قانون التأمين الصحي الجديد:
الأرباح قبل صحتنا
بعد طول تردد أعلنت الحكومة عن عزمها تقديم مشروع القانون الجديد للإصلاح والتأمين الصحيين، وإقراره في الدورة البرلمانية الحالية التي بدأت في 8 نوفمبر الماضي. بالرغم من هذا لم يتم إعلان مشروع القانون حتى الآن، واكتفت الحكومة بالكشف عما أسمته أسس المشروع في الكثير من التحقيقات الصحفية، وتصريحات المسئولين.
كيف وصلنا لهذه النقطة؟
تميزت المرحلة الناصرية في الخمسينيات بالاهتمام بالصحة والتعليم في سبيل بناء جيش قوى. وفي العقد الثاني للمرحلة الناصرية، بدأت الدولة في تنفيذ مشروع للتأمين الصحي الشامل للعمالة الرسمية في الحكومة وفي القطاع العام ليتم التعامل بين المشتركين في التأمين علي أساس اشتراكات معقولة من الأجر يدفعها العامل وتدفع نظيرها الحكومة أو صاحب العمل. وفي السبعينيات والثمانينيات، اتسع عدد المشتركين من العمالة المنظمة. ثم في التسعينات ضم المشروع ثلاث فئات هي: تلاميذ المدارس في التعليم قبل الجامعي، بالإضافة إلى أرباب المعاشات والأرامل – دون مساهمة أرباب العمل مما أحدث إرهاقا لميزانية التأمين الصحي. وقد بلغت نسبة المشتركين في التأمين الصحي 52% من شعب مصر، بينما لم تصل نسبة ما ينفق عليهم إلى 7% من جملة الإنفاق القومي علي الصحة – أي حوالي 2.2 مليار جنيه من حوالي 30 مليار جنيه.
ومع بدء التوجه للسوق الحر وخصخصة الخدمات، تراجعت أعداد القائمين بالخدمات الصحية (أطباء–ممرضات). وتزامن هذا مع التحول الكبير الذي شهدته مصر منذ منتصف التسعينيات بعد حرب الخليج وعودة العمالة المصرية من الدول العربية. حيث تم تدشين سياسة التكيف الهيكلي للاقتصاد بتوجهه أساسا نحو السوق. وخلق ذلك قيادة جديدة من رجال أعمال، منحوا فرصا لتصفية القاعدة الواسعة للقطاع العام في الصناعة والزراعة والخدمات. وتم الإعلان عن استهداف مشاركة هؤلاء بـ 70% من خطة التنمية خلال ثلاثة عقود. وفي نفس الفترة، تم استبدال نظام التعليم العام والجامعي ببرنامج للتعليم الخاص والأجنبي. كما شهدت الفترة منذ عام 1975 وحتى اليوم تنفيذ خطة طويلة النفس لإفراغ برنامج التأمين الصحي من مضمونه.
وهكذا تقدم الحكومة المشروع الجديد على أنه إصلاح لأوضاع التأمين الصحي الحالي، الذي ينطبق علي 52% من الشعب، لتعميم تغطيته على بقية أفراد الشعب (48% من السكان) فيما يسمى بنظام صحة الأسرة، وذلك علي مراحل تنتهي عام 2010. ويرتكز النقد والإصلاح الحكوميين للتأمين الصحي الحالي على ثلاثة محاور: الخسائر المالية وعجز التمويل، وعدم رضاء المنتفعين، وضعف كفاءة الخدمة المقدمة ومشاكل الجودة.
العجز المالي
يبلغ عمر التأمين الصحي في مصر اثنان وأربعون عاما (1964-2006)، وما يتم إخفاؤه هو حقيقة وجود فائض مالي في التأمين الصحي طوال الثلاثين عاما الأولى من عمره تقريبا، إلى درجة قيام وزارة المالية في تلك السنوات بمصادرة الفائض! ذلك الفائض أيضا هو الذي أغرى الحكومة بتعديل قانون هيئة التأمين الصحي عام 1975 بخصوص العاملين بالحكومة (وليس القطاع العام أو الخاص)، وتخفيض الاشتراك عليهم من 4% إلى 2% مع استمراره عند مستوى 4% على العاملين بالقطاعين العام والخاص. وهذا بالطبع ليس حبا في عيون موظفي الحكومة الذين خفض اشتراكهم من 1% إلى نصف في المائة، ولكن لتخفيف الأعباء عن رب العمل (الحكومة) بتخفيض ما تدفعه من 3% إلى 1.5% منسوبا إلى المؤمن عليهم من موظفي الحكومة، الذين يبلغون الآن حوالى أربعة ملايين! وأنظر كيف تعاير الحكومة الهيئة الآن بعجز ميزانية التأمين على موظفي الحكومة، بينما يظهر التحليل المالي أن قطاع التأمين على موظفي القطاعين العام والخاص الذين يدفعون 4% مازال متوازنا!
ولم يظهر العجز في ميزانية التأمين الصحي إلا في التسعينيات. وتتراوح النسبة الحقيقية للعجز في ميزانية التأمين الصحي بين حد أدنى 3% من الإنفاق سنة 1995 (عجز 30 مليونا منسوبا لإجمالى إنفاق 972 مليونا) و حد أقصى 11% عام 2002 (200 مليون منسوبا لإجمالى إنفاق 1850 مليونا). وعاد العجز عام 2004 إلى 9% (عجز 195 مليونا منسوبا لإجمالى إنفاق 2200 مليونا) ليستمر في التناقص في العامين التاليين مع إجراءات ترشيد الإنفاق. ولم يزد العجز المتراكم طوال السنوات حتى سنة 2000 عن 373 مليون جنيها.
ومن الطريف ان أكثر الأرقام انتشارا في الأحاديث الحكومية هو العجز الذي يبلغ 633 مليون جنيه بينما حقيقة الرقم ليست كذلك. أولا، لأن هذا ليس العجز السنوي، ولكنه العجز المتراكم حتى سنة 2000. ثانيا، أن العجز الحقيقى في تلك الفترة لا يزيد عن 373 مليون لكنهم يضيفون إليه 260 مليونا إضافية يسمونها عجزا داخليا، أي عجز في ميزانية التأمين على المعاشات وعلى موظفي الحكومة تم اقتراضه من فائض التأمين الصحي على طلبة المدارس! كل ذلك مع تناسى المبدأ الأساسي للتأمين الصحي المتمثل في المشاركة في تحمل المخاطر و التكافل بين المنتفعين. و كأن التضامن بين فئات المؤمن عليهم جريمة! أما الحكومة التي صادرت كل فائض ميزانية التأمين الصحي في سنوات الفائض رغم مطالبة الكثير من قيادات الهيئة بحفظه في صندوق خاص بالتأمين، سواء من أجل التوسعات في هيكل التأمين أو لمواجهة أى عجز مستقبلي، فقد تناست ما أخذته ودأبت على المبالغة في إظهار العجز المالي تبريرا لخصخصة التأمين الصحي.
عدم رضاء المنتفعين و جودة الخدمة
ليست القضية هنا هى هل توجد مشاكل في جودة الخدمة وفي رضاء المنتفعين أم لا فهى بالتأكيد موجودة. لكن المسألة هنا يجرى تضخيمها لتوظيفها في خدمة سياسات البيع والخصخصة الجارية. إن الحملة الحالية على انعدام الجودة تثير عددا من المشاكل الحقيقية. مثلا فيما يتعلق بمبدأ إعطاء الطبيب ترخيصا لمزاولة المهنة مرة واحدة صالحة لكى يمارس الطب طول العمر، بينما يتضاعف حجم العلم الطبي كل 5 سنوات، وهذه مشكلة كبرى. فتجديد ترخيص مزاولة المهنة كل 5 سنوات حل واجب. لكن عندما يتم تطوير المناهج، يستغل هذا التطوير في خصخصة التعليم في كليات الطب (مع غيرها بالطبع) عبر الكورسات الموازية في الجامعات الحكومية بتكلفة مابين 8000-12000 جنيه سنويا. و يستمر التخلف المسئول عن تدهور الجودة في التعليم الحالي شبه المجاني.
أما عدم رضاء المنتفعين فيتم المبالغة فيه لتبرير خصخصة الصحة! و توضح دراسة مركز المعلومات التابع لمجلس الوزراء أن مستوى رضاء المنتفعين عن خدمات التأمين الصحي يتراوح بين 50 إلى 60% في مجال العيادة الخارجية، ولكنه يتراوح بين 80-90% في مجال العلاج السريرى بالمستشفيات. و يلف الغموض الموضوع كأن انعدام الجودة صفة ملازمة لكل قطاع حكومي وعام، أما الجودة فهى الصفة الوراثية الملازمة لكل قطاع خاص! ولننظر لمأساة الفنانة سعاد نصر وما حدث لها بسبب الإهمال في إحدى أكبر مستشفيات القطاع الخاص وهي الآن تعيش حياة أسوأ من الموت، فأين هنا معايير الجودة والخدمة؟!
الاستثمار الخاص والمشروع الجديد
ولا يدارى وزير البزنس الجديد ميوله، حين يصرح مبكرا بعد توليه الوزارة بأن “مساهمة القطاع الخاص بـ 70% من الاستثمارات في التنمية (!) تؤهل القطاع الخاص الصحي لقيادة التنمية الصحية في مصر، بما فيها التأمين”. بل يعتبره أيضا مؤهلا للمشاركة في تحصيل الاشتراكات وفي الإدارة وفي الرقابة على الجودة.
وقبل أن نسترسل، نوضح هنا أن هناك 3 مستويات للخدمات الصحية: الرعاية الصحية الأولية، الرعاية الصحية الثانية أو الثانوية وهى الرعاية الصحية السريرية أو الإكلينيكية بالمستشفيات العامة، وأخيرا، الرعاية الصحية الثالثة أو المتقدمة وتشمل جراحات وتدخلات القلب والمخ والأعصاب وعلاج الأورام، وزرع المفاصل والأعضاء وغيرها من العلاجات المتقدمة.
والخطة في القانون الجديد هى أن يقتصر التأمين الصحي في النظام الجديد على الرعاية الصحية الأولية والثانوية فقط، وإنهاء الوضع الحالي الذي يقدم فيه التأمين الصحي الرعاية الصحية الاولية والثانوية والثالثة بجانب التأهيل. أما تعميم الخدمة على الـ 48% الباقية من الشعب فيقتصر على رعاية أولية محدودة فقط (على الأقل في المدى المنظور)، وتطبيق تلك الرعاية الأولية على مراحل تبدأ في بعض المحافظات فقط، وتنتشر تدريجيا لتستكمل بحلول عام 2010.
إن جوهر القانون الجديد هو الانتقال من التأمين الصحي الاجتماعي الشامل إلى التأمين الصحي التجاري المتنكر تحت اسم التأمين الصحي الاجتماعي الشامل! وبالتالي ونتيجة التحول للتأمين الصحي التجاري يتم دفع سعر تجاري للخدمة وليس تكلفتها كما في التأمين الصحي الاجتماعي. كما يتم عمل حزم صحية متعددة إخلالا بمبدأ مساواة المواطنين في تلقي خدمة علاجية واحدة عملا بالمبدأ الرأسمالي “كل واحد علي قد فلوسه، واللي ما معاهوش ما يلزموش”. من هذه الحزم ما يقتصر على الرعاية الصحية الأولية، ومنها ما يمتد للرعاية الصحية الثانوية فقط، و هناك شركات تأمين خاصة يبدو أنه سيوكل لها كل الرعاية الصحية الثالثة المتقدمة.
ولا يفوتنا هنا أن نلاحظ غياب موقف رسمي من نقابة الأطباء. بينما موقف النقيب حمدي السيد (بصفته عضو الحزب الوطني ورئيس لجنة الصحة بمجلس الشعب وليس بصفته نقيبا للأطباء) واضح: تأييد على طول الخط للخصخصة، بل واستعجالها بالمزايدة على الحكومة حينما انتقد تلكؤ الحكومة في تقديم قانون خصخصة التأمين الصحي وهدد بأن تقوم لجنة الصحة بتقديمه بنفسها!
إن أي خطة للإصلاح الصحي لا يمكن أن تقوم على جعل القطاع الخاص الذي يمتلك الآن حوالى 16% من إمكانيات العلاج السريري في مصر في القيادة. ففي ذلك تبديد للإمكانيات التي بناها الشعب بعرقه، ولا يمكن أن ينتج عنها سوى بيع بالبخس للأصول الثمينة لمستشفيات التأمين الصحي ووزارة الصحة. كما سوف يؤدي إلى مضاعفة تكلفة الخدمة الطبية على المواطنين بتحميلها بهامش الربح لقطاع خاص منفلت خاصة في غياب أى منافسة من قطاع حكومي أو تأميني لتقديم الخدمة.
إن النموذج الرأسمالي المنفلت لتأمين صحي يقوم على شركات تجارية لتقديم الخدمة هو النموذج الأمريكي الفاشل، وليس هذا حكما يطلق على علاته، فأمريكا تنفق على الصحة سنويا 13% من الدخل القومي للولايات المتحدة أى تنفق 1.7 ترليون دولار (1700 مليار، أى أضخم من إجمالي ميزانية دول كبرى). ومع ذلك فإن النظام الصحي الأمريكي، وفقا لمنظمة الصحة العالمية، هو رقم 32 في العالم بعد كل دول أوروبا الغربية وكندا و اليابان بل وإسرائيل. وتتبنى كل هذه الدول نظاما للتأمين الصحي الاجتماعي تقدم فيه الخدمة الصحية بسعر التكلفة من خلال مؤسسات عامة غير ربحية، ويلعب القطاع الخاص فيه دورا ثانويا إذا كان موجودا أصلا. ويلتقي المشروع الجديد، كما هو واضح، مع طموح القطاع الخاص الصحي في مصر بالاشتراك مع المستثمرين العرب والأجانب المتلهفين على الدخول والانفراد بتقديم الخدمات الطبية وشراء أصول هيكل الخدمات الطبية المصرية بسعر بخس، كما جرى في كل مجالات الخصخصة. باختصار، الحكومة تنوي سرقة صندوق التأمين الصحي، وإيهام المصريين بأنها تمتلك مفاتيحه ويمكنهم الاستفاده به وذلك علي طريقة المثل الشهير “سرقوا الصندوق يا محمد لكن مفتاحه معايا”.