الرأسمالية: تاريخ الإفقار

تتميز الرأسمالية كمرحلة تاريخية بأن الإنتاج ليس بهدف إشباع الحاجات، ولكن بهدف التسويق والربح، ومن هنا كانت أزمة النظام الناتجة عن تراكم السلع، وكذلك تراكم رؤوس الأموال. كان النشاط الاستعماري، هو ذروة توحش الرأسمالية التجارية، ففي 1600م تم تأسيس شركة الهند الشرقية الإنجليزية، وتلاها تأسيس شركات هولندية وفرنسية، تعمل في الغرض ذاته، وهو تكثيف النهب والاستغلال، حيث تهافتت على آسيا وأفريقيا واستراليا والأمريكتين. لنهب ثرواتها الوفيرة، ولاستعباد سكانها
كانت الثورة الصناعية تمثل نقلة في تاريخ البشرية، وتحول الرأسمالية إلى رأسمالية صناعية، حيث أصبح الإنتاج أكثر وأكثر، كما زادت كثافة التشغيل والاستغلال، وزادت معه أيضا حدة الأزمة. ونهم الدول الاستعمارية لنهب ثروات الشعوب الأضعف. ولم يكن الهدف دوما هو الإبقاء على الشعوب في أسوا حال، بل تطلب الأمر العمل على تطوير تلك البلدان، ليس لمصلحتها بل لصالح الرأسمالية، وهنا كان شق الطرق والترع والسكك لحديدية، ومد الكهرباء والهواتف، وكذلك تكون جهاز إداري للدولة، وإنشاء مراكز تدريب ومدارس وجامعات، لتخريج عمال مهرة وموظفين ومهنيين. كما تطلب الأمر تكوين طبقات ترتبط مصالحها مع الرأسمالية العالمية.
لم تفلح مسيرة النهب المكثف التي انتهجتها الرأسمالية طوال القرن التاسع عشر، في الاستمرار دون أزمة، فكانت الحرب العالمية الأولى نتيجة حتمية للمسيرة الاستعمارية المحمومة، ولأزمة النظام الرأسمالي. حيث كانت الاحتكارات الضخمة ذات طابع قومي. وانتهت الحرب العالمية بتقسيم كعكة الكرة الأرضية على القوى المنتصرة، فيما عرف باتفاقية سايكس-بيكو بين بريطانيا وفرنسا، القوتين العظمتين وقتها.
الكساد الكبير:
هو الاسم الذي يُطلق على الأزمة الراسمالية في الثلاثينيات، والتي ظلت تعد أسوا أزمة مرت بها الراسمالية، قبل دورة الأزمة الحالية التي بدأت في نهاية 2007تقريبا.
ولأن عتاة الاقتصاديين الراسماليين لا يمكهم مهما ادعوا أن يتنبأوا بالأزمة، فقد كان لطرح ملايين الاسهم في البورصات الأمريكية سبب في تفجير أزمة النظام، ليس في الولايات المتحدة وحدها، بل في العالم كله. اتخذت كل الدول سياسات تقشفية، وانهارت الحكومة الألمانية، عانت الدول الضعيفة والدول المستعمرة، أكثر من غيرها. ورغم سياسة العهد الجديد التي اتبعها رزفلت، لتأسيس بنية تحتية قوية في أنحاء الولايات المتحدة، لإنعاش النظام الراسمالي وتشغيل جيوش العاطلين، وكذلك مشروعات التصنيع التي انتهجها هتلر، لم يكن من الممكن الخروج من الأزمة إلا بالحرب، بتدمير الثروات وإسالة الدماء. فكانت الحرب العالمية الثانية 1939-1945.
بعد الحرب ظهر طرح "الكينزية" الذي يقوم باختصار، على ضرورة تدخل محسوب للدولة في إدارة الاقتصاد، فكانت المرحلة التالية للحرب العالمية هي التي قامت فيها الدولة بتقديم الخدمات والرعاية والتأمينات للعمال، بينما تتدخل لضبط إيقاع السوق. وبعد ثلاثين عاما من التغني بنجاح الرأسمالية، حدث كساد جديد 1974-1976. انقلب الاقتصاديين على آرائهم وادعوا أن السبب في الازمة هو التدخل الحكومي. فكانت الليبرالية الجديدة تعبير عن ذلك.
أدت الليبرالية الجديدة إلى تعاظم الاحتكارات، وتكثيف الاستغلال، وبالتالي كانت حدة الازمة أعمق. فكان هناك عدد من الحروب الإقليمية، المشتعلة، موجات من الأزمات الطويلة التي تعاني منها الشعوب، والتي أُجبرت حكوماتها على تطبيق توصيات صندوق النقد، والليبرالية الجديدة. إلا أن الإعلان عن وجود أزمة للنظام الراسمالي، فلم يحدث إلا عندما طرقت الأزمة أبواب المكاتب الفخمة، ودمرت القطاعات المصرفية.
وقد بدأت الازمة بالقطاع العقاري في الولايات المتحدة. قدم الاقتصاديون الراسماليون المبررات المعتادة، باتهام "المضاربين" والمتلاعبين بالأزمة، وكذلك إلى سوء التخطيط. فل يكن مايعنيهم موجة الطرد من البيوت التي شنتها الشركات العقارية، ولا ملايين المسرحين من أعمالهم، بل كان همهم الاساسي هو إنقاذ المؤسسات، فتم ضخ المليارات من أموال دافعي الضرائب لإنقاذ المؤسسات الكبرى، دون جدوى.
كانت انتفاضة يناير 1977، اول مقاومة شعبية لتطبيق سياسات الليبرالية الجديدة في العالم، تلتها موجات من الانتفاضات، بالذات في المغرب وتونس. كما كانت الثورة التونسية والمصرية، وماتبعها من ثورات، في البلدان العربية، تعبيرا عن رفض ذلك النظام المأزوم وتبعاته، ولم تكن مجرد ثورات ديمقراطية، والدليل على ذلك هو موجة الاحتجاجات المتصاعدة، في اليونان وإسبانيا، والتي طالت حتى فرنسا وبريطانيا والمانيا، مع اختلاف الدرجات، لكنها بلا شك، فاقت كل التوقعات.