الرأسمالية.. الجوع في زمن الوفرة
في منتصف عام 1996 قامت المنظمة الدولية للأغذية والزراعة (الفاو) بعقد مؤتمر بروما تحت عنوان “مكافحة الجوع” حيث حضره ممثلين من جميع دول العالم, تناقش الحاضرون في جوانب المشكلة ليخرجوا بتوصيات حول تقليل عدد الجوعى إلى النصف عام 2015 باعتبار ما سيتم توفيره من موارد طبيعية تساعد في القضاء على ندرة الغذاء!
إلا أن ندرة الموارد الطبيعية وعلاقتها بأزمة الغذاء قد يقودنا إلى اعتبار المجاعات أمرا طبيعيا, لكن واقع الأرقام يشير أنه في نفس الوقت الذي عانت فيه دول العالم الثالث من مجاعات فتاكة, ارتفع مخزون اللبن البودره الغني بالبروتينات بنسبة 35% لتصل نسبة الزيادة في هذا المخزون خلال العام التالي إلى 50%. بينما تضاعف مخزون الزبد عشرات المرات في نفس الفترة. وفي عام 1992 كان مخزون الحبوب في العالم قد وصل لـ 200 مليون طن، بينما شهد النصف الأول من عام 1991 معاناة 27 مليون شخص, في منطقة الساحل والقرن الأفريقي, من عذاب الموت البطيء بسبب الجوع. وبينما يقتل الجوع سنويًا من 18 إلى 20 مليون شخص كل عام, يتزايد مخزون الغذاء العالمي ويرتفع باضطراد.
التقديرات والدراسات العلمية تؤكد أن زراعة 44 % من أراضي العالم القابلة للزراعة يمكن أن يكفي لإعاشة من 10 إلى 12 ضعف عدد سكان الأرض الحاليين. مما لا يمكن معه تفسير وجود ملايين البشر يموتون سنويًا بسبب الجوع بادعاء ازياد عدد السكان، فعدم العدالة في توزيع المواد هو في الواقع السبب الحقيقي في وفاة هؤلاء البشر. إذن فكرة ندرة الموارد واعتبارها المسئول الرئيسي عن أزمة الغذاء بالعالم هي فكرة منتقدة بواقع ما تشير إليه الأرقام, لعل ذلك يذكرنا بتحجج نظام المخلوع عن تأخر التنمية بالزيادة السكانية التي قدرت في أعلى أرقامها بنسبة 1,7% في حين أن نفس الحكومات كانت تعلن مؤشر التنمية بنسبة 7% سنويا!
السبب وراء هذا التناقض العجيب يكمن في طبيعة النظام الرأسمالي والسعي المحموم وراء الربح, وفي ظل قانون العرض والطلب تحول الغذاء إلى “سلعة” يجب المحافظة على قيمتها القياسية وضمان عدم انخفاض سعرها عن حد معين ضمانًا لاستمرار تحقيق الأرباح المنشودة. وفي هذا الإطار نجد أن الدول الرأسمالية الكبرى تنفق مبالغ طائلة, ليس في إنتاج الغذاء, ولكن في منع أسعار المواد الغذائية من التراجع عن حد معين بشراء كميات كبيرة من سلع موجودة بوفرة بهدف تخزينها مثلما استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية أن ترفع سعر القمح بزيادة 50% للطن خلال عام واحد, وذلك حيث قامت بتخزين 200 مليون طن من القمح تاركة الملايين يموتون جوعًا !
هذه الدول الرأسمالية, التي تسعى للربح الدائم, استطاعت خلق أسواق جديدة بدول العالم الثالث باحتكار الصناعات والمواد الخام بشركات متعددة الجنسيات, مما أدى إلى إعاقة نمو وتطور هذه الدول، وأصبح مستوى تطورها مرتبطًا بالاعتماد على الخارج والاقتراض من صندوق النقد الدولي ذو التوصيات الاقتصادية المعادية للشعوب, أو اعتمدت الدول الرأسمالية على الاحتلال العسكري وهو ما انعكس بالضرورة على الأوضاع الاقتصادية للأفراد, فأمريكا التي تكلفت مليارات الدولارات في حربها على أفغانستان من أجل احتكار خام البترول الذي يدر أرباحا هائلة, هي نفسها الدولة التي يعاني فيها 30 مليون من الجوع والفقر. وفي كلتا الحالتين لن يتم حل مشكلة الجوع بتوصيات من نفس الدول المتبنية لنفس السياسات الاقتصادية المسئولة عن الأزمة. فنحن الآن في طريقنا إلى عام 2015, ماذا حدث؟ هل انخفضت نسب الجوعى بالعالم كما وعدتنا الدول الكبرى أم ازدادت إلى أرقام مفزعة هي نتيجة مباشرة لنظام رأسمالي أثبت فشله.
الفقراء هم ضحايا النظام الرأسمالي, هم من يدفعون فاتورة أرباح المحتكرين من عرقهم ودمائهم, الفقراء هم من يثوروا الآن ضد السياسات الاقتصادية التي عمقت التناقض بين أقلية تتحكم بثروات البلاد وأغلبية تناضل من أجل حياة كريمة تليق بالإنسان, وهذا لن يحدث إلا بتحطيم النظام الرأسمالي وتحقيق العدالة الاجتماعية بالعدالة في توزيع الثروات في مجتمع جديد بلا طبقات.