سكك حديد مصر.. الطريق إلى الخصخصة مفروش بدماء الضحايا

على مدار العقدين الماضيين على الأقل، ارتبط اسم شركة “سكك حديد مصر” في أذهان المصريين بسلسلةٍ طويلة من الكوارث المؤلمة التي راح ضحيتها المئات من أبناء الطبقات المهمشة والفقيرة والكادحين. غير أنهم رغم ذلك لم يجدوا سبيلًا آخر أكثر إنسانية وأمانًا للاعتماد عليه بشكل أساسي في تنقلاتهم اليومية بين المحافظات والأقاليم، إذ استخدمها 256.7 مليون راكب خلال عام 2018 فقط بحسب الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، مما يعطينا لمحةً عن أهمية هذا المرفق وحيويته في ظل حالة الإفقار المتعمد التي يعيشها المصريون منذ الانقلاب العسكري عام 2013.
خفض الإنفاق الحكومي
نظرةٌ سريعة على الإنفاق الحكومي على الهيئة القومية للسكك الحديدية بين عامي 2010 و2019، بحسب الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، قد توحي بزيادة هذا الإنفاق بل وتضاعفه، إذ بلغ عام 2011/2010 ما يقرب من 10.9 مليار جنيه مقارنة بـ20.6 مليار جنيه في عام 2019/2018. لكن دعونا لا ننسى موجات التضخُّم الكبيرة، التي جاء آخرها مع قرار التعويم في 3 نوفمبر من عام 2016، حين تقرَّر تحرير سعر صرف الجنيه المصري مقابل العملات الأجنبية، وقد تبع ذلك انخفاضٌ في قيمة الجنيه بما يقرب من نسبة 50% أمام الدولار الأمريكي. سعر الدولار عام 2010 كان 5.62 جنيه في مقابل 17.52 في وقتنا الحالي، أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف انخفاض في قيمة الجنيه المصري. بهذا المعدل وبحسبة بسيطة كان يجب أن يزيد الإنفاق الحكومي إلى 32 مليار جنيه على الأقل ليماثل ما كان عليه عام 2010، ولكن ما حدث فعليًا هو انخفاضه إلى 20.6 مليار جنيه، بما لا يقارن بوضع الشركة الكارثي والمتزايد وأهميتها وحيويتها بالنسبة لجموع المصريين الكادحين.
حصدت قطارات “الشركة” أكثر من 650 قتيلًا في عشرة حوادث فقط هم الأكبر في تاريخها، بداية بحريق قطار العياط عام 2002، الذي بلغ فيه عدد الضحايا 373 شهيدًا، وانتهاءً باصطدام جرار بالرصيف وانفجاره في محطة مصر في قلب العاصمة القاهرة وأودى بحياة أكثر من 25 شهيدًا.
عادةً ما يُلقَى اللوم على “السائق”، ويُحمَّل المسئولية الجنائية كاملةً، وسط تحريضٍ من إعلام الدولة ومؤسساتها حول تعاطيه مخدرات أو مجرد إهماله، وعادةً أيضًا ما يُصاحب ذلك فورةٌ من الوعود تملؤها الصرامة من المسئولين كبارًا وصغارًا، في ظل غياب لمحاسبة المتسببين الفعليين في تلك الكوارث والمسئولين المباشرين عن استمرارها طوال حوالي عقدين من الزمان.
قيادات عسكرية!
على مدار سنوات طويلة، ظلَّ أغلب مَن يشغلون المناصب الأساسية في وزارة النقل والمواصلات، باختلاف الحكومات وتغييرها، من الرتب العسكرية (عقيد\عميد\لواء)، ويتقاضون رواتب باهظة تبدأ من 50 ألف جنيه وتنتهي بـ200 ألف جنيه، فضلًا عن بدل حضور الاجتماعات واللجان المختلفة، بالإضافة إلى الحوافز، حتى بلغ إجمالي الرواتب الشهرية التي يتقاضاها هؤلاء العسكريون أكثر من 50 مليون جنيه شهريًا في حين يبلغ إجمالي رواتب موظفي الوزارة جميعهم 58 مليونًا. ويشغل هؤلاء (ما يقرب من 100 جنرال) أغلب المناصب العليا الحالية بالديوان العام وبقطاعات الوزارة والهيئات والشركات التابعة لها، بل ويتحكمون تقريبًا في كامل قطاع النقل في مصر.
لم يكترث الوزراء المتعاقبون بالكوارث والحوادث التي وقعت في أثناء تولي تلك القيادات العسكرية مناصبهم، خصوصًا حوادث القطارات والطرق والسفن وانتشار الفساد في الهيئات والشركات التي يترأسها هؤلاء القيادات، ولم يهتموا بردود الأفعال الغاضبة من قبل العاملين بالوزارة، بل أعطوا تعليماتهم بإلابقاء على صلاحيات تلك القيادات.
ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بعد فاجعة محطة مصر بتصريح الديكتاتور العسكري الشهير في 2017 الذي أعلن فيه موقفه من تطوير منظومة السكك الحديدة في مصر: “لما تقولي أصرف 10 مليارات جنيه عشان أكهرب وأعمل ميكنة للسكة الحديد، العشرة مليارات لو وضعتها في البنك وأخدت عليهم 10% فائدة هايجيبولي مليار أو 2 مليار جنيه بسعر الفائدة الحالية … لما مرفق عايز أكتر من 100 مليار جنيه لرفع كفاءته في الصعيد والوجه البحري، هانسده منين، هندفع قروض كوريا وفرنسا وغيرها منين، الدولة ما تقدرش تدفع”.
بينما لم ينتبه أحد تقريبًا للتعديلات الخطيرة التي أُدخِلَت على القانون الخاص بإنشاء الهيئة القومية لسكك حديد مصر بعدها بأشهر قليلة، تحديدًا في أبريل 2018 حين صدر قانون رقم 20 لسنة 2018 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 152 لسنة 1980 بإنشاء الهيئة القومية لسكك حديد مصر، بعد إقراره من مجلس النواب.
وشمل التعديل بأنه يجوز للهيئة منح التزامات المرافق العامة للمستثمرين -سواء كانوا أشخاصاً طبيعيين أو اعتباريين- لإنشاء أو إدارة أو تشغيل أو صيانة مرافق السكك الحديدية، وذلك دون التقيُّد بأحكام القانون رقم 129 لسنة 1947 بالتزامات المرافق العامة، والقانون رقم 61 لسنة 1958 في شأن منح الامتيازات المتعلقة باستثمار موارد الثروة الطبيعية والمرافق العامة وتعديل شروط الامتياز، وقانون تنظيم المناقصات والمزايدات الصادر بالقانون رقم 89 لسنة 1998.
تفيد التعديلات التي أُدخِلَت على القانون بأنه “يجوز للهيئة في سبيل تحقيق أغراضها، وبعد موافقة وزير النقل، إنشاء شركات مساهمة بمفردها أو مع شركاء آخرين، ويجوز تداول أسهم هذه الشركات بمجرد تأسيسها، وللعاملين في الهيئة شراء نسبة لا تتجاوز 10% من أسهم تلك الشركات”.
الخصخصة: حل متوارث للحكومات
بالعودة إلى التاريخ وبدايات عملية الخصخصة، لم يكن الديكتاتور العسكري السيسي وحده صاحب تقليد بيع المرافق العامة للقطاع الخاص ورفع يد الدولة عنها، بما يخدم مصالح الشركات الاستثمارية دون منافسة، إذ تعود البدايات إلى العام 1991 في عهد الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك. وقتها، وبناءً على توجيهات صندوق النقد الدولي، وبسبب تفاقم الديون الخارجية لمصر وزيادة عجز الميزانية وارتفاع معدلات التضخم، طُبِّقَت سياسة الخصخصة وبيع شركات القطاع العام للمستثمرين.
تُشير هذه الإجراءات من الحكومات المتعاقبة إلى التزامها بشروط صندوق النقد الدولي، والتي تتلخص في خمسة محاور؛ تبدأ بتحرير سعر صرف الجنيه، وتمر برفع الدعم تدريجيًا عن المحروقات والطاقة، ثم تقليص الجهاز الإداري للدولة، وسد عجز موازنة الدولة، وأخيرًا التخلي عن شركات القطاع العام والالتجاء للخصخصة، وهو ما يحدث حاليًا.
إن لجوء الحكومات إلى الخصخصة عائد إلى عجزها عن إدارة القطاع العام، وضعف استخدام الموارد المتاحة لتقديم الخدمات، إضافةً إلى غياب آليات رادعة لحساب المسئولين المقصرين، ما يشي بأن المرفق لا يحتاج للخصخصة، بقدر حاجته إلى إدارة من الدولة تتميَّز بالكفاءة وتضع نصب عينها تقديم الخدمة للمواطن لا تحميله ثمنها، بالطبع مع القدرة على إصلاح المرفق من أجل تلافي وقوع الحوادث.
يبدو أن التبعات السلبية لعملية الخصخصة لن يغرق فيها سوى المواطن الفقير، والعمّال الذين يعتمدون بصورة كلية أو جزئية على موارد القطاع العام لتحقيق نسبة مقبولة من الضمان المجتمعي والاقتصادي لهم، أولئك ستُفلس جيوبهم بينما ستتكدس أموالهم في جيوب المستثمرين ورجال الأعمال الساعين إلى مراكمة المزيد من الأرباح على حساب الفقراء.