العفوية والإستراتيجية السياسية
مقدمة
يحدث أن تكتسي أحداث ما دلالة رمزية أكبر بجلاء من عدد الأشخاص المشاركين فيها فعلا. تلك كانت حالة المظاهرات التي جرت إبان مؤتمر قمة المنظمة العالمية للتجارة بسياتل في العام 1999. لم تكن المظاهرات بذاتها كبيرة بوجه خاص قياسا على الكثير من المظاهرات التي تلت منذئذ، إذ لم يتجاوز أقصى ما بلغه عدد المتظاهرين في أقوى لحظات الاحتجاجات 30 ألفا.
كنها أطلقت شيئا برزت لاحقا أهميته القصوى. قبل عشر سنوات، يوما بيوم تقريبا، جرى تقديم سقوط جدار برلين كنهاية للاشتراكية، تتيح للرأسمالية الانفراد بتحكم بالعالم وبالوجود البشري برمته على نحو لا يُمس. وطبعت سياتل بزوغ تحد جديد. في العالم برمته أبرزت وسائل الإعلام خادمة الرأسمالية ألوف الأشخاص الذي كانوا يعرقلون إحدى أكبر اللقاءات الدولية للقوى الرأسمالية. وبثت برامج التلفزيون استجوابات أشخاص كان ينددون بكامل عولمة الشركات متعددة الجنسية. وفي كل مصنع، ومنجم، ومكتب، ومدرسة بالعالم اجمع رفعت أقلية ممن يشاهدون تلك الصور القبضة مجازيا، قائلين لأنفسهم، وحتى لآخرين:” إلى أمام”. فجأة وجد عقد وأكثر من الحرمان، وفقد الأوهام، والخنوع، واليأس، نقطة التقاء. وانطلاقا من سياتل بدأت حركة عالمية جديدة تتحد. وبعد خمس سنوات، قلما يجرؤ أحد على وضع وجود الحركة وأهميتها موضع سؤال. واضطر من كانوا، باليمين كما باليسار، يبخسون قدرها، معتبرين أنها موضة عابرة لدى شباب الطبقات الوسطى البيض، إلى تغيير الخطاب، أو بالأقل التزام الصمت بعد المظاهرات المتلاحقة في واشنطن، وملبورن، و كبيك، وبراغ، ونيس، وغوتبورغ، وبوجه خاص بعد جينوة. كما اضطر من اعتبر تدمير برج التجارة العالمي حكما بالموت على الحركة إلى الاعتراف بالخطأ. فبعد أربعة أشهر من تفجيرات 11 سبتمبر 2001 ، استقبل المنتدى الاجتماعي العالمي في بورتو اليغري من البشر ضعف ما استقبل المنتدى الأول. وعندما انصهرت الحركة في حركة مقاومة أوسع للحروب الأمريكية الجديدة في أفغانستان، والعراق، شهدت انجلترا وايطاليا وألمانيا واليونان وغيرها احتجاجات أكبر من نظيرها في نهاية سنوات 1960 ومطلع سنوات 1970. وأخيرا كرس 000 100، المشاركين في شهر يناير هذه السنة بالمنتدى الاجتماعي العالمي الرابع بمومباي، حيوية الحركة، وكذلك فعلت المظاهرات ضد توسيع الاتحاد الأوربي في شهر ابريل( في وارسو ودبلن)، وزيارة بوش لأوربا بعد أسابيع ( ألوف في اسطنبول ودبلن وباريس، و2 مليون في روما) وضد مؤتمر الجمهوريين بواشنطن (000 500 شخص بالأقل). عند نهاية كل تظاهرة كبيرة للحركة يتنبأ المتشائمون بهزيمتها، وفي كل مرة جانبوا الصواب.
والحال أن كل حركة لا تتسع ولا تتعزز إلا بمواجهة معارك فكرية غالبا ما تجري محاولة تفاديها في طورها الأولي. كتبتُ في صيف 2000 بمقال بهذه المجلة: َتعبر كل حركة احتجاج ناجحة طورين. في طور أول تخرج الحركة فجأة الى العالم، مباغتة معارضيها، ومثيرة حماس المتفقين مع أهدافها. وبقدر ما طالت فترة غياب الحركة يكبر الحماس. عندها تشعر القوى المبادرة بالحركة بوجوب حمل الحركة بقوة درجة تلو الأخرى. ويساعد هذا العمل على توحيد المنخرطين في الحركة، ويقودهم إلى تلطيف خلافات الرأي القديمة والحجج القديمة حول التكتيك. لكن، في تلك الآونة، لن يستسلم ببساطة من ُوجهت ضدهم الاحتجاجات. فبعد الصدمة الأولى يشرعون في تعزيز أسلحة دفاعهم، ويسعون إلى اتقاء صدمات قادمة: يحاولون وقف تقدم الحركة. وفي هذا الطور تبرز حتما مواجهات فكرية داخل الحركة حول التكتيك الواجب، حتى بين من اقسموا على نسيان الصراعات القديمة لتشجيع الإجماع. مثل صيف 2001، من جينوة الى 11 سبتمبر، انعطافا للحركة العالمية المناوئة للرأسمالية: بات واجبا اخذ تضارب الآراء داخل الحركة بعين الاعتبار لتمكينها من التوسع. أصاب الإحباط بعضا من قادة الحركة بوجه شراسة عنف البوليس في جينوة، وتخلى عنها بعض آخر بعد 11 سبتمبر، واعتبر آخرون الحركة المناهضة للحرب حرفا للحركة المناهضة للنيوليبرالية. وبما أن تقدم الحركة متعذر ما لم تتخط طور مجرد سرد للأهوال الاقتصادية والبيئية التي تسببها العولمة النيوليبرالية، وجب فتح نقاش جدي حول ما يقع للنظام العالمي،من جهة، وحول الاستراتيجيات والتكتيكات الواجبة لمحاربته من جهة أخرى. وعلى هذا النحو كان محتما ظهور تقاطب بين مختلف المنظورات. لم يقل ماركس في حقبته غير ذلك:” لا تقدم بلا انقسام”. يمكن، ضمن مختلف كيفيات تناول الاستراتيجيات والتكتيكات التي ظهرت داخل الحركة، والتي يتوقف عليها مستقبلها، استخلاص أربع اتجاهات رئيسية. رغم أن مناضلين كثر يؤكدون على وجوب تفادي الحركة للسياسة، تتحدد كل من تلك الاتجاهات بالنسبة لموقفها من سلطة الدولة- أي بالنسبة لمقاربة معينة للسياسة. ويمكن، من زاوية النظر هذه، قول إن الحركة ولدت ذاتيا تيارات سياسية. سأتطرق في هذا المقال الى تلك الاتجاهات. ومن جهة أخرى سأتناول بالوصف كيف تصرفت إزاء بعضها في لحظات حاسمة. كما سأبرز المستتبعات السياسية الجارية في الحركة بالنسبة لكل الذين يسعون إلى بنائها والسير بها قدما.