بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

العفوية والإستراتيجية السياسية

« السابق التالي »

الإصلاح والاستقلالية والثورة في الحركات الراهنة

فرنسا

 

تنامت جدا حركات أوربا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية في السنوات الخمس الأخيرة. ولحظة كتابة هذا النص، يفوق حجم المظاهرة المناهضة لبوش بنيويورك بلا شك عشر مرات ما شهدناه في سياتل. لكن النمو لم يتخذ شكل منحى تصاعدي وحسب. ففي بعض الأحيان توقّف الاندفاع إلى أمام، ولما حدث ذلك ظن عدد كبير من الناس الحركة منتهية. وحاول البعض الآخر تحليل المشاكل واقترح حلولا. و في تلك اللحظة بدأ تفاعل التوجهات الأربع يبرز.

 

كانت فرنسا أول بلد بدأ بها انغراس حركة مناهضة للعولمة و للنيوليبرلية. ظهرت حركات عديدة مختصة –مسماة «حركات اجتماعية»- في مطلع سنوات 90 (على سبيل المثال حركة «المهاجرين بلا أوراق ثبوتية» من أجل تسوية وضع المهاجرين القانوني، أو حركة العاطلين)، ثم بدأت موجة إضرابات القطاع العام ومظاهرات أواخر العام 1995 تخلق شعور تضامن ضد النيوليبرالية والحكومة اليمينية آنذاك: خاطب عالم الاجتماع البارز بيار بورديو عمال سكك الحديد بمحطة قطار ليون بعبارته الشهيرة، مفادها أن معركتهم أول نضال كبير «ضد العولمة». وبينما تواصل حكومة «اليسار المتعدد»، بقيادة الحزب الاشتراكي، وعضوية الخضر والشيوعيين، سياستها النيوليبرالية، عقدت أطاك لقاء تأسيسها بجامعة سان دوني ستة أشهر قبل سياتل. كانت أول تعبئة ضخمة بعد سياتل مهرجانا في المدينة الصغيرة مييو جنوب فرنسا، خلال صيف العام 2000.

 

غير أنه بعد جينوة، وعاما بعد 11 شتنبر ، بدت الحركة الفرنسية زائلة من الشوارع. و ما كانت ثمة، إذا صح التعبير، حركة مناوئة للحرب ضد أفغانستان (التي شاركت فيها فرنسا بشكل مباشر)، وبرزت بها الحركة ضد الحرب على العراق أضعف مما في بلدان أوربية أخرى. كان الناس يفسرون ذلك بكون فرنسا لم تشارك مباشرة، لكن ذلك لا يمكن، بحد ذاته، أن يفسر ضعف الحركة مقارنة ببلدان أخرى غير مشاركة في تلك الحرب، مثل ألمانيا أو حتى ايرلندة (التي يقل سكانها ثمان مرات عن سكان فرنسا). كان أحد العوامل الرئيسة من طبيعة سياسية. كان الناس ينتظرون أن تتولى أطاك القيادة–لكن السياسة في أطاك أفضت إلى عدم اضطلاعها بأي قيادة. غير أن الاستياء من النظام لم يزل. ذاك ما أُثبت في أبريل العام 2002 لما صوت 10% من الناخبين -3 ملايين- لصالح مرشحين ثوريين في الانتخابات الرئاسية، ولما تظاهر أكثر من مليون شخص ضد الفاشي لوبين.

 

استأنفت الحركة نشاطها بسرعة في أوائل صيف 2003. إذ تظاهر 000 100 شخص قادمين من فرنسا ضد قمة البلدان الثمانية الكبار بإيفيان (قرب حدود فرنسا و سويسرا) في اللحظة ذاتها حيث كانت أكبر موجة اضرابات في القطاع العام منذ 1995 تغير المناخ. وكان مهرجان في لارزاك بعد بضعة أسابيع أهم حدث مناهض للرأسمالية في البلد حتى ذلك الحين، واضعا الأسس لحضور عشرات آلاف الأشخاص في المنتدى الاجتماعي الأوربي في باريس. لكن عاما بعد ذلك، كان ثمة من جديد مناضلون اعتبروا الحركة في طريق الزوال. على كل حال، كانت الحكومة قد قضت على موجة الاضرابات واستعملت أغلبيتها البرلمانية لفرض إصلاحات مضادة. وكانت الحركة تبدو بلا وسيلة للتصدي لذلك. وجرى داخل الحركة ابتعاد عن الغبطة «الاستقلالية» لصيف عام 2003 ، لصالح إصلاحية اليسار المتعدد فاقدة الاعتبار. وكان جوزي بوفيه، أحد قادة منظمة فلاحية مناضلة، أثار غضب حكومة اليسار بتدميره مطعم ماكدونالد، قد صرح في لارزاك أن طريق التغيير لا يمر بالبرلمان. وبعد أشهر قليلة، دعا إلى التصويت لصالح الاشتراكيين والخضر. لم يكن ذلك انحرافا معزولا. قرر ملايين الأشخاص، المشمئزين من الحزب الاشتراكي واليسار المتعدد لدرجة رفض التصويت لهما في انتخابات الرئاسة (لم يحصل المرشح الاشتراكي جوسبان، سوى على 17% من الأصوات)، أن ليس ثمة سوى بديل وحيد عن اليمين: اليسار المتعدد فاقد الاعتبار للتو. منذ اللحظة حيث بدت الحركة غير قوية بما يكفي لإفشال حكومة يمينية، قام أناس كانوا انجذبوا جهة المستقلين و صوتوا لصالح الثوريين حتى، بالتراجع نحو إصلاحية برهنت مع ذلك على عجزها عن الإصلاح.

 

تتمثل الحقيقة المرة في أنه ليس بوسع الحركات الاجتماعية «المستقلة» ذاتها أن تهزم الحكومة. فهي إجمالا حركات أقليات، و شبكات مناضلين كانت تسعى إلى التعبير عن مصالح شرائح واسعة، لكن ليس لها أي ارتباط عضوي بها. «ان تغلغلها في الأوساط الشعبية ضعيف بفرنسا». هذا علاوة على انفصال كل حركة عن الحركات الأخرى وعن منظمات الطبقة العاملة التقليدية، أي النقابات. كان عليها أن تتجمع بما هي «حركة الحركات» في المظاهرات الكبرى، مثل التظاهرة ضد قمة الثمانية الكبار G8، أو في منتديات اجتماعية كبرى. لكن ذلك لا يتجسد في منظمة قائمة قادرة على تطوير إستراتيجية وتكتيكات في مواجهة كبرى مع حكومة نيوليبرالية. لم يكن ثمة «وحدة عفوية بين سائقي الشاحنات والسلاحف ». إن «استقلالية» كل مكون ذاتها تمنع ذلك:

 

إن حركة اجتماعية بلا منظمات جماهيرية حاملة لمطالبها وحججها، قصد التدخل في النقاش العام، و توضيح المصالح المشتركة لمختلف فروع عمال الياقات البيضاء ، حركة اجتماعية وجدت نفسها عاجزة عن مواجهة إستراتيجية التقسيم لدى أعداءها.

 

لم يكن بوسع الحركة تخطي تلك العوائق ما لم يتحد مناضلون واعون بالمشكلة ويناضلوا من أجل وضع مقاربة مغايرة. لكن ذلك كان يعني تجاوز خطاب «الاستقلالية» دون خشية التعرض للتشهير بواسطة تهمة «النزعة الطليعية». وفي غياب ذلك، لم يكن ممكنا أن يفضي النضال إلى نصر، ولا يرى العديد من أنصاره خيارا آخر سوى أن يضعوا مجددا ثقتهم، على مضض، في السياسة الإصلاحية.

 

إيطاليا

 

كان ثمة في إيطاليا شعور مماثل بالمأزق وميل إلى انزلاق نحو الإصلاحية، هذا في بداية صيف عام 2003. كان البلد شهد جملة تظاهرات شوارع ضخمة –مواكب في كل مدن إيطاليا الكبرى في يوليو/تموز عام 2001 ضد القمع البوليسي بجنوة، ومظاهرة ثلاثة ملايين والإضراب العام يوما واحدا من اجل حقوق العمال في ربيع 2002، ومسيرة مليون شخص ضد الرأسمال والحرب على العراق يوم 15 فبراير/ شباط 2003. كانت مجموعتا ناشطين متلاقيتان مركزيتين في كل ذلك – من جهة، شبكة «المنتديات الاجتماعية» المدينية المشكلة لحركة « no-global » ، ومن جهة أخرى حزب إعادة البناء الشيوعي بأعضائه المائة ألف، وتأثيره في قطاعات مناضلين عماليين وبرلمانييه.

 

لكن رغم مستوى الاحتجاجات المرتفع، حقق الأمريكيون انتصارا عسكريا بالعراق وواصلت حكومة بيرلسكوني هجومها على مكاسب العمال. وانتهت محاولة أخيرة لتوسيع تلك الحقوق عبر استفتاء شعبي بمبادرة من الاتحاد النقابي الرئيسي و حزب إعادة البناء Rifondazione، الى فشل أمام عداء كافة الأحزاب السياسية التقليدية (حتى المعارضة الرسمية ليسار الوسط ضد بيرلسكوني).

 

اجتاح المناضلين شعور بأزمة، تم التعبير عنه جليا خلال لقاء وطني لحزب إعادة البناء Rifondazione في يونيو من هذا العام. كان المتدخلون تلو المتدخلين يستعملون كلمة «أزمة» لتوصيف الوضع، منبهين الى أنه بينما كان الحزب في مركز كل الاضطرابات، انهارت نتائجه في الانتخابات الإدارية الحديثة وتوقف نمو عدد منخرطيه، و في الآن ذاته حسنت الاشتراكية الديمقراطية ليسار الوسط نتائجها الانتخابية، رغم سياستها النيوليبرالية في الحكومة ومشاركتها الأكثر فتورا في الحركة.

 

كان رد أغلبية قيادة الحزب على «الأزمة» مرتكزا على الخطاب الدائر حول ضرورة مزيد من «التجديد» وعلى إعلان أنها كانت تقترب من يسار الوسط بقصد مناقشة برنامج انتخابي مشترك. وراحت الصحف اليومية الإخبارية تكثر الفرضيات حول ما قد يحصل عليه الحزب مستقبلا من وزارات في حكومة يسار الوسط. كان ذلك تطورا مفاجئا، إذ أن الحزب كان قد تشكل في سياق معارضته تأسيس اليسار الديمقراطي انطلاقا من الحزب الشيوعي الإيطالي القديم –وانفصل عام 1998 عن أقلية أعضائه التي كانت تواصل دعمها لحكومة يسار وسط تطبق سياسية ليبرالية.

 

كانت جذور الأزمة كامنة في حدود الحركات الجديدة، رغم الدعم الضخم الذي حظيت به. وكما فسر ثلاثة من قادة الحزب معارضين للانعطاف الجديد نحو الإصلاحية:

 

“فيما يتعلق بالحركة، علينا قول إن لها بجلاء حدودا. (إنها) تشتغل بشكل رمزي، مرتكزة على نقد أخلاقي للواقع القائم، ومعبرة عن أفكارها حول بعض الأحداث، لكن دون أن تتحول هي ذاتها إلى حركة دائمة، و بلا آليات تجذر قد تتيح النضال من أجل أهداف محددة. إنها تفتقر إلى أهداف جلية وبرنامج للظفر. هكذا كان الأمر في جنوة، وبعد جنوة وفي فلورنسا وبورتو أليغري. وهذه الحقيقة بديهية اليوم.لا شك أن «أناس في المنتديات» صوتوا في الاستفتاء، لكنهم لم يفلحوا في خلق تفاعل متسلسل، ولم يبنوا علاقات في البلدات، وفي مواقع العمل أو مناطق أخرى حيث قد يستطيعون«نقل العدوى» إلى باقي السكان.. لسنا إزاء حركة مماثلة لحركة سنوات 1970، متجذرة في المصانع…

 

كان حزب إعادة البناء الشيوعي قد قام بانعطاف بالغ الأهمية نحو الحركة أثناء حقبة جنوة، مما ميزه عن العصبوية الستالينية العقيمة التي كانت تسم بعض الأحزاب الشيوعية الأوربية الأخرى. كان قد اضطلع بدور في غاية الأهمية في الحركات العارمة بايطاليا برمتها في جنوة بعد مقتل كارلو جولياني، معلنا حق الوجود في الشوارع وفي التظاهرات الضخمة التي جابت المدن الإيطالية الكبرى خلال الأيام اللاحقة. وبذلك كان تفادى تدمير قمع بيرلسكوني للحركة، ومستقطبا عددا كبيرا من الشباب. لكن انعطافه نحو الحركة ترافق مع ابتلاع عدد كبير من الأفكار الاستقلالية المهيمنة.

 

وفي نقاشه حول الحزب والحركة، لم يعبر أبدا بوضوح عن أن انقسامات قد تحدث في الحركة حول شكل إحراز التقدم، وعن أن هدف الثوريين تنظيم العناصر الأكثر وضوحا لكسب رهان البرهنة. كان له بالعكس موقف من نوع «عش ودع الآخرين يعيشون» تجاه من كانوا يؤمنون بما تتبناه النزعة الاستقلالية من صيغ رمزية وأخلاقية، وشعار «قم بالأمر أنت بالذات». سيكرر فاوستو بيرتينوتي، الشخصية القائدة للحزب، أفكار المستقلين الجامدة ذاتها حول عدم جدوى النقاش حول الإصلاح والثورة بمبرر أن «الإصلاحيين عجزوا عن إتيان إصلاحات، وعجز الثوريون عن القيام بثورات». ومذاك بدأ الحزب ذاته، المواجه لحدود الحركة التي يؤثر فيها المستقلون، ينزلق نحو الإصلاحية. لم يكن الانعطاف تاما، وأبدى بوضوح بعض المتدخلين في اللقاء الوطني الرغبة في دفعه أبعد من القيادة، التي تحافظ على التزام نحو النضال النشيط مختلف جدا عن مقاربة اليسار الديمقراطي.

 

يكشف المشهد الإيطالي أمرا آخر. إذ كان حزب إعادة البناء الشيوعي Rifondazione مدة طويلة مثالا لما بوسع أقصى اليسار تحقيقه من نجاحات انتخابية. أتاح له نشاطه تقديم أفق وطني يساري للأقلية (زهاء 5% من السكان) المشمئزة من النهج النيوليبرالي ليسار الوسط. وأتاح له ذلك الاضطلاع بدور عام في جنوة، وفلورنسا وفي الحركة المناوئة للحرب. لكن تمثيله البرلماني لا يمنحه بحد ذاته السلطة، ولم يحل دون الشعور العام بخيبة الأمل وبالضعف الذي ظهر في بداية صيف 2003. آنذاك جاء اقتراح الممارسة التافهة القائمة على استعمال التمثيل البرلماني كقوة تفاوض حول تشكيلة حكومة يسار وسط مرتقبة، حتى ولو كانت هكذا حكومة نيوليبرالية.

 

شهدت الحركة تجددا في ربيع 2004، مع تظاهرة مليوني شخص ضد زيارة بوش ونزاعات صناعية هامة. لكن الانحراف المتشائم في عام 2003 أبرز أن السياسة ليست مسألة خارج الحركة بل تحددها الحركة.

 

الولايات المتحدة الأمريكية

 

المسألة واضحة جدا فيما يخص الولايات المتحدة الأمريكية. تداركت الحركة التراجع الذي شهدته خلال المرحلة التي تلت مباشرة 11 شتنبر، وذلك بتظاهرات ضخمة جدا مناوئة للحرب عام 2003 (أكبر بكثير من تظاهرات حقبة الحرب على الفيتنام في شروط مماثلة). لكن تعاظمها ذاته كان يجبرها على مواجهة المسألة السياسية المركزية حول طريقة بلوغ أهدافها على أحسن وجه. بعد فشل منع الحرب بواسطة تظاهرات ضخمة ونضالات غير عنيفة، استدارت أقسام واسعة نحو الحزب الديمقراطي بما هو البديل الظاهر الوحيد عن بوش. وفي حملة تعيين المرشح الديمقراطي، في خريف عام 2003، وضع آلاف المناضلين أنفسهم في خدمة هووارد دين أبرز المرشحين المناوئين للحرب. ثم دعموا كيري بمجرد ما حصل على أحسن نتيجة في الانتخابات الأولية -رغم أنه كان صوت لصالح الحرب منذ البداية وأيد مواصلة احتلال العراق. وخصصت مقالات عديدة في Znet ، أهم موقع مناهض للرأسمالية بالولايات المتحدة الأمريكية، لهجمات على رالف نادر لجرأته في مواجهة حزبي عالم الأعمال المناصرين للحرب، رغم أن بعض استطلاعات الرأي ترقبت حصوله على 5% من الأصوات. وأبدى مايكل مور، السينمائي الجذري الذي عمل الكثير لبناء حركات مناوئة للحرب و مناهضة لهيمنة الشركات متعددة الجنسيات على النظام، تأييده لكيري بعدما دعم في البداية ويسلي كلارك، قائد عمليات حلف شمالي الأطلسي بصربيا سابقا. ودعا نعوم تشومسكي ذاته إلى التصويت للمرشح ديمقراطي في الولايات الهامشية. وقدم حزب الخضر، الذي كان ساند نادر عام 2000، مرشحه الخاص ضده، مما أدى إلى مزيد من الغموض والنقاش. إن السياسة التي تم رميها على ما يبدو من باب الحركة بسياتل، تعود عبر النافذة. لم يقض نقاش من هذا القبيل على الحركة ، كما دلت التظاهرات الضخمة بواشنطن، وشبكات المجموعات المناوئة للحرب في أماكن غير متوقعة وما حظي به فيلم موور فرنهايت 11/9 Fahrenheit 9/11 من شعبية واسعة. لكن النقاش قد يتواصل بشكل أو بآخر، أيا كان حزب عالم الأعمال الكبير الذي سيفوز بالانتخابات ويواصل الاحتلال. ولن يغني الابتهاج لحجم الحركة وتنوعها واستقلالها عن طرح أسئلة حول ما يتوجب عليها لضمان الانتصار.

 

الإكوادور

 

لم تكن أوربا مسرح أعلى مستوى من النضالات منذ سياتل، بل أمريكا اللاتينية. حيث أدت انتفاضات عفوية ضد عواقب النيوليبرالية والأزمة الاقتصادية إلى إطاحة حكومات في ثلاثة بلدان خلال ثلاث سنوات، بدءا بالإكوادور في يناير 2000.

 

قال ألكسيس بونس عن الانتفاضة: «كان ذلك شبيها تقريبا بالاستيلاء على قصر الشتاء[ في ثورة اكتوبر 1917 بروسيا – م]. يا له من مشهد رائع: مئات من الجنود يدا بيد مع آلاف من السكان الأصليين». كان رئيس البلد ماهواد، وهو اقتصادي خريج هارفارد، ينهج سياسة نيوليبرالية، مختصرة في مخطط قصد استبدال العملة المحلية سوكر بالدولار الأمريكي، وذاك في مرحلة كاد مستوى البطالة يبلغ 30%. شارك السكان الأصليون في ثلاث تظاهرات نضالية العام الماضي. لم تقتصر هذه المرة منظمتهم، CONAIE، على التظاهر، بل احتلت البرلمان، وقصر العدالة والقصر الرئاسي –وبذلك حظيت بدعم غير منتظر من وحدات عسكرية. فر الرئيس، وحلت محله لجنة مكونة من ثلاثة أشخاص ضمت عقيدا متعاطفا مع الاحتجاجات، وهو لوسيو غوتييريز، وممثل عن منظمة CONAIE.

 

لم يدم الفرح طويلا. حل قائد أركان الحرب محل غوتييريز وعين مساعد ماهواد، نوبوا، رئيسا للبلد وأعاد الانضباط العسكري. تم اعتقال غوتييريز وجنود آخرين كانوا قد دعموا الانتفاضة، بينما تحمل نوبوا مسؤولية إعادة تطبيق البرنامج النيوليبرالي لسلفه المطرود (بما في ذلك الدولرة).

 

شهدت السنتان اللاحقتان تجدد حواجز الطرق، ينظمها السكان الاصليون، واضرابات مديدة، ومواجهات دامية ضد ارتفاع الأسعار. ولما أطلق سراح غوتييريز سارع إلى إلقاء خطابات نارية ضد نيوليبرالية الحكومة. وصرح في المنتدى الاجتماعي الأول عام 2001: «لا نريد أن تباع مقاولاتنا الإستراتيجية، ولا التخلي عن سيادتنا المالية، نحن نعارض مشاركة الإكوادور في مخطط كولومبيا، ونحن ضد تدنيس سيادتنا بوجود القاعدة العسكرية بمانطا». جعل منه ذاك الخطاب بطلا لدى اليسار برمته في أمريكا اللاتينية وضمن له دعم حركة السكان الأصليين كوناي CONAIE واليسار لما فاز في انتخابات عام 2002 الرئاسية. حصلت منظمة كوناي على وزارة الشؤون الخارجية، والزراعة والتعليم والسياحة، و حصلت الحركة الديمقراطية الشعبية، وهي حزب ماركسي الأصول، على وزارة البيئة. احتفى القائد الأهلي ووزير الشؤون الخارجية، باكاري «بالاعتراف بالشعوب المتجاهلة تاريخيا». هكذا فإن حركات كانت قد فشلت في تغيير المجتمع بفعل انتفاضات باتت على اقتناع بإمكان بلوغ ذلك بالانتصار الانتخابي في الإطار القائم.

 

كانت النتائج مفجعة. خضعت الحكومة لشروط صندوق النقد الدولي ودعمت خطة كولومبيا. استقال وزراء كوناي CONAIE و جرى استبدالهم بعناصر يمينية. «خان» غوتييريز «حركة السكان الأصليين»، كما صرح القائد اومبيرتو شولانغو. وتحدث عالم الاجتماعي الماركسي الإكوادوري فرانسيسكو هيدالغو عن «الهزيمة الأولى لحركة السكان الأصليين المعاصرة».

 

تبرز الهزيمة عجز سياسة لا تتجاوز الاحتفاء بالنشاط المستقل لمجموعة خاصة، حتى حيث يشكل النضال بقصد الاستقلال مرحلة ضرورية لسيرورة نضال التحرر.

 

ومثل حركة الزنوج بالولايات المتحدة الأمريكية في سنوات 1960، ارتكزت حركات السكان الأصليين بجمهوريات أمريكا الجنوبية على أناس يقاومون الميز والاستغلال الماديين، وفي الآن ذاته يعبرون عن اعتزاز بجذورهم- أي بعناصر ثقافية سابقة للغزو الأسباني. إن تلك الحركات تؤلف الاستغلال والاضطهاد. وبفعل طريقة تفاعل العنصريين، قد تكون ثمة في مثل تلك الحركات اتجاهات قوية لا ترى مصالحها المشتركة مع الطبقات الشعبية الناطقة بالأسبانية، الملونين، التي تتعرض لإفقار متزايد، و تشكل القسم الأكبر من نصف السكان الآخر.

 

يكتب بونس عن انتفاضة يناير 2000:

 

كان ثمة عصبوية وتشبت بالرأي منظمان… ضد… فئات شعبية ومنظمات اجتماعية لها تماثلات وتجانسات مع القضية… لكن كان ثمة إقصاء لقطاعات اجتماعية وسياسية أخرى. ما من عمل مسبق لخلق دعم اجتماعي للانتفاضة… لم يدمج نقابيو المدن الكبرى، كالجبهة الموحدة للعمال FUT، والمدرسون والطلاب التابعين للجبهة الموحدة صراحة في الانتفاضة، لا بل كانوا مهمشين.

 

وكانت النتيجة: « حظي السكان الأصليون في المحاولات الثلاث التي تلت انتفاضة عام 1969 بتهليل السكان على نطاق واسع، لكن لما وصلوا على الأقدام إلى كيتو، لم يحدث شيء من ذلك في يناير 2000».

 

وبعبارات أخرى، حالت انفصالية و«استقلالية» بعض قادة الحركة دون بلوغ الانتفاضة تأثيرها الأقصى، و تركتها في آخر المطاف دون دفاع أمام عزم الطبقة الحاكمة القضاء عليها. لكن سرعان ما بينت الأحداث بجلاء حاجة الانتفاضة إلى حلفاء. وإذا تعذر إيجاد أولئك الحلفاء في الفئات الشعبية، لزم البحث عنهم في مكان آخر. ذلك كان مصدر الثقة في غوتييريز في ليلة 21 يناير – والثقة الممنوحة للتحالف الحكومي معه بعد سنتين من ذلك. وكما يقول فرانسيسكو هيدالغو، «كانت منظمة السكان الأصليين الرئيسة تعاني من غياب قيادة سياسية».

 

وبليغ أن يصل بونس إلى نتائج مماثلة. كان قبيل الانتفاضة ، يمدح الزاباتيين الذين «غيروا» المفاهيم السياسية لـ«يسار القارة» قبل «سنوات 1980 و1990» ولم يعتبروا « السلطة السياسية مسألة مركزية».

 

لم يكن للنضال غنى عن تأكيد «الاستقلال»، بمعنى إمساك شعب بزمام قراراته والقطع مع 500 سنة من الخضوع للآخرين، لكنه ما كان كافيا. تظهر حتما في كل «مساحة مستقلة» مواقف سياسية متباينة فيما يخص النهج المطلوب. ويحدد المجتمع الرأسمالي حيث يوجد المضطهَدون طبيعة تلك المواقف السياسية. لا يمكن أن يقتصر النضال ضد الاضطهاد على خطابات حول إثبات الذات والاستقلال. ولا بد له، إن وجب عليه تجاوز نقطة معينة، من مواجهة المسألة الرئيسية المتعلقة بإصلاح المجتمع أو الثورة الإجمالية- وبما يستدعيه حل تلك المسألة من أشكال تنظيم مخترقة للمجتمع. إن من يدعي أن «الاستقلال» يعني عدم تدخل الأحزاب بقصد التأثير على الحركات، إنما يدعو في الحقيقة إلى وجوب التزام من يعارضون الانحراف الإصلاحي الصمت بينما يتحول النصر إلى هزيمة.

 

دروس الأرجنتين

 

كانت الانتفاضة الأرجنتينية في 10 و20 كانون الأول (ديسمبر) 2001 عفوية، دون ما كان قائما بالإكوادور في يناير عام 2000 من محور تنظيم مركزي. انفجر غضب مختلف المجموعات الاجتماعية المتراكم –عاطلي ضواحي بيونس أيرس، والياقات البيضاء بالعاصمة، وأقسام عريضة من الطبقات المتوسطة- انفجر في الشوارع وأجبر الرئيس دي لارووا على الفرار على متن طائرة مروحية. ومر شهر قبل أن يكون ما يشبه حكومة مستقرة قادرا على أن يحل محله.

 

برزت بعد الانتفاضة أشكال تسير ذاتي شعبية. وفي المنطقة الصناعية (وفي عدة مدن صناعية للولاية) ازداد عدد منظمات العاطلين، البيكيتروس، ونزلت إلى الشوارع طلبا للمؤونة وتعويضات «خطة العمل»، وفرص عمل. وفي بيونس أيرس، ظهرت تجمعات من 50 إلى 100 شخص في كل حي، منسقة عملها بواسطة «تجمعات التجمعات» أسبوعيا في كل أرجاء المدينة. كانت تلك الهياكل مراكز نُظمت انطلاقا منها احتجاجات متتالية وأخذت على عاتقها بعض الوظائف اليومية الضرورية لمساعدة الناس على مقاومة الأزمة: كانت مجموعات من البيكتروس تزرع خضرا في أراضي خالية، وتعد الخبز جماعيا، وتوزع ما قد تحصل عليه من إعانات الدولة. وأقامت تجمعات نواد مقايضة حيث كان الناس يتبادلون الوظائف والخدمات دون اللجوء إلى النقد الذي يعوزهم. كانوا ينظمون منتديات للناس المشمئزين تماما من الأحزاب السياسية القديمة التي دعموها حتى ذلك الحين. و بين استطلاع للرأي ،في أوج تأثير التجمعات، أن 40% من سكان بيونس أيريس ترى فيها نموذج تسيير البلد مستقبلا.

 

قاد مستوى التسيير الذاتي العجيب وتعظيم الحركة عددا كبيرا من اليساريين، بالأرجنتين و بالعالم، إلى استخلاص انتفاء الحاجة إلى تنظيم سياسي. وتبنى مثقفون مرموقون ببيونس أيرس أفكار هولواي ونيغري. وبلور ثامورا، التروتسكي سابقا، الذي جعلته هجماته الضارية في البرلمان ضد الحزبين الكبيرين أحد أكثر الساسة شعبية بالبلد، صيغة الاستقلالية الخاصة به. كما كانت الأفكار الاستقلالية بالغة القوة بأحد أهم منظمات البيكتروس، Coordinadora Anibal Verón . ولما كنت أحاجج مايكل هاردت، الذي شارك نيغري في كتاب الإمبراطورية، كان النموذج الأرجنتيني مثال أنصاره المستشهد به بكثرة.

 

ومع ذلك جرى استتباب الاستقرار السياسي حاليا (على الأقل في الوقت الحاضر)، وما عادت التجمعات قائمة مطلقا، ويواجه البيكتروس نارا كثيفة من وسائل الإعلام ودرجة قمع متعاظمة من الدولة، وفي الآن ذاته من مجموعات متنفذة مرتبطة بالبيرونية.

 

كانت لحركات العامين 2001 و2002 قدرة شل أنشطة الدولة ودفع الطبقات الرأسمالية الأرجنتينية إلى موقف دفاعي. كما استطاعت التلويح بشبح تسيير مغاير للمجتمع. لكنها لم تكن واضحة كفاية بشأن ما تريد تحقيقه أو تنسيقه لإطاحة الطبقة الحاكمة وإرساء بنية اقتصادية واجتماعية جديدة مرتكزة على التسيير الذاتي الديمقراطي من أسفل والإنتاج لتلبية الحاجات وليس الأرباح. يتمثل فشلها الذريع في عجزها عن تطوير إستراتيجية تجذب أقسام الطبقة العاملة المستخدَمة إلى النضال. كان الخوف من فقدان العمل يبعد تلك الفروع من الانخراط في نضالات العاطلين، بينما كان البيروقراطيون البيرونيون المتحكمون في الاتحادين النقابيين الرئيسين يضطلعون بالإنابة عن الحكومة المؤقتة التي شكلها في آخر المطاف أدولفو دوهالدي شهرا بعد الانتفاضة. ظل نصف الطبقة العاملة المحروم من العمل تابعا للحكومة للحصول على التعويضات (مهما كانت هزيلة) التي تتيح البقاء على قيد الحياة. استعمل دوهالدي بعض تلك التعويضات لإخماد فتيل أقسام من البيكتروس. واستعمل بعضها لإعادة بناء شبكاته الخاصة. أُستكمل الاستقرار السياسي بانتخاب بيروني آخر، كيشنر، في منتصف عام 2003. و بعد ثمانية عشر شهرا من الإخفاق في إتيان حل للأزمة خاص بها، انضمت إليه أقسام من الحركة بصفته ممثلا للبديل الوحيد الذي يبدو ذي مصداقية قياسا باليمين(وبوجه خاص الرئيس السابق منعم). وكان يحظى خلال تنصيبه بدعم الاتحاد النقابي الثالث CTA، المفترض أنه يسار غيره، وبعض منظمات البيكتروس مثل باريوس دو بي و MIJD لراوول كاستيلس، وقسم منظمة أمهات ساحة مايو التي تقودها هيبي بونافيدي ومجموعات حقوق مدنية أخرى. كانوا يرون أن «كيشنر ينافس شافيز المحبب إليهم على لقب الرئيس الأكثر يسارا في القارة، وحامل صورة أكثر “تمردا” من صورة لولا».

 

لم يكن بوسع «استقلال » الحركة التي أطاحت الرئيس دي لارووا إتيان بديل عنه، فكان الناس، بفعل ذلك، يميلون في آخر المطاف إلى الاعتقاد بأن الخيار الوحيد قائم بين تنويعات النظام القديم. لم يمكن إبقاء السياسة خارج الحركات. وكانت المسألة الحاسمة متمثلة في معرفة أي سياسة قد تنتصر. وكما حدث في الإكوادور، ما لم ينجح ثوريون ذوو إستراتيجية توحيد للحركات وتوسيع لها في استقطاب المناضلين الأكثر نشاطا وعزما، تنتصر الإصلاحية، ومعها رجوع «الركام القديم» بكامله. إن من كانوا يقتصرون على تقديس الحركات، أو يعلنون بإلحاح ضرورة استبعاد الأحزاب السياسية، تصرفوا على نحو منح الغلبة للأفكار الأقل تهديدا «للحس السليم» للمجتمع البرجوازي.

 

بوليفيا

 

تكتسي نتائج الانتفاضة البوليفية في تشرين الأول /أكتوبر 2003 عددا كبيرا من أوجه الشبه مع الأوضاع بالإكوادور والأرجنتين. فر الرئيس «غوني» لوزادو، من البلد أمام محاصرة المقرات الحكومية بالعاصمة لاباز من قبل عشرات آلاف المتظاهرين،منهم مجموعات من مدينة الفقراء إل ألتون بضاحية العاصمة، وفلاحون ومزارعو الكوكا وعمال مناجم مدججون بالمتفجرات. لكن نائبه ميزا تمكن من الانتصار وإقناع المتظاهرين بالعودة إلى ديارهم.

 

صرح أليكس غالفيز، ممثل نقابة نسيج ، في تجمع موسع للاتحاد النقابي COB بعد يومين من ذلك:

 

ميزا أداة بيد البرجوازية. وعلاوة على ذلك، تهيمن نفس الأحزاب النيوليبرالية على الكونغريس. تخلصنا من الرئيس، لكن مازال شركاؤه بالسلطة. أطيح غوني، لكن يبقى النموذج الرأسمالي النيوليبرالي ساريا. انتصرنا في معركة، لكننا لم ننتصر في الحرب.

 

وبعد تسعة أشهر، ما بقي ميزا في السلطة وحسب، بل نجح في الفوز في استفتاء شعبي حول المسألة المركزية التي أثارت الانتفاضة، مسألة بيع غاز بوليفيا الطبيعي لشركات أجنبية متعددة الجنسيات.

 

كانت الانتفاضة ذروة موجة نضال من ثلاثة مكونات أولية. كانت ثمة حملة ضخمة لعمال وفلاحين ضد خصخصة الماء (والزيادة في سعره) بمنطقة كوتشابمبا، بقيادة النقابي اوسكار اوليفيرا. وكان ثمة حركة مزارعي الكوكا بقيادة إيفو موراليس وحزبه، الحركة نحو الاشتراكية MAS. وكانت ثمة الحركة لأجل إثبات حقوق السكان الأصليين بقيادة فيليب كيسبي من كونفدرالية الفلاحين.

 

كانت منهجية كيسبي تركز على المطالبة بقيام أمة أيمارا مستقلة ومتمتعة بحكم ذاتي، و كان يشهر بالماركسية بما هي تعبير للفكر «الأوربي» بل «الأبيض». وكان إيفو موراليس –أحد نجوم عدة اجتماعات للحركة المناضلة من أجل عولمة بديلة –ينزع نحو الانتخابوية (حقق نفس نسبة 21% التي حصل عليها لوزادا في انتخابات عام 2002 وحسم الكونغريس مسألة من المنتصر). كان أوسكار اوليفيرا مناضلا عماليا حازما، لكن كان يرفض كل خطاب حول الثورة. وهذا لم يمنعهم من الاضطلاع بدور حيوي في اضطرابات أعوام 2000 و2001 و2002، مع سلسلة اضرابات متوالية، وإغلاق طرقات وتظاهرات ومواجهات ميدانية مع قوى الدولة. لكن حدودهم برزت عام 2003. رغم أن مجمل ضاحية لاباز الضخمة ، إل ألتو، كانت تحت رقابة شعبية و كان عمال المناجم المسلحين قد انخرطوا في النضال، ما من أحد أمكنه معارضة استبدال لوزادا بميزا. إن بنيات وأفكارا كانت بدت كافية لما كان الأمر يتعلق ببناء حركات جماهيرية «مستقلة»، ما عادت تصلح لأي شيء لما طرحت مسألة الجواب عن سؤال ما العمل لما كانت سلطة الدولة في الميزان.

 

وجدت الحركة نفسها، بعد الأشهر التي تلت أعظم انتصاراتها، متخبطة في بلبلة عميقة. دعم إيفو موراليس و حزبه MAS الحكومة الجديدة، ودعيا إلى التصويت بنعم لصالح الاستفتاء الشعبي. وانتظر قادة آخرون مترقبين ما قد يحدث، بينما كان مناضلون نقابيون بالعاصمة لاباز وإيل ألتو يتحدثون عن النضال للاستيلاء على السلطة، لكن دون أن توجد حولهم القوى التي تتيح ذلك.

 

خلص عدد كبير من المشاركين في الاجتماع الموسع للاتحاد النقابيCOB إلى أن «بعد المشاركة في انتفاضة اجتماعية كبيرة خلفت 70 وفاة مأساوية، لم ينتزع العمال والفلاحون والأمم المضطهَدة والطبقات المتوسطة المفقرة السلطة من الطبقات المهيمنة لأن ما كان بوسعهم الاعتماد على حزب ثوري». من الصعب إيجاد إثبات أوضح لحدود فعالية «استقلالية» الحركات. ورغم كل شيء، يترك ذاك الإثبات دون جواب مسألة البديل، أي «الحزب الثوري» وسبل بناءه.

 

بادرة تاريخية أولى: ألمانيا 1919

 

عادة ما يعتقد أناس منخرطون في نضالات كبرى أن فعلهم شيء جديد تماما. وغالبا ما يطورون فعلا أشكال نضال جديدة. لكن ثمة أيضا دوما ترسيمات تطور شبيهة بتلك التي شوهدت سابقا. وبوجه خاص، يواصل فكر عدة أشخاص مشاركين في المعارك الجديدة انطباعه بكيفية نظرهم إلى المجتمع الذي يناضلون ضده. إن موقفهم خليط من احترام الأفكار القائمة ومن تجذر متأت من اكتشافهم التدريجي لقدرتهم الجماعية. إن وعيهم متناقض، ثوري جزئيا و إصلاحي جزئيا.

 

يوجد المثال الكلاسيكي في أوربا خلال مرحلة المد الثوري في سنوات 1918-1920. كانت أغلبية القيادات الإصلاحية القديمة قد دعمت الحرب العالمية الأولى، وحاربت بكره التجذر الجديد الذي كان ينتشر في الطبقة العاملة تحت تأثير الثورة الروسية وانهيار الإمبراطوريات القديمة بأوربا الوسطى. كان نوسكيه القائد الاشتراكي الديموقراطي الألماني يقول:«أمقت الثورة كما الطاعون». ولا تفاجئ رؤية عدد كبير من العمال يهجر قادة من ذاك القبيل. لكن اليسار الثوري كان صغيرا جدا ( 000 3 مناضل بألمانيا أثناء انهيار الإمبراطورية) وغير منظم. أضف الى ذلك أن الكتلة العريضة من العمال، حتى المتحمسين لفكرة الثورة، لم تترسخ لديهم بعد ثقة كبيرة في قدرتهم على القيام بالثورة بنضالاتهم الخاصة. وما كان تحقيق ذلك ممكنا سوى كنتيجة لنضال مديد. كان وعيهم بالتالي خليط مفاهيم ثورية وإصلاحية.

 

في أهم الحالات، أي ألمانيا، برز حزب سياسي جديد خلال الحرب[ الاشتراكيون الديمقراطيون المستقلونUSPD] تعبيرا عن تلك الأفكار الغامضة. كانت قيادته شخصيات سابقة في الحزب الاشتراكي الديموقراطي القديم طُردت لعدم مشاطرتها نفس حماس تأييد الحزب للحرب. لكن الحزب الجديد ما كان ثوريا بجلاء. كان يضم شخصيات يسارية مثل كلارا زتكين، ولكن أيضا ممثلين من التيار الوسطي في الحزب القديم مثل كارل كاوتسكي، وحتى مسالمين متحدرين من اليمين «المراجعاتي» مثل إدوارد برنشتاين. كان الموقف الرسمي للحزب يرتكز على موقف وسطي بين الإصلاح والثورة (سمي ذاك الموقف آنذاك «الوسط» أو الموقف «الوسطي»)- داعيا على سبيل المثال إلى إدراج المجالس العمالية في الدستور الجديد كغرفة ثانية موازية للبرلمان القائم. كانت قيادة الحزب، سواء بحفز من رغبة الحفاظ على تأثيرها على الأنصار أو بالأقل في بعض الحالات، أو بفعل غموض أفكارها، تلقي خطابات وتكتب مقالات وتنشر برامج تثمن التجربة الروسية والنزعة البرلمانية على حد سواء. وكانت بذلك تضم إلى صفوفها عددا متعاظما من العمال. انتقل عدد أعضاء حزبها، الحزب الاشتراكي الديموقراطي المستقل من 000 300 عضو في مطلع عام 1919 إلى 000 800 في متم عام 1920، وأصواتها الانتخابية من 2.3 إلى 4.9 (بعد 5 مليون صوت حصل عليه الحزب الاشتراكي الديمقراطي القديم). وفي الآن ذاته، ثمة الثوريون المنتمون للحزب الشيوعي المؤسس حديثا، ورغم أن الشهيدين الثوريين الأكثر شهرة، كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبورغ، قاما ببنائه، فإنه لم يتجاوز 000 50 عضوا.

 

كانت السياسة المعتدلة لقيادة حزب الاشتراكيين الديمقراطيين المستقلين كارثية في لحظات النضال الرئيسية. إن كونهم مهيئين للانضمام بسرعة إلى حكومة اشتراكية ديمقراطية فور اشتعال ثورة تشرين الثاني (نونبر) عام 1918 أتاح للحزب الاشتراكي الديمقراطي تهدئة أقسام عمالية هامة مع السعي لوضع حد للثورة. وعلى نحو مميَّز، خلال 18 شهرا من شبه الحرب الأهلية التي تلت، تمكن قادة حزب الاشتراكيين الديموقراطيين المستقلين USPD من الانعطاف يسارا تحت ضغط أعضاء الحزب، مقدمين شعارات فعل نضالي، ثم التراجع فجأة، متخليين عن القاعدة المناضلة دون دفاع بوجه انتقام الدولة. وقد لخص الثوري اوجين لوفيني دورهم قبيل إعدامه على إثر دوره في جمهورية السوفييتات ببافيير: «ينطلق الاشتراكيون الديمقراطيون، ثم يفرون ويخونوننا، ينخدع المستقلون وينضمون إلينا ثم يتركوننا، ونحن الشيوعيون من يوضع بوجه الجدار. نحن الشيوعيون موتى في إجازة».

 

لكن الحزب الاشتراكي الديمقراطي المستقل كان أيضا حلبة يختبر بها عدد كبير من العمال أفكارهم بوجه الواقع –ويجدونها أكثر فأكثر ضعفا. وفي ذروة نمو الحزب وتأثيره بالضبط ، احتدم نقاش في صفوفه حول اتجاه سيره، وصوتت الأغلبية في متم عام 1920 لصالح اندماجه في الحزب الشيوعي لتشكيل حزب كبير، موحد وثوري بجلاء.

 

فسر ليون تروتسكي فيما بعد كيف كانت الأفكار «الوسطية» المبلبلة لقادة مطلع عام 1919 مطابقة لتبلبل أفكار عدد كبير من العمال الألمان. لكن بينما كانت البلبلة عيبا «طبيعيا» لقادة عاجزين عن فعل سياسي خارج إطار شكل أو آخر من البرلمان (أو مفاوضات نقابية)، فإنها كان مجرد مرحلة في تحول وعي العمال المنتقل من رؤية إصلاحية إلى منظور ثوري. لم يحدث ذاك التحول في الوعي عفويا. كانت تجربة النضالات الصعبة تخلق مجال تطوره. أثار ذلك تقاطبا عفويا وسط الحركة. لكن ما كان ممكنا تجاوز التقاطب سوى عبر نقاش دائم بين اتجاهات سياسية. تدخل لينين وتروتسكي ولوكسمبورغ ( في الأسابيع القليلة قبل اغتيالها في منتصف كانون الثاني (يناير) من العام 1919 ) في النقاش، منتقدين من كانوا يرفضون تبني موقف ثوري كامل، ومفسرين بوضوح أن على الثوريين أن يكونوا ضمن فرق حراسة الإضراب وفي المتاريس مع رفاقهم.

 

السابقة التاريخية الثانية: الولايات المتحدة الأمريكية في سنوات 1960

 

ويتمثل مثال آخر ملائم اليوم في حالة الحركة الطلابية بالولايات المتحدة الأمريكية في النصف الثاني من سنوات 1960. إن المنظمة الرئيسية، طلبة من أجل مجتمع ديمقراطي SDSبدأت نضالاتها بمعاداة شديدة لما كانت تعتبره السياسة «القديمة». كانت مقاربتها مختصرة جيدا في تقرير مؤتمر شيكاغو عام 1969:

 

قبل بضع سنوات، كانت منظمة الطلبة من أجل مجتمع ديمقراطي SDS في غالبيتها الساحقة مناهضة للمركزة وللإيديولوجية. وحده الممارسة كانت مهمة. كانت الماركسية مرفوضة بما هي «يسارية قديمة». وكانت الطبقة العاملة غير موجودة، وعديمة الفائدة وخائنة. كان تنظيم الجماعات communautés والديمقراطية بالمشاركة الجملتين الرئيسيتين المحددتين للمنظمة.

 

وفي الشهور التي تلت تظاهرة 100000 شخص أمام البانتاغون في أواخر عام 1967، لوحظ تجذر في منظمة الطلاب من أجل مجتمع ديمقراطي SDS، لكن مع رفض دائم للـ«إيديولوجيا». شهد ذاك الطور انفجارا لكل أنواع الأفكار اللاسلطوية، مع مجموعات مثل Yippies و Motherfuckers إلخ –وهو ما قد نسميه حاليا «الاستقلالية». لكن بعد هجمات الشرطة العنيفة على التظاهرات أمام مؤتمر الحزب الديمقراطي بشيكاغو، وموجة قمع تضمنت اغتيال أعضاء حزب الفهود السود Black Panthers Party، تبين لمناضلي اليسار الجديد أن «القيام بالأمور على طريقتهم» لم يعد كافيا.

 

كان النضال ضد الحرب على فيتنام ومن أجل تحرر السود يكشف طبيعة الدولة الرأسمالية الأمريكية ويقود إلى إدراك ضرورة إطاحتها. إن ما بدأ كحركة تشبه كثيرا حرب أطفال فائقة المثالية لانقاذ العالم أصبح أكثر فأكثر خطورة وجدية. هكذا ازدادت الرهانات، مما أجبر الحركة الجذرية على حمل ذاتها، وبالتالي أفكارها، على محمل الجد… وبينما كان مناضلو منظمة طلاب من أجل مجتمع ديمقراطي SDS يشرعون في البحث عن تعريفات سياسية خلال مرحلة المد السريع تلك، كانت جهودهم الأولى مطبوعة بسمة اليسار الجديد المناهضة للإيديولوجية. كان كل طور جديد لمختلف الحركات المنبثقة من المجتمع الأمريكي، ولكل مرحلة من تطور الأزمة، يُحلل بما هو خاصية من الخصائص الدائمة للعالم… وسرعان ما تحولت الإيديولوجية «المناهضة للإيديولوجية» إلى إيديولوجية «البحث عن الإيديولوجية». وانتشرت على نطاق واسع أسطورة مفادها أن منظمة طلاب من أجل مجتمع ديمقراطي SDS كانت، بفعل تجربتها الخاصة، على وشك تطوير توليف سياسي جديد تماما وأمريكي محض. ولما غدا واضحا بأن ذاك التوليف الكلي والأصيل ما كان على وشك الظهور، بدأت الحركة البحث عن إمكانات الاستيراد.

 

آنذاك انضمت مجموعة كان يبدو أنها تقدم الإيديولوجية المفقودة إلى منظمة الطلاب من أجل مجتمع ديمقراطي SDS. تلك المجموعة هي المنظمة الدوغمائية الماوية الستالينية Progressive Labour PL.

 

«كان أول رد الفعل على منظمة PL بين أعضاء منظمة طلاب من أجل مجتمع ديموقراطي SDS معارضا للغاية». لكن سرعان ما «كان واقع أن منظمة PL تحمل نظرة للعالم منسجمة اسما على الاقل ميزة هامة». بدا أنها تقدم إجابة قوية ومتماسكة على وضع اليسار الجديد المتفاقم. كان الرد الوحيد الممكن لقيادة منظمة طلاب من أجل مجتمع ديموقراطي SDS –ولآلاف الأنصار- هو تبني خط متزايد التشدد. ومنذ مؤتمر عام 1969، كانت مجموعة من المناضلين الذين كانوا ينهجون ما قد نسميه حاليا سياسة «استقلالية» استسلمت لصيغة أو أخرى من «الماركسية» الستالينية. وبمجرد إسقاط قناع الإمبريالية الأمريكية، كان الناس يرغبون في النضال –وبالتي بحاجة إلى أفكار ومنظمة. تمثلت المأساة في أن اليسار الماركسي حقا كان ضعيفا جدا (و اقترف أخطاءه الخاصة به)، تاركا المجال شاغرا لمن كانت أفكارهم ومنظمتهم خاطئة تماما.

 

« السابق التالي »