أزمة البيئة والمناخ: الرأسمالية والكارثة القادمة

ونحن نشهد انعقاد مؤتمر الكوب 27 في مدينة شرم الشيخ، ليس من المتوقع أن يخرج المؤتمر بقرارات ذات شأن فيما يخص التغيير المناخي، فلم تكن قرارات المؤتمرات الستة وعشرون السابقة ذات تأثير يُذكر، رغم خطورة التغيير المناخي على الكوكب وعلى مستقبل البشرية. بل أن ظروف الحرب الروسية في أوكرانيا وعودة التوتر واحتمالات التصعيد العسكري وربما النووي بين حلف الناتو وروسيا، وأيضًا الأزمة الاقتصادية العالمية التي تزداد عمقًا يوم بعد يوم بكل ما تحمله من تضخم في الأسعار وزيادات غير مسبوقة في أسعار الفائدة وانهيار قيمة عملات الكثير من بلدان الجنوب، تعني كلها أن مؤتمر شرم الشيخ لن يكون إلا مكلمة فارغة ومجرد فرصة جديدة لتأكيد هيمنة القوى الكبرى من جانب والقوى الإقليمية من جانب آخر، ومهرجان للتسول من قبل زعماء دول الجنوب بحثًا عن المساعدات والاستثمارات والقروض من الدول الغنية تحت مظلة تمويل التحول نحو مصادر الطاقة المتجددة ومواجهة الآثار المدمرة للتغيير المناخي.
وحتى فرصة التعبئة السياسية والشعبية للضغط على ملوك ورؤساء وجنرالات العالم من أجل قرارات مناخية ذات شأن ليست متاحة هذا العام، فالنظام المصري قد حول المجال العام في مصر إلى مقبرة لن يسمح فيها لأي أصوات معارضة (إلا من سيسمح لهم كجزء من ديكور المؤتمر).
سنحاول فيما يلي تناول ثلاث أسئلة رئيسية: أولًا ما هو مدى خطورة الأزمة المناخية والبيئية العالمية، وثانيًا ما هي علاقة الاقتصاد الرأسمالي بهذه الأزمة، وثالثًا كيف نواجه هذه الأزمة الوجودية.
حجم الكارثة
أكد آخر تقارير البرنامج البيئي للأمم المتحدة أن السياسات والتعهدات الحالية لحكومات العالم حتى عام 2030 ستؤدي إلى زيادة في درجة حرارة الكوكب تتجاوز 2.4 درجات مئوية خلال هذا القرن. هذا في حين أن أي زيادة تتجاوز 1.5 درجة مئوية ستؤدي إلى سلسلة من الكوارث البيئية ستنهي الحياة البشرية على الكوكب (علمًا بأن الزيادة في درجة حرارة الأرض منذ الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر وصلت إلى 1.1 درجة مئوية حتى الآن).
ستؤدي التعهدات الحالية إلى انخفاض الانبعاثات الكربونية المتوقعة في عام 2030 بنسبة 1%، في حين أن البقاء في حيز 1.5 درجة مئوية يتطلب انخفاض في الانبعاثات بنسبة 45%، وهذا أيضًا طبقًا للبرنامج البيئي للأمم المتحدة.
ومن جانب آخر فقد طرح في التقرير السادس للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيير المناخ (IPCC)، لعام 2021، خمسة سيناريوهات للتغيير المناخي خلال القرن الحالي. أفضلهم هو أن تظل الزيادة في درجات الحرارة أقل من 1.5 درجة مئوية حتى نهاية القرن (وهو بالمناسبة سيناريو يُعتبر شبه مستحيل في تقارير عام 2022). هذا السيناريو يستدعي أن يصل الانبعاث الكربوني إلى ذروته خلال الثلاث سنوات القادمة وأن تنخفض الانبعاثات الكربونية إلى الصفر قبل عام 2050.
سيتطلب ذلك، طبقًا للتقرير، إيقاف إنتاج الفحم خلال السنوات العشر القادمة في كل أنحاء العالم. وضرورة الانتقال الكامل من استخدام البترول وكل الوقود الأحفوري إلى الطاقة الهوائية والشمسية، التي لا تشكل حتى الآن في العالم بأسره سوى نسبة 7% من إجمالي الطاقة المستخدمة، في حين أن المطلوب خلال 17 عامًا فقط أن تصل النسبة إلى 100%. هذا بالطبع مستحيل ليس فقط على مستوى الكلفة، ولكن لأن البنية التحتية للطاقة مشيدة على البترول والغاز والفحم.
أما السيناريو الأسوأ، وهو سيناريو واقعي في ظل محدودية التعهدات الحالية، فهو كارثي بكل المقاييس، وهو أن تصل الزيادة في درجات الحرارة إلى 4.4 درجة مئوية بحلول نهاية القرن، وهو ما يعني من الآن وحتى ذلك الحين سلسلة من الكوارث المناخية والبيئية ستجعل استمرار بقاء البشر مستحيلًا.
ينصب الاهتمام الإعلامي والسياسي، فيما يتعلق بقضايا البيئة، على التغيير المناخي وخطورة تجاوز حاجز 1.5 درجة مئوية في حرارة الكرة الأرضية. ولكن التغيير المناخي هو واحد من عشرة حواجز كوكبية يشكل تجاوزها تهديدًا لاستمرار الحياة البشرية. كل هذه الحواجز متداخلة ومتفاعلة بالطبع ولكن من المفيد التعرف عليها لمعرفة حجم الكارثة التي نواجهها.
الحاجز الثاني هو الزيادة في حموضة المحيطات، مما يتسبب في قتل كم هائل من مكونات الحياة بها، وبالتالي يؤثر على كل الكائنات الحية لارتباطها جميعًا في عمليات تفاعل حيوي. فالمحيطات والبحار تحتل تقريبا 72% من مساحة الكرة الأرضية، وبالتالي تغيير درجة الحموضة في مياهها سيكون له تأثير كارثي على التوازن الإيكولوجي للحياة على الأرض، وعلى مختلف الدورات الغذائية والكيميائية التي تلعب المحيطات دورًا محوريًا في استمرارها.
أما الحاجز الثالث فهو انقراض الأنواع، سواء النباتية أو الحيوانية. وقد قدر تقرير للمؤسسة العالمية للحياة البرية أن النشاط البشري قد أدى الى انقراض أكثر من 680 نوع من الفقريات وآلاف الأنواع من النباتات والأسماك. والأخطر من ذلك هو توقع ذلك التقرير أن يؤدي النشاط الإنساني إلى انقراض أكثر من مليون نوع خلال القرن الحالي. هناك حيوانات وأنواع من الأسماك وشعاب تواجدت وتطورت عبر ملايين من السنين، ظهرت الحيتان على سبيل المثال منذ أكثر من 50 مليون عام ولكنها تواجه اليوم خطر الانقراض، وذلك فقط بسبب النشاط البشري!
يؤدي انقراض الأنواع إلى تجاوز الحاجز الرابع وهو فقدان التنوع البيولوجي. يعد التنوع البيولوجي بين الكائنات من أساسيات بقاء الحياة على الأرض، بمعنى أن الحياة على الأرض يحكمها ارتباط كلي بين مكوناتها، لا يوجد مكون خارج المنظومة ولا يمكن تصور جزء غير مرتبط وغير متفاعل حيويًا مع باقي الأجزاء. هذه هي الطريقة التي حدث بها التطور بشكل غير إرادي عبر ملايين السنوات، أيضًا العلاقة ما بين الكائنات الحية وغير الحية أي العالم العضوي وغير العضوي بنيت على توازن حرج جدًا، لا يحتمل أن يهتز أو يفقد أحد قوانينه، لكنه خلال العقود القليلة الماضية اهتز هذا التوازن بشكل غير مسبوق وبشكل متسارع جدًا.
تجاوز الحاجز الخامس، والذي بدأ مع التحول إلى الرأسمالية الصناعية في القرن التاسع عشر، هو قطع دورة النيتروجين والفسفور. تبدأ هذه الدورة في الأرض الزراعية، حيث تنتقل هذه المواد والتي تلعب دورًا حيويًا في الحفاظ على خصوبة الأرض، إلى المحاصيل الغذائية والتي يأكلها البشر والحيوانات. وبما أن غالبية البشر والماشية كانت تعيش قبل الثورة الصناعية في الريف على الأرض الزراعية كانت هذه المواد الحيوية تعود إلى الأرض من خلال فضلات البشر والحيونات كنوع من السماد الطبيعي الذي يعيد الخصوبة إلى الأرض. هذه هي دورة النيتروجين والفسفور.
ولكن هذه الدورة قد انقطعت مع الثورة الصناعية من جانب والتحول الرأسمالي للزراعة من الجانب الآخر. فالأرض الزراعية انتُزعت من الفلاحين وانتقل غالبية السكان من الريف إلى المدن ومن العمل في الزراعة إلى العمل في الصناعة والتجارة والخدمات كعمال أجراء. وانتُزعت بالتالي عناصر السماد الطبيعي وتحولت الفضلات البشرية من عنصر مغذي لخصوبة الأرض الزراعية إلى مصدر للتلوث البيئي في المدن. وأصبح من الضروري البحث عن مصادر أخرى للسماد. في القرن التاسع عشر بدأت الإمبراطورية البريطانية في الاستيلاء على مواد تحوي أشكال السماد الطبيعي مثل عظام وجماجم القتلى في أراضي المعارك النابليونية، لاستخراج المعادن منها واستخدامها لاسترجاع خصوبة الأرض الزراعية.
مثال آخر في بيرو، حيث استخدم الاحتلال الإنجليزي عبيدًا لجمع مخلفات الطيور المدفونة في الرمال (guano)، ونقله لإنجلترا لاستخدامه في تسميد الأرض كتعويض عن أزمة اختلال دورة النيتروجين والفسفور.
أما الحاجز الكوكبي السادس الذي يتم تجاوزه، فهو فقدان غطاء الأرض. تلعب الغابات والطمي وكل أنواع الزراعات دورًا جوهريًا في حماية الأرض وتقليل آثار التسونامي والعواصف التي تتسبب في هلاك سكان وتدمير منازلهم. الغابات الكثيفة مثلًا لا تحمي فقط الأرض والبشر من الكوارث ولكنها تحافظ أيضًا على التوازن الإيكولوجي للحياة على الأرض عمومًا، لذلك انتشرت حرائق الغابات وأصبحت الأعاصير والعواصف أكثر تأثيرًا لأن الأشكال الطبيعية الحمائية يتم تجريفها بتجريد الأرض منها، لاستخراج كل أنواع المواد الخام للصناعة، من المعادن في جوف الأرض، إلى أخشاب الغابات التي كانت تغطيها.
فقدان المياه العذبة وزيادة التصحر هما الحاجز السابع، إذ يؤدي فقدان المياه العذبة إلى انتشار التصحر واتساع رقعته على حساب الأراضي الخصبة، ولأن مصادر المياه محدودة ولأنها تعد مصدرًا للحياة والزراعة وتوليد الطاقة، فكلما ازداد استهلاك الرأسمالية لها تعرضت الحياة للخطر، وهو ما يفسر الصراعات الدائرة حول الأنهار والتي قد تصل إلى نزاعات وحروب للسيطرة على منابعها أو الاستحواذ على حصص أكبر من المياه العذبة.
أما الحاجز الثامن فيتعلق بالتلوث الكيميائي والنووي. تُعد الصناعات البتروكيميائية من أهم مصادر التلوث الهوائي والمائي والكيميائي. اللدائن (Plastic) مثال جيد جدًا للتلوث الكيميائي. كم الأدوات المستخدمة في مناحي الحياة المختلفة المصنعة من البلاستيك تفوق الخيال. الولايات المتحدة الأمريكية تنتج وحدها تريليون كيس بلاستيك سنويًا، ويشكل عالم التعبئة والتسويق الرأسمالي ما يقرب من 10% من إجمالي الناتج العالمي، ويدخل البلاستيك في غالبية الصناعات الحديثة. ويتسبب البلاستيك واستخدام أي شيء معبأ فيه أو مغلف به أمراض السرطان والتحولات الجينية، وهو ما يؤدي إلى تشوهات خلقية على مدار أجيال وأجيال. ليس فقط ذلك، فالأسماك تأكل المخلفات البلاستيكية التي تلقى في البحار، وتقتات عليه الحيوانات من النفايات، هذا غير ذرات البلاستيك المنتشرة حولنا في الجو والتي نتنفسها مع الهواء دون أن نراها كجزء من عملية تلوث كبيرة مثل عوادم السيارات ومخلفات المصانع والإشعاعات النووية، وبذلك يدخل البلاستيك إلى أجسادنا كجزء من دورة الحياة.
تلوث وأمراض خطيرة تتحرك معنا في كل وقت، نستخدمها مثلما نتنفس. ومن المفارقات أن هذا الكم الهائل من المنتجات البلاستيكية سيظل موجودًا إلى الأبد حتى لو انتهت الحياة تمامًا على الأرض، سيكون مشهدًا في غاية الغرابة: عالم يكسوه البلاستيك دون أي حياة فيه.
أما عن الكارثة المحدقة فهي التلوث النووي، ليس فقط الناتج عن الانفجارات النووية كتجارب تترك إشعاعاتها في الجو أو التي حصدت ملايين البشر في هيروشيما وناجازاكي وقامت بتشويه أجيال أخرى، والحوادث النووية الكبرى مثل تشيرنوبل (1986) وفوكوشيما (2011)، ولكن أيضًا التلوث الناتج عن مخلفات عملية إنتاج الطاقة النووية وسباق تشييد المفاعلات النووية التي أصبحت مجالا للتنافس العالمي بين الدول الكبرى وإحدى مسببات الصراعات في العالم. ستظل هذه الانبعاثات تشع لملايين السنين، وحتى طرق التخلص منها تأتي عبر دفنها في باطن الأرض في دول العالم الثالث، مما يساعد على تدمير إيكولوجيا الأرض.
الحاجز التاسع، وهو ربما الحاجز الوحيد الذي تمكنت البشرية من تأجيل تجاوزه هو تآكل طبقة الأوزون وما كان يمثله من مخاطر إشعاعية. يعتبر تراجع تآكل طبقة الأوزون هو النموذج الوحيد لنجاح اتفاقية دولية في مواجهة خطر بيئي.
أما الحاجز العاشر التي تتجاوزه اليوم البشرية يتعلق بالأوبئة، مع التوسع الرأسمالي، ومع حركة البشر إلى مناطق لم يكن للإنسان أي تفاعل معها من قبل (غابات، وحيوانات، وطيور، وسلالات وأنواع لم يسبق لنا التعامل معها). أدى ذلك إلى ظهور أوبئة وانتشارها بشكل غير مسبوق (فيروس كوفيد 19 مثلًا يعتبر مجرد النموذج الأول من سلسلة جديدة من الفيروسات القاتلة).
إذًا نحن بالفعل أمام حالة طوارئ تخص كوكب الأرض كله. ويعتبر الكثير من علماء الإيكولوجيا أننا دخلنا في عصر الأنثروبوسين منذ منتصف القرن العشرين (مع انتشار الصناعات البتروكيماوية والبلاستيك والتفجيرات النووية)، حيث أصبح النشاط الإنساني هو المصدر الرئيسي للتغييرات البيئية والمناخية. ونحن الآن قد وصلنا إلى مفترق طرق، وبدأ بالفعل انتقام الطبيعة بالفيضانات والحرائق والأوبئة. كيف وصلنا إلى هنا وكيف تتصالح البشرية من جديد مع الطبيعة؟
الرأسمالية والكارثة البيئية
اتهم الكثير من نشطاء البيئة كارل ماركس بأنه مدافع عن التصنيع والتقدم الرأسمالي وعن تطويع الإنسان للطبيعة وإخضاعها من خلال التكنولوجيا، وأن الاشتراكية التي كان يدافع عنها عليها أن تأخذ ما وصل إليه التصنيع الرأسمالي وتصل به إلى عالم يتحكم فيه الوعي البشري بشكل كامل. وبالطبع ساعد على تثبيت تلك الصورة التجربة السوفييتية في الصناعة والتي بُنيت بالكامل على جثث الفلاحين الروس وعلى مجاعات وكوارث بيئية ضخمة.
ولكن رؤية ماركس للعلاقة بين البشرية والطبيعة ولتأثير التصنيع والتراكم الرأسمالي على البيئة كانت تتناقض كثيرًا مع تلك الصورة. حتى في كتاباته الفلسفية المبكرة مثل مخطوطات 1844 نجد تصورًا للصدع الذي تخلقه الرأسمالية بين البشر والطبيعة، فالإنسان في الرأسمالية يُنتزع من الأرض، من أدوات الإنتاج، من الطبيعة التي يشكل جزءًا منها، وقتها تصبح الطبيعة خارجه لا ينتمي لها ولا تنتمي إليه فيغترب تمامًا عنها.
والحل في نفس تلك المخطوطات هو ضرورة عودة التناغم بين الإنسانية والطبيعة، كعنصر أصيل لقيام مجتمع شيوعي، فما يميز الإنسان عن باقي عناصر الطبيعة هو تفاعله معها بشكل واع، ولكنه في نفس الوقت هو مجرد جزء منها، ولا يمكنه خلق أي مستقبل خارجها أو ضد قوانينها.
تأثر ماركس بالطبع بعلماء زمنه، مثلا، هناك عالم ألماني يدعى جوستوس ليبيك (1803-1873) يعد الأب الشرعي للكيمياء العضوية، وأول من استخدم كلمة (إيكولوجي) فاصلًا بذلك علم البيئة عن علم دراسة الكرة الأرضية (جيولوجي)، ومن أعماله كتاب “الكيمياء الزراعية”، تحدث فيه عن خصوبة الأرض ودورة النيتروجين والفسفور وكيف تحل الرأسمالية النقص الحاصل فيهما، كان ليبيك صديقا لماركس وقارئًا جيدًا لكتابه “رأس المال”.
في المجلد الأول من “رأس المال”، يقول ماركس صراحة إن التطور الرأسمالي وانتشار الرأسمالية بالزراعة أو انتقال الرأسمالية للزراعة سيدمر مصدريّ الثروة: الأرض والإنسان، سيدمر الإنسان صحيًا ونفسيًا بسبب التمادي في استغلاله، وسيدمر الأرض بإفقادها خصوبتها. هناك جانب آخر تحدث عنه ماركس بصدد تأثير التطور الرأسمالي هو الاستعمار، مثلًا حولت إنجلترا أيرلندا لمزرعة لتربية المواشي لتغذية الصناعات والمدن البريطانية، موضحًا أن تحويل مناطق شاسعة من الأرض لزراعة محصول واحد سيدمر الدورة الإيكولوجية، ليس ذلك فقط بل سيؤثر على الفلاحين بوصفهم مرتبطين بالأرض وكجزء منها، فبدلًا من أن ينتجوا احتياجاتهم من الزراعة متنوعة المحاصيل يتحول اعتمادهم الكامل على السوق لتلبيتها، كانت نتيجة هذا التحول أن شهدت أيرلندا مجاعات كبرى بسبب نقص المحاصيل الأساسية للحياة. تحولت مصر والهند أيضًا في ظل الاحتلال الإنجليزي إلى مزرعة ضخمة من القطن، وانتُزعت الأراضي من الفلاحين لخدمة ذلك التحول بسبب عائد أرباحه الكبيرة، خصوصًا بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية و”زوال” العبودية في الجنوب الأمريكي.
الرأسمالية إذًا تنزع الفلاحين من الأرض وتفصلهم عن الدورات الإيكولوجية الطبيعية التي كانوا جزءًا منها في الأنماط السابقة للرأسمالية، وبالتالي تتسبب في خلق ما وصفه ماركس بالصدع التفاعلي (Metabolic rift) بين الإنسانية والطبيعة.
الرأسمالية الصناعية تتركز في المدن، أو بالأصح، تتحول مناطق تركز الصناعية الرأسمالية إلى مدن. وينتج عن ذلك أكبر نزوح إنساني من الريف إلى المدينة في تاريخ البشري. ويتسبب التركيز السريع للسكان في المدن في كوارث بيئية وصفها فريدريك إنجلز في كتابه “حال الطبقة العاملة في إنجلترا”. كتب إنجلز عن تلوث الهواء والماء في المناطق السكنية العمالية، وانتشار الأمراض والأوبئة وأزمة المجاري في مدينة لندن في منتصف القرن التاسع عشر.
ومن الجانب الآخر يؤدي طرد الفلاحين من الأرض ونزوحهم إلى المدن، وتركيز الأراضي الزراعية في أيدي كبار ملاك الأرض والتحول من الزراعة التقليدية إلى الزراعة أحادية المحصول، وتحويل تربية المواشي إلى صناعة رأسمالية مميكنة، إلى تغيير البيئة الزراعية لمناطق شاسعة من العالم. وكلما توسعت الرأسمالية وانتشرت إلى مختلف بقاع العالم، يزداد التناقض بين الريف والمدينة وبين الإنسانية والطبيعة ويزداد عمق ذلك “الصدع التفاعلي”.
إذًا التحول من أنماط الإنتاج السابقة على الرأسمالية إلى نمط الإنتاج الرأسمالي، طبقًا لماركس وإنجلز، هو تحول شديد التناقض. فمن جانب يخلق التطور الصناعي والتكنولوجي وتركيز السكان في المدن إمكانيات غير مسبوقة في أيدي البشر، ولكن لأن ذلك التطور يحدث في إطار العلاقات الاجتماعية الرأسمالية وفي إطار فوضى التنافس في السوق العالمي، تكون النتيجة كارثية فيما يتعلق بعلاقة الإنسان بالطبيعة. إن الرأسمالية هي أول نمط إنتاج في تاريخ البشرية يدفع في اتجاه تدمير البيئة وفناء البشر.
إن هدف الإنتاج الرأسمالي ليس إنتاج احتياجات البشر، بل إنتاج سلع تحقق أرباح في السوق. تُلبى احتياجات البشر بشكل غير مباشر ويكاد يكون عرضيًا من خلال التبادل في السوق.
وحتى يحقق الرأسمالي ربحًا، لابد أن ينمو حجم رأس المال مع كل دورة إنتاجية. هذا النمو يحدث في إطار تنافسي بين الشركات ويدفع بشكل دائم نحو إعادة الإستثمار على نطاق أوسع. هذا هو سر التحولات التكنولوجية الدائمة في الصناعة الرأسمالية وهو أيضًا سر عدم وجود حدود لحجم ومدى التراكم الرأسمالي. فعلى سبيل المثال، كان حجم رأسمال الشركات الكبرى في القرن التاسع عشر يُحسب بملايين الدولارات. تحول ذلك إلى المليارات في القرن العشرين. أما الآن يتجاوز رأسمال الشركات الكبرى مثل جوجل وأمازون رقم التريليون دولار. لا يوجد حدود للتراكم الرأسمالي!
ولكننا نعيش على كوكب ذي موارد محدودة. المواد الخام، سواء كانت زراعية أو معدنية أو غيره، لها حدود طبيعية. الصناعة القائمة على التنقيب واستخراج الوقود والمعادن وخلافه من باطن الأرض مستمرة وتتوسع بسبب تراكم رأس المال في هذا القطاع، وكلما ازدادت كمية المستخرج من الأرض، ازدادت الأرباح أكثر فأكثر. لكن تكمن المشكلة الحقيقية والتي لا تعيرها الرأسمالية الاستنزافية اعتبارًا في أن المستخرج من الأرض له حدود، هذه الحدود تفرضها الطبيعة في مكوناتها ومنها الأرض، فكيف يلتقي الضدان؟!
الرأسمالية قائمة بالأساس على التراكم الذي يحاول طيلة الوقت تجاوز الحدود، التراكم قائم بالأساس على الحركة الدائمة ما بين السلعة والنقد، السلعة تتحول لنقد، ثم النقد يتحول إلى سلعة، يليها تحول السلعة إلى نقد.. دواليك. وكل تحول من هذه التحولات يساعد في نمو السلعة وزيادة استخداماتها وبالتالي نشهد نموًا موازيًا ومضاعفًا للنقد. نموذج مثالي على ذلك سفينة (MV Ever Given) التي جنحت في قناة السويس (مارس 2021)، فمنذ الستينيات من القرن العشرين قامت الرأسمالية الصناعية بتطوير سفن نقل السلع موحدة أحجامها، وشكل وحجم الحاويات (Container) وشكل وإمكانيات اللوريات التي تنقل الحاويات للأوناش ثم إلى السفن، أيضًا الأدوات والتكنولوجيا الخاصة بالموانئ ومساحات التخزين بها، ومن ثم أصبح التنافس في أوجّه في بناء وتشييد سفن عملاقة أكبر من ذي قبل تستطيع لنقل كميات مضاعفة من البضائع في آن واحد مما يزيد من تدفق الأرباح. والنتيجة هي أن السفن ازداد حجمها تقريبًا 30 ضعف ما كانت عليه منذ 50 عامًا، إلى الدرجة التي بات جنوحها وحشرها في الممرات المائية والمضايق أمرًا لا مفر منه، فما الحل؟ الحل في حالتنا هذه نفذته الدولة أكثر من مرة: مزيد من الحفر والتوسعة في قناة السويس، أي ضخ رأس مال ثابت أكثر من أجل مرور هذه السفن العملاقة منها. ولكن هل هناك حد معين لهذه التوسعة؟ الإجابة ستجدونها عند رئيس شركة ميركل، منتجة السفينة الجانحة، عندما سُئل: هل ستوقف الشركة بناء سفن عملاقة أكثر بعد حادث جنوح السفينة؟ الإجابة كانت: مستحيل، نحن مضطرون لعمل سفن أكبر وأكبر من التي جنحت إلى الأبد بسبب التنافس. بالفعل هناك 10 شركات أخرى عالمية تنتج سفن شبيهة ولا مجال للتراجع أمام التراكم الرأسمالي، فهو لا تحده أية حدود!
كيف نواجه الكارثة
هذه هي مظاهر الكارثة (الأزمة الكوكبية) التي نعيشها وينتظرنا مستقبلها الأكثر كارثية، التسمية ليست من قبل اليسار ومعارضي الرأسمالية، هي تسمية يتفق تقريبًا حولها الجميع ومن معسكر الرأسمالية نفسها. لكن تتفاوت التقديرات حول حجم الأزمة وإمكانية حلها مع الاعتراف بوجودها. هناك رؤية ترى أن الأمور تخضع للتهويل وأن هذه التغيرات تاريخية وتحدث كل مليون سنة تقريبًا، وبالتالي لا وجود لتغير مناخي مقلق، مثال على ذلك ترامب ومؤيديه، متهمين مثقفي وعلماء ويهود المدن بترويج قصص مختلقة لترهيب الناس فقط.
أما الليبراليون، فهم لا يقلون خطورة عن سابقيهم من معسكر اليمين، فبرغم اتفاقهم مع الكلام السابق حول حجم الكارثة، لكنهم يطمحون إلى حلول تقدمها الرأسمالية، مدافعين عن قدرة السوق الرأسمالية والتقدم التكنولوجي الرأسمالي على تطويع الطبيعة ومواجهة الأزمات ما سيؤدي بالضرورة لحل مشكلة التغير المناخي، التي ينكرون تمامًا حدوثها بسبب الاستخدام الخاطئ للطبيعة من قبل البشر، أي من قبل الرأسمالية بوصفها نمط الإنتاج السائد.
ينسى أصحاب الرأيين السابقين أن حل الأزمة يعني الحاجة السريعة لتخفيض الانبعاثات الكربونية بنسبة لا تقل عن 10% كل عام قبل أن يداهمنا العام 2040، ولكي يحدث ذلك يجب أن ينخفض معدل النمو للاقتصاد العالمي للصفر، بمعنى أن تتخلى الرأسمالية عن جوهرها الربحي والتنافسي لأن حوافز الاستثمار وقتها ستصبح صفرية هي الأخرى.
الحلول من خلال الهندسة الجيولوجية: في سبعينيات القرن الماضي اقترح عالم المناخ السوفيتي ميخائيل بوديكو أحد الحلول الممكنة نظريًا لمواجهة التغيير المناخي، وهو استخدام الطائرات على ارتفاع عالي لضخ جزيئات الكبريت في الغلاف الجوي الأعلى وبالتالي خلق حاجز جزئي يحد من الأشعة الشمسية. وكان جزء من منطق اقتراحه هو أن الرأسمالية غير قادرة على وقف التوسع في استخدام الطاقة التقليدية (الفحم، البترول، الغاز) وهو سبب التغيير المناخي وبالتالي يجب البحث عن حلول تكنولوجية للمشكلة.
وفي 1977 اقترح عالم الفيزياء الإيطالي سيزار مارشتي مشروع لامتصاص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من محطات الطاقة الكهربائية ونقلها عبر الانابيب إلى أعماق المحيطات.
هذان المشروعان (ضخ الجزيئات في المجال الجوي وامتصاص وعزل ثاني أكسيد الكربون في المحيط) أصبحا بمثابة الفرعين الأساسيين للهندسة الجيولوجية، وسُمي الأول “إدارة الإشعاع الشمسي” (SRM) والثاني “إزالة ثاني أكسيد الكربون” (CDR).
ومع كل التقدم التكنولوجي منذ سبعينيات القرن الماضي واليوم، لا تزال تلك الحلول الهندسية بعيدة كل البعد عن حيز التنفيذ الفعال، ولا تزال تكلفة تطبيقها على نطاق عالمي تقدر بمئات تريليونات الدولارات طبقًا للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيير المناخ (IPCC). ومع ذلك فهذه هي الحلول التي تدافع عنها كبرى الشركات الرأسمالية حتى اليوم.
هناك أيضًا، خاصة في الأوساط الليبرالية الغربية، تصورات حول حل الأزمة من خلال تغيير الاستهلاك الفردي: أننا ينبغي أن نغير من نمط وطرق استهلاكنا حتى نقضي على أسباب التلوث البيئي والتغير المناخي، مثلًا: علينا أن نقلع عن أكل اللحوم لما تسببه تربية الماشية من تلوث للبيئة من جانب ولمنع ذبح الحيوانات من جانب آخر، متناسين أن سبب التلوث هو مزارع كبار الرأسماليين الزراعيين الذين يملكون عشرات ومئات الآلاف من رؤوس الماشية التي يتم تغذيتها بطرق تسبب التلوث. أو بدلًا من شراء ملابس جديدة يمكنك شراء أخرى مستعملة. متناسين أنه في العالم الثالث غالبية السكان فقراء ويشترون بالفعل المستعمل أو رخيص الثمن رديء الخامات. أو توفير نفقات السفر بالطائرات والسفر السفن والقطارات بدلًا منها. في الحقيقة يتناسى هؤلاء أن الشركات الإنتاجية الكبرى هي المسئولة عن تلوث الكوكب، وليس الأفراد وسلوكياتهم الاستهلاكية، وبالتالي كل هذه الإجراءات وغيرها لن تغير في الأمر شيئًا، لن تحسن الوضع قيد أنملة، فقط سيخلد هؤلاء للنوم كل يوم بضمائر صافية، سيموتون في نهاية أعمارهم معتقدين بأنهم قاموا بتأدية واجبهم تجاه الطبيعة.
بالتأكيد ستخطو الرأسمالية خطوات على طريق التحولات المطلوبة ليس بهدف إنقاذ الكوكب والبشرية، ولكن بما يخدم استمرار تدفق أرباحها وإيجاد وسائل أكثر نجاعة واستمرارية للتراكم، وبالتالي لن تكون تلك الإجراءات سريعة وكافية ومؤكدة خلال تلك الفترة الزمنية القصيرة. سيؤدي هذا التباطؤ وإخضاع كل شيء للتراكم إلى أن نشهد مزيدًا من الفيضانات والعواصف وحرائق الغابات الكارثية، علاوة على ارتفاع درجات الحرارة في مناطق يصعب العيش بها ما سيؤدي إلى تزايد معدلات الهجرة بشكل كبير. سنشهد مئات الملايين من الأفارقة والآسيويين ومن سكان أمريكا اللاتينية حاملين أمتعتهم في طريقهم إلى أوروبا وأمريكا.
مواجهة الكارثة: بين الشمال والجنوب
إذا نظرنا إلى إحصائيات الانبعاثات الكربونية اليوم سنجد فوارق ضخمة بين الدول النامية وبين الدول الصناعية. الولايات المتحدة الأمريكية مسئولة عن 15% من الانبعاثات والاتحاد الأوروبي عن 10% والصين عن 27% عالميًا.
أما قارتنا الإفريقية، فرغم أن سكانها (1.4مليار نسمة) يشكلون 17% من سكان العالم، لا تتخطى انبعاثات الكربونية للقارة كلها من استخدام الطاقة ومن الصناعة سوى 2 إلى 3% من الانبعاثات العالمية.
من البديهي أن المسئولية التاريخية عن التغيير المناخي تقع على الرأسماليات الصناعية الكبرى في أمريكا وأوروبا واليابان، ولم تنضم لهم الصين إلا في العقود الأربعة الأخيرة.
هذه الحقائق بالطبع تستخدمها حكوماتنا في الجنوب على المستوى السياسي والإعلامي. فحكومات الجنوب تستجدي دول الشمال الغنية لمساعدتها في التحول لمصادر الطاقة المستدامة (شمسية، رياح، مياه) وزراعة الأشجار ومواجهة التصحر وغيره. ومن جانب آخر، تدافع تلك الحكومات عن حقها في تبني مشاريع تنموية، حتى وإن أدت تلك المشاريع إلى زيادة الانبعاثات.
ويقع بعض قطاعات اليسار في فخ تأييد مواقف تلك الحكومات والتحالف معها في مواجهة ما يرونه الغرب الاستعماري الذي تسبب في المشكلة، ويريد أن ندفع نحن دول الجنوب الثمن. ويتساءل هؤلاء: لماذا إذًا يحمِّل الشمال الجنوب تبعات أزمات خلقها بنفسه، هل يقف بذلك كحجر عثرة أمام فرص نمو اقتصادات الجنوب، هل ليس للجنوب الحق مثل الشمال في التصنيع والتطوير التكنولوجي ورفع مستويات المعيشة؟
ولكن هذا بالضبط هو خطاب زعماء الجنوب الذين يطرحون أنفسهم كممثلين لفقراء دولهم ويتسولون باسمهم من الدول الغنية. وكأن المشاريع التنموية لهؤلاء الزعماء تصب في مصلحة شعوبهم وهو كما نعلم جيدًا بعيدًا كل البعد عن الواقع المعاش. المشاريع التنموية في بلداننا هي مشاريع رأسمالية يقرر مضمونها من يملكون السلطة والثروة ولا تصب إلا في مصلحة من يملكون السلطة والثروة. وهذا ينطبق تمامًا على تأثيرها البيئي.
فقراء الجنوب هم من يدفعون ثمن الدمار البيئي في بلدانهم. والمسئولية عن ذلك الدمار تقع على شراكة بين رأسماليات الشمال وحلفائهم من رأسماليين وحكومات الجنوب. هذه الشراكة هي التي تنقل لبلداننا الصناعات الملوثة مثل الأسمنت والسماد وغيرها. وأرباح تلك المشروعات والصناعات لا تذهب فقط إلى الشركات الغربية والصينية وغيرها ولكنها أيضًا تملأ جيوب شركائهم المحليين، في حين أن الآثار البيئية المدمرة لا يدفع ثمنها سوى الفقراء.
رغم كل ما أوردناه حول دور الرأسمالية وشركاتها الكبرى وحالة السعار من أجل زيادة تراكم رأس المال ومضاعفته في خلق الأزمة الكوكبية التي نعيشها حاليًا، فإن من سيتأثر جراء كوارث التغير المناخي هم الملايين من فقراء الجنوب. في الشمال تستطيع الحكومات -إن أرادت- نقل عدد كبير من السكان -بكلفة مرتفعة طبعًا- إلى أماكن أخرى حال تعرض مدنهم للغرق بسبب ذوبان جليد القطبين، لكن حال غرق مدن ساحلية في دول الجنوب، أو مواجهتها لأي كارثة، سيهرب وقتها أغنياؤها وينتقلون للعيش في أماكن آمنة أو يرحلون إلى الشمال، أما الفقراء أصحاب البيوت المتهالكة عديمي الأرصدة البنكية ستتركهم حكوماتهم ليموتوا غرقًا مع منازلهم التي ستنهار سريعًا.
وحتى في بلدان الشمال فهناك بعدًا طبقيًا واضحًا للأزمة البيئية. ففي بريطانيا على سبيل المثال، يتسبب أغنى 1% من السكان في نفس كمية الانبعاثات الكربونية لأفقر 10%. وقد قُدر أن من ينتمي لهؤلاء الـ10% يحتاج إلى 26 عامًا لينتج الانبعاثات التي ينتجها الغني في عام واحد. وكما في حال الجنوب، فمن يدفع ثمن التغيير المناخي والانهيار البيئي هم دائمًا الفقراء. انظر فقط للتقارير الإخبارية عن متضرري الأعاصير والحرائق والفيضانات في أوروبا وأمريكا وسترى أن غالبيتهم من الفقراء ذوي الانبعاثات الكربونية الضئيلة.
التراكم الرأسمالي هو السبب الرئيسي في الكارثة البيئية التي تواجهها البشرية، وعلى المستوى الإستراتيجي لن يكون هناك مستقبل للبشرية إلا بتجاوز الرأسمالية. وحتى إذا حدث ذلك، سيكون أمام البشرية تحديات ضخمة لإصلاح ما أفسده التراكم الرأسمالي، ولرأب الصدع التفاعلي بين الإنسانية والطبيعة ولخلق ذلك التناغم الذي تحدث عنه كارل ماركس في مخطوطات 1844.
ولكن القارئ سيستنتج على الفور أن الفقرة السابقة تدعو إلى التشاؤم الشديد. تجارب القرن الماضي كله أثبتت الصعوبة البالغة لتجاوز الرأسمالية. وحتى لو كان ما تطرحه تلك الفقرة صحيح على المستوى التاريخي أو الإستراتيجي، ماذا نفعل الآن؟
نحن نعرف أن الأعوام والعقود القادمة ستشهد كوارث مناخية وبيئية من حرائق وفيضانات وتسونامي وغرق لمدن ساحلية وتآكل للأراضي الزراعية ونقص فادح للموارد المائية. لقد بدأت هذه الكوارث بالفعل، ونحن نعرف أنها ستزداد ضراوة عام بعد عام.
لقد أصبح من الضروري إعادة صياغة مشروع اليسار لمواجهة الخطر الوجودي الذي تشكله الأزمة المناخية والبيئية. المعارك من أجل البقاء أصبحت أحد المحاور الأساسية للصراع الطبقي. كل معركة من أجل الهواء النظيف والماء النظيف والغذاء الآمن والسكن الآمن، كل معركة ضد الصناعات الملوثة وضد القوانين التي تحمي تلك الصناعات، هي معارك لم يعد من الممكن فصلها عن المعارك من أجل الحرية ومن أجل المساواة.