التأمين الصحي: المحطة القادمة لقطار الخصخصة
عندما أُعلن عن تشكيل الحكومة الجديدة بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة، وتولي رجال الأعمال جميع الوزارات الخدمية، فهم الجميع الرسالة: قطار الخصخصة يندفع الآن بأقصى طاقته ليحصد كل ما تبقى.. الرأسماليون الجدد اكتشفوا أن البيروقراطيين القدامى أمثال الجنزوري وعاطف عبيد ورجالهما ـ رغم ولائهم المطلق، وخدماتهم التي لا تحصى، وفسادهم الذي صار يُطبق على أنفاس الجميع ـ غير مؤهلين ولا قادرين على إتمام المهمة.. اكتشف الرأسماليون الجدد أن عليهم أخذ زمام الأمر بأيديهم، وإعادة ترتيب توازنات القوى بما لا يسمح بأي خلل أو تردد في انتهاج السياسات المعبرة عن مصالحهم، والاندفاع بقطار الخصخصة إلى محطاته النهائية: البنوك، والصناعات الهندسية، والمواصلات العامة، والسكك الحديدية، والمياه، والطاقة، وبالطبع الخدمات الصحية التي يأتي على رأسها قطاع التأمين الصحي.
سوف تحصل على العلاج بقدر ما تملك من أموال، وليس بقدر ما تحتاجه حالتك الصحية.. وإذا كنت لا تملك أموال من الأصل فالأفضل لك ولحكومة رجال الأعمال أن تموت.. هذا هو مشروع قانون التأمين الصحي الجديد، الذي يتحسس طريقه في الخفاء الآن داخل أروقة مجلس الشعب، ليتم إقراره كالعادة بين ليلة وضحاها.. تستعرض المقالتان التاليتان أحوال التأمين الصحي في مصر ومدى التدهور الذي وصل إليه، وتحاولان الكشف عن الخطط المقترحة في مشروع القانون الجديد، وتفضحان الإدعاءات الحكومية حول ميزانية الرعاية الصحية والتأمين الصحي، مع تقديم بعض المطالب العملية التي يمكن النضال حولها..
يحدث الآن للتأمين الصحي
في حلقة جديدة من مسلسل الفساد والخصخصة، يأتي مشروع خصخصة التأمين الصحي تتويجاً لمسيرة النظام فى نهب المممتلكات والإفقار المتعمد للشعب المصري. فبعد أن أعلنها النظام أخيراً وبلا خجل بأن كل شئ للبيع، ها هي البوادر تلوح مؤخراً عن نيته الواضحة فى خصخصة مستشفيات وممتلكات التأمين الصحى و تصفيتها.
قانون خصخصة التأمين الصحي
وعلى الرغم من أن القانون لازال في طي الكتمان، يتم التعامل معه بسرية تقارب سرية الملفات الحربية، لكن بإمكنا أن نستشف العديد من ملامحه الخافية بالنظر إلى القانون الذي سبق طرحه عام 2000 على مجلس الشعب.
يطرح مشروع القانون بيع هياكل مستشفيات وعيادات ومراكز التأمين الصحي ووقف قيام هيئة التأمين الصحي بتقديم الخدمة بنفسها. هذا الاتجاه يرتبط بسياسات “الإصلاح” الصحي المتوافقة مع السياسات الليبرالية الجديدة، التي تقوم على استبعاد دور الحكومة واستبدالها بالقطاع الخاص، بحجة أن القطاع الخاص سيكون مدعوماً بحافز الربح والتنافس لخدمة المستهلك، مما يحل مشكلة تدني الخدمات الصحية المقدمة وتدهورها.
وإذا كان السبب المعلن عن الهدف من القانون الجديد هو تدني وتدهور مستوى الخدمات والرعاية الصحية المقدمة للمواطنين (انظر إلى حملة الدعاية الحكومية على تدهور الحالة في مستشفيات التأمين الصحي، التي بدأت فور تولي الحكومة الجديدة، وكأنهم اكتشفوا الأمر فجأة) إلا أن الحقيقة الكامنة وراء القانون هو ما يشكله القطاع الصحي من عبء متزايد على عاتق الدولة وعلى الموازنة العامة، لذا لا يجد النظام ـ في سياق أزمته الاقتصادية ـ مخرجاً غير رفع يده عن هذا القطاع الحيوي والمهم لمعظم شرائح وطبقات المجتمع المصري، بدلاً من تطويره وضخ المزيد من الأموال والخبرات إليه وتحسين خدماته.
هذا لا يعني بالطبع عدم وجود تدهور شديد في الخدمات المقدمة داخل قطاع التأمين الصحي. فالفساد والنهب المتفشي في كل أركان المؤسسة الصحية في مصر أدى إلى حالة متردية لمستوى الخدمات الصحية في المستشفيات والمراكز الطبية التابعة لهذا القطاع، بالإضافة إلى تدهور أجور الأطباء، الذي أدى ـ بالطبع ـ إلى هجرهم للمستشفيات والمراكز الصحية سعياً إلى تحسين أحوالهم الاقتصادية عبر العمل في المؤسسات والعيادات الخاصة.
ضحايا التأمين الصحي
يكشف عن ذلك التردي العدد الكبير من الشكاوى والدعاوى القضائية المرفوعة من المواطنين على قطاع التأمين الصحي، التي تكشف عن حجم الإهمال والتردي فى مستوى الخدمات الصحية المقدمة. سنجد مثالاً على ذلك فيما نشرته إحدى الصحف منذ بضعة أشهر عن أحد المواطنين الذي دخل واحدة من مستشفيات التأمين الصحي بسبب كسر فى ساقه وخرج منها محمولاً على قبره! لم يحدث ذلك بسبب الجراحة ـ التي أجريت بنجاح ـ وإنما بسبب أخطاء في المتابعة والعلاج أثناء فترة النقاهة، حيث كان المريض مصاباً بالسكر ونتيجة لعدم حصوله على الرعاية الكافية أصيب بقرحة فراش، واستفحل الأمر بسبب خطأ إحدى الممرضات فى تركيب قسطرة بولية له مما أدى إلى إصابته باحتجاز للبول وازدياد لمعدل البولينا في الدم وانتهى الأمر إلى تدهور حالته بصورة سريعة ثم وفاته.
مثال آخر هو حالة المواطنة هـ. ع. التي أجريت لها أربعة جراحات بهدف اكتشاف السبب في الآلام التي تشعر بها فى منطقة الكلية! كانوا على التوالي: جراحة كحت رحم بدعوى أن الحالة هى نزيف في الرحم، مع أن السيدة تعدت الـ 65عاماً؛ وأخرى لاستكشاف المثانة والحالب؛ وأخرى لتركيب قسطرة للحالب، تبين بعد ذلك أن تركيبها تم بشكل خاطئ؛ وجراحة أخيرة للاستكشاف يقرر الأطباء بعدها إجراء فحص ذري وتحليل بالصبغة. وربما كانت مستشفيات التأمين الصحي هي الجهة الصحية الوحيدة في العالم التي تقرر عمل الفحوصات والتحاليل بعد الجراحات وليس قبلها! ويبدو هذا وكأنه استراتيجية عليا لا يفهمها البسطاء من أمثالنا.
الإنفاق الحكومي
رغم كل هذا التردي يظل قطاع التأمين الصحي هو الجهة الوحيدة تقريباً التي تقدم خدمات صحية قليلة التكلفة للفقراء ومحدودي الدخل، وهم أكثر من نصف الشعب المصري. في هذا السياق تأتي التصريحات الحكومية التي نسمعها بين حين وآخر عن العبء الذي يمثله التأمين الصحي على ميزانية الدولة لتكشف عن حجم التدليس في تصريحات حكامنا. الحقيقة أن الخدمة التي يقدمها التأمين الصحي ليست مجانية لأن المواطنين يدفعون ثمنها من رواتبهم ومعاشاتهم. هذا غير أن المستشفيات غالباً ما تجبر المرضى وذويهم على تحمل معظم تكاليف المستلزمات الطبية الغير المتوفرة بها كالقطن والشاش وخلافه. ورغم أن خدمات قطاع التأمين الصحي ينتفع بها أكثر من 30 مليون مواطن فإن الميزانية المقدرة له لا تتجاوز الملياري جنيه، بينما يتجاوز الإنفاق العام على العلاج العشرين مليار. ولنا هنا أن نتعجب من صراخ الدولة بسبب “عبء التأمين الصحي” بينما هي توجه أقل من 10% من ميزانية الإنفاق الصحي على الخدمات الصحية المقدمة لما يقرب من 50% من المصريين، الأكثر فقراً بينهم بالطبع.
فقراء المصريين هم من يعانون من تدني مستوى الخدمة في التأمين الصحي، وهم أيضاً أصحاب الحق والمصلحة في تطويره وليس في خصخصته، وهم أخيراً ـ وياللمفاجأة ـ الملاك الشرعيون لهيئة التأمين الصحي، التي أُسست ويتم الإنفاق عليها بأموال مقتطعة من أجورهم. ولنا هنا أن نتساءل أين ستذهب حصيلة البيع المرتقب ـ بعد إقرار القانون الجديد ـ لأربعين مستشفى ومائة وأربعين عيادة شاملة، تمثل هيكل قطاع التأمين الصحي، تم بناؤها بأموال المؤمن عليهم، ومن ثم لا تملك الدولة دستورياً حق التصرف فيها.
هيئة التأمين الصحي، ورغم كل التدهور في حالتها، لازالت هي حائط الصد الأخير الذي يحتمى به ملايين الكادحين من الغزو الشرس للشركات الطبية العالمية، التي لا يهمها سوى الربح. لذا علينا أن نتوقع المزيد من التدهور في مستوى الخدمات الصحية المقدمة لغالبية الفقراء من المصريين إذا ما مَضوا فى مشروع خصخصة التأمين الصحي إلى نهايته. فالنتيجة المتوقعة أن الغالبية الساحقة من المصريين ستصبح غير قادرة على تحمل تكاليف العلاج والحصول على خدمة طبية لائقة. والمؤكد أن القطاع الخاص، الذي سيصبح مالكاً لمستشفيات التأمين الصحي، لن يعنيه سوى تحقيق الأرباح، والمزيد من الأرباح ولو على حساب أرواح الملايين من المعدمين.