بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

اعترافات قرصان اقتصادي

“إن الاعتراف بالمشكلة هو أول خطوة في طريق حلها, والاعتراف بالخطيئة هو بداية الخلاص”. بهذه الجملة التي ذكرها الخبير/القرصان الاقتصادي جون بركنز في مقدمة كتابه “الاغتيال الاقتصادي للأمم”، لخص مضمون الكتاب الذي يعرض خلاله اعترافاته بوضع خطط اقتصادية -بالاتفاق مع منظمات مالية دولية- غرضها إخضاع بلدان أضعف لصالح السيطرة الأمريكية، علاوة على اللقاء الضوء على ممارسة نخبة رجال الأعمال والسياسة في الولايات المتحدة لبناء إمبراطورية عالمية تسيطر عليها ما يسميه بركنز “الكوربورقراطية”؛ أي حكم منظومة الشركات الكبرى الأمريكية.

صدر هذا الكتاب باللغة الإنجليزية عام 2004، أما ترجمة الكتاب للعربية فجاءت أواخر 2008، للمؤلف كتاب آخر صدر عام 2007, بعنوان “التاريخ السري للإمبراطورية الأمريكية” يتناول فيه أكثر تفصيلا كيف استطاعت الولايات المتحدة أن تحوّل العالم إلي إمبراطورية تتحكم فيها هي.

تنبع أهمية اعترافات بركنز، الذي ظل صامتا طوال حوالي عقدين تحت تأثيرات تهديدات أو رشاوي عديدة, من كشف الكثير من أسرار القرصنة الاقتصادية والفساد – توأما الاقتصاد الرأسمالي.

القراصنة: شياطين الرأسمالية

يمكن تقسيم كتاب بركنز إلى جزأين: أحدهما يعتمد بدرجة كبيرة على تحليلات وآراء المؤلف في وصف أحداث ووقائع لم يكن طرفاً فيها. والجزء الآخر والأهم يتناول تجربته الشخصية في شركة “ماين”, تلك التجربة التي امتدت حتى عام 1980، حيث وقائع عاشها المؤلف وشارك في صياغتها.

في البداية، يحدد المؤلف وظيفة القرصان الاقتصادي، الشبيه بعمل رجل المافيا، بأن يبذل ما في وسعه ليقنع دول العالم الثالث بقبول قروضاً هائلة من أجل تحسين البنية التحتية – قروض أكبر بكثير مما تطلبه الأمور- وأن يضمن أن مشروعات التنمية هذه ترتبط بعقود مع الشركات الأمريكية مثل شركة “هوليبيرتون” أو “بكتل”. وبمجرد ما تتعثر هذه البلاد بالديون الهائلة, تفرض عليها حكومة الولايات المتحدة ووكالات المنح المتحالفة معها شروطها السياسية مثل: كاتخاذ مواقف محددة داخل مؤسسات الأمم المتحدة أو السيطرة على موارد معينة في البلد المعين أو قبول التواجد العسكري بها.

تعد الإكوادور نموذجاً للبلاد التي ورطها “بركنز” وزملاؤه من قراصنة الاقتصاد, في قروض ضخمة ومن ثم دفعوها للإفلاس, فخلال ثلاث عقود ارتفع حد الفقر من 50 إلى 70% من السكان، وزادت البطالة من 15 إلي 70%، وأصبحت الإكوادور تخصص قرابة 50% من ميزانيتها لسداد الديون. حتى أصبح الحل الوحيد أمامها, للتخلص من ديونها, هو بيع غاباتها إلي شركات البترول الأمريكية. وهذا ما حدث بالفعل. فأصبح من بين كل 100 دولاراً من عائدات النفط الخام, تتحصل شركات البترول الأمريكية على 75 دولار, أما الـــ 25 دولار المتبقية فتذهب ثلاثة أرباعها لسداد الديون لصالح أمريكا. وفي النهاية يتبقى 2,5 دولار فقط للنفقات الاجتماعية كالصحة والتعليم ودعم الفقراء. يؤكد المؤلف أنه تمت مؤامرات عديدة شبيه بنموذج الإكوادور بالاتفاق مع المؤسسات المالية الدولية المانحة, لإخضاع الدول الفقيرة لأصحاب المليارات في الولايات المتحدة.

يؤكد الكاتب أن عدد القراصنة في تزايد مستمر، هؤلاء الموظفون الذين يتبخترون في ممرات مكاتب شركات مثل : مونسانتو, جنرال اليكتريك, نايكي, جنرال موتورز, وول مارت، حيث يتواجدون تقريبا في جميع الاحتكارات الكبيرة في العالم، هؤلاء القراصنة المرتزقة يتقاضون أجوراً تفوق الخيال، بسبب قدراتهم في نصب أفخاخ لثروات الدول الفقيرة، وتقديمها كقرابين “للكوربورقراطية” التي يخدمونها.

السيطرة الأيديولوجية:

يطلق بركنز مصطلحاً ” الكوربورقراطية” على ذلك الارتباط الأخطبوطي بين الإدارة الأمريكية والشركات والبنوك الكبرى، في إطار منظومة، تسعى إلى تقسيم العالم إلي مناطق اقتصادية نوعية تخدم كل منها على حدا أغراض الشركات الأمريكية ( حيث الخليج العربي للنفط، وأمريكا الوسطى والكاريبي للعمالة الرخيصة، أما الصين فلتجميع المنتجات، وغيرها …)، حيث تستخدم تلك المنظومة قوتها المالية والسياسية من أجل تدعيم فكرة الإمبراطورية العالمية، ومن أجل السيطرة الأيدلوجية على المدارس والإعلام والنقابات أو الأحزاب الصفراء.

وفي هذا الإطار يمكن ذكر العديد من الأمثلة: منها برنامج “الغذاء من أجل السلام”، هذا البرنامج الذي يدعم الشركات الزراعية الأمريكية، و يرسخ اعتماد الآخرين على الغذاء الأمريكي, وهناك خطط ريجان لإنقاذ شركة “كريسلر للسيارات” و”بنك كونتيننتال الينوي”, وترويج بوش الأب بيع السلاح عند نهاية الحرب الباردة.

يعرض جون بركنز أن الهدف من السيطرة الأيدلوجية توجيه وضبط الأفكار والمشاعر بحيث يقتصر دور رجل الشارع على كونه مستهلكاً أو متفرجاً ولا كونه مشاركاً . وقد تمكن أصحاب المصالح الأمريكية من السيطرة على المواطن العادي من خلال “غسيل مخه” باستخدام الميديا الموجهة. كما أن استخدام اللغة أمر في غاية الأهمية لتطويع استراتيجية النهب وتغليفها في مفاهيم “الحكم الرشيد” و”تحرير التجارة وحقوق المستهلك”, وأن الحروب التي تخوضها الولايات المتحدة تهدف لأغراض نبيلة. ولا غرابة في أن يستخدم ريجان تعبير مثل “امبراطورية الشر”, ليستخدم بوش الابن بعد حوالي عقدين تعبير مشابه: “محور الشر”.

التدخل والسيطرة العسكرية:

يتحدث المؤلف بلسان القراصنة: “لو فشلنا ستدخل الساحة فصيلة أكثر شراً. فصيلة ندعوها فصيلة الثعالب. هؤلاء هم رجال الأعمال القذرة الذين لا غنى عنهم لمن يحكمون عبر التاريخ. انهم دائما هناك في الظل, وإذا ظهروا ستسقط رؤوس رؤساء دول أو يموتون في حوادث عنيفة”.

يوضح المؤلف أنه وزملاءه القراصنة الاقتصاديين لم يكونوا أبداً مطلقي اليد في إخضاع ثروات بلدان العالم, خاصة أمريكا اللاتينية, للاستثمارات الأمريكية. فأحياناً كانت تصعد حكومات ذات توجه أو ميل يساري، ترفض الخضوع أمام “الملياردير الأمريكي المسلح”, وفي هذه الحالة يتم الاستعانة بمن يسميهم القرصان: الثعالب؛ وهؤلاء هم الذين يدبرون الاغتيالات، و يدعمون الانقلابات العسكرية للحفاظ على أفضل وضع لاستقرار الاستثمار الأمريكي.

الأمثلة على هذا السياسة كثيرة, ففي الخمسينات عندما قرر “أربنز” رئيس جواتيمالا المنتخب ديمقراطياً تطبيق برنامج للإصلاح الزراعي، يهدد مصالح شركة “يونايتد فروت” الأمريكية, قامت السي.آي.ايه بتدبير انقلاب ضده واستبداله بيميني متطرف: “كارلوس أرماس”.

وفي السبعينات كان الانقلاب على “سلفادور الليندي” المنتخب ديمقراطياً في شيلي واستبداله بالجنرال الديكتاتور اليميني “بيونيشيه”عام 1973. في يوليو 1981 تم اغتيال “عمر توريخوس”، رئيس بنما، في حادث طائرة مدبر، لأنه تجرأ على رفض الهيمنة الأمريكية، وأراد فرض سيطرة بلاده على ثرواتها الطبيعية. وفي كل هذه التجارب انقلبت الولايات المتحدة على الديمقراطية نفسها؛ فلا ديمقراطية حقيقية في ظل سيطرة “اليد الخفية للسوق”، التي لا تستطيع أن تعمل دون “القبضة الحديدية للقوة العسكرية”.

أما عن التدخل العسكري المباشر فيقول الكاتب : “إن حدث وفشل هؤلاء الثعالب, ستعود النماذج القديمة للظهور على السطح؛ عندما يفشل الثعالب فان شباباً أمريكيين يرسلون ليقتلوا ويُقتلوا”. وهو ما حدث بالفعل في أفغانستان, العراق، (الذي يعدد بركنز أهميتها، حيث النفط و المياه والموقع الاستراتيجي والسوق الواسعة), وكاد أن يحدث في فنزويلا لولا المأزق الأمريكي في العراق, وأفغانستان.

أزمة فساد أم أزمة نظام:

لعل اعترافات بركنز، وكذلك ندمه الشديد، الذي يخصص له الكثير من الصفحات، وأيضاً الصراخ على حطام العالم الرأسمالي الذي شارك في صياغته , يذكرنا بندم “جوزيف ستيجليتز”-كبير اقتصاديي البنك الدولي – في كتابه “ضحايا العولمة” الصادر عام 2002, الذي دعا فيه إلي “عولمة رشيدة” عن طريق درجة أكبر من الحيادية لدى المؤسسات المالية الدولية”. لقد ساهم كلاُ منهما، بطريقته الخاصة، في هذه الفوضى العالمية.

لقد قام بركنز وقبله ستيجليتز بمراجعة سياسية/اقتصادية، تبرأ من خلالها عن كثير من أفكارهما، بل واستنكروها أيضاً. والآن جاء دور المزيد من الخبراء الاقتصاديين للقيام بمراجعات شبيهة، خاصة مع الأزمة الاقتصادية، بعد تبنيهم اطروحات من نوع إعادة الاعتبار لدور الدولة في الاقتصاد، وضرورة حملات التأميم الجزئية، وغيرها، لكن تأتي كل هذه الاطروحات في إطار إنقاذ الرأسمالية نفسها.

رغم إعلان التوبة الذي قدمه المؤلف، إلا أنه يحاول تصوير أزمات العالم الرأسمالي على أنها نتاج تلك الأفعال السيئة الصادرة من هذا القرصان أو ذاك, بينما الحقيقة أنه لولا الاقتصاد الرأسمالي القائم على الربح، والمنافسة الشرسة، وفوضى الإنتاج، لما كان لمثل هؤلاء المرتزقة الفاسدين مكاناً.