الرأسمالية والعمال والإصلاح الاقتصادي (الجزء الأول)
من الذي يدفع ثمن الإصلاح؟
هذا هو الجزء الأول من تحقيق على جزأين يرصد ويحلل عملية الإصلاح الاقتصادي في مصر – العملية التي بدأت قبل ربع وتسارعت في السنوات الأخيرة. الجزء الأول سيحاول الإجابة على سؤال رئيسي: من الذي يدفع ثمن الإصلاح؟ أما الجزء الثاني فسيستكمل إجابة السؤال ثم ينتقل ليحلل طبعة الإصلاح ومضمونة الطبقي الرأسمالي. في الجزء الثاني أيضًا سيطرح السؤال الاستراتيجي المهم: هل سيمكن الإصلاح الرأسمالية المصرية من أن تكون “نمرًا” اقتصاديًا في الشرق الأوسط؟ أم أن عالم الرأسمالية المأزوم اليوم سيجر الرأسمالية المصرية الضعيفة إلى دائرة الركود والتقهقر؟ وأي يمكن أن تطرحه احتمالات المستقبل على الطبقة العاملة وعلى الثوريين الذين يتبنون المشروع الاشتراكي العمالي الثوري؟
مقدمة:
بحلول العام الحالي – 1999 – يكون قد مر خمسة وعشرون عامًا بالتمام والكمال على إقرار قانون استثمار رأس المال العربي والأجنبي (القانون 43 لعام 1974) الشهر باسم قانون الانفتاح. ويعد هذا القانون كما يعلم الجميع البداية الرمزية – التي سبقتها تمهيدات كثيرة – لعملية إعادة هيكلة الرأسمالية المصرية بقيادة الدولة في اتجاه السياسات الليبرالية الجديدة الهادفة إلى تقليص الدور المباشر للدولة في الاقتصاد، وإلى توسيع دور رأس المال الخاص وجذب الاستثمارات العالمية، وإلى إعادة السيطرة لما يطلق عليه قوى السوق الحر (“اليد الخفية” الشهيرة التي توزع الموارد وتحدد الأسعار)
نحن إذن نشهد اليوبيل الفضي لما سمى بسياسات “الإصلاح الاقتصادي” التي مرت بمراحل التسعينات التي بدأت بتوقيع اتفاقية مع صندوق النقد الدولي (مايو 1991) وانتهت بسيل من شهادات النجاح والتقدير من جانب المؤسسات الرأسمالية العالمية للحكومة المصرية لنجاحها في “تنفيذ الاتفاقية” وفي “تحسين حالة اقتصادها بصورة جذرية”. وفي يوبيل كهذا بحق للرأسماليين وأتباعهم ن يفرحوا ويحتفلوا – إلى حين – بنجاحهم، بينما على الاشتراكيين الثوريين المناضلين ضد نظام الاستغلال الرأسمالي أن يطرحوا عددًا من الأسئلة المركزية ويجيبوا عليها بعمق ووضوح يتيحان لهم مواصلة نضالهم على أرضية صلبة من الفهم: فما الذي دفع الدولة إلى طريق الإصلاح؟ وما هو مضمونه الطبقي؟ ومن الذي دفع ثمنه؟ وهل بالفعل سيعطي هذا الإصلاح دفعة جديدة للرأسمالية المصرية؟
وسنبدأ بالسؤال حول الثمن تم دفعه من أجل إصلاح حال الرأسمالية المصرية. فالمسألة المركزية بالنسبة للرأسمالية، وبالتالي بالطبع بالنسبة للدولة، كانت ولا تزال هي مسألة الربحية في الأجل الطويل. بغض النظر عن كل الطنطنة الكاذبة حول أولوية مصالح “محدودي الدخل” و”الفقراء” وحول “البعد الاجتماعي للإصلاح”، فإن القضية الأساسية التي حددت مسار الإصلاح ومضمونه كانت هي تحفيز التراكم الرأسمالي ورفع معدلات الأرباح. ذلك أن نشاط وحيوية وتوسع الرأسمالية المصرية – كأي رأسمالية أخرى – يرتبطون بشكل جوهري بمعدلات الربحية طويلة الأجل. كلما ارتفعت هذه الأخيرة كلما زادت الاستثمارات المحلية وتدفقت الاستثمارات العالمية وتوسعت المشاريع افتتحت المصانع. وكلما انخفضت كلما زاد أو سيطر الكساد وهرب المستثمرون وأغلقت المصانع. ولذلك فإنه في المطاف الأخير تقوم كل محاولات إصلاح الرأسمالية، بالرغم من تباينها، على أساس واحد هو محاولة رفع معدل الربحية في الاقتصاد. فكيف قامت إستراتيجية الإصلاح المصرية بمحاولة تحقيق هذا الهدف؟ ومن الذي دفع الثمن؟
الأجور ويوم العمل:
أول الطرق وأكثرها مباشرة لرفع معدلات الربحية هو رفع معدل فائض القيمة المطلق أو بلغة أخرى إطالة يوم العمل أو تخفيض الأجور أو الاثنين معًا. وسجل الرأسمالية المصرية في هذا المجال معروف تمامًا. فالذي دفع ثمن الأزمة التي تلت عقد النمو السهل الممول بالديون في منتصف السبعينات إلى حوالي منتصف الثمانينات هم العمال وفئات البرجوازية الصغيرة – خاصة العمال. ففي مجال الأجور تشير أحد الإحصاءات – وهي تتسم بعدم الدقة – إلى تدهور نصيب الأجور من أجمالي الدخل القومي في الفترة من 1974 إلى 1985 من 50.0% إلى 33.0. هذا بينما تشير الإحصاءات المحسوبة على أساس الأرقام الواردة في الكتاب الإحصائي السنوي الصادر في يونيو 1996 عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى أن نصيب الأجور من الناتج المحلي الإجمالي بتكلفة عوامل الإنتاج قد وصل في عام 1989/1990 إلى 28.3%، ثم واصل تدهوره حتى وصل في عام 1994/1995 إلى 26.7% من الناتج المحلي. ولا يمكننا متابعة التطور لأبعد من 1995، وذلك لأن إحصاءات تطور الأجور السنوية اختفت من الكتاب الإحصائي السنوي الصادر عن جهاز الإحصاء (وهو جهاز حكومي) في أعداده التي ظهرت بعد يونيو 1996!
هذا في مجال التدهور النسبي للأجور (نسبتها من إجمالي الدخل القومي). أما في مجال تدهورها المطلق فيمكننا النظر من خلال مؤشرين: أولهما هو تطور إجمالي الأجور في الدخل القومي، وثانيهما هو تطور متوسط الأجر للفرد. بالنسبة للمؤشر الأول تشير الإحصاءات إلى أن أجمالي الأجور النقدية قد زاد من 29 بليون و830 مليون في عام 90/1991 إلى 50 بليون و997 مليون في عام 94/1995، أي زاد بنسبة 71%. ولكن إذا ما استبعدنا أثر ارتفاع الأسعار (التضخم) فيما بين عامي 90 و95 سنجد أن معدل الزيادة الحقيقية في الأجور لا يتجاوز 6.9%. وبالطبع فإن هذا الرقم الإجمالي ومعدل زيادته يخفيان من الحقائق أكثر مما يظهران. فإذا ما علمنا مثلاً أن زيادة ألـ 6.9% تلك خلال السنوات الخمس المشار إليها قد قابلتها زيادة بـ 11.2% في أعداد المشتغلين بأجر في الاقتصاد المصري خلال نفس الفترة، لاستنتجنا بسهولة أن متوسط الأجر للفرد انخفض. ثم إذا أضفنا إلى الصورة حقيقة أن إجمالي الأجور يجمع في داخله أجور فئات طبقية واجتماعية عديدة عدا أجور الطبقة العاملة (إدارة عليا، مهنيون من الطبقة الوسطى، خبراء واستشاريون، بيروقراطيون.. الخ)، فإنه في الأغلب كانت الزيادة في إجمالي الأجور النقدية موزعة بشكل غير عادل ومتساوي على كل فئات العاملين بأجر لصالح شرائح المهنيين والإداريين البيروقراطية العليا. ويبدو هذا الاستنتاج منطقيًا في ضوء ما نراه من تبلور لشريحة إدارية وفنية متوسعة في العديد من المؤسسات الاقتصادية والشركات الخاصة تحصل على أجور شديدة الارتفاع.
ولذلك كله فإن مؤشر متوسط الأجر الحقيقي المستقي مباشرة من كشوف الأجر أكثر دقة في توضيح معدلات تدهور أجور العمال في مصر. تشير إحصاءات التوظيف والأجور وساعات العمل التي يصدرها سنويًا الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء – والمصححة لإلغاء أثر التضخم – إلى أن الرقم القياسي لأجور العمال الحقيقية في القطاعين العام والخاص قد ارتفع من 100 في عام 1972 (سنة الأساس) إلى 137 في عام 1985 (سنوات الانتعاش المالي)، ثم بعد ذلك انخفض بشدة من 137 إلى 81 في عام 1994. أي أنه على السنوات العشر من 1985 إلى 1994، انخفضت الأجور الحقيقية للعمال بنسبة 41%. وإذا ما قسمنا هذا الإجمالي إلى قسميه الرئيسيين: أجور عمال القطاع العام وأجور عمال القطاع الخاص لأدركنا الصورة بشكل أفضل. فقد كان معدل التدهور أعلى في القطاع الخاص. إذ انخفضت الأرقام القياسية للأجور في هذا القطاع من 151 في 1985 على 79 في 1994 (48%). أما في القطاع العام فقد تراجع الرقم القياسي من 134 إلى 84 (37%).
الجانب الآخر لسياسات رفع معدل فائض القيمة المطلق هو إطالة يوم العم لمقابل نفس الأجر أو مقابل زيادة محدودة فيه. وبالرغم من أنه لا توجد مؤشرات إحصائية واضحة حول هذه المسألة، إلا أنه يبدو من شبه المؤكد أن هناك اتجاه عام لإطالة يوم عمل العامل المصري على ندى السنوات الأخيرة. فلننظر أولاً إلى حالة القطاع العام الذي تدعي الرؤية السائدة في الصحافة أن عمالة لا يعملون، ولكن فقط يطالبون برفع أجورهم!! هناك عملية “وحشية” جارية لإعادة هيكلة القطاع العام وخصخصته. تتضمن هذه العملية عدة أوجه متداخلة أولها هو إغلاق وتصفية مصانع أو أجزاء من مصانع. فحتى 30 يونيو 1998 تمت تصفية 26 شركة من شركات قطاع الأعمال العام، أكثر من ثلثهم تمت تصفيته في عام 98 وحده. وسوف تزيد معدلات التصفية في الفترة القادمة نظرًا لأن أغلب الشركات المتبقية غير المخصخصة تعاني من مصاعب فنية واقتصادية ضخمة تتطلب تصفيتها. الوجه الثاني لإعادة الهيكلة هو الخصخصة (البيع في البورصة أو لمستثمر رئيسي)، وقد تمت حتى 30 يونيو 98 خصخصة 58 شركة من إجمالي 314 شركة هم شركات قطاع الأعمال العام. أما ثالث وآخر وجوه إعادة الهيكلة فهو تحسين الأوضاع المالية للشركات المتبقية سواء إعدادًا لبيعها أو حتى لإبقائها مملوكة للدولة ولكن في إطار نظم للإدارة والتسويق متماثلة تمامًا مع نظم القطاع الخاص، وفي هذا السياق فإن واحدة من الوسائل الرئيسية لإعداد الشركات للبيع هي سياسة المعاش المبكر.
فما هي آثار هذه العملية بأوجهها المتعددة على العمال؟ إن ما يحدث ينعكس على العمال أولاً في صورة طرح تشريد، غالبًا عن طريق المعاش المبكر (أو المعاش الصحي أحيانًا). وقد ذكر تقرير لوزارة قطاع الأعمال العام أن عدد عمال القطاع قد انخفض من مليون قبل سنوات إلى 790 ألف عامل اليوم. وقد خرج معظم هؤلاء العمال عن طريق المعاش المبكر، وينتظر أن يشرد 50 ألف إضافيين في العام الحالي وحده. وكل هذا يؤدي إلى تخفيض ميزانية الأجور التي تدفعها الشركات (في أواخر 1997 تباهي عاطف عبيد وزير قطاع الأعمال بأن المرحلة الأولى للمعاش المبكر ستحقق وحدها وفرًا سنويًا في فاتورة الأجور مقداره 189 مليون جنيه!).
ولكن عملية إعادة الهيكلة في القطاع العام تنعكس على العمال أيضًا في شكل آخر. فالوجه الثاني للتسريح والطرد والتشريد هي إطالة يوم عمل (إضافة بالطبع إلى تخفيض أجور) العمال الذين الإبقاء عليهم – سواء في المصانع المخصخصة أو المصانع التي لا زالت تابعة للقطاع العام. وسجل إضرابات التسعينات يعطينا الدليل على ذلك. ففي نسبة هائلة من الإضرابات كان العمال يحتجون على سياسات الإدارة لتقليل الأجازات (مثلاً عن ربطها بالحافز)، ومنع الراحات والتدخين والذهاب للعيادة… الخ – أي يحتجون على محاولات الإدارة المباشرة لاستنزاف العمل لساعات أطول، ولكن دون الإطالة “الرسمية” ليوم العمل. وعلى سبيل المثال، فقد اندلع أهم إضرابات التسعينات – إضراب شركة الغزل بكفر الدوار عام 1994 – في مواجهة سياسات وحشية لإطالة يوم العمل عن طريق تقليل الإجازات ومنع الراحات.
أما في القطاع الخاص – في المدن الصناعية الجديدة وفي المناطق الصناعية القديمة – فالوضع سيء بشهادة كل مراقب منصف. سجل الرأسمالية الخاصة الجديدة في أغلب الشركات – بالذات في حالات قطاعات كقطاع الغزل والنسيج – يعيدنا إلى مراحل غابرة من تاريخ الرأسمالية في العالم، حينما كان العمال يناضلون من أجل إنقاص يوم العمل إلى عشر ساعات “فقط”! وهناك في هذا المجال قصص عديدة (للأسف لا توجد مؤشرات رقمية لدينا) تجعلنا نرى بعينينا – وبوضوح – الوجه البربري للرأسمالية المصرية عند منعطف نهاية القرن العشرين. وسنذكر هنا قصة واحدة على سبيل المثال. ففي أحد مصانع القطاع الخاص ابتكرت الإدارة كارتًا لدخول الحمام! يوزع على كل عنبر كارت واحد يحق “لحامله” دخول الحمام. وعلى كل عنبر أن ينظم عماله ساعاتهم البيولوجية لتتوافق مع شروط الاستغلال الرأسمالية بحيث لا يحتاج لقضاء حاجته إلا عامل واحد في كل عنبر في نفس الوقت!.
وعلى هذا، فإنه أمر يقيني أن محاولات إصلاح الرأسمالية قد تحققت في جزء غير يسير منها عن طريق تكثيف استغلال العمال بشكل زيادة فائض القيمة المطلق. فما سلب من العمال في صورة تخفيض الأجور أو في صورة إطالة ليوم العمل، أضيف أوتوماتيكيا إلى أرباح الرأسماليين وإلى خزينة الدولة. لقد أصبحت الرأسمالية المصرية اليوم – بالرغم من تخلفها وضعفها – أكثر “رشاقة” بكثير من حالها قبل عشرون عامًا: عمال يعملون وقتًا أطول في مقابل أجور أقل. إلا أن هذا وحده لم يكن كافيًا لرفع معدلات الربح إلى الحد الذي يحقق تنافسية الرأسمالية. هناك عناصر أخرى كان لابد أن تضاف لعملية “الإصلاح” حتى تستعبد الرأسمالية المصرية عافيتها (مؤقتًَا). وهذا بالضبط ما سعت لتحقيه الجوانب الأخرى لسياسات “الإصلاح” وعلى رأسها الجوانب المرتبطة بالسياسات المالية للدولة.
الميزانية والسياسة المالية:
الصورة الإجمالية التي وصدناها في القسم السابق، تنقصها تفاصيل هامة، ولكنها على أي حال توضح – على الأقل – أثرًا واحدًا من آثار عملية “الإصلاح” التي سارت على دربها الطبقة الحاكمة المصرية للخروج من أزمتها. فقد أصبح عمال مصر – كما ذكرنا – يعملون لساعات أطول مقابل أجور أقل، وأشرفوا على أن يتحولوا – إذا استعرنا تعبيرات كارل ماركس – إلى “مجرد آلات تنتج الثروة للغير – آلات منسحقة جسديًا ومتبلدة روحيًا يستأثر عملها للرأسمالي بكل حياتها” (لولا نضالاتهم ومعاركهم التي مهما تضاءل تأثيرها، إلا أنها أبقت جذور الحياة والإنسانية مشتعلة في صدورهم).
ولكن حتى ندرك بشكل أعمق ما الذي فعلته سياسات الإصلاح، ومن الذي دفع ثمنها، ومن الذي استفاد منها، علينا أن نفحص بشكل دقيق آثار السياسات المالية للدولة المصرية على مدى العقدين الأخيرين، وكيف أنها صممت لإفقار الجماهير ولدعم الرأسمالية. وفي الواقع، فإن أكثر جوانب سياسة الإصلاح الاقتصادي وضوحًا وبروزًا للعيان هي تلك المتعلقة بالإصلاح المالي – أي بتغيير حجم وهيكل الميزانية العامة للدولة. وفي هذا الشأن، سارت مصر ولم تحد عن الطريق الذي يسمى بالليبرالية الجديدة الذي سارت وما زالت تسير عليه عشرات من دول العالم – وبالأخص دول العالم الثالث – في السنوات العشرين الماضية. ويقوم هذا الطريق على تقليص درجة تدخل الدولة في الاقتصاد، وعلى إطلاق ما يسمى بقوى السوق الحر التي – كما يدعي أنصار الليبرالية الجديدة – ِ”ستعطي لكل مجتهد نصيبه”! وفيما يتعلق بميزانية الدولة فإن هذا معناه بالتحديد إعطاء الأولوية لتوازن الميزانية فوق – وبغض النظر – عن أي اعتبار آخر. ومن الأمور ذات الدلالة هنا أن أولئك الذي يروجون باستماتة لتوازن الميزانية اليوم، كانوا في معظمهم قبل عقدين فقط لا أكثر يروجون للنقيض بالضبط. فحتى السبعينات كانت الروشتة الرأسمالية – حتى تلك التي يصفها البنك الدولي – تقوم على تحفيز تدخل الدولة في الاقتصاد عن طريق الميزانيات الكبيرة حتى ولو بالعجز والديون الثقيلة. أما في الآونة الراهنة فإن السياسة الموصى بها والتي تتبناها الطبقات الحاكمة بطول العالم وعرضه هي سياسة التقشف وتخفيض الإنفاق وزيادة الإيرادات حتى تتوازن الميزانية. نقول هذا حتى ننزع الغطاء الأيديولوجي البراق الذي يضعه الاقتصاديون البرجوازيون على السياسات الجديدة. فلا السياسات القديمة كانت مصممة من أجل مصالح الجماهير، ولا الجديدة كذلك الآن. كل ما في الأمر أن توازن الميزانية – الذي يدعي اليوم أنه من علامات الصحة – هو عنوان على السياسة المالية التي هدفها إفقار الجماهير ودعم رأس المال في ظل ظروف الأزمة الرأسمالية التي نشبت في أواسط السبعينات ثم مرة أخرى في أوائل الثمانينات؛ تلك السياسة التي لم تفلح في إخراج الطبقات الحاكمة من عثراتها، ولكنها.. بالتأكيد – أفلحت في إفقار الطبقة العاملة وكافة المستغلين. وهذه السياسة لها تأثيرات جبارة على إفقار الجماهير لأنها – كما سنرى بوضوح – سلاح فعال في يد الدولة لإعادة توزيع الدخل؛ سلاح يكتسب قوته من حجم الميزانية الكبير بالنسبة إلى الدخل القومي. ففي ظل تراجع الحركة العمالية والجماهيرية استطاعت الدولة أن تفرض التقشف على الجماهير وأن تعطي العون للرأسماليين.
هذا بينما كان أنصار النظام ودعاته يتحدثون ليل نهار عن أن مصلحة الجماهير هي في القلب من عملية التغيير!
وتلعب ميزانية الدولة في مصر دورًا شديد الأهمية في الحياة الاقتصادية. فبالرغم من الانخفاض المتواصل لنسبتها إلى الدخل القومي – حيث انخفضت نسبة الإنفاق العام بالميزانية إلى إجمالي الناتج المحلي بتكلفة عوامل الإنتاج من 69.3 في عام 1981/1982 على أقل من 46% في عام 1994/1995 – إلا أنها لا تزال تمثل ما يقترب من نصف الناتج المحلي. ولذلك فالتغييرات الهامة التي حدثت في مكوناتها – والتي سنتحدث عنها بعد قليل – كانت لها أهمية كبرى. بل يمكننا القول أنها لعبت دورًا محوريًا في تخفيض الأجور (بالتحديد ما يسمى بالأجر الاجتماعي، وهو ما يحصل عليه العامل في صورة إنفاق عام على الخدمات والتعليم والصحة والدعم.. الخ) وفي رفع الأرباح والرأسمالية. وبالرغم من أنه ليس سهلاً التحديد الدقيق للدور الذي لعبت الميزانية في هذا السياق بسبب تداخل البنود وغموضها أحيانًا، إلا أننا فيما يلي سنحاول تحليل بعض أهم الاتجاهات العامة. وسنبدأ بنظرة عامة على الميزانية.
نظرة عامة على الميزانية:
شهدت ميزانية الدولة تغييرًا هيكليًا في سنوات التسعينات. فكما يظهر من الجدول رقم 1 ارتفعت الإيرادات الحقيقية للدولة بنسبة 16.7%، وانخفض الإنفاق الحقيقي لها بنسبة 26%، ذلك فيما بين عامي 1990/1991 (العام السابق مباشرة على توقيع الإنفاق مع صندوق النقد) و1997/1998. ويعكس ذلك تصميم الدولة خلال تلك السنوات – سنوات تطبيق برنامج الإصلاح – على إتباع سياسات تقشفية تقوم على تخفيض النفقات (وهو ما عنى – كما سنرى – الإفقار المطلق للجماهير) وعلى زيادة الإيرادات أساسًا عن طريق زيادة حصيلة الضرائب. والنتيجة – وهي نتيجة تفتخر بها الدولة صباح مساء – كانت تخفيض العجز في الميزانية من 20% من الناتج المحلي الإجمالي في 1990/1991 إلى 1% في 1997/1998. هذا التخفيض، وما صاحبه من تخفيض للتضخم، دفع ثمنه العمال والفقراء عامة. وفي حين أنه أصبح أساسًا لامتداح النظام من قبل الحكومات الرأسمالية المتقدمة ومن قبل المؤسسات النقدية والمالية العالمية، إلا أن تحقق فقط بواسطة مدعوم بقوة سلاح نظام مبارك القمعي.
جدول رقم 1
المعدل الحقيقي للنمو السنوي لكل من الناتج المحلي الإجمالي والإيرادات العامة والإنفاق العام
السنة / البند | الناتج | الإيرادات | الإنفاق |
90 / 91 | 3.7% | 22.4% | 20.7% |
91 /92 | 1.9% | 16.6% | 16.5-% |
92 / 93 | 2.5% | 3.1-% | 7.8-% |
93 / 94 | 3.9% | 3.3% | 1.1-% |
94 / 95 | 4.7% | 3.1-% | 5.3-% |
95 / 96 | 5.0% | 1.8% | 2.2% |
96 / 97 | 5.3% | 0.3-% | 1.5-% |
97 / 98 | 5.7% | 0.15% | 2.0% |
النمو بين
91 / 90 و 97 / 98 |
48.6% |
16.7% |
26-% |
المصدر: محسوب من أرقام وزارة المالية.
ونستطيع أن نرى من (جدول -1) أن معظم الزيادة الحادة في الإيرادات في عامي 90/91 و91/92، وهما عامان فرضت فيهما الدولة ضرائب جديدة تحملها – كما سنرى – الفقراء والعمال، إضافة إلى تطويرها لنظم جباية الضرائب القائمة بالفعل. وفي الأعوام التي تلت هذين العامين لم تحدث زيادات تذكر في الإيرادات (بل أنها انخفضت في عدد من الأعوام). أما فيما يتعلق بتخفيض الإنفاق فهو يمتد على مدى عدد أكبر من السنوات (بل أنه كما سنرى عندما نتحدث تفصيلاً عن الإيرادات بدأ يحدث في أوائل الثمانينات). وإذا ما استثنينا عام 90/91 الذي حدثت فيه زيادة كبيرة في الإنفاق (ربما جزئيًا بسبب حرب الخليج)، فإن معظم السنوات المرصودة حدثت بها إما انخفاضات كبيرة في الإنفاق (وهذا هو الأغلب) أو زيادات محدودة فيه. والنتيجة الإجمالية كانت انخفاض هائل في إنفاق الدولة الحقيقي.
ونلاحظ أيضًا أنه بالرغم من أن الوصول لتوازن الميزانية قد تحقق عن طريق كل من زيادة الإيرادات وخفض الإنفاق إلا أن الإنفاق تحمل العبء الأكبر في هذه العملية. فبينما زادت الحقيقية بحوالي 5 مليارات جنيه بين 90/91 و97/98 (بأسعار 90/91)، انخفض الإنفاق الحقيقي بحوالي 13 مليار جنيه في نفس الفترة (بأسعار 90/91 أيضًا). وعلى أي حال فسواء نظرنا لجانب رفع الفقراء والعمال. وهذا أمر يمكن التدليل عليه إذا فهمنا كيف تم كل من الزيادة والتخفيض.
إيرادات الميزانية:
تحصل الدولة على إيراداتها من عدد من المصادر أولها وأهمها هو الضرائب (والجمارك) بأنواعها المختلفة. ثم يلي ذلك في الأهمية إيرادات الأرباح المحولة من مشروعات الدولة، وقناة السويس، وحصيلة الخصخصة.. وغيرها من البنود الأقل أهمية. ولأن الضرائب هي أهم مصدر للإيرادات، ولأن تغيير السياسة الضريبية يلعب دورًا محوريًا في إعادة توزيع الدخل. فسنفحص فيما يلي كيف أفقرت الدولة – من خلال الضرائب الجماهير – ودعمت الرأسماليين.
جدول رقم 2
الإيرادات ونسب مكوناتها الضريبة المختلفة
السنة / النسبة | نسبة الضرائب
إلى إجمالي الإيرادات |
نسبة ضريبة المبيعات إلى إجمالي الضرائب | نسبة ضريبة أرباح رأس المال إلى إجمالي الضرائب |
91 / 92 | 56 % | 26 % | 37.4 % |
92 / 93 | 58.5 % | 26.3 % | 36.8 % |
93 / 94 | 59.6 % | 25.7 % | 33.9 % |
94 / 95 | 61.5 % | 27.2 % | 31.4 % |
96 / 97 | 62.8 % | 27.3 % | 31.7 % |
96 / 97 | 62.8 % | 27.9 % | 31.6 % |
97 / 98 | 64.6 % | 29.4 % | 30.2 % |
المصدر: محسوب من أرقام وزارة المالية.
خلال سنوات الإصلاح الاقتصادي وفي إطار الاتفاقية مع صندوق النقد الدولي – من 91/92 إلى 97/98 – زادت الإيرادات العامة الحقيقية بنسبة محدودة للغاية (0.2%)، وذلك لأن الزيادة الأهم تمت في السنة السابقة على الاتفاقية ثم – بدرجة أقل – في سنتها الأولى (أنظر الجدول)، وتلي ذلك زيادات محدودة أو انخفاضات. ولكن في المقابل. زادت الإيرادات العامة الضريبية في نفس الفترة بمعدلات أعلى بكثير من معدلات نمو الإيرادات الإجمالية (15.6%&). وهكذا أصبحت الضرائب كما يوضح جدول 2 – مسئولة عن نسبة أكبر فأكبر من الإيرادات. كيف حدث هذا؟ هل حدث عن طريق فرض ضرائب جديدة على الثروة وعلى أرباح رأس المال؟ كلنا يعلم أن سنوات التسعينات هي العصر الذهبي للرأسماليين في هذا المجال. فقد زادت وتوسعت الإعفاءات الضريبية على أرباح رأس المال حتى أن قانون “حوافز وضمانات الاستثمار” الذي صدر في مايو 1997 وسع دائرة الإعفاءات لتشمل: استصلاح واستزراع الأراضي، والإنتاج الحيواني، والصناعة، والتعدين، والسياحة والنقل المبرد والثلاجات… القائمة طويلة. ثم أن حتى محيي الدين الغريب وزير المالية نفسه – وهو مشهور بولائه للرأسماليين ومصالحهم – اشتكي مؤخرًا من النصب الذي يمارسه الرأسماليون للتهرب من الضرائب بوسائل مختلفة. الإجابة إذن هي أن هذا النمو الكبير في الإيرادات الضريبية الحقيقية لم يحدث بالطبع عن طريق فرض ضرائب جديدة على أرباح رأس المال. العكس هو الذي حدث. فقد انخفضت القيمة الحقيقة لضرائب أرباح رأس المال بنسبة 6.7% في السنوات من 91/92 إلى 97/98، وهو ما أدى إلى هبوط نسبتها إلى إجمالي الضرائب من 37.4% في بداية الفترة المذكورة إلى 30.2% في نهايتها (أنظر الجدول 2). ونفس الشيء حدث بالنسبة للضرائب على الثروة حيث ألغت الدولة جزئها الأعظم وهو ضريبة التركات، وهو أمر هلل له كثير من الكتاب والصحفيين البرجوازيين وأنصاف البرجوازيين باعتباره من مقومات العدل (!!) في حين أنه كان في حقيقته دعما مباشرًا للأغنياء وأصحاب الثروات.
الذي مول الزيادة الكبيرة في الإيرادات الضريبية الحقيقية هو الضرائب التي يتحملها الفقراء والعمال – بالتحديد الضرائب غير المباشرة وعلى رأسها ضريبة المبيعات (ضريبة الاستهلاك سابقًا). ففي الوقت الذي انخفضت فيه الضرائب على أرباح رأس المال زادت الحصيلة الحقيقة لضريبة المبيعات بنسبة 30.5% وزادت نسبتها إلى إجمالي الضرائب من 26% إلى 29.4% ما بين عامي 91/92 و97/98. وضريبة المبيعات، كأي ضريبة غير مباشرة، هي أسوأ أنواع الضرائب وأكثرها تحيزًا ضد الشرائح الأفقر في المجتمع. فحتى باعتراف جمعية رجال الأعمال، وفي دارسة عن الضرائب أعدتها الجمعية بها توصيات عن الإصلاحات المطلوبة من وجهة نظر الرأسماليين، تعتبر الضرائب غير المباشرة (التي لا تفرض على دخول وثروات الأشخاص أو المؤسسات وإنما على السلع) “لا تراعي عادة المقدرة التكلفية للممولين ولذلك قد تكون غير عادلة في كثير من الأحوال”. وهذه الضريبة التي تضخمت في التسعينات تحملها تمامًا المستهلكون وليس الرأسماليون، وذلك لأن أصحاب الأعمال أضافوا تكلفتها على أسعار تكلفتها على أسعار سلعهم، بينما اضطر المستهلكون الصغار اضطرارا إلى دفعها من دخولهم التي تنفق كلها على استهلاك السلع الضرورية.
تقلص الإنفاق الاجتماعي:
وإذا كان المستغلون عامة والعمال خاصة قد تحملوا عبء الإيرادات الضريبية، فإنهم أيضًا إلى حد كبير قد تحملوا عبء تخفيض النفقات العامة في ميزانية الدولة، وذلك على مدى السنوات من أوائل الثمانينات وحتى منتصف التسعينات. فوفقًا لدراسة حول الإنفاق العام الاجتماعي (الإنفاق العام الاجتماعي ومدى استفادة الفقراء التطورات والآثار – تأليف د. محيا زيتون) انخفضت نسبة الإنفاق العام الاجتماعي (وهو الإنفاق على الدعم السلعي والمعاشات والتعليم والصحة والصندوق الاجتماعي للتنمية) إلى إجمالي الإنفاق العام من 30،7% في 1981/1928 إلى 19.7% في متوسط الفترة من 90/91 على 94/95، وانخفض متوسط الإنفاق الاجتماعي للفرد من 193.8 جنيه في 81/82 إلى 81.7 جنيه للفرد في متوسط الفترة بين 90/91 و94/95. أيضًا، وفقًا لأرقام وزارة المالية انخفضت القيمة الحقيقية للإنفاق الاجتماعي فيما بين عامي 90/91 و97/98. أيضًا، وفقًا لأرقام وزارة المالية انخفضت القيمة الحقيقية للإنفاق الاجتماعي فيما بين عامي 90/91 و97/98 بنسبة 4.3%.
ما الذي يعينه انخفاض الإنفاق العام الاجتماعي؟ يعني من وجهة نظر العمال والفقراء أن الأجر الاجتماعي الذي يحصلون عليه في صورة دعم مباشر أو خدمات مدعومة يتقلص عامًا بعد عام على مدى الخمسة عشر عامًا الأخيرة. نلاحظ هنا أن معدل التخفيض الحقيقي في الإنفاق الاجتماعي في سنوات التسعينات كان محدودًا (4.3%) وهذا أمر لا يدعو للعجب إذ أن سنوات الثمانينات شهدت تخفيضات كبيرة واستطاعت الدولة خلالها التخلص من معظم أعبائها، حتى أنها دخلت التسعينات وقد نفذت الجزء الأكبر من عملية اعتصار المستغلين وسلب الدعم والخدمات.
جدول رقم 3
مؤشرات مختلفة حول الإنفاق الاجتماعي
السنة / المعدل أو النسبة | معدل النمو الحقيقي للإنفاق الاجتماعي | نسبة الإنفاق الاجتماعي إلى الناتج المحلي والإجمالي |
91 / 92 | 0.46 % | 7.0 % |
92 / 93 | 7.7-% | 6.4 % |
93 / 94 | 4.2-% | 5.1 % |
94 / 95 | 1.9 % | 4.9 % |
95 / 96 | 0.6-% | 4.6 % |
96 / 97 | 3.8 % | 4.6 % |
97 / 98 | 3.3 % | 4.5 % |
المصدر: محسوب من أرقام وزارة المالية.
على أنه من المهم في هذا السياق النظر ليس فقط إلى تغيرات الإجمالية الحقيقية للإنفاق الاجتماعي، وإنما أيضًا إلى تغير نسب مكوناته المختلفة. فلم تعان كل بنود الإنفاق الاجتماعي من نفس المصدر. ولهذا دلالته فالدعم على سبيل المثال كان أكبر عناصر الإنفاق الاجتماعي عرضة للتخفيض الحاد. ففي عام 94/95 بلغ الإنفاق العام على الدعم 16% من قيمته في عام 81/82. يلي الدعم الضمان الاجتماعي الذي أصبحت قيمته في 94/95 40% من مستواها في 81/82. أما التعليم والصحة فقد شهدا تقلبًا فيما بين الانخفاض والارتفاع. فقد انخفض الإنفاق على التعليم والصحة خلال الثمانينات ثم بدأ في الصعود في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات ليعود إلى مستواه قبل الانخفاض بل وأكثر من ذلك.
هذا التعليم في مكونات الإنفاق الاجتماعي ليس صدفة، وإنما هو يعكس تطورات إستراتيجية الرأسمالية المصرية. فتوجيه نسبة أكبر فأكبر من الإنفاق الاجتماعي إلى التعليم والصحة هو سياسة مخططة هدفها رفع إنتاجية العامل المصري وتزويد سوق العمل بالكوادر المطلوبة للمشروعات الرأسمالية الحديثة. فمقارنة بمستوى إنتاجية العامل في دول رأسمالية منافسة أخرى تعد إنتاجية العامل المصري – الجاهل والمعتل الصحة – محدودة للغاية خاصة بعد التخفيضات في الإنفاق على ما يطلق عليه تنمية رأس المال البشري (وهو ما يتضمن التعليم والصحة) خلال الثمانينات. وقد وجدت الرأسمالية المصرية نفسها في موقف لا تحسد عليه في هذا السياق. إذ لا تقدم للرأسمالي الأجنبي – أو المصري – سوى قوة عمل رخيصة ولكن هذا شيء توفره دول أخرى كبيرة (حتى دول أفريقيا الفقيرة). ولذا فالدخول في المنافسة دائمًا ما يحتاج ما هو أكثر من رخص قوة العمل – يحتاج الإنتاجية العالية للعامل، الاستقرار السياسي، والبنية الأساسية. وتلك كلها أمور جاهدت الرأسمالية المصرية لتوفيرها؛ بالطبع على حساب العمال والفقراء وبأكثر الوسائل قمعية وفيما يتعلق بالمسألة التي نتحدث عنها – الإنفاق على التعليم والصحة – كان السباق هو رفع الاستثمارات الموجهة إليهما في محاولة للدخول في التنافس العالمي. وهذا – كما رأينا – ما حدث بدرجة محدودة في التسعينات. ولكن المفارقة هي أن استثمارات التعليم والصحة في التسعينات، بالرغم من تزايدها، لم تحقق إلا قدرًا يسيرًا من التقدم في هذين الأمرين (مقارنة بدول كبيرة أخرى). فعل سبيل المثال لا يزال نصف البالغين يعانون من الأمية الكاملة. وليس من المنتظر أن تقدم الرأسمالية المصرية الكثير في المستقبل في هذا المجال الآن لأن التناقض بين الحاجة لرفع استثمارات التنمية البشرية وبين الحاجة للحفاظ على توازن الميزانية يضع حدودًا ضيقة على إمكانيات تعبئة الموارد لرفع المستوى الصحي والتعليمي لقوة العمل المصرية.
على أن الأكيد أن الزيادة في الإنفاق العام على التعليم والصحة في السنوات الأخيرة، والتي استهدفت تحقيق مصالح التراكم الرأسمالي، كانت منحازة لصالح الأغنياء وضد الفقراء. ولنأخذ التعليم على سبيل المثال. تثبت دراسة د. محيا زيتون أن هناك اتجاها متزايدًا لتوجيه الإنفاق على التعليم وزياداته نحو الفئات والطبقات الأغنى بالمجتمع. فكما هو معروف لا يصل على المستوى الجامعي إلا من تسمح له قدراته المادية لمواصلة التعليم سنوات طويلة. ولذلك نجد أن نسبة أبناء العمال والفلاحين إلى إجمالي الطلاب تتضاءل كلما ارتفعنا في السلم التعليمي. وعلى هذا فواحد من المؤشرات على استفادة الطبقات المستغلة على التعليم هو دراسة كيف يوزع هذا الإنفاق فيما بين المراحل التعليمية المختلفة. فإذا كان التعليم ما قبل الجامعي يحصل على نسبة متعاظمة فهذا معناه أن مخصصات التعليم توجه أكثر للفقراء، والعكس بالعكس. وما تؤكده دراسة د. محيا زيتون هو أن التعليم الجامعي يستأثر بحصة متزايدة. فعلى الرغم من تناقص نسبة الطلاب الجامعيين إلى إجمالي الطلاب في مصر من 7.7% إلى 5.2% فيما بين عامي 81/82 و94/95، إلا أن نسبة الإنفاق على التعليم الجامعي إلى إجمالي الإنفاق على التعليم قد تزايدت من 40.5% إلى 47.6% في نفس الفترة المذكورة. وقد عبر ذلك عن نفسه في صورة تزايد الفجوة فيما بين متوسطات الإنفاق على الطالب الواحد في كل من التعليم قبل الجامعي والجامعي. ففي أوائل الثمانينات (81/82) كان ما يصرف على الطالب في التعليم الجامعي يساوي 8.1 مثل ما يصرف على الطالب في التعليم ما قبل الجامعي. أما بحلول منتصف التسعينات (94/95) فقد توسعت الفجوة لتصل إلى 16.6 مثل، أي أنها تتضاعف.
بل أن الأرقام الواردة في دارسة د. زيتون تشير إلى أن توزيع الإنفاق على التعليم الجامعي نفسه يثبت التحيز ضد الطبقات الأفقر. إذا معظم مخصصات هذا التعليم تذهب للكليات العملية، وخاصة الكبرى منها كالطب والهندسة، على حساب الكليات النظرية وهي تلك التي يتركز فيها الفقراء (والأسباب وراء هذا التركز للفقراء واضحة بالطبع، إذا أنهم لا يستطيعون تحمل نفقات الكليات العملية ولا سنواتها الدراسية الطويلة).
الأهم من ذلك كله هو أن تلك الزيادات في الإنفاق على التعليم (والصحة) – حتى إذا ما غضضنا النظر عن تحيزها ضد الفئات والمناطق الجغرافية الأفقر – لا تعتبر مؤشرًا على ما يحصل عليه “المواطنين” من خدمات من قبل الدولة. ففي السنوات الأخيرة تزايدت وتوسعت ظاهرة “استرداد التكاليف” بدرجة غيرة مسبوقة. حيث يدفع المستفيدون بالخدمات التعليمية والصحية (وغيرها) أموال أكبر للحصول على الخدمة. ولذلك فإن تزايد الإنفاق على الإنفاق يقابله في الوجه الآخر تحويل هذه الخدمات – تطبيقًا لأيديولوجية السوق الحر – إلى سلع يدفع المستفيدون جزءًا متزايدًا من قيمتها. وعلى هذا نجد الدولة تخصص موردًا أكبر للتعليم الجامعي، ولكن على الطالب أن يرد جزءًا أكبر من هذه المخصصات في صورة مصاريف ورسوم.. وخلافه (نلاحظ مثلاً التوسع الهائل في نظام الانتساب الموجه الذي يدفع بموجبه الطلاب الجامعيون مصاريف تقدر بالمئات من الجنيهات سنويًا).
أن التناقض الواقع هنا هو أن الدولة تسعى لإعادة إنتاج قوة العمل المصرية (أي لإعداد أجيال قادمة من العمال والفنيين)، على المستوى الذي يسمح للرأسمالية المصرية بالمنافسة في عالم يسعى “بوحشية” لرفع إنتاجية عماله في ظروف الأزمة – إن الدولة تسعى لذلك ولكنها تصطدم بضعفها وتخلفها، وبالتالي بحاجتها للمناورة بين هذا الهدف وبين هدف تخفيض نفقاتها وزيادة مواردها. والنتيجة هي سياسات كسياسة الإلغاء الجزئي لمجانية التعليم المتواكب مع زيادة الإنفاق العام عليه! وتلك سياسات عرجاء لا تحقق للرأسمالية مصالحها في رفع الإنتاجية والأرباح على المدى الطويل، إلا بشرط تحقيق مرحلة ممتدة ومتواصلة على مدى زمني طويل من الانتعاش الرأسمالي. وهذا أمر – كما سنرى في الجزء الثاني من هذا المقال – غير ممكن (في الأغلب) أ، تحققه رأسمالية ضعيفة في مرحلة أزمة عالمية.
ملاحظات أخيرة:
على مدى الجزء الأول من هذا التحقيق رصدنا كيف أن “الإجراء العاجل” الذي اتخذته الرأسمالية المصرية لمواجهة أزمتها بعد عقد الانتعاش حتى منتصف الثمانينات هو تكثيف استغلال العمال عن طريق زيادة فائض القيمة المطلق تحت الغطاء الأيديولوجي لنظريات السوق الحر. وقد حدث ذلك على أكثر من مستوى: تخفيض الأجور الحقيقية، إطالة أيام العمل، زيادة الضرائب، وتخفيض الإنفاق الاجتماعي.
على أن الدولة الرأسمالية تقول لنا اليوم أن الأيام الصعبة أصبحت خلف ظهورنا، أما المستقبل فهو مشرق. والأدلة التي تسوقها الدولة هنا كثيرة: انخفاض التضخم، تقلص عجز الميزانية، زيادة الاحتياطي النقدي، زيادة تدفق الاستثمارات العالمية.. وغيرها من الأمور. بل أن الأدلة تمتد لتشمل التزايد في الإنفاق على التعليم والصحة، زيادة معدل نمو الناتج القومي، وبعض التزايد في الأجور الحقيقية في الأعوام الأخيرة. وتشرح الدولة هذا قائلة أن السنوات حتى منتصف التسعينات تقريبًا كانت صعبة “لأننا” كنا نحتاج إلى عملية جراحية لإنقاذ المريض – أي لتحقيق التوازن في المتغيرات الاقتصادية الأساسية – أما وقد تم هذا “بحمد الله”، فالقادم هو أن نحصد سويًا – رأسماليون وعمال – ثمار نجاحنا. من الآن فصاعد سوف تتطابق مصائر العمال والرأسماليين، وسوف نشترك جميعًا في الاحتفال بما حققناه.
هل هذا صحيح؟ هل يحمل التاريخ في طياته تحسنًا حقيقيًا في مستوى معيشة الكادحين والعمال؟ الإجابة على هذا التساؤل تحتاج إلى فهم وضعية الرأسمالية المصرية وجذور الإصلاح ومستقبله، وهي أمور سيتناولها الجزء الثاني من هذا التحقيق. ولكن تكفينا هنا بعض الملاحظات. أولاً: نشير إلى أن الهوس البرجوازي ببعض التحسن الذي طرأ على مستويات أجور العمال الصناعيين في السنوات الأخيرة يخفي لب الحقيقة، وهي أن هذا التحسن لم يعوض إلا جزءًا ضئيلاً مما سلب على مدى عقد كامل من العمال. فاليوم – وبالرغم من بعض الزيادات – أوال العمال أسوأ بكثير من قبل 15 عامًا. أضف إلى هذا التحسن في متوسطات الأجور لا يظهر جوانب مهمة مما حدث فعلاً: مثلاً التدهور الحاد في أجور بعض القطاعات العمالية الأساسية وهو تدهور تخفيه “المتوسطات”؛ ونجاح الطبقة الحاكمة في زيادة القسم المتغير في الأجر وفي ربطه بمعدلات الربحية؛ وضرب القطاع العمالي الأساسي من عمال القطاع العام عن طريق المعاش المبكر والخصخصة.
ثانيًا: ينبغي أن نؤكد أنه حتى الزيادة الحقيقية الطفيفة في أجور العمال في الأعوام الأخيرة لم تؤد إلى تقليص معدلات استغلال العمال، وإنما تواكبت مع تزايد تلك المعدلات. وذلك لأن الأجور الحقيقية قد صاحبه ارتفاع أكبر في ساعات العمل (نظام المصنع أصبح أقرب إلى نظام الثكنة العسكرية) وفي إنتاجية العمال. وبالنسبة للإنتاجية، فإنه بالرغم من انخفاضها مقارنة بالمستويات العالمية، إلا أنها قد زادت بفضل عملية إعادة هيكلة القطاع العام وما تضمنته من تصفية للمصانع محدودة الربحية، ومن تطوير تكنولوجي لعدد من المصانع الأخرى (اليوم تتسابق مصانع القطاع العام للحصول على شهادات الأيزو). ولذلك، فبالذات في السنوات الأخيرة – تلك السنوات التي زادت فيها أجور العمال زيادات قليلة – أصبح العمال المصريون يستنزفون أكثر من أي وقت مضى، إذ يؤدي عرقهم وجهدهم إلى مراكمة ثروات أكبر في أيدي الملاك الرأسماليين.
ولكن – وهذه هي ملاحظتنا الأخيرة – الأمر الذي لا ينبغي أن ننساه بتاتًا هو أن العامل الاقتصادي – ونعني به مستويات معيشة العمال من ناحية، ومعدلات ربحية رأس المال من ناحية أخرى – ليس هو المحدد الوحيد لحركة الصراع الطبقي ولا لمستقبل رأس المال المصري. خلاص الطبقة العاملة من عسف رأس المال، ومن استنزافه واستغلاله، لا تخلقه التطورات الاقتصادية المنعزلة، وإنما تخلقه المعارك والنضالات الطبقية. وهذا في الحقيقة الخيط الذي يصل بين تحليل طبيعة وتقلبات رأس المال وفوضى السوق، وبين المعركة الطبقية الجارية أمام أعيننا (مهما كانت قوانين خفوتها). إن مستقبل الرأسمالية المصرية لن تحدده فقط قوانين حركة رأس المال وإنما ستحدده أيضًا كفاحات العمال المصريين وثورتهم.