نقد الرأسمالية من الداخل
* الكتاب: السيطرة الصامتة: الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية
* المؤلف: نورينا هيرتس
* الناشر: سلسلة عالم المعرفة – المجلس الوطني للآداب والفنون – الكويت
* تاريخ النشر: فبراير 2007
يعدّ كتاب السيطرة الصامتة: الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية تأليف الدكتورة نورينا هيرتس أستاذ الاقتصاد بجامعة كيمبردج، الذي صدرت ترجمته العربية عن عالم المعرفة الكويتية، أحد الأصوات من داخل المعسكر الرأسمالي التي تتناول بالتحليل النقدي المرحلة الأخيرة من تطور الرأسمالية العالمية في ثوبها الليبرالي الجديد.
تقول الكاتبة في صدر كتابها أن دراستها هذه تعد مساهمة منها في تصحيح مسار الرأسمالية لتصبح أكثر عدلا، ومن ثم أكثر قدرة على البقاء. فهي لا ترغب من هذا البحث “أن يكون ضد الرأسمالية”. إذ مازالت ترى أن “الرأسمالية أفضل نظام لصنع الثروة”، حيث عملت التجارة الحرة وأسواق المال المفتوحة، من وجهة نظرها، “على إيجاد نمو اقتصادي غير مسبوق استفاد منه معظم سكان العالم، وإن لم يكن جميعهم…”.
وفي إطار تأكيد الكاتبة على انتمائها لمنظومة الفكر الرأسمالي تقرر أن “الكتاب ليس موجها ضد رجال الأعمال”، لتحصر نقدها لممارسات الليبراليين الجدد في زاوية أخلاقية. ورغم إقرار الكاتبة بانتمائها لمنظومة الفكر الرأسمالي، إلا أنها تعود لتؤكد – في تناقض عجيب – أن مقصد الكتاب هو أن يكون “نصيرا للشعب ونصيرا للديمقراطية ونصيرا للعدالة”(!)
في هذا الإطار تبدأ هيرتس رحلتها لرصد الممارسات “غير الأخلاقية” للرأسمالية، والتي ترجعها إلى صعود الليبرالية الجديدة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، ثم تحولها إلى نموذج للاقتصاد العالمي، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط بلدان أوروبا الشرقية بلد تلو الآخر في منظومة الليبرالية الجديدة، سواء نتيجة الضغوط الكبيرة التي تعرضت لها جراء الانهيار الاقتصادي الذي عانته تحت وطأة الحكم السوفيتي، أو نتيجة حلم التنمية والرفاهية الذي يمثله النظام الرأسمالي في عيون شعوب هذه البلدان.
وترصد الدراسة أيضا كيف أن سيطرة الليبرالية الجديدة، كنمط ساد في العالم كله على أنقاض دولة الرفاهة، قد بلور بشكل حاسم سيطرة الرأسمالية الاحتكارية المتمثلة في الشركات متعددة الجنسيات التي أصبحت ميزانية بعضها تفوق الناتج الإجمالي لبعض الدول. فبالتوازي مع ذلك كان يحدث تحول غير مسبوق لدور الدولة التي أصبحت في خدمة تلك الشركات تماما. والدليل على ذلك، وفقا لهيرتس، هو الدور الذي تلعبه الشركات الاحتكارية في توجيه سياسات الحكومات، إما عن طريق تمويل لعبة الانتخابات والضغط من أجل تبنى برامج انتخابية في صالح هذه الشركات، أو عن طريق التهديد طوال الوقت بنقل الاستثمارات إلى أماكن أخرى في حال عدم استجابة الحكومات لمطالب تخفيض الضرائب وتوفير حوافر إضافية للاستثمار.
وترى هيرتس أن هذا النفوذ للشركات متعددة الجنسيات هو المفسر للتحول في سياسات الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا الغربية، التي كانت تلتزم برامجها في الماضي بسياسة دولة الرفاهة، ثم أصبحت في التسعينات من أشد المدافعين عن سياسات السوق والليبرالية الجديدة، كما حدث في ألمانيا أثناء حكومة الحزب الاشتراكي الديمقراطي بقيادة شرويدر، وفي بريطانيا في أعقاب تولى بلير وحزب العمال السلطة في أواخر التسعينات، إلى الحد الذي أصبحت معه أجهزة الدولة الاستخباراتية مسخرة لخدمة هذه الشركات عن طريق التجسس لصالح بعض الشركات ضد منافسيها.
وانطلاقا من المنهج الأخلاقي الذي تستخدمه الكاتبة في نقد الرأسمالية الاحتكارية ترى أن العلاقة المشبوهة بين مصالح الشركات متعددة الجنسيات والحكومات في الرأسماليات المتقدمة هى المسئولة عن تراجع الديمقراطية وحقوق الإنسان. وتعرض في التدليل على ذلك العديد من الأمثلة من الاتفاقيات التجارية والجمركية التي عقدتها دول العالم المتقدم مع نظم سياسية يتسم سجلها في مجال حقوق الإنسان بالسوء، ليس لشيء سوى الحرص على مصالح شركاتها.
وتواصل الكاتبة رصد ممارسات الرأسمالية الاحتكارية “غير الأخلاقية”، لتصل في النهاية إلى استنتاج مفاده أن حالة الاستقطاب الشديدة ــ بين المستفيدين من الكعكة والمحرومين منها ــ التي خلقتها سيطرة الرأسمالية الاحتكارية وتخلى الدولة عن مسئولياتها الأخلاقية والاجتماعية، على حد قولها، قد أفرزت حالة الرفض التي انفجرت في السنوات الأخيرة واتخذت شكل حركات مناهضة العولمة والرأسمالية المعبرة عن المحرومين من المشاركة في الديمقراطية والثروة، الأمر الذي يهدد من وجهة نظرها بقاء الديمقراطية ذاتها.
وتطرح الكاتبة الحل فيما أسمته البرنامج الجديد لتحاشى “السيناريو العدمي”. هذا البرنامج مبنى على “استعادة الدولة” لإعادة التوازن المفقود بين شقي رحى الاستقطاب. ولأن افتقاد دور الدولة يعود من وجهة نظر الكاتبة ليس لمجرد الحفاظ على المصالح الخاصة أو الافتقار إلى الموارد، ولكن أيضا إلى الافتقار إلى “الحافز الأخلاقي أو المسئولية أو الإرادة السياسية”، فهي تقترح في هذا الإطار حرمان الشركات من بعض الامتيازات لكبح سلطان الشركات الكبرى على الصعيد الوطني.
ولكن رغم النقد اللاذع الذي قدمته الكاتبة للمرحلة الأخيرة من تطور الرأسمالية في ثوبها الليبرالي الجديد، فإنها لم تمس في الحقيقة جوهر العطب الكامن في نمط الإنتاج الرأسمالي، والذي يمثل الجذر الحقيقي لكل جرائم الرأسمالية. فمفتاح السر في المسألة هو السعي المحموم للربح الذي يهون في سبيله كل شيء حتى حياة البشر. عدم رؤية الكاتبة لهذه الحقيقة هو ما جعلها تفسر العلاقة بين الدولة والاستغلال الرأسمالي من منظور أخلاقي لا يرى الطبيعة الطبقية لهذه الدولة. بمعنى آخر فإن السؤال الصحيح هو: عن أي مصالح طبقية تعبر هذه الدولة؟ عن مصالح من يملكون أم من لا يملكون؟ ولعل هذا أيضا ما جعل المؤلفة تنظر إلى حركات مقاومة الرأسمالية والعولمة نظرة تخوف باعتبارها تمثل، في رأيها، تهديدا لنموذج الديمقراطية البرجوازية الذي تراه الأمثل على الإطلاق، وليس الأمثل لمصالح من يملكون. فالكاتبة لم تفكر قط في إمكانية أن هذه الحركات يمكن أن تكون النواة الحقيقية للديمقراطية التي يستطيع من خلالها الجميع التعبير عن إرادتهم الجماعية ضد سلطة رأس المال.