تغير المناخ: ضرر أكيد يمكننا التخفيف منه
بعد إعلان الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ عن نتائج تقريرها الرابع مؤخرا، انتقل إدراك الرأي العام لتغير المناخ من إثبات أو نفي وجود الظاهرة إلى النظر في تأثيراته والعمل على التقليل منها. من اليوم، لن يجادل كثيرون في الإعلام بعدم وجود علاقة بين تغير المناخ والنشاط البشري، أما مجتمع العلم، فقد حسم رأيه منذ فترة مضت.
مر البشر في الخمس عشرة سنة الماضية بأعلى درجات حرارة تشهدها الأرض منذ أن بدأ تسجيل درجات الحرارة بشكل منتظم، أي مع بدء انتشار الصناعة في العالم، وما تبعها من زيادة في استهلاك الفرد في المجتمع الحديث للطاقة. اليوم نعرف أن للنشاط البشري، وعلى رأسه استهلاكنا للطاقة لأغراض الصناعة والنقل والاستهلاك المنزلي، دور في زيادة درجة حرارة الأرض، ذلك أنه يؤثر على أضعف طبقات النظام البيئي الأرضي، أي الغلاف الجوي.
نظام بيئي وطرف جديد فيه
تعتمد الأرض آلية لتنظيم درجة حرارة الكوكب كي يقل تراوحها بين الصعود والهبوط مع تناوب الفصول شتاء وصيفا، وتناوب أوقات اليوم ليلا و نهارا. يحوي الغلاف الجوي للأرض نسبة من غازات متعددة -أكثرها وجودا ثاني أكسيد الكربون، و معه أيضا بخار الماء، وغازات أقوى تأثيرا كالميثان والكلوروفلوروكربونات- تعمل مفعول الدفيئة، أي أنها تسمح بمرور أشعة الشمس (مصدر كل الطاقات على الأرض باستثناء الطاقة النووية)، التي يسخن جزء منها سطح القارات والمحيطات، بينما ينعكس الباقي إلى الغلاف الجوي ثانية. تعمل غازات الدفيئة هنا كمرآة نصف شفافة تسمح بهروب بعض الحرارة خارج الغلاف الجوي، وتحتفظ بجزء منها داخله لتثبت درجة حرارة سطح الأرض، وهو الأمر الملائم للحياة الأرضية بشكلها الحالي. يوازي هذا النظام دورة أخرى تثبت نسبة ثاني أكسيد الكربون -لذا تسمى دورة الكربون- بين إنتاجه من تنفس الكائنات الحية وحرائق الغابات وما تطلقه المحيطات، واستهلاك النباتات له أثناء توليدها الطاقة في البناء الضوئي.
استمرت هذه الآلية في العمل بفعالية إلى أن دخلت المسرح ثورة الصناعة الرأسمالية الحديثة منذ حوالي المائة وخمسين عاما، حين بدأ تسارع كبير في استهلاك الفرد منا للطاقة في المجتمعات الحديثة، التي تسارع نمو سكانها أيضا منذ ذلك الحين -تضاعف عددنا مما يزيد قليلا عن البليون وقتها إلى ما يزيد عن الستة بلايين اليوم. هذه الظاهرة انتشرت إلى باقي أنحاء الأرض مع انتشار الحداثة، وما تتطلبه من تسارع الطلب على الطاقة لأغراض الصناعة والنقل والاستهلاك المنزلي. إلى اليوم، يولد البشر طاقتهم غالبا من مصادر غير متجددة، كالفحم والنفط والغاز الطبيعي، وهي مصادر تطلق أثناء حرقها قدرا لا تستطيع دورة الكربون الطبيعية تدويره، خاصة مع إزالتنا الغابات لأغراض الرعي والزراعة واستخدام الأخشاب. النتيجة هي ازدياد نسبة ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، وبالتالي ازدياد تأثير مفعول الدفيئة، أي ازدياد درجة حرارة الغلاف الجوي بمرور الأعوام.
ارتفعت درجة حرارة الأرض 0.7 درجة مئوية مقارنة بمعدلات ما قبل العصر الصناعي، و لو توقف البشر اليوم تماما عن إطلاق المزيد من غازات الدفيئة في الجو، فإن درجة الحرارة ستستمر في الارتفاع إلى أن تصل لدرجة ونصف مئوية فوق معدلات ما قبل العصر الصناعي. يحاول العالم الحفاظ على ازدياد درجة حرارة الأرض دون الدرجتين مئويتين لأن آثار ارتفاع درجة الحرارة لما يزيد عن الدرجتين لا تقارن بما يقل عنها. وعلى الرغم من أن الاختلاف يبدو قليلا بالمقارنة بخبرتنا في اختلاف درجة حرارة الجو بين الليل و النهار مثلا، إلا أن آثار ارتفاع درجة الحرارة ملموسة فعلا وحقيقية كما بدأنا نشهد مؤخرا.
ارتفاع سطح البحر
هاتان الدرجتان متوسط عالمي، إلا أن تغير درجات الحرارة لا يتساوى في أنحاء الأرض كلها، فهو يبلغ أقصاه في القطبين وحولهما، ويقل الارتفاع باتجاه خط الاستواء على الرغم من أن التأثيرات الكلية لتغير المناخ تظهر هناك أيضا. يؤدي ارتفاع درجة الحرارة في أقصى الشمال وأقصى الجنوب إلى انصهار مخزون الماء العذب المجمد في ثلوج القطبين -97% من الماء العذب في الكوكب- و اختلاطه بماء البحر. تخف جدا ثلوج القطب الشمالي كل صيف مؤخرا، كما أثارت سرعة انصهار ثلوج الجليد القاري في أنتاركتيكا و جرينلاند دهشة العلماء.
يرفع ذلك الماء من مستوى سطح البحر حول العالم، وهو الأمر الذي لا يهدد فقط الأراضي المنخفضة في هولندا، وبنجلاديش، ودلتا النيل في مصر بالغمر ورفع ملوحة المياه الجوفية، ولكن أيضا التجمعات السكانية الساحلية في القارات الست. وفي حالة دلتا النيل فإن ما يقارب من خمس أراضي دلتا النيل ارتفاعها تحت المترين (تظهر دراسة لمحمد الراعي وآخرين أن ارتفاع سطح البحر لثلاثين سنتيمترا والمتوقع بحلول 2025 سيساوي خسارة عقارات بمليارات الدولارات، وضرورة نقل نصف مليون نسمة، وخسارة سبعين ألف فرصة عمل في الإسكندرية وحدها). تتضاعف الخسارة عشرات المرات في دلتاوات الأنهار الآسيوية في شرق و جنوب آسيا، وتصل إلى أقصى وضوح لها في اختفاء جزر/دول كاملة كالمالديف ومارشال لا يزيد ارتفاع أعلى نقطة فيها عن نصف المتر.
أحوال جوية قصوى وتغير المناخ محليا
يمثل ارتفاع سطح البحر أسهل نتائج تغير المناخ في تقدير آثارها، إلا أن الشواهد بدأت تظهر لتشير إلى وجود علاقة بين تغير المناخ وظاهرة النينيو والأحوال الجوية القصوى التي تشهدها مناطق مختلفة من العالم: موجات حارة تساعد على حرائق الغابات في أمريكا الشمالية؛ فيضانات و نحر للتربة في آسيا و وسط أوربا؛ جفاف وتصحر في جنوب شرق آسيا و أفريقيا (الأزمة الإنسانية في دارفور و تشاد أساسها خلل بيئي أدى للصراع على الماء بين المزارعين والرعاة)؛ ازدياد عدد وشدة الأعاصير حول المحيطين الهادي وشمال الأطلسي، وظهور الأعاصير لأول مرة جنوب الأطلسي(. هناك علاقة مباشرة بين حرارة الهواء فوق سطح الماء مباشرة واحتمال الأعاصير)؛ بل إن تغير درجات الحرارة يؤثر على الدورات الزراعية ومكافحة الآفات، كما يؤثر على صحة الإنسان مباشرة بانتشار مرض كالملاريا في مدن كهراري، أنشئت على ارتفاع لم يكن البعوض يتحمل برودته.