بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

عن الأزمة التي لا تنتهي

* تم نشر المقال لأول مرة في 31 يناير 2012 بجريدة العامل الاشتراكي الإلكترونية الأمريكية، تصدرها منظمة الاشتراكيين الأمميين بالولايات المتحدة

هل الاقتصاد العالمي اليوم بصدد إجراء تحول محوري أم أنه يترنح على حافة الهاوية التي خلقتها الأزمة المالية الأوروبية؟ هناك الكثير من الاقتصاديين الذين يجادلون في هذا الاتجاه أو ذاك، لكن في أكثر التصورات تفاؤلاً، يبقى العاملون بالولايات المتحدة وفي بقية العالم أيضاً يعانون من المعدلات المرتفعة للبطالة علاوة على تجميد الأجور والتخفيضات المستمرة في الإنفاق على الخدمات الاجتماعية، تلك العوامل التي مثلت دافعاً قوياً للانتفاض عبر العالم.

في هذا المقال، يقدم الكاتب الاشتراكي الأمريكي، لي سوستار، إجابات على التساؤلات الخاصة بالمؤشرات المتناقضة للاقتصاد الأمريكي والعالمي أيضاً.

تتداول وسائل الإعلام اليوم أخبار وتقارير وتحليلات حول الإصلاحات التي تطرأ على الاقتصاد الأمريكي. هل بدأت تأثيرات الكساد الاقتصادي في التلاشي؟

توضح المؤشرات أن هناك ثمة تصاعد طفيف في الناتج المحلي الإجمالي بالولايات المتحدة. فبالرغم من التصاعد البسيط في الناتج المحلي الإجمالي، والذي وصل فقط إلى 1.8%، إلا أنه قد تصاعد في الربع الأخير من 2011 إلى 2.8%، ذلك النمو الذي حفز خلق 200 ألف وظيفة جديدة، الأمر الذي يُعد بمثابة قفزة كبيرة في عدد الوظائف بالنسبة للفترة منذ أن تم الإعلان رسمياً عن انتهاء الكساد الاقتصادي في يونيو 2009.

ولعل ما تتميز به تلك القفزة الطفيفة هو خلق 136 ألف وظيفة في الصناعة علاوة على انخفاض نسبة البطالة إلى 8.5% بعد أن كانت تبلغ 9% في سبتمبر الماضي. هذه التغيرات في نسب البطالة يتم اليوم الاحتفاء بها، بالرغم من ضآلتها، نظراً لأنها جاءت بعد فترة طويلة من الانخفاض والتدهور المستمر على المستوى الاقتصادي.

لكن إذا ما نظرنا للأمر عن كثب وبشكل أكثر دقة، سنكتشف بسهولة أن هذا الانخفاض البسيط في نسبة البطالة بعيد كل البعد عما كانت عليه نسبة البطالة في الفترة ما قبل الكساد الذي أصاب الاقتصاد الأمريكي. ووفقاً لمعهد السياسة الاقتصادية الأمريكي، فإن الولايات المتحدة بحاجة لخلق 10 مليون وظيفة كي تعود نسبة البطالة إلى ما كانت عليه قبل بدء الكساد.

وهنا بالطبع تُطرح العديد من التساؤلات حول الأجور، والتي تم تجميدها بل حتى تخفيضها في كثير من القطاعات. فنتيجة لذلك لم يستمر الانتعاش النسبي الأخير في إنفاق المستهلكين والذي دفع النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة قليلاً إلى الأمام، فطالما أن جمهور العاملين مثقلين بالكثير من الديون، نتيجة الرهونات وبطاقات الائتمان وما إلى ذلك، لن تغامر البنوك بإقراض المزيد من الأموال لتحفيز الاستهلاك، ومن ثم سيظل الطلب ضعيفاً وسيحد ذلك من النمو الإجمالي.

لكن إذا كان الاقتصاد الأمريكي في هذه الحالة المتردية، لماذا ارتفعت أرباح الشركات الكبرى إلى هذه المستويات القياسية؟

هناك سببان رئيسيان لذلك، أولاً أن الشركات الكبرى بالولايات المتحدة تحقق حوالي 40% من أرباحها من الأسواق الخارجية. لذا فإنها، وعلى عكس ما كان يجري في الماضي، أصبحت تعتمد بشكل أقل على السوق الأمريكي. ثانياً أن هذه الشركات قد نجحت، خلال الحرب الطبقية التي تشنها على العمال، أن تنتزع جزء كبير من الناتج القومي من العمال وتحتفظ به ضمن أرباحها.

وطبقاً لدراسة أعدها باحثون بجامعة “نورث إيسترن”، فإن أرباح الشركات الكبرى قد بلغت، في الفترة بين الربع الثاني من 2009 إلى الربع الأخير من 2010، حوالي 464 مليار دولار من إجمالي الزيادة في الدخل القومي الأمريكي والتي بلغت 528 مليار خلال نفس الفترة، وفي نفس الوقت بلغت أجور العمال حوالي 7 مليار دولار فقط.

والنتيجة الطبيعية لذلك هو أن تلك الشركات الكبرى تستحوذ اليوم على تريليون دولار نقدي. لكنها في نفس الوقت لا تستثمر حصة كبيرة من تلك الأموال داخل الولايات المتحدة، وربما يرجع ذلك إلى القلق الذي ينتابهم منذ وقوع الأزمة المالية في 2008، والتي جففت منابع الائتمان لفترة من الوقت.

والأهم من ذلك، هو أن الشركات الكبرى لديها الكثير من الشكوك حول ما يمكن أن تحققه تلك الاستثمارات من أرباح، إذ أن تخمة من المنتجات والمصانع المنتجة أيضاً لا تزال عالقة في الأسواق منذ الكساد العالمي 07-2009. وبالتأكيد فإن ضخ المزيد من الاستثمارات في مثل تلك الصناعات لن يجلب سوى الخسائر.

هذا المستوى المنخفض من الاستثمار بجانب المستوى الضعيف لمعدلات الطلب، قد عرقل بشكل كبير التوسع الاقتصادي الأخير. وكما كتب الاقتصادي الليبرالي، بول كروجمان، فإننا نعيش اليوم في ركود اقتصادي.. فترة طويلة من الضعف الاقتصادي الذي سوف يستمر حتى أثناء التوسع الاقتصادي.

كيف تؤثر الأزمة الأوروبية على الولايات المتحدة؟

حتى إذا استمر اقتصاد الولايات المتحدة في جمع قواه، سيقع بسهولة في براثن الأزمة المالية الأوروبية. هذا هو التخوف الأساسي الذي يرعب الخبراء الاقتصاديين بالدول الأغنى في العالم. إن أكثر السيناريوهات تفاؤلاً لدى أولئك الخبراء هو استمرار الركود الاقتصادي في منطقة اليورو بجانب تزايد نسب البطالة في أوروبا والولايات المتحدة، لكنهم يشيرون أيضاً إلى أن التقصير المعتاد من جانب اليونان ودول اليورو المديونة الأخرى، سيؤدي إلى تأثير كارثي على البنوك والمؤسسات المالية الأخرى.

ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تصل نسب النمو في البلدان المتقدمة في المتوسط إلى 1.5% في 13-2012، ذلك المعدل الذي وصفه صندوق النقد بأنه “بطيء جداً لمعالجة نسب البطالة المتزايدة”. وللإشارة إلى ذلك الخطر، يكفي فقط أن ننظر إلى التحديث الذي أضافه صندوق النقد على تقرير “الاستقرار المالي العالمي”، والذي حمل عنوان “التوغل بعمق في المنطقة الخطرة”. ذلك بالإضافة إلى التحذيرات المتكررة من جانب مدير صندوق النقد، كريستين لاجارد، من أزمة اقتصادية تحاكي الكساد الكبير في الثلاثينات.

وينظر اقتصاديو البنك الدولي إلى الأمر بطريقة متشائمة، حيث يتوقعون وقوع تأثيرات مدمرة على أغلب البلدان المتأخرة في أوروبا إذا ما خرجت الأزمة عن السيطرة. كما أنهم قد سحبوا توقعاتهم بأن يحقق الاقتصاد العالمي نسبة نمو تقدر بـ 3.6% في 2012، وبدلاً من ذلك صاروا يتوقعون نسبة 2.5% أو حتى أقل من ذلك، بينما من المحتمل أن تحقق الصين والهند أعلى مستويات نمو عالمياً، لكن هذا النمو سيكون أقل كثيراً مما تم تحقيقه خلال السنوات السابقة، وبالطبع سيؤثر ذلك بشكل سلبي على الدول التي تصدر المواد الخام للصناعات الصينية.

لماذا لا تستطيع أوروبا الإفلات من الأزمة؟

للإجابة على هذا السؤال، علينا أولاً مراجعة الأسباب التي خلقت كل هذه الفوضى اليوم.

يُعد اليورو هو العملة المتداولة في 17 دولة أوروبية، في القلب منها ألمانيا، بجانب عدد آخر من الاقتصادات الكبرى مثل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا. تم إطلاق العملة الجديدة في 1999، وحتى منتصف العقد الماضي كانت الأمور تجري على أكمل وجه، بالأخص لدى ألمانيا.

أصبحت ألمانيا، من خلال التخفيض المستمر في الأجور وخلق سوق عمل “أكثر مرونة” وبالتالي قدرة أكبر على تسريح العمال، المصدّر والمنافس الصناعي الأقوى في العالم، كما جنت أرباحاً فلكية عبر تصدير المعدات الصناعية والآلات للصناعات الصينية المنتعشة. مثلت ألمانيا أيضاً، عبر الدور الذي تلعبه في البنك المركزي الأوروبي، المستودع المالي الأكبر في أوروبا، وقامت في الأساس بتمويل صادراتها إلى بلدان اليورو.

وطالما كانت بلدان مثل اليونان والبرتغال وإيطاليا وإسبانيا تقترض من ألمانيا بأسعار منخفضة للفائدة، كانت الأمور على ما يُرام. لكن بعد ذلك، اندلعت الأزمة المالية في نهاية 2008 وأرغمت حتى البلدان الأضعف مثل اليونان وأيسلندا على اعتماد “القروض الرديئة” والتي دمرت بنوكهم.

ومنذ صيف 2010، صارت اليونان تقع تحت ضغط رهيب من جانب صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي لتطبيق خطط التقشف تلو الأخرى، لسداد الديون على السندات الحكومية والتي تُقدر بـ 500 مليار دولار. وعلى الرغم من سلسلة الإضرابات العامة والاحتجاجات الجماهيرية، اندفعت الحكومة اليونانية لإجراء خطط تقشف وتخفيض في الإنفاق الاجتماعي لتوفير 300 مليار دولار من أجل إنقاذ النظام المالي.

وفي كل الأحوال فإن انزلاق الاقتصاد اليوناني سيستمر لفترة طويلة قادمة وحتى بعد عمليات الإنقاذ الضخمة التي تجري اليوم سيظل حجم الديون اليونانية أكبر من 150% من الناتج المحلي الإجمالي في البلاد. وبعد إجبار رئيس الوزراء اليوناني على الاستقالة في نهاية العام الماضي، تسعى ألمانيا اليوم لنزع سلطة اتخاذ القرارات المالية من بين أيدي الحكومة اليونانية وذلك في مقابل أن يتولى بيروقراطيو الاتحاد الأوروبي التخطيط لهذه القرارات.

لكننا بالطبع لا يمكننا أن نحصر الأزمة في اليونان أو في الاقتصادات الصغيرة الأخرى مثل البرتغال أو أيرلندا؛ فبلدان إسبانيا وإيطاليا وفرنسا تقع هي الأخرى تحت ضغوط رهيبة نتيجة الديون الحكومية الهائلة وأسعار الفائدة المتصاعدة المفترض سدادها. أما بالنسبة لقرضيّ الإنقاذ الأوروبيين (قرض الاستقرار المالي الأوروبي ومن بعده قرض آلية الاستقرار الأوروبية) فيبلغان معاً 600 مليار دولار ويتوجه قسم كبير من هذه الأموال الطائلة لإنقاذ الاقتصاد الإيطالي.

ولهذا السبب ارتفعت في نوفمبر الماضي وبشكل صاروخي أسعار الفائدة على السندات الحكومية، والتي كان على إيطاليا سدادها، مما حفز المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي للسعي من أجل إزاحة رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلسكوني ودفع الأكاديمي الاقتصادي ماريو مونتي لتولي منصبه.

لا تزال منطقة اليورو تقع إلى اليوم في وسط عاصفة من القلق المالي حيث ترفض البنوك إقراض بعضها كرد فعل مستمر منذ وقوع الأزمة المالية في 2008. لكن كان من الممكن تفادي هذا الانهيار المالي فقط عندما تقدم البنك المركزي الأوروبي بعرض قروض لمدة ثلاثة سنوات بأسعار منخفضة للفائدة بجانب تخفيض الشروط المتعلقة بالاحتياطي الذي تبقي عليه البنوك الكبيرة. وبعد اقتراض 500 مليار دولار من البنك المركزي الأوروبي، كان على تلك البنوك أن تقترض ما يقرب من تريليون دولار أخرى في فبراير 2011، الأمر الذي يشير إلى عمق الأزمة التي تحيط بالبنوك الرئيسية في أوروبا.

لقد أعطت مناورة البنك المركزي الأوروبي كلاً من ساركوزي وميركل فرصة ذهبية لعقد اتفاقية تمنح ألمانيا سلطة أكبر في التحكم في الشئون المالية الخاصة ببلدان منطقة اليورو، بالطبع مع عدم إلزام الحكومة الألمانية بأي مسئوليات مالية تتعلق بإنقاذ البنوك الأوروبية المأزومة.

وبالرغم من عدم التزام ألمانيا بإنقاذ اليونان، إلا أن أي مساعدات مالية تتلقاها اليونان من أي دولة أوروبية أخرى سوف تكون مشروطة بإجراءات تقشف قاسية تضعها برلين. وبإصرار ألمانيا على مثل هذه الشروط، بغرض حماية خزانتها الخاصة ولإنعاش اليورو، تكون ألمانيا هي من يقود أوروبا كلها نحو الكساد الاقتصادي.

ماذا عن الصين؟ هل يستطيع النمو الصيني إنعاش الاقتصاد العالمي؟

بعد اندلاع الأزمة المالية في 2008، استطاع الاقتصاد الصيني استعادة توازنه بسرعة نتيجة برنامج التحفيز الاقتصادي العملاق الذي كان يهدف إلى دفع الاستهلاك المحلي لتعويض الخسائر في الصادرات. والنمو الصيني أدى بدوره إلى إنعاش نسبي لاقتصادات أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، بالإضافة إلى ألمانيا واليابان، حيث استفادوا من تصدير منتجاتهم للسوق الصيني.

وبالرغم من أن الصين هي ثان أكبر اقتصاد في العالم، إلا أنها لا يمكنها استبدال الولايات المتحدة –الاقتصاد الأقوى في العالم والمحرك الأساسي للنمو العالمي. وبينما يتوقع صندوق النقد الدولي أن ترتفع نسبة النمو في الصين إلى 8.2% هذا العام، إلا أن هذه النسبة أقل مما كان في 2010 حين وصلت نسبة النمو إلى 10.4% وانخفضت في العام الماضي إلى 9.2%.

الأكثر من ذلك هو أن الصين لاتزال مدفوعة للتصدير للولايات المتحدة وأوروبا ولديها فائض إنتاجي ضخم في صناعات هامة مثل صناعة الصلب، وهكذا فإن التدهور الاقتصادي في البلدان المتقدمة اليوم سوف يضرب الاقتصاد الصيني في النهاية. وبالإضافة إلى ذلك تعاني الصين من فقاعة مالية كبيرة ونسب تضخم متصاعدة نتيجة الجهود التي بذلت من أجل دفع اقتصاد السلع الاستهلاكية. لا يستطيع أحد أن يتكهن متى سنتفجر الفقاعة لكن وقوع أزمة مالية في الصين يعد أمراً محتملاً اليوم.

ماذا عن الآثار السياسية الناتجة عن كل ذلك؟

في 2011، كانت الأزمة الاقتصادية العالمية دافعاً أساسياً لاشتعال ثورات الربيع العربي، وأيضاً الإضرابات العامة في اليونان والحركات الاحتجاجية واسعة الانتشار في إسبانيا والولايات المتحدة، إلخ. وعلى الرغم من التفاوت الكبير بين تلك النضالات وبعضها، إلا أنها ترتبط بجذور مشتركة. وحتى في الصين، وبالرغم من النمو الاقتصادي، انتعشت الإضرابات العمالية بشكل كبير، حيث يناضل العمال لزيادة الأجور كي تتناسب مع الزيادة المطردة في الأسعار.

وفي نفس الوقت، فإن الطبقات الحاكمة في العالم كله لديها قلق بالغ حول قدرتها على الاستمرار في السيطرة على السلطة والثروة. وعندما يكتب محرري الفاينانشيال تايمز سلسلة مقالات تحت عنوان “الرأسمالية في أزمة”، يمكننا أن ندرك بسهولة كيف وصلت الأزمة إلى مراحل شديدة الخطورة. لكن من الخطأ اعتبار أن قوى اليسار سوف تستفيد سياسياً بشكل أوتوماتيكي من الأزمة التي تضرب اليوم في عمق الرأسمالية، فالأحزاب اليمينية في أوروبا تحقق اليوم مكاسب ضخمة حيث تقوم بالربط بين القضايا والمطالب الجماهيرية وبين أطروحاتهم الفاشية حول رفض المهاجرين، إلخ.

إن التحدي الحقيقي أمام اليسار يكمن اليوم في الربط بين نقده للرأسمالية وبين الجهود المبذولة لبناء منظمة الطبقة العاملة من أجل التصدي لخطط التقشف ومن أجل بناء مجتمع جديد مبني على تلبية احتياجات البشر.