جنون السوق الحرة.. تراث ميلتون فريدمان
مقال للاشتراكي الثوري البريطاني كريس هارمان، بجريدة العامل الاشتراكي 25 نوفمبر 2006)، يستعرض فيه التاريخ المهني للاقتصادي النقدي ميلتون فريدمان الذي يطلق عليه “أبو الاقتصاد الحر” والذي توقي الأسبوع الماضي.
الشرور التي يرتكبها الناس تعيش بعدهم. مثال على ذلك التراث الاقتصادي الأكاديمي للاقتصادي الأمريكي الحاصل على جائزة نوبل: ميلتون فريدمان، الذي توفي الأسبوع الماضي عن أربعة وتسعين عاما. ولو أنك ممن يصدقون المدافعين المأجورين عن الرأسمالية –سواء من المحافظين، الليبراليين، أو تنويعات الطريق الثالث- فإن فريدمان كان رجلا عظيما. على سبيل المثال، جريدة الجارديان البريطانية وصفت فريدمان بأنه “واحد من أعظم الاقتصاديين في كل العصور، ويمكن أن يدخل في نفس الفئة مع رموز كآدم سميث وديفيد ريكاردو وكارل ماركس وجون ماينارد كينز”.
وأن يضع أي أحد فريدمان مع أشخاص بهذه القامة الفكرية لهو أمر فوق التصديق. فكتابات آدم سميث مثلت محاولة طليعية لفهم خصوصيات نظام اقتصادي جديد كان يبدأ في الظهور في بريطانيا قبل حوالي مائتين وثلاثين عاما، ألا وهو الرأسمالية الصناعية. رأى سميث أن جهد أولئك الذين يعملون هو الذي يزيد من ثروة المجتمع، وأن الربح كان خصما من هذا العمل.
أما ريكاردو فقد طور تحليل سميث للأمام. فهو أيضا أدرك أن نظام السوق يقود إلى ثورة متزايدة في يد الرأسماليين مقابل بطالة متزايدة وفقر متفاقم للعمال. ومن جانبه ظهر كينز كمفكر اقتصادي عظيم في خضم الأزمة الاقتصادية الكبرى –كساد الثلاثينيات العظيم. ورأي كينز أيضا أن الرأسمالية يمكنها أن تخلق أزمات تنزل بحياة الناس دمارا هائلا.
وعلى العكس من ذلك، كان فريدمان مدافعا لا يكل وبشكل غير نقدي عن هولات الرأسمالية. فقد أيد النظرية الاقتصادية “النيوكلاسيكية” التي أدارت ظهرها للعديد من أطروحات سميث وريكاردو. النظرية “النيوكلاسيكية” تمسكت بفكرة أن الاقتصاد يمكنه دائما أن يعمل بسلاسة لكن بشرط أن يتم تحرير الرأسماليين من أي تدخل من قبل الدولة ومن أي احتكارات “غير طبيعية” مثل النقابات العمالية!
كانت هذه النظرية ملائمة للأكاديميين الذين تعتمد حياتهم المهنية على مجاراة وتملق القوى المسيطرة أيا كانت. وسادت “النيوكلاسيكية” وسيطرت في الجامعات لما يزيد على نصف قرن. لكن عندها جاءت أزمة الثلاثينيات الكبرى، لتجلب معها أكواما من السلع الراكدة ومئات من البنوك المفلسة والبطالة لثلثا السكان في الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا. وهكذا، صار غياب الواقعية الكامل في النظرية التقليدية القديمة ظاهرا وواضحا للعيان، ليس فقط لأولئك الذين عانوا من الكساد ولكن أيضا للرأسماليين الذين تطلعوا للدولة بحثا عن حماية من السقوط في بئر الإفلاس.
دافع كينز عن أن الدولة يجب أن تتدخل لمنع الرأسمالية من تدمير نفسها. وأصبح هذا المنهج النظرية السائدة الجديدة وتقبلها المحافظون والاشتراكيون الديمقراطيون على حد سواء على مدى ثلاثة عقود تلت الحرب العالمية الثانية.
أما الاقتصاديون من نوعية فريدمان، من الذين تمسكوا بآرائهم القديمة، فقد احتلوا وضعا هامشيا، وربما حتى أصبحوا مثار السخرية بين زملائهم.
لكن الأزمة عادت لتضرب الرأسمالية العالمية بشكل مفاجئ مرة أخرى في السنوات بين 1973 إلى 1976 ثم بين 1980 إلى 1982. وحاولت الحكومات تطبيق الحلول والوصفات التي صممها كينز ووجدوا أنها لم تعد فعالة.
وهكذا صار فريدمان فجأة شخصية بارزة. وبشر الرجل بفكرة أنه يجب تحرير الرأسمالية من تدخل الدولة، وأنه يجب إلغاء كل ما يكبح الأغنياء من أن يصبحوا أغنى، وأن كل المحاولات المبذولة لإبقاء البطالة عند معدلات منخفضة يجب أن تنتهي فورا. ولقيت هذه الرسالة شعبية بالغة لدى الاقتصاديين. فقد ألقوا باللائمة في كساد الثلاثينيات على ضعف تدخل الدولة، والآن صاروا يلقون باللائمة في الأزمات الجديدة على هذا التدخل.
وكانت أولى محطات تطبيق سياسة فريدمان الجديدة على الأرض في تشيلي 1973 بعد الإنقلاب العسكري الوحشي الذي قاده الجنرال بينوشيه مطيحا بالنظام اليساري الديمقراطي المنتخب لسلفادور ألليندي بمعاونة المخابرات المركزية الأمريكية، وقتل خلاله الآلاف وتم تحطيم حركة الطبقة العاملة.
النقود
انتهت التجربة بكارثة بعد أن أفلست بنوك تشيلي الكبرى بعد ذلك بثماني سنوات فقط. لكن هذا لم يردع مارجريت تاتشر عن تنفيذ أفكار فريدمان في بريطانيا في الثمانينيات. زعم فريدمان أنه طور نظريتين اقتصاديتين جديدتين. الأولى أنه إذا سارت الأمور بشكل خاطئ وتعرض الاقتصاد الرأسمالي للمشكلات، فإن ذلك بسبب أن الحكومة لم تعرف كيف تتحكم فيما يسمى بعرض النقود –أي كمية الأموال الموجودة في الاقتصاد. لكن هذه النظرية التي يطلق عليها في الدوائر الأكاديمية “النظرية النقدية” في الحقيقة لم تكن جديدة –حيث كان ماركس قد مزقها بالفعل في الجزء الثالث من رائعته رأس المال قبل ذلك بقرن من الزمان- ولا قابلة للتطبيق في الممارسة العملية. فقد وجدت الحكومات أنها لا تستطيع التحكم في عرض النقود، وتجادل الاقتصاديون وتخاصموا حتى حول كيف يمكن أن يتم قياسه.
أما ابتكار فريدمان الثاني فهو أنه دافع عن أن محاولات الحكومة لتقليل البطالة لا يمكن أن تنجح لأن هناك ما سماه معدلا طبيعيا للبطالة لا يمكن التعامل معه. وبدون أن يدرك كان فريدمان بذلك يكرر حقيقة قديمة حول الرأسمالية هي أنها تحتاج إلى ما يسميه ماركس “جيش الاحتياط” من العاطلين للحفاظ على الأجور عند مستويات متدنية.
لكن تناقضات وعدم موائمة نظريات فريدمان مع الواقع لم تكن مهمة، فقد زود الطبقات الحاكمة بتبرير أيديولوجي لشن الهجمات على العمال ومستويات معيشتهم. وهذا هو السبب في أن مؤيدي الرأسمالية يمجدون ويطرون بإفراط فريدمان ونظرياته. أما بقيتنا فيجدر بهم في الحقيقة أن يبصقوا على قبره.