العفوية والإستراتيجية السياسية
التيارات الإصلاحية
ينبع نجاح الحركة منذ سياتل من قدرتها على تجميع أناس انخرطوا في مختلف الحركات الاجتماعية وأدركوا، في خضم تلك التجربة،أن لهم عدوا مشتركا. لكن النتيجة الحتمية كانت جنوحا أوليا إلى السعي لإصلاح النظام القائم بدلا عن إطاحته. لا غرابة في الأمر ما دامت الحملات من أجل قضايا خاصة ترمي إلى تحويل بعض أوجه النظام القائم غير المقبولة، أي الحصول على إصلاحات. ليست الإصلاحية غرسا لجسم غريب في نضال إجمالي ما، بل هي تطابق رد فعل أوليا لكل جماعة أشخاص بدؤوا يحتجون ضد الاضطهاد والاستغلال. نشأ أفراد تلك الجماعات في مجتمع معين، ولا يعرفون بوجه عام غيره. وبالتالي يبدو لهم بديهيا أنه لا يمكن تنظيم الأمور إلا بكيفية معينة، وانه لا يمكن الحصول سوى على تقويم داخل هذا الإطار القائم مسبقا. لكن النضالات من أجل الإصلاحات تخلق أحيانا قوة دفع قد تولد وعيا بضرورة النضال من اجل تغييرات أعمق بكثير- وبقدرة الحركات على الاضطلاع بها. في السنوات الخمس الأخيرة، أدى تلاقي هذه النضالات الخاصة فيما ما يدعى”حركة الحركات” إلى خلق هكذا قوة دفع بالذات. و يُلاحظ تعزز الميل إلى التفكير في مواجهة للنظام بمجمله، بدل الاقتصار على إحدى أوجهه فقط. و بعد أن كان طابع الحركة المعادي للرأسمالية ضمنيا، أصبح معلنا وصريحا. والحال أن هكذا تجذر لم يجر أبدا بكيفية وحيدة الشكل. فليست الإصلاحية مجرد مزيج من الأفكار حول كيفية تحسين المجتمع. إنها تتجسد أيضا في مختلف المؤسسات- وبخاصة في المؤسسات البرلمانية- التي يتمثل دورها في توجيه أفكار من ذلك القبيل. يمكن في فترة أولى للمنتخبين، أو لأشخاص لهم مكانة مركزية في الأحزاب الإصلاحية، أن يقوموا بدور بالغ الأهمية لأنهم قد يشكلون نقطة تلاق خلال بزوغ الحركة. فبجذب الناس حولهم، وبالضغط لأجل تغيير الأمور، يخلقون نقطة تجميع لأنشطة سياسية – و يطلقون بذلك ميلا إلى نمو الحركات يتجاوز مجرد إصلاحات. هذا ما يستوجب ليس قبول انخراط أولئك الأفراد في إطلاق الحركات وحسب بل تشجيعه. منذ لحظة شروع حركة ما في كسب تأثير، يصبح دور هؤلاء القادة الإصلاحيين متناقضا أكثر فأكثر. فهم من جهة لا يزالون قادرين على جذب أشخاص جدد ظلوا سلبيين. لكن نزعتهم الإصلاحية تعني، من جهة أخرى، سعيهم إلى إبقاء الأمور في الإطار المطمئن للمجتمع القائم(علاوة على سعيهم إلى وضع موقفهم بالمقدمة). إنهم يجنحون إلى تليين كفاحية وثقة والتزام المنخرطين في الحركة. إن شخصيات بدت يسارية قبل وجود الحركة قد تظهر بسرعة يمينية جدا فور انطلاقها. وفي هذا الطور لن تتقدم الحركة وتتطور إلا بشرط وضع قيادة تلك الشخصيات للحركة موضع سؤال. يمكن، بقصد إيضاح هذه الظاهرة، تناول حالة برنار كاسن الخاصة في فرنسا. قام كاسن، رئيس تحرير لوموند ديبلوماتيك، بدور هام في بناء حركة ما بعد سياتل، وفي بناء جمعية أطاك Attac وبصفته مبادرا إلى المنتديات الاجتماعية العالمية. فببناء اطاك حول برنامج ” تثقيف شعبي متجه نحو الفعل” بدأ يعارض السياسات النيوليبرالية التي تبنتها الحكومات. وألح بوجه خاص على انخراط رجال السياسة (المنتخبين) وصناع رأي آخرين/ شخصيات ذات نفوذ. أتاح عمل كاسن جعل اطاك جمعية من عشرات ألوف الأعضاء. لكن بمعارضته لمشاركة جمعيته في النضال ضد الحرب، اتخذ كاسن موقف مضرا بتطور اطاك. و في الفترة حيث كانت الحكومة الفرنسية تشارك الولايات المتحدة الأمريكية الهجوم على أفغانستان، كانت كامل قوى أعضاء أطاك منخرطة في عمل ضغط من أجل ضريبة توبين. ورد بغضب على الكفاحية التي ُبذلت في المنتدى الاجتماعي الأوربي بفلورانس في العام 2002. وهكذا على سبيل المثال دعا اليسار، بقصد مواجهة قوة الامبريالية الأمريكية، إلى خلق جيش أوربي. وفي الاتجاه ذاته واخذ الحركة، أثناء القمة المضادة لمجموعة الثمانية الكبار على الحدود الفرنسية السويسرية، على جذريتها. اضطلع قادة اصلاحيون بدور متناقض مماثل داخل الحركة المناوئة للحرب في بريطانيا، واسبانيا، وايطاليا،وغيرها. لقد أمكنت التعبئات الهائلة يوم 15 فبراير 2003 بفضل مبادرات أقصى اليسار، ومنظمات المسلمين وأنصار السلام، لكن بفعل مشاركة الأحزاب الإصلاحية أيضا- تلك كانت حالة حزب اليسار الديمقراطي في ايطاليا، وحزب البازوك في اليونان، وساسة مثل روبين كوك في بريطانيا. لقد أتاح لنا حضورهم أن نكون ملايين، لا مجرد مئات آلاف في الشارع. لكن فور اندلاع الحرب لم يعبر العديد منهم صراحة عن موقف مضاد للاحتلال. واكتفوا بموقف تأييد مشاركة بالحرب تحت مظلة منظمة الأمم المتحدة بدل مظلة الولايات المتحدة الأمريكية. وبكيفية مماثلة، قام قادة حزب العمال بالبرازيل بدور بالغ الأهمية في بناء المنتديات الاجتماعية العالمية الثلاث في بورتو اليغري. لقد جعل انخراطهم من تلك الأحداث نقط تجميع لكل الناشطين بأمريكا اللاتينية وخارجها. ومن هؤلاء الأشخاص من يوجد اليوم بحكومة تطبق السياسات النيوليبرالية عبر اتفاقات مع صندوق النقد الدولي. لكن بفضل قوة دفع المنتديات الاجتماعية العالمية، تمكنت الحركات المتحدرة منها من تحدي تلك السياسات.
الاتجاهات المستقلة
لما شرعت الحركة «عفويا» في تجاوز مرحلتها الأولى الخاصة، أمكنت معاينة تنامي اتجاهات غالبا ما توصف بكونها «استقلالية».
يضم هذا التعبير الفضفاض جدا عديدا من مواقف إيديولوجية وتحركات ملموسة بالغة التباين: بناء حركات اجتماعية جماهيرية، والعمل في المنظمات غير الحكومية، والمشاركة في أنشطة مباشرة غير عنيفة، والإصرار على تنظيم الجماعة communauté على الصعيد المحلي، وأنماط حياة بديلة من نوع « do your own thing » ، وأشكال إنتاج تعاونية، ثم على الهامش، يستعمل التعبير أيضا للإشارة إلى النضالية الأقلوية لـBlack Blocks، الموجه ضد الشرطة والمِلكية. ويمكن على أي حال إبراز سمتين أساسيتين تميزان كل تلك الأشكال التي ينطبق عليها التعبير.
تتمثل السمة الأولى في رفض ممارسات التسويات والمناورات داخل الطبقة السياسية وداخل كل أشكال السياسة الإصلاحية التي تسمح بتلك الممارسات. و تكمن إحدى خاصيات التيارات المستقلة في ما توليه من أهمية لدور الفعل من أسفل ولكيفية إقدام الناس على معارضة الأجهزة البيروقراطية. وتشيد تلك التيارات المستقلة بواقع أن الناس الذين ينخرطون في النضال يبدؤون في إبداء قدرات مذهلة على الإبداع والابتكار، وفي علاقة بذلك، قدرة متنامية على التنظيم الذاتي كفيلة بتحدي مفاهيم التراتبية القائمة.
لكن التيارات المستقلة ترفض، في الآن ذاته، فكرة حزب ثوري منظم حول أهداف إستراتيجية، وموجه ضد النظام بمجمله. وتشهر باليسار الثوري بعنف يضاهي ما تبديه إزاء المبررات الوصولية للطبقة السياسية. وتتهم الثوريين بكونهم طليعيين ومتلاعبين واستبداديين، بل حتى كليانيين. وترى أن السياسة محكومة حتما، سواء كان هدفها إصلاح النظام أو إطاحته، بالبقاء مفصولة عن الحركة. طبعا ثمة تيارات مستقلة، (يمكن وصفها بـ«مستقلة معتدلة») ترى إمكان اضطلاع الأحزاب السياسية بدور على الصعيد الانتخابي. لكن يلزم أن يبقى ذاك الدور خارج الحركة، على نحو يجعل فعل الحركة الاجتماعية وفعل الأحزاب السياسية يتمان بشكل متواز. وعلى الأحزاب السياسية ألا تتدخل في الحركة.
تكمن قوة التيارات المستقلة في ما تولي من أهمية للنشاط من أسفل، وفي رفضها الأخلاقي لكل تسوية مع النظام. لكنها تجد صعوبة في تجاوز ذلك الطور. وترى أن النظام فظيع وتستدعي محاربته تطوير أشكال فعل تضمن استقلالية كلية عن كل سمات النظام. وتعتقد بإمكان محاربة النظام بمجرد تجميع مختلف المجموعات التي تتنظم ذاتيا.
نادرا ما تعبر تلك التيارات عن أفكارها نظريا. ففي الواقع، غالبا ما ترتبط النظرية بالحرص على صياغة إستراتيجيات، بينما التيارات المستقلة، بحكم تعريفها، رافضة للإستراتيجية بمبرر قيامها على أولوية بعض أشكال الفعل على أخرى. غير أن ثمة مؤلفين سعى كتابهما إلى تنظير مواقفهم، وكان لهما تأثير كبير.
المؤلف الأول بعنوان الإمبراطورية، للكاتبين، مايكل هاردت وتوني نيغري، غالبا ما ُيستشهد به أكثر مما ُيقرأ فعلا (تجدر الإشارة إلى أنه كتب بلغة مبهمة في الغالب). إن «الإستراتيجية» المفصلة فيه هي أساسا لا إستراتيجية، حيث سمي تجميع مختلف النضالات المستقلة بـ«الحشد»، وهو مفهوم مبرر باستنادات ميتافيزقية الى سبينوزا. وإن اقترحت تلك النظرية شكل ما من التراتبية، فذلك بإيلاء دور هام لـ «لعمال الإعلام». يرن هذا بالأحرى كتعظيم لانتقاء ضيق لحركات مستقلة تلقى أعضاؤها تكوينا جامعيا.
وثاني الكتابين هو تغيير العالم دون الاستيلاء على السلطة للكاتب جون هولوواي. كتاب أسهل قراءة من كتاب الإمبراطورية. ورغم مصطلحات طريفة خاصة به، يعرض كاتبه في بعض المقاطع أفكار ماركسية متينة حول الاستغلال والاستلاب، يكملها ببعض الأفكار حول الطبقة العاملة. وبفعل تنديد الكاتب بأشكال تنظيمية استبدادية وستالينية، وجد أنصارا في بلدان (في آسيا الجنوبية وأمريكا اللاتينية) حيث هيمنت أمدا طويلا أشكال التنظيم تلك منتحلة صفة حركات ثورية. مهما كان الأمر، توصل هولوواي، فيما يخص الإستراتيجية، إلى خلاصة هاردت ونيغري عينها: رفض الإستراتيجية. وعلى حد قوله، ستقوم مختلف المجموعات التي تعارض رعب النظام بصيحات غضب، بالتكتل بكيفية غير معلومة لفك علاقات الإخضاع التي تربطنا جميعا بالنظام، وقد يتيح ذلك حتى حل الدواليب المسلحة للدولة. وبناء على ذلك، لا داعي للاستيلاء على السلطة لأن الدولة ستنهار ببساطة لحظة حلول المستقلين.
ليست حجج هولوواي في الواقع سوى صياغة جديدة للنظرية الإصلاحية القديمة. ثمة في كلتي الحالتين افتراض أن الطبقة السائدة ستضطر، إذا كان الراغبون في تغيير المجتمع ُكثرا، إلى تسليمهم السلطة دون أدنى طلقة نار. تدفع شعبية تلك النظرية، لاسيما ضمن بعض المجموعات بأمريكا اللاتينية، إلى التفكير بأن على تلك المجموعات (وهولوواي) تذكر ما فعله الجنرالات بحركات العمال والفلاحين والسكان الأصليين المستقلة بالفعل، بالبرازيل عام 1964 أو الشيلي عام 1973 على سبيل المثال.
غير أن نظرية هولوواي لا تؤكد على انحلال الدولة العفوي في مستقبل مفترض، أو على قدرة الحركة تحقيق الأمور الآن و هنا، دونما حاجة إلى الاهتمام بالدولة ولا بالمستقبل. إن نموذجها القدوة هو الزاباتيون بالمكسيك، الذين قدموا على حد قوله، مثالا عن إمكان الحصول على استقلالهم مع بقاء جهاز الدولة على حاله.
لكن الواقع، مع الأسف، مغاير تماما. إذ كان الزاباتيون في البدء حركة مسلحة موجهة ضد الدولة. واكتسوا أهمية في العام 1994 لما نظموا انتفاضات مسلحة بعدة أماكن بالتشياباس جنوب المكسيك. ولقي عداءهم المعلن للعولمة النيوليبرالية صدى عبر العالم برمته، وقدم أحد أوائل نقط التقاء الحركة التي برزت بسياتل. والحال أن الانتفاضات ذاتها أخفقت، واضطر الزاباتيون الى التراجع، متحولين إلى منظمة تدافع عن السكان الأصليين في منطقة غابات لكاندون. ومنذئذ تمكنوا أحيانا من التفاوض مع حكومة المكسيك لصالح حقوق الشعوب الأصلية، ولأجل الحق في انتخاب سلطاتهم المحلية الخاصة. و نجحت تلك المفاوضات بوجه خاص لما حصل الزاباتيون على دعم أوسع من مجموعات عمال وفلاحين مكسيكيين أخرى، كما جرى خلال المسيرة نحو ميكسيكو قبل ثلاث سنوات. لكن الأمر تعلق في جميع الحالات بتفاوض لأجل إصلاحات في إطار نظام قائم ُيفقرهم. قبل عام، وصف صحفي مقرب من الحركة الزاباتية يشتغل بالجريدة اليومية اليسارية لاخورنادا La Jornada الوضع بالعبارات التالية:
إن بنية حياة الجماعة communauté ذاتها قيد الانهيار تحت ضغط الحياة الخارجية، ضغط قوي بوجه خاص في مرحلة نيوليبرالية، وانحسار اقتصادي وهجرة كثيفة… يتعذر على المنطقة المنتفضة الانعزال عن سوق البن، والمنتجات التقليدية، والزراعة، والخشب، و غيرها من الموارد. هذا لأن الذرة والمنتجات الغذائية غير قادرة على تأمين المعيشة سوى ثلاثة أشهر، ولأنه يلزم شراء الباقي –الغذاء والأدوية والألبسة- من السوق بالمال.
إن جماعات السكان الأصليين مطوقة في الواقع بوحدات الجيش المكسيكي التي تقوم بدوريات بالطرق المؤدية إلى الغابة. أدى ذلك بدوره إلى عسكرة داخلية معينة للزاباتيين، جعلت القائد ماركوس ذاته يقول إن البنية العسكرية لجيش التحرير الوطني الزاباتيEZLN أصابت على نحو ما بالعدوى تقاليد تلك الجماعات في الديمقراطية والتسيير الذاتي. لا يصح أن نرفض بلا تقييم الإصلاحات الطفيفة التي حققها السكان الأصليون. لكن اعتبارها حلا ُمرضيا لما يسببه لهم النظام العالمي من أهوال إنما يعادل الاستسلام لأحط أشكال الإصلاحية. إن هولوواي يقترب، إذ يبجل هذا النوع من الحركة «المستقلة» كهدف بحد ذاته، من إدوارد برنشتاين، منظر الإصلاحية الاشتراكية-الديمقراطية، الذي قال قبل قرن «الحركة كل شيء، الهدف لا شيء».
إن دفاع هولوواي عن ذلك لا يبعده عن مركز نظريته. إن نظرية المستقلين، بقدر ما لا تكتفي بمبالغة الايماءات الأخلاقية، بل تحرص على القيام بشيء ما ضد ويلات هذا العالم، تتحول بسهولة إلى الإصلاحية، رغم أنها إصلاحية جذرية. يعني هذا في آخر المطاف أن كل من يؤمنون بالتنظيم الذاتي للناس من أسفل، دون تراتبية، لا يمكنهم الحفاظ على ذاك المبدأ دون وضع بعض سمات النظرية المستقلة موضع تساؤل ونقاش.
الإصلاحية الجذرية
لا بد من التذكير بأن الإصلاحية تستلزم أمورا أكثر من مجرد مناورات في إطار الهيئات السياسية القائمة. إنها تعني أيضا عمل تعبئة كامل لأناس قصد الضغط على تلك الهيئات. كما يلزم التذكير أنه عندما ينسحب بعض القادة الإصلاحيين من حركة ما، يواصل آخرون دفعها إلى أمام. في بريطانيا، تواصل بعض الشخصيات تعليق آمالها على الهيئات البرلمانية. تلك حالة توني بين وجيريمي كوربين نائب حزب العمال Labour، وكرولين لوكاس نائبة الخضر بالبرلمان الأوربي. لقد اضطلعوا كلهم بدور هام في بناء وتطوير الحركة المناوئة للحرب. إنها كذلك حالة شخصين متحدرين من الحزب الشيوعي القديم. ونهض بدور مماثل في بناء الحركة على المستوى العالمي كتاب وصحفيون مثل جورج مونبيوت، وسوزان جورج ونعومي كلاين. قاموا بدور بالغ الأهمية بالمحاججة ضد النيوليبرالية والحرب، لكن لا شك أن التغيير النهائي سيكون نتيجة ضغوط على النظام القائم. يرى هؤلاء الناس أن النقاش حول الخيار الاستراتيجي بين الإصلاح أو الثورة غير ملائم في العالم الراهن، وينطوي هذا على أن الشيء الوحيد الممكن هو النضال من أجل إصلاحات.
بوجه عام، يدرك الاصلاحيون الجذريون، على نحو أوضح من أنصار الاستقلالية الصرف، أن الحركة بحاجة إلى إستراتيجية وتكتيك. ورغم ما يطبع أحيانا وجهة نظرهم حول المطلوب عمله من عناصر تلاعبية وبيروقراطية وبرلمانية، لديهم بوجه عام مفهوم ما للإستراتيجية والتكتيك. و يدركون أن بعض الأمور أهم من أخرى وأنها تستدعي الأولوية لضمان الفعالية. إنهم يعون أن الحركة تواجه أعداء سيدمرونها ( وإن حياة المناضلين ذاتها معرضة للخطر ببعض بلدان العالم الثالث)، ما لم يحسن مناضلوها اختيار اللحظة المناسبة، والوسائل الناجعة والقوى الملائمة للنضال. إنهم يبصرون بجلاء كيف لا يمكننا السماح لأنفسنا بتبني مبدأ الحركات المستقلة، مبدأ «كل شيء جيد». ومن هنا ما يبدو من تناقض في قدرة هؤلاء الإصلاحيين،في حالات معينة،على امتلاك حس أدق بما تحتاج الحركة يفوق ما لدى المستقلين الذين يبدون أكثر جذرية.