون للاستقرار ويشرعون في مشروع جديد للإسكان احتمالا بأن تكون إحدى الوحدات ذات الأربعين مترا من نصيب أحد أبنائه!
وحتى تنتهي مشكلة الإسكان جذريا لابد لكل هذا أن ينتهي لأن الأزمة كما سبق وكررنا ليست محض صدفة أو زيادة سكانية غير واعية أو مساحات محدودة؛ الأزمة هي أزمة مجتمع تتشكل أفكاره وفق رغبات من يملكون والأزمة الحقيقية ليست أزمة بناء مستهدف وجداول زمنية، إنما هي الصراع بين مَن يملك ومَن لا يملك.
من خلال هذا الإطار البروليتاري فقط يمكن أن نفعّل كل ما تعلمه طلبة كليات الهندسة في جامعاتهم، ويمكن للمتخصصين أن يقنعونا بالبدائل المختلفة أيها أصلح لإنهاء الأزمة، لذلك ليس نوعا من الانحياز الإيدولوجي أن نقول أن حل أزمة الإسكان يكمن في الحركة الجماهيرية المنظمة الواعية بمصالحها وبطبيعة الصراع الطبقي المحتدم.
استنتاجات
1- أزمة الإسكان مثلها مثل أزمة العلاج والتعليم في مصر؛ ما هي إلا انعكاس لسياسات الدولة وإيدولوجيا حكامها.
2- لا يمكن اختزال الأزمة في بعض الأسباب السطحية كثنائية (نقص مساحات/زيادة سكان)، ولا يمكن تحليل الأزمة بدون البُعد السياسي كأهم المقدمات إذا أردنا الوصول لنتائج حقيقية تكشف سببها وكيفية إنهائها، فالصيغ الاختزالية لن تخدم إلا مندوبي الطبقة الحاكمة من الوزراء والمسئولين لتبرير الأزمة والتنصل منها. وهذه الصيغ الاختزالية ما هي إلا محاولة لتزييف وعي الجماهير بل وتحميلهم نتيجة جرائم الطبقة الحاكمة.
3- الإطار البرجوازي لحل الأزمة لم يؤدِ لإنهائها إنما أدى لتعقيد الأزمة حتى صارت وجعا مزمنا لمن لا يملك وربحا مستمر التراكم لرجال الأعمال.
4- ما طرحته الدولة من مشروعات لحل الأزمة لم يؤدِ لنتائجه المعلنة المرجوة إنما هدفت تلك المشروعات لاحتواء الأزمة وتمييعها لا لحلها.
5- نعم الدولة هي هيئة لإدارة شئون الطبقة الحاكمة تسهر على حمايتها ومراكمة أرباحها، وإن اختلف الكثيرون مع هذا التعريف فليضعوا أزمة الإسكان محل الاختبار ويخبرونا ماذا كانت النتيجة؟!
6- الطبقة الحاكمة المصرية بالغة التشوه عظيمة الجهل لم تدع بابا لطحن المواطن والتلاعب بأحلامه في مسكن متواضع إلا وفتحته على مصراعيه تارة بالقانون وتارة بالأوهام المقننة وبالالتفاف على القوانين الفاسدة؛ هذه طبقة يجري الفساد منها مجرى الدم وإصلاحها غير ممكن.
7- باختلاف الأنظمة الحاكمة – بما أطلقته على نفسها من أسماء وما رفعته كذبا من شعارات – وبتتابع التجارب الفاشلة في حل الأزمة وبمرور سنوات طويلة تولدت مجموعة من الأفكار تفضي إلى أن أزمة الإسكان هي أزمة مزمنة لا فكاك منها وأنها في الأصل نتاج كسل المواطن وعدم وعيه واعتماده الكلي على الدولة؛ هذه الأفكار ترجعنا للنقاش حول الدور الذي تلعبه الدولة في خطابها الرسمي ومن خلال فنانيها ومثقفيها في تزييف الوعي وتصدير المشكلات للجماهير.
8- تضييق المجال السياسي وإغلاق قنوات التعبير عن الرأي وما تبعه من ضعف الأحزاب وغياب المعارضة أدى لغياب البدائل المساهمة في حل الأزمة من جانب، ومن جانب آخر أدت بالمواطن لمزيد من اليأس والتخبط الذي يفضي لمزيد من دعم دولة عاجزة عن إيجاد حلول لا لشيء سوى أنه لا بديل سوى الانتظار في وجهة نظره.
9- وبناءً على كل ما سبق ليس أهم في هذه الأيام من العمل الدؤوب لتجميع أجزاء الصورة وتوضيح كيف أن حلم المواطن البسيط بمسكن متواضع قد يصطدم بمقدمة مركب تاريخي لملك سابق يعلوه ديكتاتور حالي في احتفالية بمشروع وهمي هدفه الوحيد الدعاية لنظام دموي يتربح من معاناة المواطن، بل ويحافظ على الأزمة قائمة ما دامت تنتج مزيدا من الأرباح.
إذا استطعنا تجميع أجزاء هذه الصورة يمكننا البدء في البحث عن حل جذري للأزمة في إطار بروليتاري خارج إطار الدولة؛ لذلك أول الحلول وأكثرها واقعية هو مقاومة هذه الدولة من خلال حركة جماهيرية منظمة واعية بطبيعة الصراع الطبقي.
مراجع
13- “سياسة الإسكان في مصر” – دراسة صادرة عن مركز الأهرام للدراسات السياسية و الاستراتيجية(2000).
14- جريدة الأهرام اليومي – 23/ 8/ 1999.
15- “سياسة الإسكان في مصر” دراسة مركز الأهرام- مصدر سابق.
16- جريدة البورصة – 19/ 9/ 2013.
17- حوار مع حسن عبد العزيز رئيس الاتحاد المصري لمقاولي التشييد و البناء – قناة cbc – مارس 2014.
18- “سياسة الإسكان في مصر بين استمرار سياسات الماضي و وضع سياسات عادلة للمستقبل”- دراسة صادرة عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية – ديسمبر 2014.
19- “سياسة الإسكان في مصر بين استمرار سياسات الماضي و وضع سياسات عادلة للمستقبل” – مصدر سابق.