بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

اقتصاد

الاقتراض من أجل المزيد من الاقتراض:

مصر وصندوق النقد الدولي

قروض صندوق النقد

أيام قليلة تفصلنا عن موافقة المجلس التنفيذي لصندوق النقد نهائيًا -كما هو متوقع- على قرض قيمته 5.2 مليار دولار، بعدما توصلت الحكومة لاتفاق مبدئي “على مستوى الخبراء”.

لا نعلم شيئًا عن الاتفاق الجديد مع صندوق النقد الدولي. لكن عمومًا يمكننا قراءة وتحليل “فتات” المعلومات المتاحة حول الاتفاق الجديد في محاولة لفهم ما يعنيه اللجوء لصندوق النقد الدولي أصلًا، بعد أقل من سنة على تسلم الحكومة المصرية آخر دفعات قرض ضخم قيمته 12 مليار دولار، وبعد شهر تقريبًا من تسلم مصر قرضًا “صغيرًا” نسبيًا من الصندوق دفعة واحدة قيمته 2.77 مليار دولار.

قد يكون طرف الخيط هنا الذي يمكن التقاطه هو القرض الضخم السابق إذن، فقد يرشدنا الماضي القريب عن المستقبل القريب.

حصلت مصر على القرض المشار إليه بناء على اتفاق يعود إلى نوفمبر من عام 2016، بعد تنفيذ سلسلة من الشروط المالية بدءً من تمرير قانون الضريبة على القيمة المضافة الذي رفع ضريبة الاستهلاك من 10% إلى 14%، وتمرير قانون الخدمة المدنية الذي كبح نمو الأجور الحكومية، و”تحرير” أسعار الطاقة، وصولًا لدرّة تاج تعليمات الصندوق طبعا: “تحرير” سعر الجنيه.

وبغض النظر عن التكلفة الاجتماعية لهذه الإجراءات، فالثابت أن “قسوة” هذا الاتفاق يعود لتصنيفة كاتفاق تم عبر آلية “تسهيل الصندوق الممدد”، وهي آلية تستخدم في القروض للدول التي «تشهد اختلالات كبيرة في المدفوعات بسبب معوقات هيكلية، أو تعاني من بطء النمو وضعف جوهري في مركز ميزان المدفوعات» كما يقول الصندوق على موقعه الرسمي.

وميزان المدفوعات هو الحساب الذي يسجل قيمة المدفوعات والموارد المالية بين بلد معين والعالم الخارجي.

وسجل ميزان المدفوعات المصري في 2015/2016 -الذي سبق توقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي- عجزًا قيمته 2.8 مليار دولار تقريبًا، مقابل فائض قيمته 3.72 مليار في العام السابق، بحسب بيانات البنك المركزي.

أما الاتفاق المزمع توقيعه فيصنف كاتفاق “استعداد ائتماني” وهي آلية لمعالجة مشكلات ميزان المدفوعات الاحتمالية أو ذات الأجل القصير” وفقا لصندوق النقد الدولي، بينما جاء القرض الذي حصلت عليه مصر في نهاية إبريل كاتفاق بنظام “أداة التمويل السريع” وهي “مساعدات مالية عاجلة بمقدار محدود للبلدان الأعضاء التي تواجه موازين مدفوعاتها احتياجات ماسة ولكنها لا تحتاج إلى تنفيذ برنامج كامل” وفقا لنفس المصدر. وأداة التمويل السريع هي نظام غير مشروط بسبب طبيعته الطارئة، أما الاستعداد الائتماني، فكما يبدو من تعريف يبدو وأنه يعالج أزمات أقل وطأة من تلك التي يعالجها “تسهيل الصندوق الممدد”.

وبذلك فقد يكون من غير المتوقع أن يشمل القرض الجديد سلسلة طويلة من الشروط كالقرض السابق لسبب بسيط: هو تنفيذ مصر بالفعل لكل ما “طٌلب” منها في الجولة الأولى.

لماذا تفضل الحكومة قروض الصندوق؟
أدى توقيع إتفاق عام 2016 فعلا لتحسن وضع ميزان المدفوعات، لكن ليس عبر موارد مستدامة الطابع عبر الاستثمارات الأجنبية المباشرة كتحسن هيكلي في الصادرات أو في تراجع المدفوعات بسبب تراجع الواردات مثلًا -بسبب إحلالها بمنتجات محلية. وإنما جاء هذا التحسن في الأساس عبر تدفق القروض الخارجية و شراء الأجانب الأذون والسندات الحكومية -وهو نمط من القروض يختلف عن القروض التقليدية من الدول والمؤسسات الدولية يسمح للمؤسسات المالية والمستثمرين بشراء أوراق دين حكومية- فضلًا عن تدفق الكثير من تحويلات المصريين العاملين في الخارج عبر البنوك بعدما كانت الكثير من التحويلات تتم بأساليب غير رسمية بسبب اختلاف سعر الدولار الرسمي عن السعر في السوق الموازي.

ولأن تحسن ميزان المدفوعات جاء لأسباب غير مستدامة، فكما جاءت الموارد بسرعة فقد هربت بسرعة حين فاجئتنا جائحة “كورونا”.

فبسرعة البرق، تخلص الأجانب من السندات والأذون الحكومية وطالبوا بدولاراتهم وانخفض رصيدهم من الأذون والسندات المصرية لأكثر من النصف في شهر واحد -مارس-، كما أن تحويلات المصريين في الخارج بدورها تواجه خطر التلاشي في الوقت الذي تراجعت فيه أسعار البترول بشدة ما يهدد مصير وظائف وأجور المصريين في الخليج.

هذا التراجع الكبير في الموارد من العملة الأجنبية لا يمكن تعويضه بأي موارد داخلية، لأن العملة الصعبة هي الفيصل في تلبية المتطلبات الأكثر أهمية لاستمرار أي نظام سياسي أصلًا، وهي الوفاء بالتزامات البلاد الخارجية فيما يتعلق بسداد القروض وفوائدها فضلًا عن سداد قيمة الواردات الاستراتيجية وعلى رأسها القمح.

وبالتالي، فلابد من التوسع في الاقتراض الخارجي بسرعة في الوقت الذي تقبل فيه الكثير من الدول الفقيرة والنامية على الاقتراض الخارجي وهو ما يرفع بشدة من أسعار الفائدة، الحل إذن -من وجهة نظر الحكومة- هو اللجوء لصندوق النقد الدولي مجددًا، لأن مجرد موافقة صندوق النقد الدولي على إقراض مصر يمثل اعترافًا بجدارتها لمزيد من الاقتراض، وهو ما يشجع المستثمرين على إقراضها وهو ما حدث فعلا حين اقترضت مصر خمسة مليارات دولار بعد الإعلان عن موافقة صندوق النقد قبل شهر على إقراض مصر قرضًا “سريعًا”.

ثقة صندوق النقد الدولية تلك كهدف مرحلي ضروري لنيل ثقة المزيد من المقرضين تبدو واضحة حتى في بيان وزارة المالية التي أعلنت فيه توصل الحكومة مع خبراء الصندوق للإتفاق، إذ قال البيان إن الإعلان عن الإتفاق يؤكد “استمرار ثقة المؤسسات الدولية وخاصة صندوق النقد الدولى فى السياسات الاقتصادية بشقيها النقدى والمالى المتبعة من قبل السلطات المصرية…ويعد هذا الاتفاق والتمويل المصاحب له في هذه المرحلة أمرًا هامًا لاستمرار دعم ثقة الأسواق والمستثمرين فى قدرة وصلابة الاقتصاد المصرى”.

هذه هي فلسفة اللجوء لصندوق النقد الدولي في حقيقة الأمر: قرض يتيح لك المزيد من الاقتراض، فتتراكم عند مرحلة ما المديونيات وفوائدها، وهو ما يضطرك للمزيد من الاقتراض، كما يجعل محاولة الاقتراض بآجال أطول -أجل القرض هو موعد سداده- أمرًا حيويًا وهو ما سبق وأعلنت عنه وزارة المالية أصلًا.

هذه الفلسفة لا مكان فيها لأي جوانب تنموية متخيلة، فلم يسفر إنهاء دعم الطاقة -ضمن شروط الاتفاق السابق- عن تحرير أي موارد للإنفاق على التعليم والصحة مثلًا -كما وعد الصندوق- وإنما انتهى الأمر عمليًا إلى تراجع الانفاق على التعليم والصحة كنسبة من الناتج المحلي، وبالرغم من ارتفاع الإنفاق على الدعم النقدي -وهو برنامج يدعمه صندوق النقد الدولي ويثني عليه- إلا أن الأمر انتهى إلى ارتفاع نسبة الفقر من 27.8% عام 2015 إلى 32.5% عام 2017/2018.

فخلال الفترة الممتدة بين عام 2016/2017 وإلى منتصف 2019/2020 -وهي الفترة التي يغطيها الاتفاق السابق مع صندوق النقد الدولي- ارتفع الدين الخارجي لمصر بنسبة تتجاوز 42% ليصل إلى 112.7 مليار دولار -وهو ما تجاوز توقعات صندوق النقد الدولي في وثائق القرض المعلنة في يناير 2017، كما يظهر من الشكل التالي.

شكل 1