الرأسمالية وعمالة الأطفال في مصر
“إن الرأسمالي يشتري بقيمة الرأسمال نفسها المزيد من قوى العمل حينما يستعيض باطراد عن العمال الماهرين بعمال أقل مهارة، وعن قوة عمل ناضجة بقوة عمل غير ناضجة، وعن الذكور بالإناث، وعن الراشدين باليافعين والأطفال”.
كارل ماركس، رأس المال
تخلق الرأسمالية وضعًا يؤدي إلى كل أنواع المظالم والقهر والبؤس والاضطهاد. وفي ظل هذا الوضع تعيش ملايين الأسر المصرية من الطبقة العاملة، والحرفيين وفقراء ومعدمي الريف، وصغار الموظفين في فقر مدقع بشكل يستحيل وصفه. وهذه الأسر هي التي تقذف، بصورة مطردة ومتحدة، بالأطفال إلى سوق العمل بدلاً من المدرسة وذلك لاضطرارها إلى تشغيل أطفالها لسد حاجاتها الأساسية في ظل تردي ظروف حياتها الاقتصادية وتعرضها للإفقار المستمر. ورغم ذلك لا يمكن القول أن الفقر هو المسئول الرئيسي عن عمالة الأطفال. حيث أن من مصلحة الرأسمالي أن يلجأ إلى تهيئة الظروف المواتية لتشغيل الأطفال باعتبارهم أيدي عاملة رخيصة، وباعتبار أن هذا يضغط على العمال الكبار الذين يتعرضون لظروف مساومة أسوأ بسبب كبر حجم قوة العمل. وتؤدي مزاحمة الصغار الكبار في سوق العمل من ناحية إلى خلق جيش بطالة احتياطي ومن ناحية أخرى إلى اضطرار الكبار لقبول أجور أقل. وفي كل الحالات يعظم الرأسمالي ربحه عن طريق شرائه قوة عمل أكثر بنفس رأس المال، وهو الأمر الذي يغرق الطبقة العاملة وكل الفقراء في دائرة مفرغة من الفقر المتزايد.
حجم عمالة الأطفال في مصر
لا يوجد حتى الآن تقدير موثوق به عن حجم عمالة الأطفال في مصر. وهناك تفاوت كبير بين التقديرات المختلفة. على أية حال، لو استندنا على تقرير اليونيسبف (مؤسسة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة) الذي تم إعداده بالتعاون مع المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية نجد أن مقدمة التقرير تؤكد على ارتفاع معدل عمالة الأطفال في المرحلة العمرية (6 – 12 سنة). حيث قفزت من مليون و400 ألف عام 1986. وتتسم أرقام السنوات التالية بالخداع. فعلى سبيل المثال، حدد الجهاز المركزي للإحصاء في أحد تقاريره الصادرة في 1995 أن هناك مليون و300 ألف طفل فقط كانوا يعملون في مصر عام 1988، ثم انخفض العدد في سنوات التسعينات إلى نصف مليون!!! ويرجع أصل هذا الخداع إلى أن دولتنا الرأسمالي المستغلة تحاول اخفاء الخادعة التي يجيدها أكاديميوها الأفاقين. ففي سنوات ما قبل 1988 كانت عملية مسح القوى العاملة بها استمارة خاصة بعمالة الأطفال. وقد ألغيت هذه الاستمارة فيما بعد وتم إدماجها في الاستمارة العامة، وهذا هو ما أدى إلى تقليل حجم عمالة الأطفال في الإحصاءات الرسمية على عكس الواقع الذي يؤكد أن عمالة الأطفال اتسعت كثيرًا عما كانت عليه عام 1986.
وبفرض حتى أن حجم عمالة الأطفال لم ينمو عن عام 1986 الذي قدرت فيه تلك العمالة بمليون و400 ألف، فإن هذا الرقم يظل مخادعًا وغير صحيح. حيث أن إحصاءات الدولة تستثنى الأطفال الذين يعملون في مجال الزراعة، وهم يمثلون قطاعًا كبيرًا حجمه حوالي 3 مليون طفل. ويرجع هذا الإغفال على أن القانون رقم 137 لسنة 1981 الذي حظر تشغيل الأطفال أقل من 12 سنة استثنى من هذا الحظر الأطفال العاملين بالمجال الزراعي بدعوى أن هذه الأعمال غير ضارة وأيضًا هامة للاقتصاد الزراعي. وهكذا يمكن القول أن عمالة الأطفال في مصر ربما تصل إلى حوالي 5 ملايين على أقل التقديرات.
وفي ظل الرأسمالية الدولة الناصرية كانت عمالة الأطفال مقصورة أساسًا على العمل في الريف في مواسم الحصاد أو جني القطن أو مقاومة الدودة… الخ، مع بعض مظاهر اشتعال الأطفال في الورش في الحضر. بيد أن عمالة الأطفال اتسع نطاقها منذ منتصف السبعينات تحت وطأة تردي الأوضاع الاقتصادية لأغلب الأسر المصرية الفقيرة. فوفقًا لدراسة أجريت عام 1984 لتحديد مستوى الفقر في مصر اتضح أن 49.1% من الأسر تعيش عند خط الفقر أو تخته. ومن المؤكد أن هذه النسبة اليوم سجلت ارتفاعًا كبيرًا عن ذلك الوقت.
توزيع الأطفال من الذكور والإناث على الأعمال المختلفة
نوع العمل | نسبة الذكور | نسبة الإناث |
ميكانيكا خراطة
ميكانيكا كهرباء ميكانيكا سيارات ميكانيكا سمكرة وحدادة كيماويات مدابغ كيماويات خراطيم كيماويات صباغة كيماويات دوكو كيماويات زهرة أفران زجاج أفران مسابك أفران مخابز أفران بلاط نسيج غير مبين |
6.43
5.07 19.88 18.32 10.92 2.14 19, 4.68 ـ 9.16 7.21 39, 58, 14.81 19, |
9.43
ـ 1.89 ـ 7.55 5.66 1.89 ـ 39.62 26.42 5.66 ـ ـ 1،89 ـ |
ظروف عمالة الأطفال:
يتوزع عمل الأطفال في المراكز الحضرية بين أربع أنواع رئيسية من الأعمال. إذ يعمل نسبة 46.41% من الأطفال في ورش الميكانيكا، و21.38% في الصناعات الكيماوية الصغيرة، و 18.73% في الأفران، وأخيرًا 13.38% في ورش النسيج، بالإضافة للعمل كصبية في الميكروباصات.
وفي الريف يعمل الأطفال في حرث الأرض وبذر الزرع وتنقية الآفات ورش المبيدات الكيماوية وجني المحصول ونقل الأتربة والكيماويات والمحاصيل. أي أن الأطفال في الريف والمدينة يقومون بكل الأعمال التي من المفترض أن يقوم بها العمال الكبار العاطلين، القادرين على العمل والباحثين عنه دون جدوى. فلماذا إذن يعمل ملايين الأطفال أعمالاً شاقة بينما يعيش ملايين الكبار في بطالة وعوز؟ يرجع ذلك إلى أن أجور الأطفال زهيدة ودرايتهم بحقوقهم وقدرتهم على تنظيم أنفسهم محدودة، الأمر الذي يتيح للرأسمالي تكثيف استغلالهم عن طريق تشغيلهم ساعات عمل طويلة قد تتجاوز عشر ساعات في اليوم في الريف. أما في المدينة فيوم عمل الأطفال يبدأ في الغالب بذهاب الطفل إلى موقع الورشة بين السابعة والتاسعة صباحًا، وينتهي فيما بين الخامسة والتاسعة مساء. وفي أحيان كثيرة لا يحصل الأطفال على فترات راحة، يل إنه قد يطلب من بعضهم في بعض المصانع الصغيرة التي تعمل بنظام الورديات أن يعملوا لورديتين متتاليتين، وذلك في حالة نقص الأيدي العاملة. وفي هذه الحالة يعمل الطفل 16 ساعة متصلة.
ويصل الحد الأدنى لسن بداية العمل عند الذكور على 3 سنوات بينما يصل عند الإناث إلى 6 سنوات. وفي هذه الأرقام الدليل الكافي على مدى لا إنسانية الرأسمالية المصرية التي لا يوقف نهمها للتراكم أي حد. وتختار الأسرة الفقيرة لطفلها في أغلب الأحيان عملاً تراه مناسبًا. ويحد من حرية اختيارها ما يكون متاحًا بالفعل من أعمال في ظل بطالة الأطفال في الفئة العمرية (6 – 11 سنة) التي تبحث لهم أسرهم عن عمل ولا تجده.
يؤيد قولنا هذا بيان خطير أظهره تعداد عام 1976. فقد أوضحت نتائجه أن عدد المتعطلين الجدد في الفئة العمرية المذكورة قد بلغ أكثر من 321،4 ألف طفل. وتساهم بطالة الأطفال هذه في انخفاض أجور الأطفال العمال بشكل كبير.
وفي معظم الأحيان يعمل الطفل لدى شخص غريب عنه لا يمت له بصلة قرابة (84% بالنسبة للذكور و94% بالنسبة للإناث). ويعمل 10.9% من الذكور لدى أقربائهم، بينما تصل نسبة من يعملون لدى أحد الجيران إلى 2.91% من الذكور و3.8% من الإناث. ويلي وذلك من يعملون لدى أحد أفراد الأسرة (1,6% من الذكور) و(1.9% من الإناث).
وإزاء حداثة خبرته يحتمل ألا يستقر الطفل في أول عمل يلتحق به. وتؤكد الأرقام هذه الحقيقة حيث تشير إلى أن هناك 58% من الأطفال قد سبق لهم الالتحاق بأعمال سابقة على أعمالهم الحالية. وتعد قسوة صاحب العمل وصعوبة العمل وطول ساعاته وقلة الأجر من أهم الأسباب التي بيديها الأطفال لترك العمل. يهرب الأطفال من العمل المنهك، ومن صاحب العمل القاسي، في محاولة للإنعتاق من الوضع البغيض الذين يجدون أنفسهم فيه. وفي بعض الحالات يعود الأطفال إلى أسرهم، وإلى أعمال أخرى، بعد فترة وجيزة تحت وطأة صعوبة ظروف الحياة مستقلين. وفي حالات أخرى يتحول العمال الأطفال إلى أطفال شوارع، أرزقية صغار، يحترفون الشحاذة والأعمال الهامشية.
ويتنوع عمل الأطفال ما بين مهام مختلفة في الورش والمصانع الصغيرة. فبعض الأطفال يقومون بالأعمال الخفيفة مثل: الربط والدق والحزم (في المدابغ)، والصنفرة والسمكرة وفك السوست (في الميكانيكا)، ولف البكر والمواسير وتفريغها (النسيج)، وخلط المواد الكيمائية وتقليب الزجاج ليبرد وتقطيعه قبل وضعه في الفرن (صناعة الزجاج). وهناك نفر أخر من الأطفال يعمل في الأعمال المساعدة مثل: مناولة صاحب العمل الأدوات المستخدمة، وتنظيف هذه الأدوات، وإمساك المواد المراد تصنيعها، وتنظيف الورشة، وقضاء المشاوير لصاحب الورشة أو للعمال (شراء الطعام مثلاً). وقد تكون مهمة الطفل في بعض الأحيان متضمنة لقدر من التعامل مع الماكينات ففي ورض النسيج يقف الطفل أمام آلة لف الخيوط على البكر والمواسير التي تستخدم بعد ذلك في آلات صناعة النسيج. وطلب هذه المهمة الحذر والانتباه وإلا تعرض الطفل للإصابة، وهو ما يحدث بالفعل في أحيان كثيرة. كما أن الطفل يقوم بتنظيف الآلة التي يعمل عليها مستخدمًا الزيوت والشحوم، وغالبًا ما يكون التنظيف أثناء دوران الآلة مما يمثل خطورة شديدة عليه. وفي ورش الخراطة بشبرا الخيمة يعمل الأطفال على ماكينات الدرفلة، إذ يمسكون قطعة الصلب ليضعوها في الماكينة من ناحية ويتلقونها من الناحية الأخرى بعد مرورها داخل اسطوانتين. وأيضًا يعمل الأطفال في هذه الورش على ماكينات اللحام الكهربائية.
معنى هذا أن العمال الأطفال يعملون في معظم الأعمال، حتى الأعمال التي تحتاج خبرة ومهارة، والتي من المفترض أن يقوم بها العمال المهرة. وهي أشبه المدارس الصناعية. قد انخفض بشكل كبير. ويرجع ذلك إلى عدم وجود فرصة عند خريجي هذه المراكز للعمل في القطاع العام. كما أن أصحاب الورش ومصانع القطاع الخاص قد أصبحوا لا يقبلون على تشغيل الخريجين، ويفضلون عليهم الأطفال لانخفاض أجورهم.. وهم ما يضطر الخريجين إلى الجلوس على المقاهي، أو الاشتعال في أعمال حرفية إن وجدت.
وتؤثر عمالة الأطفال – خاصة وأن أغلب الأعمال المذكورة تعد من الأعمال الشاقة والخطرة – على قدراتهم الصحية والجسمانية، وأحيانًا تعرضهم للمخاطر كالعاهات وإصابات العمل الجسيمة والحروف، خاصة في الورش التي تستخدم أفران قد تصل درجة حرارتها إلى 1000 درجة مئوية، والتي لا توفر للأطفال العاملين بها أي ملابس خاصة أو أدوات حماية. وأحيانًا يستخدم الأطفال في أعمالهم مواد خطرة مثل ماء النار والكيماويات وغاز الأكسجين. وتلوث هذه المواد أيدي الأطفال ووجوههم وملابسهم، كما أنها تهلك صحتهم على المدى البعيد.
وتشير الأرقام بوضوح كيف أن عمالة الأطفال تدمر صحة الطفل. إذ يصاب 34.96% من الأطفال مرة واحدة أثناء عملهم، ويصاب 15.85% منهم مرتين أو ثلاث مرات، ويصاب 10.16% منهم أكثر من ثلاث مرات.. أي أن أكثر من 60% من العمال الأطفال يصابون على الأقل مرة واحدة بسبب عملهم. وبالطبع لا يوجد على هؤلاء تأمين صحي، أو أي نوع من التأمين.
والأطفال العمال يصابون أيضًا بالأمراض المختلفة: 21.8% منهم مصاب بالبلهارسيا، و22.8% مصابون بحالات إسهال مزمن، و21.9% مصابون بأمراض تعنيه مزمنة، 1.5% يعانون من نزول دم البول، 4.46% أصيبوا من قبل بمرض الالتهاب الكبدي الوبائي. وعندما يمرض الطفل أو يصاب يتولي أهله علاجه، في أقرب جامع أو مستوصف غالبًا، ولا يتولى صاحب العمل، بالطبع، علاجه.
وحين تنظر عن قرب إلى هؤلاء الأطفال وهم راجعون من يوم عملهم الشاق والطويل، تجد ثيابهم رثة وعودهم نحيل وبشرتهم عليه تعلوها القروح والندوب، وإصابات العمل محدثة العلامات في كل أجسامهم، خاصة أياديهم. في عيون هؤلاء الأطفال لن تجد البراءة وإنما ستحد تعبيرات حادة تتجاوز أعمارهم أكسبتهم إياها تجربة العمل الطاحنة. فقد تحملوا منذ نعومة أظافرهم مسئوليات اجتماعية واقتصادية تفوق قدرتهم على التحمل. فدخل هؤلاء الصغار، الذي يبلغ في المتوسط للطفل العامل الواحد 44.48 جنيهًا في الشهر، يصبح بعد فترة دعامة اقتصادية هامة يستحيل التضحية بها. ويدرك الأطفال هذه الحقيقة تمام الإدراك. فحينما سئلت عينة من الأطفال العمال عن رغبتهم في العودة إلى المدارس لاستكمال التعليم، وافقت نسبة 62% منهم على أن يكون ذلك مع الاحتفاظ بعملهم، ويرجع ذلك إلى معرفتهم جيدًا أن أسرهم الفقيرة لا تستطيع العيش دون عملهم.
وعمل الأطفال يحرمهم من فرصة التعليم، وبالتالي تقذف بأعداد جديدة إلى جيش الأميين. 75% (أي 13 مليون) من أطفال مصر، خاصة من أبناء العمال والفلاحين، تسربوا من التعليم خلال سنوات التعليم الأساسي. القليل فقط منهم هو الذي وصل إلى الصف الخامس الابتدائي قبل أن يتوقف نهائيًا عن التعليم.
ويتعرض الأطفال عملهم للضرب والشتم وشتى أنواع الاهانات، الأمر الذي يعمق كراهيتهم للعمل. وقد يستتبع ذلك هروبهم من لهذا الجحيم ومن أهلهم إلى الشارع الذي ربما يكون أرحم من جحيم العمل الشاق والاهانات. وهذا التعذيب والقهر هما من أهم العوامل التي تقف خلف ظاهرة أطفال الشوارع (25% من أطفال مصر مشردون في الشوارع). وهذه شهادة أحد أطفال الشوارع أسمه شريف وعمره إحدى عشر سنة:
لماذا هربت من أهلك؟
ـ لأن خالي كل يوم يضربني لأني لا أريد أن أذهب لهذا العمل. وقيدني.
ما هذا العمل؟
ـ حداد، وأنا لا أريد هذا العمل لأن عندما يلحموا.. اللحام يأتي في عيني وعيني تؤلمني.. ولأن عندما أحمل الحديد على كتفي يتورم.
ولم يكن حادث الطفل عماد نجاح الذي تعرض للتعذيب والنفخ من قبل صاحب ورشة الدوكو التي يعمل بها هو الأول من نوعه ولن يكون الأخير طالما ظلت الرأسمالية المصرية تمارس سلطتها وهيمنتها على المجتمع خالقة كل أنواع المظالم والبؤس والاضطهاد.
عمالة الأطفال والقانون العام للتراكم الرأسمالي
تفاقمت مشكلة البطالة في مصر بدءًا من الثمانينات وحتى الآن. إذ ظل معدل البطالة يرتفع باستمرار عاكسًا بذلك نمو عدد الطبقة العمالة التي تكون جيش العمل الاحتياطي (أنظر “الحركة العمالية في مفترق الطرق”، الشرارة، العدد 2، ص 20).
وتزايد جيش العمل الاحتياطي (البطالة) يعني انعدام أمكانية الحصول على الدخل مع ما يترتب على ذلك من خفض في مستوى المعيشة ونمو عدد من يقعون تحت خط الفقر. وفي هذا الإطار يشير تقرير اليونيسيف إلى أن فقر الأسر هو السبب الذي يقف وراء عمالة الأطفال. فهناك 58.8% من الأسر المصرية يتراوح دخلها ما بين 40 – 160 جنيه شهريًا. وبعض هذه الأسر يكون دخلها الأساسي من عائد الأطفال. فعلى سبيل المثال، في أحدى الأسر يعمل رب الأسرة في المحافظة كعامل للخدمات ويتقاضى مرتبًا مقداره خمسين جنيهًا. وحيث أن هذا المبلغ لم يكفل حد الكفاف لأسرته المكونة من خمس أفراد لذا فقد انخرط اثنان منهم في سوق العمل وهم دون 12 سنة وارتفع بذلك دخل الأسرة إلى 130 جنيه في الشهر.
واستشراء البطالة وإفقار الطبقة العاملة والفئات الأخرى الفقيرة لا تفسرهما قوانين الطبيعة بل قوانين الإنتاج الرأسمالي. فالقانون العام للتراكم الرأسمالي يعين أن تراكم الرأسمالي يشترط نمو الثروة في أيدي طبقة الرأسماليين في قطب، ونمو البطالة والبؤس والجهل والقسوة وعذابات العمل والعبودية والانحطاط الأخلاقي في القطب الأخر في جانب الطبقة العاملة. ويقول ماركس في عمله العظيم “رأس المال” أنه “كلما اتسعت البطالة (جيش العمل الاحتياطي) تعاظم البؤس والفقر. هذا هو القانون العام المطلق للتراكم الرأسمالي”. وتكوين الجيش الاحتياطي من العاطلين يتم عبر وسيلة تمديد يوم العمل وتشديد وتيرة العمل حيث أن الرأسماليين يستغلون وجود جيش من العاطلين عن العمل فيجبرون كل عامل يشتغل على العمل بمقدار عاملين أو ثلاثة، وهذا ما يسهم في إكثار جيش العاطلين. بالإضافة إلى ذلك هناك وسيلة أخرى في تكوين جيش العاطلين وهي طريق التوسع في عمل النساء والأطفال الذين يقبلون أجور أقل الأمر الذي يؤول إلى الاستغناء عن العمال الراشدين. وقد أكد بحث أجراه الإصلاحي أحمد عبد الله على عمالة الأطفال في المدابغ حصول الأطفال على ما يتراوح بين ربع وثلث الأجر الذي يحصل عليه العمال الكبار. وطبعًا بالنسبة للضمانات، مثل التأمينات، فلا يحصل الأطفال على شيء من هذا القبيل لأن من المفترض إنهم لا يعملون طبقًا للقانون.
وهكذا يتضح أن قضية عمالة الأطفال ليست قضية تخص المجتمع المصري فحسب بل أنها قانون من قوانين الرأسمالية أينما وجدت خاصة في الدول المختلفة التي تتسم بطابع التطور المركب واللا متكافئ. ويشير تقرير صادر عام 1979 عن منظمة العمل الدولية إلى وجود هذه الظاهرة بكثافة في قارة أسيا (38.1 مليون طفل) يليها قارة أفريقيا (9.7 مليون طفل) ثم أمريكا اللاتينية (3.1 مليون طفل) وأمريكا الشمالية (0.3 مليون طفل) ثم أوربا (0.7 مليون طفل) ثم استراليا (01، مليون طفل).
فالرأسمالي كما يقول ماركس “يشغل بدلاً من العامل ربما ثلاثة أطفال من أسرة واحدة”. وقد يكون من المفيد أن نعرض هنا دراسة الخالة التالية: الأب حرفي معمار عاطل عن العمل بسبب الطبيعة الموسمية للعمل في هذه المهنة، ولا يملك مصدرًا أخر للدخل. وإزاء بطالة الوالد اضطر جميع أفراد الأسرة للخروج إلى سوق العمل: الأم رغم مرضها والطفلين الصغيرين والابن الكبير 17 سنة. وبذلك تتحصل الأسرة على دخل شهري قدره 160 جنيهًا. ويتساءل ماركس في كتيبه العمل المأجور ورأس المال “ألم يكن من الواجب أن تكفي أجرة الرجل لإعاشة ثلاثة أطفال والزوجة؟ أن هذه الحالة لا تثبت غير الأمر التالي: أن أربع حياتات عمالية واحدة”. أنها تناقضات الرأسمالية المتوحشة! فقضية عمالة الأطفال مسألة واقع رأسمالي بما يكتنفه من تمايز طبقي حاد غير انقسامه لطبقة صغيرة لأحد لغناها وإلى طبقة كبيرة معدمة من العمال والفئات الكادحة الفقيرة تعيش في بؤس وتتعرض لشتى العذابات. وتبقي الإمكانية الوحيدة لتخفيف آلام هؤلاء هي في القضاء على هذا النظام الرأسمالي برمته: ذلك هو الطريق الوحيد للخلاص من نير البطالة والبؤس والقهر لملايين المحرومين من الأطفال والكبار.