حول العلاقة بين الأزمة الاقتصادية والثورة
“ما هي الصلة بين الأزمة والثورة؟” يُطرح هذا السؤال المرة تلو المرة عديدًا داخل محيط الاشتراكيين. ولقد تقدم هذا السؤال الساحة مرة أخرى في إطار الأزمة العاصفة التي حدثت في شرق آسيا والتي كان لها دور في السقوط المفاجئ للرئيس سوهارتو في إندونيسيا. لقد كان هناك في الماضي وجهتي نظر متناقضتين وخاطئتين في نفس الوقت بخصوص هذه المسألة.
تدافع وجهة النظر الأولى عن فكرة أن الأزمة تؤدي بشكل أوتوماتيكي إلى الثورة. فعلى سبيل المثال، اعتقد الماركسيون البريطانيون الأوائل في عام 1886 والذين كانوا أعضاء في الفيدرالية الاشتراكية الديمقراطية بأن البطالة المتزايدة في ذلك الوقت كانت ستؤدي بالضرورة إلى الثورة في بريطانيا. وسوف تتحقق الثورة أيضًا كنتيجة للتذمرات في الشوارع والتي كانت تشبه تلك التذمرات التي لعبت دورًا هامًا للغاية خلال الثورة العظمى في فرنسا من سنة 1789 وحتى سنة 1794. ويتشابه هذا المثال مع ما اعتقده الثوريون البريطانيون في عام 1920 – 1921 بأن تفشي البطالة آنذاك سوف يقضي على الرأسمالية الغربية والتي كانت في وضع مهزوز للغاية من جراء موجة النضالات التي تبعت الثورة في روسيا. ولقد سادت وجهة النظر هذه حتى الخمسينيات من هذا القرن عندما كنت تسمع من بعض الاشتراكيين – خاصة في ظل الانتعاش الاقتصادي الذي تلي الحرب العالمية الثانية – بأن العمال كانوا يحتاجون لحالة الركود الاقتصادي تلك لكي يتخلصوا من “لا مُبالاتهم”.
ولكن الثورة لم تأتي كنتيجة أوتوماتيكية للأزمة في ثمانينيات القرن الماضي، ولا في عشرينيات هذا القرن ولا حتى مع نهاية الانتعاش الطويل خلال الفترة 1973 – 1975. وفي الواقع، فلقد كانت النتيجة النهائية للأزمة الطاحنة خلال ثلاثينيات هذا القرن هي ظهور الفاشية في أوروبا بأكملها، وليس الاشتراكية الثورية.
أما وجهة النظر الثانية فتخلص من هذه التجارب إلى أن الأزمة الاقتصادية لا يمكنها أبدًا أن تزيد من فرص حدوث الثورة. ولكن الأحداث التاريخية لا تساند وجهة النظر هذه أيضًا. إن الأزمة في عام 1920 – 1921 لم تؤد مباشرة إلى الثورة، ولكن ما تبع الأزمة كان الاضطراب الاجتماعي العنيف في ألمانيا وبلغاريا في سنة 1921، وأيضًا الإضراب العام الذي حدث في بريطانيا في سنة 1926. أما ثلاثينيات هذا القرن فقد شهدت انتصار هتلر في ألمانيا، ولكنها شهدت على صعيد آخر تصاعدا ثوريًا في أسبانيا واحتلالها للمصانع في فرنسا في صيف 1936، بالإضافة إلى الاعتصامات التي أدت إلى ارتفاع حاد في عضوية النقابات العمالية في الولايات المتحدة.
في الواقع، إن هناك بالتأكيد ارتباط بين الأزمة الاقتصادية والثورة الاجتماعية، وهذا الارتباط كان دائمًا موجودًا منذ نشأة المجتمع الطبقي منذ خمسة آلاف سنة مضت. ولكنه ليس ارتباطًا ميكانيكيًا أو أوتوماتيكيًا. ومن أجل تفسير ذلك فعلينا أن نتابع كيف تسير الأمور في أي مجتمع طبقي في “الأوقات الطبيعية”. إن الطبقة الحاكمة تتشبث بنفوذها وسلطتها باستخدام مزيج من القمع والسيطرة الأيديولوجية. ولكن لا يمكن لكلا هذين العنصرين أن يكونا مؤثرين إلا مع توفر عامل آخر وهو الاعتقاد السائد بين الجماهير بأن الطريقة الحالية للتعامل مع الأوضاع هي الطريقة الوحيدة الممكنة، وأن الظروف ربما تتحسن بالنسبة لهم عن طريق الحظ.
وهذا لا يعني أن الناس سعداء بشكل عام، حيث أن الحياة بالنسبة للكثيرين هي مجرد “وادي من الدموع” كما هو مذكور في الإنجيل، وحتى أولئك الذين بإمكانهم الحفاظ على مستوى معيشة محتمل فهم بالكاد قادرين على الابتسام أحيانًا. ولكن ذلك لا يعني أيضًا أنه ليس هناك صراع طبقي. فلقد كان هناك دائمًا شكل أو آخر من أشكال المقاومة مثل نضال العبد ضد السيد، الفلاح ضد الإقطاعي، أو العمال ضد صاحب المصنع، ولكن أشكال المقاومة هذه عادة لا تجتمع سويًا في حركة بعينها بحيث يمكن أن تعطى للجماهير الإحساس بأن الأوضاع يمكن أن تتغير. وبالتالي، فإن الطبقة الحاكمة يمكنها بسهولة أن تعزل وتقمع أولئك الذين يحاولون تنظيم نضالاً جماعيًا واسعًا.
إن الأزمة الاقتصادية يمكن أن تغير الأوضاع فجأة بطريقتين. ففي لحظة واحدة يمكن أن تعصف الأزمة بكل شيء تملكه الجماهير حتى تلك الأشياء الصغيرة التي جعلت الحياة محتملة بالنسبة لهم في الماضي، وبذلك فإن أعدادًا كبيرة تصل إلى حد اليأس. كما تخلق الأزمة أيضًا انشقاقات واسعة داخل الطبقة الحاكمة نفسها. فعندما يكتشفون أن طرقهم القديمة في إدارة الأمور لا تبدو صائبة فإنهم ينقلبون على بعضهم البعض بغضب شديد.
فالوسائل التي كانوا يستخدمونها من أجل السيطرة الأيديولوجية على الجماهير مثل الكنائس والمعابد والجوامع في الماضي، والإعلام الموجه في الحاضر تبدأ في إعلان حالة من الصراخ وتوجيه الشتائم ضد بعضها البعض. كما يبدأ السياسيون ورجال الأعمال الكبار واللواءات في التحرك ضد بعضهم البعض، حتى يصبح البوليس السري نفسه غير متأكد من ماهية العدو. وفي أمثلة صارخة، يقوم أعضاء من الطبقة الحاكمة بمحاولة دعم وقفهم من خلال تكتيل فئة من هذه الجماهير خلفهم. وهكذا، ينشأ نوع من التفاعل الجدلي بين الصراعات داخل محيط الطبقة الحاكمة من فوق، والمرارة التي تشعر بها الجماهير في البنية التحتية للمجتمع. فهذه الانشقاقات داخل الطبقة الحاكمة تعطي الجماهير الشعور بأنهم ولأول مرة لديهم متنفسًا للتعبير عن مرارتهم الشديدة، وهذا بالتالي يُعمق التشوش السائد لدى الطبقة الحاكمة في كيفية التقدم للأمام.
إن هذا بالضبط هو النمط الذي رأيناه يتحقق في إندونيسيا، كما رأيناه يتحقق بحذافيره أيضًا في فرنسا في 1848، وفي روسيا في 1917، وفي ألمانيا في 1918 – 1919 وفي 1923، وفي فرنسا في منتصف الثلاثينيات، وأيضًا مؤخرًا في أوروبا الشرقية في 1956، 1968، 1980 – 1981 وفي 1989. لقد لخّص لينين الموضوع بطرح شرطين رئيسيين من أجل تحقيق الثورة، بحيث يسود شعور لدى الطبقة الحاكمة من ناحية والجماهير من ناحية أخرى بأن المجتمع لا يمكن أن يكمل المسيرة على الطريقة القديمة. ولكن هذا ليس هو نهاية الموضوع. فكلما استفحلت الأزمة وعصفت بمستوى معيشة الجماهير، يمكن أن يتحول الغضب إلى نوع من اليأس لأن مجرد حل مشكلة البقاء على قيد الحياة تستنزف ثقة الناس في قدرتهم على تغيير الأوضاع بشكل جماعي. وبمجرد حدوث ذلك، فإن أقسامًا عديدة من الطبقة الحاكمة والذين يتصرفون بأكثر الطرق وحشية وبربرية يجدون الفرصة سانحة لتطبيق حلول للأزمة لا تخدم غير مصالح طبقتم هم فقط وعلى حساب كل الآخرين. وهذا بالطبع ما هو ما حدث في نهاية المطاف في أواخر الثلاثينيات. ولكن ذلك لا يعني أن تلك هي النتيجة الحتمية لكل أزمة اقتصادية كبيرة.
هناك بديل لذلك، ولكنه يعتمد على بناء القوة الدافعة للنضال للنقطة التي تطيح فيها الأزمة بالطبقة الحاكمة وتطلق العنان لتفجر غضب الجماهير. ولكن دائمًا ما تظهر في هذه الأوقات القوى السياسية التي تنادي بالرسالة المناقضة المميتة. فهؤلاء السياسيون ينادون الجماهير بضبط النفس والاعتماد عليهم لحل مشاكلهم وحتى لا يزيدوا من “الفوضى” بالاستمرار في النضال. وهم يفعلون ذلك ويبررون وجودهم بالكلام عن “الواقعية” في تناول الأمور. ولكن ذلك هو الطريق الذي يقود فقط إلى الفوضى والهزيمة.
إن ذلك هو السبب الذي جعل لينين يصر على شرط آخر لتحقيق الثورة بنجاح، وهذا الشرط هو وجود حزب ثوري مهيأ ومستعد للنضال ضد أي كلام عن التسوية مع أقسام من الطبقة العدو والتي تضع طبقة براقة اسمها “الليبرالية” على خطابها السياسي.
ــــــــــ
ترجمة مقال: طريق ذو اتجاهين، المنشور في مجلة: السوشياليست ريفيو، عدد يوليو 1998