بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

قانون التأمين الصحي الجديد: تسليع الخدمة الصحية

أصدرت وزارة الصحة في 20 ديسمبر 2015 الماضي مشروع قانون التأمين الصحي الذي تُروّج له الوزارة، ومن خلفها الحكومة والطبقة الرأسمالية الحاكمة، باعتباره هو الحل الشامل لكل مشاكل المنظومة الصحية وتدني مستوى الخدمة الصحية، بتفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص.

وبناء النظام التأميني وفقًا لمشروع القانون ظاهره الرحمة ولكن باطنه العذاب لفقراء هذا الوطن الذي يقبع 50% منهم تحت خط الفقر المدقع، وسوف نسلط الضوء فيما يلي على بعض النصوص الكارثية التي يسعى المشروع لتمريرها.

هيئات اقتصادية غير مستقلة تابعة لمجلس الوزاء (فصل التمويل عن الخدمة)
تنشأ بمقتضى القانون الجديد ثلاث هيئات (هيئة التأمين للإدارة والتمويل، وهيئة المستشفيات لتقديم الخدمة، وهيئة الجودة والرقابة)، جميعها تتبع مجلس الوزراء، وتصدر قرارات بتعيين مجالس إداراتها من رئيس مجلس الوزراء بعد ترشيح من الوزير المختص، وفقًا للمادة (4)، وبالتالي تصير الهيئات الرقابية تحت إشراف السلطة التنفيذية، مما يقيد إمكانية الرقابة على الأداء داخل الهيئات ويفتح الباب للفساد.

كما تنص المادة (2) على أن هذا النظام يُدار وفقًا لآلية فصل التمويل عن تقديم الخدمة، وبالتالي لا يجوز للهيئة تقديم الخدمة العلاجية أو الاشتراك في تقديمها. كما نصت المادة (28) على أنه يجوز لرئيس مجلس الوزراء تفويض مجالس إدارات الهيئات المذكورة في إنشاء “شركات” دون النص على نوع الشركات، مما يعد بابًا خلفيًا للخصخصة وعودة لنفس المشاريع التي قدمت سابقًا على تكوين شركة قابضة هادفة للربح عبر تقديم الخدمة الصحية، وبالتالي تحويل الخدمة الصحية إلى “سلعة”.

وما يعزز من هذا التصور ما يأتي في المادة (4) التى تنص على أن هيئة الرعاية الصحية الجديدة “هيئة اقتصادية”، ومن صلاحيات هذه الهيئة وفقًا للمادة (28) اعتماد استراتيجية استثمار أموال النظام، وبما في ذلك أهلية إنشاء شركات المساهمة وفقًا لأحكام القانون 159 لسنة 1981 بشأن شركات المساهمة، وذلك على النحو الذي تحدده اللائحة التنفيذية. هذه اللائحة، التي يضعها أيضًا مجلس الوزراء خلال 6 أشهر، وفقًا للمادة الثالثة من قرار رئيس الجمهورية بالقانون، مما يضع كل الصلاحيات في يد السلطة التنفيذية دون أدنى رقابة من أي هيئة سوى المركزي للمحاسبات وفقًا للمادة 46 الذي تقتصر وظيفته وفقًا للقانون المنظم لعمله على تقديم التقارير لمؤسسة الرئاسة، وفي الحد الأقصى تقديم البلاغات للنائب العام المعين أيضًا من رئيس الجمهورية.

معايير الجودة وتفعيل الشراكة بين القطاع العام والخاص في القطاع الصحي
تملك وزارة الصحة حوالي 490 مستشفى ما بين العام، والمركزي، والتعليمي، والتخصصي، والحميات، هذا بالإضافة إلى 411 مستشفى تكاملي، و2971 وحدة صحية على مستوى الجمهورية، و37 مستشفى تابعة للهيئة العامة للتأمين الصحي، و76 مستشفى جامعي بُنيت على مدار السنين الماضية، من عرق ودم المصريين، لتقدم حوالي 87% من الخدمة الصحية، وجميع الهيئات الحكومية الحالية لا تهدف للربح كما تنص قرارات إنشائها، ويتعاقد التأمين الصحي الحالي مع القطاع الخاص الربحى في حدود احتياجه وفقًا لتأمين صحي تجاري.

ويأتي مشروع التأمين الصحي الجديد ليعيد طرح فكرة الشراكة بين القطاع العام والخاص التي نص عليها دستور 2014، حيث ينص القانون، المادة (11)، على أن تقديم الخدمة يكون عن طريق “التعاقد” بين هيئة التمويل والإدارة السابق الإشارة إليها والخاضعة لسلطة مجلس الوزراء، وبين المستشفيات الحكومية أو الخاصة التي ستنطبق عليها “شروط الجودة” والتجاهل التام لأي نص عن حماية القطاع الحكومي والعمل على الارتقاء بمعايير الجودة في المستشفيات الحكومية الحالية، وعدم جواز إغلاقها أو بيعها أو مشاركة القطاع الخاص فيها بأية صورة من الصور، في الوقت الذي يصرِّح فيه وزير الصحة في برنامج عمرو الليثي “أن نسبة 10% فقط من المستشفيات الحكومية صالحة للاستخدام الآدمي”، وبالتالي فالمقصود بمصطلح “الجودة” في القانون هو دعم احتكار القطاع الخاص للخدمة، واحتكاره للتعاقدات، واستخدام مصطلح “معايير الجودة” كبابٍ خلفي للاستغناء عن المستشفيات الحكومية أو خصخصتها أو بيعها كأصول، بدعوى عدم تحقيقها لمعايير الجودة هذه.

وما يعزز من هذا التصور هو المادة (15) التي تنص على أن “هيئة المستشفيات والرعاية الصحية لا تشمل كل المستشفيات القائمة، بل فقط تلك المستشفيات التي سيصدر قرار مجلس الوزراء موافقة عليها وفقًا لمعايير محددة للاعتماد”، وكذلك نص المادة (10)، التي تقول أن “من حق الهيئة استبعاد مقدم الخدمة في حال ثبوت تقصيره أو إخلاله بمستوى الرعاية الطبية المتفق عليه”. والمقصود هنا أن المستشفيات الحكومية التي لن تنطبق عليها معايير الجودة، والتي تؤول ملكيتها وحقوقها للهيئة وفقًا للمادة (8)، يكون للهيئة وقتها كامل الحق في التصرف فيها كما ترى، حتى لو بيعت كأصول عقارية. وقد رأينا في السابق مثل هذا عندما قرر حاتم الجبلي، في ظل حكم مبارك، إغلاق حوالي 70 مستشفى حميات من أصل 102، وتحويلها إلى أقسام داخل المستشفيات العامة، وأيضًا غلق حوالي 450 من مستشفيات الرعاية المتكاملة، وكان بذلك يمهد لطرحها للبيع وخصخصتها، إن لم تكن ثورة يناير قد عاجلته وأطاحت به.

العصف بحقوق مقدمي الخدمة الصحية
يهدد القانون الجديد حقوق ومكتسبات مقدمي الخدمة الصحية بشكل مباشر وغير مباشر.

الشكل المباشر يتمثل في نص القانون الجديد، مادة (24)، على اعتماد الهيكل التنظيمي للهيئة واللوائح المالية والإدارية وشئون العاملين دون التقيد باللوائح والنظم المعمول بها في الهيئات العامة والحكومية في هذا الشأن. بذلك لا يوجد ضمان بالحفاظ على أي حقوق مكتسبة للأطباء والعاملين بهذه المستشفيات، مثل القانون (14) وتعديلاته والذي تدور معركة شرسة حول تطبيقه داخل التأمين الصحي بين الأطباء وإدارة الهيئة حتى تاريخه، حيث يفتح هذا القانون الباب على مصرعيه للتعاقد المؤقت مع مقدمي الخدمة، وبالتالي إلغاء التزام الدولة بتكليف الأطباء والصيادلة والتمريض.

أما الشكل غير المباشر فيمر عبر سياسات معايير الجودة التي ستمهِّد لغلق الكثير من المستشفيات الحكومية، ومن ثم خصخصتها، وبالتالي سقوط حق الأطباء العاملين بالمكان والاستغناء عنهم، وهو ما يتماشى مع تصريحات الحكومة الحالية حول التوجه العام للتخلص من نصف الجهاز الإداري للدولة تقريبًا.

أكذوبة الخدمة الطبية الشاملة
في نص القانون، الذي يُروَّج لكونه يقدم خدمة صحية شاملة، أُلغيت عبارة “كافة أنواع العلاج الطبي”، التي كانت موجودة بصياغة سابقة، مما يثير المخاوف حول احتمال عدم شمول القانون لجميع الخدمات العلاجية مستقبلًا وإعادة طرح مشروع حاتم الجبلي حول الحزم التأمينية التصاعدية.
كما أن المادة (29) تنص على أن تلتزم الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي بسداد قيمة اشتراك التأمين الصحي عن المتعطلين عن العمل المستحقين لتعويض البطالة، رغم أنه لا يوجد أي شخص في مصر يحصل فعليًا على إعانة بطالة، وبالتالي سوف تتنصل هيئة التأمين الاجتماعي من الدفع لهم، مما سيحرم قطاع العاطلين، والذي يصل في مصر وفقًا للتقديرات الحكومية إلى 12 مليون مواطن، من الحق في العلاج.

ويلغي القانون الجديد، المادة (28)، القانون رقم (23) لسنة 2012 الخاص بالتأمين الصحي على المرأة المعيلة، والقانون رقم (127) لسنة 2014 الخاص بالتأمين الصحي على الفلاحين، وكان كلاهما ينص على أن تدفع الموازنة العامة للدولة 200 جنيهًا لكل مواطن من تلك الفئتين.

كما فرض القانون الجديد على المنتفعين المساهمة في الدواء بنسبة 20% بحد أقصى 50 جنيه، والآشعات 10% بحد أقصى 200 جنيه، والتحاليل 5% بحد أقصى مائة جنيهًا، مما يضع عقبات مالية ضخمة أمام المرضى الفقراء ومن هم تحت خط الفقر.

وأخيرًا، تقتصر مسئولية الدولة في المشروع وفقًا للمادة (1) على دعم غير القادرين ممن تحددهم وزارة التضامن الاجتماعي، مما يخرج عدد هائل ممن لا يستحقون المعاش ومن لا يستطيعون الحصول عليه لعقبات بيروقراطية من تحت وظلة التأمين الصحي ويحرمهم من الحصول على الخدمة العلاجية.

تحصيل الاشتراكات والانحياز للأغنياء
تستمر قيمة حصة صاحب العمل، وفقًا للمادة (28)، والتي يدفعها عن العمال المُؤمَّنين لديه، سواء كان صاحب العمل الدولة أو القطاع الخاص، 3% من أجر العامل، رغم أن المُتعارف عليه أن حصة صاحب العمل الخاص تزيد إلى 4%.

تم استثناء بدلات السفر والانتقال، والسيارة، والملبس، والوجبة، وبدلات أعباء المعيشة في الخارج من خصم قيمة التامين في انحياز واضح للشريحة الضيقة التي تستفيد من هذه البدلات.

كما تم إقرار الضرائب على السجائر ومشتقاتها، كأحد مصادر التمويل، وإلغاء ما كان موجودًا في القانون السابق من ضرائب ورسوم على كل ملوثات البيئة والضارة بالصحة، مثل الضريبة على طن الأسمنت أو طن الحديد أو رسوم المرور على الطرق السريعة، وليس هنا مجال للحديث حول نهب الدولة لـ 8 مليار جنيه على عهدة نقابة الأطباء، هي قيمة الزيادة الأخيرة في الضرائب على السجائر، والتي كانت وفقًا لنص القرار لصالح التأمين الصحي.

وفي المقابل، تزيد قيمة اشتراك الأرامل والمستحقون للمعاش إلى 2%، بعد أن كانت 1% فقط في الصياغة السابقة. كما ترتفع قيمة اشتراك التأمين الصحي على كل طفل إلى نصف في المائة من إجمالي دخل الأب، ويُضاف عليها النسب سالفة الذكر على كل الفحوصات، كما ينص القانون على التزام الهيئة بإعادة تقييم لقيمة المساهمات والمشاركات كل 5 سنوات، مما يفتح الباب لرفع قيمة الاشتراكات في المستقبل.

لا يمكن قراءة مشروع التأمين الصحي الجديد، ومشروع قانون المستشفيات الجامعية الجديد، وغيرهما من مشاريع القوانين في قطاع الصحة وباقي القطاعات التي تمس الفقراء، بمعزل عن الوضع السياسي العام والانحيازات الاقتصادية والاجتماعية لمقدمي مشاريع هذه القوانين، ولا عن مدى عمق الأزمة التي يواجهها نظام السيسي اليوم. فالجنرال التائه، الذي يقدم نفسه كفارس الحرب علي الإرهاب بالمنطقة، يسعى تحت غطاء كثيف من الشعارات الوطنية الزائفة لتقديم نفسه لقوى الليبرالية الجديدة والرأسمالية العالمية والبنك الدولي كـ”نبي” مسلح بالمؤسسة العسكرية، قادر على تمرير سياساتها الاحتكارية وشروطها المعادية للفقراء، مُقدِّمًا كل نظم الحماية الاجتماعية والصحية والتعليم، إلخ، كقرابين على مذبحها لنيل الرضى والاعتراف الدوليين وضمان استمرار تدفق المنح والقروض لحماية نظامه الهش من السقوط.