الرأسمالية وعمالة الأطفال: الحالة المصرية

منذ أيام قليلة، انتشر على شبكات التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يعرض عددًا من المتهمين بتهريب الملابس في محافظة بورسعيد، تحاورهم مذيعة أخذت تتلذَّذ بإذلالهم مستنكرةً عدم ذهابهم للعمل في ظروفٍ أشبه بالسُخرة في شركات النظافة أو مصانع منطقة الاستثمار بالمحافظة. كان أغلب المتهمين من الأطفال.
وفي خطوةٍ مُفتَعَلة من أحد أكبر رجال الأعمال في مصر بغرض “تلميع” نفسه، عَرَضَ الملياردير نجيب ساويرس، الذي راكَمَ هو وعائلته ثرواتهم من المضاربة والفساد والاحتكار والتطبيع مع الكيان الصهيوني، تسديد غرامات الأطفال وتشغيلهم لديه.
لم تكن هذه هي المرة الأولى خلال الأشهر الأخيرة التي يثير فيها الملياردير الذي يصطنع العطف على الفقراء جدلًا واسعًا. ففي يونيو الماضي، علَّق على حسابه على موقع تويتر حول الموجة الجديدة من غلاء الأسعار، قائلًا: “طبعًا الغلاء صعب لكن اللي عايزين يصطادوا في المياه العكرة أصعب.. فنصبر معلش”، إلى آخر التغريدة.
الملياردير الذي زادت ثروته بمقدار 900 مليون دولار في عام 2016 وحده، يدعو ملايين الناس الذين يكتوون بنار الغلاء إلى “الصبر” على مذلة العيش وضيق اليد. الملياردير الذي يحتل المركز رقم 550 في تصنيف أغنى أغنياء العالم الذي تُعدُّه مجلة فوربس الأمريكية، للعام 2018، يدعو هؤلاء الملايين إلى تحمُّل جوع أبنائهم وقلة حيلتهم في وجه الغلاء المستشري لأساسيات الحياة.
المُلفِت أن نجيب ساويرس كان قد أعلن قبل ذلك بشهرٍ واحد، في مايو الماضي، لوكالة بلومبرج الأمريكية أنه حوَّل نصف ثروته إلى ذهب، بسبب “أزمة خطيرة مُحدِّقة بالعالم” -على حدِّ قوله. وتابَعَ قائلًا: “أسعار الذهب ترتفع بصورةٍ كبيرة في الآونة الأخيرة، ومن المُتوقَّع أن يصل سعر الأوقية إلى 1800 دولار، إذ يُسجِّل حاليًا أكثر قليلًا من 1300 دولار”.
الملياردير الذي يريد أن يعطي درسًا للفقراء في “الصبر” لا يعرف منه سوى الصبر على ارتفاع أسعار الذهب حتى يضاعف ثروته أضعافًا، مستفيدًا من نفس الأزمة التي تسحق الملايين من البشر وتجبرهم على مُرِّ العيش وتدفع الأطفال منهم للعمل، بل ولتعريض مستقبلهم للخطر في عملٍ مثل التهريب من أجل ملاليم يقتاتون بها.
لكن الملياردير الذي يكنز الذهب في عصر السيسي، حين كان يحاول إبراز “شهامته”، فاته أن عمالة الأطفال الذين عَرَضَ تشغيلهم هي نفسها جريمة في حقهم وفي حق المجتمع. هذا ما تتمحور حوله هذه المقالة: كيف خلقت الرأسمالية الأزمة التي تتواءم فيها عمالة الأطفال مع بطالة الكبار؟ وكيف تستفيد منها؟
نموٌ مُطرَد لعمالة الأطفال
تؤثِّر عمالة الأطفال بصورةٍ عامة على قدراتهم الصحية والجسمانية والنفسية، خاصةً أن أغلب بيئات العمل التي يشتغلون فيها -سواء في الزراعة أو في الورش أو المنشآت الصناعية الصغيرة- تكون ذات طبيعة شاقة وخطرة لا تناسب أعمارهم، علاوة على تأثير كل ذلك على فرصهم في التعليم.
عادةً ما يُصاب الأطفال العاملين في الزراعة (63% من إجمالي الأطفال العاملين)، حيث مواسم الحصاد وجني القطن والبذر وتنقية الآفات، إلخ، بأمراضٍ مثل البلهارسيا ونزول الدم مع البول، إضافةً إلى الأخطار الصحية لأعمالٍ زراعية أخرى مثل تنظيف الترع والمصارف ورش المبيدات. وفي القطاعات الحرفية، كما في المواقع الصناعية كالتعدين والتشييد والصناعات التحويلية (18.9% من الأطفال العاملين)، يتعرَّض الأطفال لأضرارٍ صحية نتيجة طبيعة العمل نفسه، حيث التعامل مع موادٍ خطرة مثل ماء النار والكيماويات في بعض الحالات. وأحيانًا ما تلحق بالأطفال أيضًا إصابات عمل يصل بعضها إلى العاهات المستديمة أو الحروق. أما عن الأضرار النفسية، فيتعرَّض معظم الأطفال العاملين لاعتداءاتٍ تشمل الإهانة والتحقير والعنف وحتى التحرش الجنسي.
يتمثَّل الخطاب السائد في التصدي لانتشار عمالة الأطفال في الوعظ الاجتماعي والديني الذي يُلقي باللائمة على الأسرة في الدفع بأطفالها إلى العمل. في حين أن تيار الفقر والتردي المعيشي والغلاء المتصاعد لمتطلَّبات الحياة الأساسية يزداد قوةً ليجرف معه ملايين الأسر التي تكافح بحثًا عن سدِّ احتياجاتها، والنظام الذي يُخطِّط السياسات الاقتصادية التقشُّفية المُتسبِّبة في كل ذلك هو المسئول في المقام الأول.
يحاول هذا الخطاب الواعظ –ضمنيًا- التضليل على سياسات النظام التي أدت إلى الانتشار الواسع لعمالة الأطفال منذ زمن رأسمالية الدولة الناصرية، حين كانت عمالة الأطفال تتركَّز بصورةٍ أساسية في الزراعة، إلى اتساع نطاق الظاهرة مع الانفتاح الاقتصادي وقت السادات وما صاحبه من تردٍ للأوضاع الاقتصادية، ثم مع سياسات “الخروج من عنق الزجاجة” في ظلِّ مبارك، ثم النيوليبرالية التي دشَّنَتها جوقة جمال مبارك. وفي السنوات الأخيرة، ازداد عدد الأطفال العاملين في الفئة العمرية من 12 إلى 17 عامًا على مستوى الجمهورية من 1.7 مليون طفل عامل في 2010 (أي 9.3% من هذه الفئة العمرية – 78% منهم ذكور، و22% إناث بمتوسط 9 ساعات عمل يوميًا) إلى 2.8 مليون طفل من نفس الفئة العمرية في 2017 (ما يمثِّل 26% من عمالة الأطفال في المنطقة العربية كاملةً –تقرير منظمة العمل الدولية، نوفمبر 2017).
رغم ضخامة النسب المذكورة، ربما تكون الأرقام غير شاملةٍ بقدرٍ كبير، إذ لا تتضمَّن الأطفال دون 12 سنة، الذين يحظر القانون رقم 137 لسنة 1981 تشغيلهم، وبالتالي لا يوجد تقدير موثوق به عن عدد الأطفال من هذه الفئة العمرية الذين يعملون خلافًا للقانون. وعلاوة على ذلك، نفس هذا القانون لا يحظر عمل من هم دون الـ12 كافةً، إذ يستثني منهم من يعملون بالزراعة بدعوى أن أعمال هذا المجال غير ضارة وأيضًا مهمة بالنسبة للاقتصاد الزراعي.
لكن، رغم ما تمثِّله عمالة الأطفال من تحدٍ كبير لحياتهم، ورغم هذه الإحصاءات المُفزِعة والنمو المطرد لهذه الظاهرة، لم يأتِ السيسي على ذكرها، أو حتى تناولها بصورةٍ عابرة، أثناء جلسة “إستراتيجية بناء الإنسان المصري” في المؤتمر السادس للشباب بجامعة القاهرة الشهر الماضي، وكأن الإنسان المصري لا يُبنى منذ طفولته، أو وكأن عمالة الأطفال لا تشكِّل خطرًا عليهم، أو بالأحرى كأنه لا يقصد من الأصل بناء الإنسان المصري “الفقير”.
لا يُذكَر أن تعرَّض الديكتاتور لذِكر هؤلاء في أيٍّ من خطاباته السابقة. ولم تنل أسر الأطفال العاملين، تلك الأسر التي تعاني من أجل تحصيل لقمة العيش، أي نصيبٍ من خطاباته سوى الدعوة إلى مزيدٍ من العمل ومزيدٍ من تحمُّل التدهور الاقتصادي وضيق المعيشة الذي يتكبَّدونه وحدهم جرَّاء أزمةٍ لم يتسبَّبوا بأيِّ قدرٍ فيها. دعوةٌ أخرى يوجِّهها السيسي عادةً للأسر الفقيرة هي الحدُّ من النسل، وكأن قضيةً مثل عمالة الأطفال تُحَلُّ بألا يأتوا إلى الدنيا من الأساس.
الرأسمالية وعمالة الأطفال.. وجهان لا ينفصلان
قضية عمالة الأطفال لا تخص مصر فحسب، بل إنها أشبه بأحد نواميس الرأسمالية التي تلازمها منذ نشأتها الأولى. بحسب تقريرٍ أصدرته منظمة العمل الدولية في اليوم العالمي لمناهضة عمالة الأطفال (12 يونيو)، فقد بلغ عدد الأطفال الذين يُستَخدَمون في العمل حول العالم، العام الجاري 2018، حوالي 218 مليون طفل، منهم 150 مليون يكابدون شروطًا صحية سيئة، ومن هؤلاء هناك 73 مليون يعملون في أشغالٍ خطرة تُهدِّد حياتهم بصورةٍ مباشرة.
الظاهرة أيضًا ليست محصورة في الدول المتأخرة، فهناك 10.7 مليون طفل يعملون في القارتين الأمريكيَّتَين، و5.5 مليون طفل عامل في أوروبا وآسيا الوسطى. هذا يعني أنه رغم اتساع الظاهرة في البلدان المتأخرة عنها في البلدان المتقدمة، فهي لا تزال ماثلةً في البلدان المتقدمة. العنصر المشترك في كلِّ هذه البلدان على السواء هو الرأسمالية، بما تتسبَّب فيه من أزماتٍ يتحمَّلها الفقراء وتزجُّ بأجيالٍ من الأطفال في سوق العمل.
منذ نشأتها، استغلَّت الرأسمالية الأطفال لامتصاص الأرباح منهم نظرًا للأجور الزهيدة التي يتقاضونها. كَتَبَ كارل ماركس في “رأس المال”: “يستخدم الرأسمالي عمالًا أقل مهارة بدلًا من العمال الماهرين، وقوةً غير ناضجة بدلًا من القوة الناضجة … ويافعين وأطفالًا بدلًا من الراشدين”.
تفصلنا أكثر من 150 سنة منذ أن كَتَبَ ماركس “رأس المال” حتى يومنا هذا. جرت في أنهار الرأسمالية مياهٌ كثيرة بالطبع. ظهرت القوانين التي تحظر عمل الطفل، والمنظمات الدولية التي تراقب أوضاع الطفولة، وما إلى ذلك. لكن رغم كل هذا، لا تزال عمالة الأطفال قائمةً حتى اليوم، سواء في المصانع والشركات الكبرى التي تجد سبيلها للتحايل على القوانين، أو في الأعمال الصغيرة والقطاعات الحرفية وغيرها. لا يزال عمل الطفل قائمًا، وبنسبٍ لا تقل كثيرًا عمَّا كانت عليه وقت ماركس وما قبله، وفي بعض الأحيان بمظاهر ليست أفضل كثيرًا هي الأخرى من عمل الصبية في مصانع الكبريت الإنجليزية التي وصفها ماركس في كتابه منذ قرن ونصف.
تخلق الرأسمالية وضعًا قهريًا من الفقر والبؤس، وتؤدي فوضى الإنتاج فيها إلى أزماتٍ تطرد الملايين إلى صفوف البطالة (13.1% من الشباب في العالم بحسب منظمة العمل الدولية)، ثم تستفيد بعد ذلك من جيوش العاطلين في الضغط على أجور العمال. ولا تقتصر استفادة أصحاب الأعمال، في المجالات والقطاعات التي تشتمل على عمالةٍ من الأطفال، على الأجور الزهيدة فحسب، بل يستفيدون كذلك من الضغط على العمال الكبار الذي يتعرَّضون لشروط مساومة أسوأ على الأجور.
إن النضال ضد الاستغلال بوجهٍ عام، وضد استغلال الأطفال في العمل، وفي المقام الأول ضد الظروف التي هيَّأت هذا الاستغلال الجشِع، هو نضالٌ أساسي في المشروع الاشتراكي. النضال من أجل مكتسباتٍ تُعزِّز من وضع الأطفال في المجتمع، والنضال ضد البطالة التي أدت بملايين الأطفال إلى براثن الاستغلال، لهو نضالٌ ضروري. لكن هذا النضال ينبغي أن يكون ممتدًا إلى الجذور التي ولَّدَت كل هذه المظالم. ينبغي أن يكون ممتدًا ضد الرأسمالية التي لن يُمحَى استغلال الأطفال في العمل إلا بالقضاء عليها.
بالعودة إلى ماركس، الذي بلوَرَ النظرية الاشتراكية العلمية، كبديلٍ ثوري عن الرأسمالية، فقد عرَّفها -باختصار- بأنها: “توفير الوسائل الاقتصادية والسياسية والثقافية للتنمية الكاملة لكل القدرات الإنسانية الكامنة في كلِّ إنسان، بهدف أن يستطيع كلُّ طفلٍ يحمل في داخله عبقرية موزارت أن يصبح موزارت”. هذه هي غاية النضال الاشتراكي الثوري لتغيير المجتمع.