بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

العفوية والإستراتيجية السياسية

« السابق التالي »

فرص وتحديات

 

 

 

النموذج الحزبي السيئ

لا يكفي إدراك ضرورة الحزب. يجب أن يكون حزبا من النوع الجيد، حزبا يتطور في الحركة ويوحدها، لا حزبا يحبسها مفرغا إياها من طاقتها وإبداعيتها. وذلك بوجه الدقة ما قامت به غالبا بعض نماذج الأحزاب المنتشرة جدا. إذ بدل اجتذاب أفضل المناضلين، قامت بإبعادهم، مقوية بذلك الاستقلالية والإصلاحية.

 

هذا، ما حدث على سبيل المثال مع بعض المنظمات الثورية بأمريكا اللاتينية. كان ثمة في الإكوادور تاريخ منظمات ماركسية حاولت الحلول محل الحركات- من جهة مجموعات حرب غوار صغيرة تناضل خارج كل حركة جماهيرية، ومن جهة أخرى، في حالة أحزاب شيوعية خاضعة لموسكو، دعم أحد الحكام الطغاة. وفي الأرجنتين بلغت عصبوية أكبر منظمتين انبثقتا من إحباط سنوات 1990 حدا باتت به كل منهما تناور لفرض شعاراتها على حركة البيكتروس والتجمعات عام 2002 – و انتهى بهما الأمر إلى المواجهة الجسدية في تجمعات جماهيرية و توجب على الحشد تفريقهما. وفي بوليفيا، كان وضع الانتفاضة في السنوات الأربع الأخيرة مغايرا لنضالات سنوات 1950 و1980 بعناصر جديدة، تأكد من أن حزب العمال الثوري POR التروتسكي عاجز عن الارتباط بها.

 

تنجم هكذا مقاربات عن نموذج مشترك لحزب خارج النضالات الواقعية والملموسة. حزب يعتبر نفسه تجسيدا للوعي الاشتراكي وتُختصر مهامه في إقناع العمال بالسير خلفه.

 

إن الصيغة الكلاسيكية لذلك المسعى هي الاشتراكية الديمقراطية قبل الحرب العالمية الأولى. اعتقد ابرز منظريها على الصعيد العالمي، كارل كاوتسكي، أن الاشتراكية ستتحقق لما يقنع الحزب أغلبية العمال بالتصويت له. ليست مهمة الحزب، بناء على ذلك، قيادة النضالات المباشرة، بل القيام بالدعاوة المتأنية لأفكاره حتى بلوغ الهدف. إن غلبة تلك الرؤية للحزب، حتى لدى الاشتراكيين الديمقراطيين اليساريين، هو الذي قاد إلى السلبية بوجه حالات المد الثوري، مثل احتلال المصانع في إيطاليا عام 1920. اعتبر أصحاب تلك الرؤية عدم تصويت مجموع الطبقة العاملة لصالح الثورة استحالة للثورة.

 

يوجد معادل ثوري لتلك الرؤية، يعتبر الحزب الثوري طليعة صغيرة يتوجب عليها حماية صفاءها من أحزاب أوسع غير ثورية قائمة في الطبقة العاملة، فيما ينتظر أن تدفع الأحداث الشعب الى الاستدارة نحوه. إنذاك ُيفترض أن يتيح له صفاءه الإقدام على إطاحة ثورية للرأسمالية لصالح العمال. عبر القائد الأول للحزب الشيوعي الإيطالي، أماديو بورديغا، عن تلك المقاربة على نحو أوضح. ووصف أنطونيو غرامشي ما يعني ذلك عمليا:

 

جرى اعتبار مشاركة الجماهير في نشاط الحزب وحياته الداخلية، خارج المناسبات الكبرى والمراسيم الشكلية للمركز، خطرا على وحدة الحزب ومركزيته. لم يكن يُنظر إلى الحزب بما هو نتيجة سيرورة جدلية تتضافر فيها الحركة العفوية للجماهير الثورية وإرادة المركز المنظِّمة والموجهة. كان الحزب كأنه معلق في الهواء، حاملا لتطوره الخاص المستقل والمتكَون ذاتيا، شيئا تنضم إليه الجماهير لما يكون الوضع جيدا، والموجة الثورية في ذروتها أو لما يقرر مركز الحزب شن هجوم و يجنح إلى الجماهير لتعبئتها و اقتيادها إلى الفعل.

 

غالبا ما ظهرت اتجاهات من ذلك النوع منذ بورديغا. وشجعتها الستالينية بفكرة وجوب انتظار الحزب الأوامر من موسكو. لكن شجعتها أيضا عزلة منظمات ثورية فعلا خلال مراحل هزيمة وإحباط الطبقة بمجملها. انطلاقا من أهمية ُتولى عن حق لمسألة الحفاظ على التقليد الثوري في فترات ندرة العمال المهتمين، كان من السهل الوقوع في اعتقاد أن الحزب مجسد للوعي «الحقيقي» للطبقة وأن الثورة مرتبطة بقدرته على فرض أفكاره على المنظمات العامة للطبقة العاملة بطريقة أو بأخرى. نموذج الحزب هذا هو ما يجعل الناس في الحركة، يرفضونه. أنهم يعتقدون أن تدخل الأحزاب يعني مقاربة تراتبية حيث يُخضع الحزب الحركة لأوامره.

 

ثمة رغم كل شيء نموذج حزب مغاير تماما. إنه يعظم كل حركة نضال عفوية إلى هذا الحد أو ذاك وينخرط فيها. لكنه يقر أيضا بما قد تثيره سبل التقدم من خلافات بين من يناضلون. سيختار البعض طريقا توفيقيا يبدو سهلا. وسيرغب آخرون في دفع النضال أبعد وربطه بنضالات أخرى. يسعى الحزب الثوري إلى إضفاء تماسك على المجموعة الثانية. إنه نموذج الحزب الذي نجد في كتابات لينين وفي كتابات أحد أوائل قادة الشيوعية الإيطالية، أنطونيو غرامشي (الذي قطع مع بورديغا عام 1924). يلح غرامشي على أن الحزب ليس الطبقة برمتها. «يجب التمييز بجلاء بين مفهومي “الطبقة” و “الحزب”». إنه «عنصر من الطبقة العاملة، عنصرها الأكثر تقدما، والأكثر وعيا وثورية من الناحية السياسية» ويسعى للعمل مع الطبقة، محاججا ضد التيارات الإصلاحية، لكسب الناس إلى منظوراته. و يقر بأن خلافات تنشأ كل لحظة بين الراغبين في دفع النضال إلى أمام ومن يريدون الغوص في الأفكار المبتذلة. ذاك ما يعنيه مصطلحا «الطليعة» و«المؤخرة» المعرضين غالبا لانتقادات المستقلين والإصلاحيين. لا يستتبع مسعى بناء الحزب فرض شيء ما على الحركة من خارج. إنه محاولة ربط العناصر الأكثر التزاما في كل نضال، لتتمكن من تنسيق جهودها والعمل لكسب عناصر أخرى إلى آراءهما فيما يتعين فعله. إن ما يُجلب إلى الحركة «من خارج» هو، من جهة، معرفة النضالات سواء من زمن أو مكان آخر، معرفة ليست في متناول الناس المباشر، ومن جهة أخرى، الرغبة في زعزعة رواسب أفكار النظام في أذهان الناس (العنصرية والميز الجنسي، احترام المالكين، على سبيل المثال). إن كل من يبدي اعتراضا على قيام الحزب بذلك لا يدفع الحركة إلى أمام، بل يكبحها.

 

ثمة في التراث الثوري كتابات تتناول بدقة مسألة كيفية ارتباط الأقلية المناضلة التي بلغت خلاصات ثورية بالحركات الأوسع وبالنضالات –إن نص لينين “مرض الشيوعية الطفولي”، ونص تروتسكي” سنوات الأممية الشيوعية الخمس الأولى”، ونص غرامشي، “أطروحات ليون”، من الكتابات الرئيسية بهذا الصدد. إنها تشير إلى كل الخطر الكامن في مقاربة عصبوية قوامها الابتعاد عن النضال، وما يلازمها من قصوية يحاول بها الثوريون فرض آرائهم على النضالات من خارج. تتجلى هكذا مقاربة عندما يطبق الثوريون صيغا جاهزة ويُكبون على تشهير مجرد لا يرتبط بوعي الجماهير قيد التحول، عوض انخراطهم في المشاكل الحقيقية بما هم مشاركون في نضالات قيد التطور. غالبا ما تتحول عمليا تلك المقاربة إلى عكسها الظاهري، أي الانجرار خلف الحركة، وهو ما سمي غالبا «اقتفائية». يحدث ذلك حين لا يفسر الثوريون «بأناة» لأفضل المحيطين بهم مقتضيات النصر في الأمد البعيد، ولا يطرحون مسألة المرحلة التالية. يمثل هذا، مثل العصبوية، إخفاقا في بناء المنظمة الثورية في النضالات، ورفضا للإقرار بإمكان اجتذاب عناصر جديدة إلى السياسة الثورية.

 

طور النضال القادم

 

بلغت كل الحركات التي شهدنا تطورها في السنوات الخمس الأخيرة انعطافات أصبحت بها مسألة القيادة السياسية هامة. وأدى إخفاقها في الإجابة عن تلك المسالة إلى مواجهتها كلها لمشاكل. لكنها لم تتكبد بعد هزائم فادحة في أي مكان.

 

لم تتمكن انتفاضات أمريكا اللاتينية من تركيع رأسمالية تلك البلدان، ولا منعت هجمات جديدة على العمال والفلاحين وفقراء المدن والشعوب الأصلية. لكن الحكومات لا تشعر بعد بقوة كافية لفرض عودة إلى الوضع السابق لتلك الأحداث. إنها مجبرة على التذبذب بين الضغط من أسفل من الطبقات الشعبية التي أدركت قوتها و الضغط من أعلى من الرأسمالية المحلية ومصالح إمبريالية مثل صندوق النقد الدولي. لن تواصل هذا السعي إلى التوازن إلى ما لا نهاية، وفي وقت ما ستستأنف تلك الحكومات هجماتها المباشرة. لكنها ستفعل ذلك في ظروف حيث سيكون انبعاث النضالات محتملا جدا. لا شك أن الحركات بالأرجنتين وبوليفيا والإكوادور (وفنزويلا، كما يبين مايك غونزاليس في مكان آخر من هذه الجريدة) وتأثيرها في بلدان أخرى لم تقل كلمتها الأخيرة بعد. شهد الصيف الماضي مواجهات جديدة بين متظاهرين وقوى الدولة. إن أمريكا الجنوبية برمتها، من جزر الكاريبي إلى أرض النار، باستثناء الشيلي ربما، في وضع عدم استقرار سياسي.

 

لم تكن الحركة المناوئة للحرب قادرة على وقف العدوان الأمريكي على العراق. لكنها سببت مشاكل عويصة لتحالف بلير-بوش، ويفاقم صعود المقاومة بالعراق تلك المشاكل. اجتاحت الولايات المتحدة الأمريكية العراق بقصد فرض تحكمها بالمركز الاستراتيجي لمنطقة تنتج أهم مادة أولية بالعالم. و ذلك سيمدها بوسائل السيطرة على باقي الرأسمالية العالمية في إطار «قرن أمريكي جديد». وبدل ذلك، أوحلت في حرب استعمارية تزعزع استقرار باقي المنطقة. وسيكون كل تراجع إهانة لها –حتى إن أُستبدلت باحتلال إمبريالي متعدد الأطراف تحت رعاية الأمم المتحدة. وقد تؤدي محاولة البقاء إلى همجيات جديدة ومغامرات عسكرية جديدة، من شأنها إحياء الحركة المناوئة للحرب. وبرزت استمرار مركزية الحرب في استفاقة الحركة المفاجئة باسبانيا مع تأثيرها الحاسم على الانتخابات.

 

حققت الحكومات الأوربية نجاحا في جهودها لفرض إصلاحات مضادة نيوليبرالية – انتصارات بيرلسكوني في تقليص حقوق الأجراء، وانتصارات شيراك- رافران بفرنسا في هجماتهما على معاشات التقاعد بالقطاع العمومي، أو شرودر بألمانيا في تقليص هام لتعويضات البطالة. لكن أيا من تلك الانتصارات لا ُيقارن بما تكبدت الحركة العمالية البريطانية خلال سنوات حكم تاتشر من هزائم مدمرة ( سحق الأقسام العمالية الثلاث الأشد كفاحية واحدة تلو الأخرى -عمال المناجم وعمال المطابع وعمال الموانئ). لكنها لم تكف لتمكين الرأسماليين الأوربيين من بلوغ نسبة الاستغلال (ومستويات المنافسة) لدى منافسيهم الأمريكيين والآسيويين (يزيد متوسط ما يشتغل الناس بتلك المنطقتين بـ 400 أو 500 ساعة عما في فرنسا وألمانيا ).

 

باتت الحكومات الفرنسية والألمانية والإيطالية، لحظة كتابتي لهذا النص، معدة لخطط هجوم جديد على شروط العمل. و في هكذا ظروف، قد يضطر حتى الأكثر إصلاحية من القادة النقابيين إلى الدعوة إلى التحرك –كما جرى لما نظم القادة اليونانيون والإيطاليون والأسبان إضرابات عامة من 24 ساعة عام 2002. سيسعى القادة النقابيون إلى حصر تلك النضالات في تظاهرات رمزية، لكن لن يمكنهم منع تجربة ملايين العمال الفاعلين معا، بحد ذاتها، من مد النقابيين العاديين بالثقة للتقدم أكثر. مازلنا لم نشهد في بريطانيا إضرابا عاما من 24 ساعة، لكن الالتزام الإيديولوجي لحزب العمال الجديد مع الهجمات على شروط العمل، وبوجه خاص في القطاع العام، أدى في السنوات الخمس الأخيرة إلى بروز سلوك بعض القادة النقابيين الذين يستعملون لغة الصراع الطبقي، رغم أن الأغلبية لا تطبقها.

 

تقدم إيطاليا وألمانيا فكرة مسبقة عما يمكن توقعه في مكان آخر. إن التأليف بين انبعاث احتجاجات شعبية ضد الحرب وبين نضالات صناعية جديدة (وبوجه خاص بمناسبة احتلال معمل فياط الجديد في ميلفي الذي شل كل إنتاجه) في الربيع الماضي أزال إلى حد كبير سقوط معنويات أقصى اليسار في السنة الماضية. وكذبت الأحداث من اعتبروا تراجعات هزيمة نكراء. وفي ألمانيا، نجح فرع جمعية أطاك، بالاشتراك مع نقابيين في تنظيم موجة ضخمة من إضرابات أسبوعية ضد اقتطاعات الحكومة من تعويضات البطالة، وبوجه خاص في ألمانيا الشرقية.

 

إن للضغط على البيروقراطية النقابية تأثير آخر حيث يوجد الاصلاحيون في السلطة، إذ يؤدي إلى انشقاقات في الأحزاب الإصلاحية التقليدية القديمة، مما يضعف تأثيرها على فئات عمالية عريضة. يمثل أغلب القادة النقابيين الوطنيين مصدر تهديد فيما يخص علاقاتهم مع الأحزاب التي تقود تلك الحكومات، أو تتذلل إزاءها. لكن في الفئات السفلى يطفح الاستياء في شكل إنهاء للولاء السياسي. ويوجد في ألمانيا عدد من بيروقراطي المستويات الوسيطة يدعمون نداءات بناء حزب جديد معارض للحزب الاشتراكي الديمقراطي SPD بقيادة شرودر ويتعاونون مع نشطاء الحركة المناهضة للرأسمالية لترشيح حزب جديد في انتخابات عام 2006، اسمه عماليون من أجل بديل انتخابي والعدالة الاجتماعية. علاوة على ذلك، قاد الغيظ ضد بلير ببريطانيا نقابتين (عمال السكك الحديدية في RMT ونقابة المطافئ FBU) إلى القطع مع حزب العمال، ودفع عدة فروع هامة إلى دعم التحالف الاتحادي Respect أو الحزب الاشتراكي الاسكتلندي Scottish Socialist Party.. ثمة إمكانات حقيقية للغاية لكي يمارس اليسار الجديد الذي ينبثق من حركات مناهضة الرأسمالية ومناوئة للحرب تأثيره على فئات واسعة من الناس تماثلت تقليديا مع الأحزاب الإصلاحية الرئيسية.

 

وفي الآن ذاته، يأتي صعود نضالات صناعية، رغم تقلصه ومحدوديته، بإمكانية جذب اليسار لعدد أكبر من العمال المنظمين ، وبوجه خاص الشباب غير الحاملين ندب الهزائم السابقة، التواقين للنضال بشكل يصطدم غالبا مع البيروقراطية النقابية. هكذا بات عدد كبير منهم يتأثر بالحركة المناوئة للحرب. يوجد بناء منظمات قاعدية داخل النقابات القائمة على جدول الأعمال على نحو غير مسبوق في سنوات 80 و90. وتظل النقابات أكبر المنظمات الطوعية بأكبر البلدان الغربية، رغم تراجع عدد منخرطيها خلال العقدين الأخيرين.

 

سياسية توسيع الحركات

 

إن مبادرات من ذاك القبيل قادرة على مد ناشطي الحركات المتحدرة من سياتل بفرص هامة. تمثلت قوة تلك الحركات في شدة تحديها لتدمير النظام لحياة البشر. وكان ضعفها في اكتساء ذاك التحدي أساسا شكل أحداث كبرى، وتظاهرات ومنتديات ضخمة، دون ارتباط مستمر وعضوي بجماهير الناس ضحايا ذلك التدمير حيث يعملون ويعيشون. تقترح المبادرات وسائل تجاوز هذا البون وجمع مناضلين من نضالات مختلفة ثم جذب عدد أكبر من العمال اليهم. لكن بناء مجموعات من ذاك القبيل لن يجري عفويا، بمجرد تكرار الخطابات حول «استقلالية» الحركات. بل يتطلب ممن يشعرون بالحاجة إلى مجموعات مناضلة مركزية أن يتنظموا للقيام بحملة لصالحها، ويحاججوا آخرين في ذاك الاتجاه –ويساجلوا من لا يشاطرونهم الرأي. سيجري ذلك بأكبر فعالية حيث يوجد تنظيم – في شكل حزب- للعناصر الأكثر ثورية في الحركة.

 

وكلما نجحت هكذا مبادرات، تبرز نقاشات جديدة. فمثلا، تضم الشبكات القاعدية في بعض النقابات والصناعات حتما أناسا لهم قدر من الثقة بالقادة النقابيين يساريي الخطاب –أو بمناضلين نقابيين معروفين تواقين إلى الحلول مكانهم. يعني هذا أن ثمة دوما ضغوطا للاستدارة نحو الأجهزة النقابية القائمة، التي تقوم بنيتها على تراتبية متفرغين يرتكز وضعهم على مفاوضات التسوية مع أرباب العمل والحكومات. لا بد من جهد واع للسير في اتجاه مغاير، قائم على خلق شبكات مناضلة على صعيد الورشة أو المكتب، تعارض التذبذبات الممكنة من مسؤولين على استعداد للخضوع لضغوط أرباب العمل أو ما تبقى من البيروقراطية. إن بإمكان الثوريين المنظمين كأقلية تحاجج لصالح منظوراتها الخاصة داخل شبكات واسعة الإسهام في تفادي تلك الأخطار.

 

إن انشقاقات انتخابية في الأحزاب التقليدية ناتجة حتما عن فعل مناضلين رافضين سياسة الحكومات القائمة، دون أن يقطعوا مع التصور الإجمالي للاشتراكية البرلمانية. فيظل إمكان عودة قسم كبير منهم إلى الحزب واردا إذا بدل سياسته أو قيادته فقط. وكما رأينا، ذاك ما حدث مع الشخصيات الأبرز في الحزب الاشتراكي الديمقراطي المستقل بألمانيا بعد عام 1920، وكذا مع من كانوا غادروا حزب العمال لتأسيس حزب العمال المستقل عام 1932.

 

ويشكل حزب التحالف في نيوزيلندا مثالا أحدثعن الظاهرة عينها. تأسس الحزب عام 1991 ردا على تجربة مريرة لحكومة عمالية كانت وراء زيادة مذهلة في نسبة البطالة، وخفض نسبة تعويضات الحماية الاجتماعية وخصخصة كل ما يتحرك. جرى انشقاق في حزب العمال، بقيادة جيم أندرتون، رئيس الحزب سابقا، واتحد مع الخضر وحزب ماوري (ماوري: من السكان الأصليين بنيوزيلندا) ومجموعة أخرى قصد مواجهة العماليين والحزب الوطني المحافظ معا. كان مؤسسو التحالف يفتخرون بأن « لم تظهر بأي مكان بالعالم الغربي الناطق بالإنجليزية قوة بذلك الحجم على يسار الطيف السياسي ». استفاد الحزب في البداية، على نطاق واسع، ممن خاب ظنهم في حزب العمال، محققا نسبة 18,7% من الأصوات في انتخابات عام 1993 التشريعية و10,3% عام 1996. فحصل بالبرلمان على مقاعد كافية ليشكل قوة هامة –و سبب مشاكل جسيمة لما شكل الحزب المحافظ تحالفا حكوميا مع اليمين المتطرف. كان ثمة ضغط هائل على حزب التحالف Alliance Party لتليين معارضته لحزب العمال قصد التخلص من اليمين، و شكل حزب التحالف في آخر المطاف تحالفا مع حزب العمال عام 1999، وعين أندرتون نائبا للوزير الأول. وبعد أن استرد حزب العمال طهارته المفقودة بدعم من التحالف، ساند حرب بوش على أفغانستان- وزكى أندرتون كل ذلك، مؤديا إلى انهيار الحزب الذي أسس.

 

ما من أمر محتوم في ذاك النوع من المسار. يبين فقط أنه ثمة، عندما تسوء الأمور، ضغط بين المناضلين المتحدرين من الإصلاحية التقليدية نحو العودة إلى طرق التحالفات البرلمانية. والحاسم هو وجود قوى أخرى بجنبهم، قوى واعية بأن ليس الحساب البرلماني هو الأهم في آخر المطاف، بل ميزان القوى في المجتمع برمته.

 

وفي ألمانيا عام 1920، أبعد مستوى النضال خارج البرلمان، ووجود منظمة ثورية منخرطة في معركة وحدوية بجانب الحزب الاشتراكي الديمقراطي المستقل، أغلبية هذا الحزب عن القادة الذين عادوا إلى الحزب الإصلاحي التقليدي. وفي سنوات 1930، تم كسب معظم الأعضاء الأكثر نشاطا في الحزب الاشتراكي الديمقراطي المستقل إلى الحزب الشيوعي (وعدد صغير جدا إلى التروتسكية) قبل انضمام القادة إلى الحزب الاشتراكي الألماني SPD بكثير. ليست الكارثة في نيوزيلندة ناتجة عن حزب جديد تقوده شخصية ظلت وفية لأفق إصلاحي كليا، بل كان سببها غياب اتجاه ثوري منظم في الحزب، مناضل معه في جبهة موحدة طالما كان يفتح آفاقا سياسية يسارية لمن خاب أملهم في حزب العمال، لكنه ساع في الآن ذاته الى كسب الناس إلى رؤية تمكنهم من مقاومة كل تراجع.

 

لا توجد صيغة سحرية لمنع الناس الذي قطعوا مع حزب في الحكومة من السقوط في أوهام جديدة عندما يغير هذا الحزب لغته في المعارضة. أبرزت ذلك الضغوط على حزب إعادة البناء الشيوعي بإيطاليا لعقد اتفاق مع تحالف «الزيتون» من يسار الوسط. وكما صرح أحد المتدخلين في اللقاء الوطني خلال السنة الماضية: «تظل هيمنة اليسار الديمقراطي على الطبقة العاملة كما هي إجمالا». و قد بينت انتخابات حديثة في أوربا تجدد دعم الاشتراكية الديمقراطية ببعض البلدان بينما يتراجع على نطاق واسع ببلدان أخرى. ففي أسبانيا، عاد ملايين الأشخاص، بعد رفض دعم الحزب الاشتراكي العمالي الأسباني PSOE في الانتخابين العامين الأخيرين، الى التصويت عليه نفورا من حكومة أثنار اليمينية. وفي فرنسا صوت 10% من الناخبين على المرشحين الثوريين في انتخابات عام 2002 الرئاسية. وفي عام 2004، انخفضت نسبة الأصوات إلى أقل من 3%. وحتى في بريطانيا تقلصت أصوات الحزب الاشتراكي الاسكتلندي إلى النصف، في انتخابات 2004 الأوربية، قياسا على الانتخابات التشريعية في السنة السابقة. تُثبت تلك التجارب خطأ اعتقاد أن «الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، وكذا الشيوعية، كفت عن التعبير عن تطلعات الطبقة العاملة». واضح أن الأمل فيها يخيب على نطاق واسع وهي في الحكومة، لكن ذلك لم يمنع عودة إليها عندما تقدم وجها يساريا في المعارضة.

 

إن القطع مع حزب إصلاحي بعينه لا يعني القطع آليا مع الإصلاحية. الإصلاحية تتغذى من كيفية ترعرع أعضاء طبقة مستغَلة في مجتمع يستغلهم و يقبلون إلى حد كبير أفكاره حرفيا. إن قطيعة كلية مع الإصلاحية غير ممكنة سوى لما يفتح تآلف تجربتهم الخاصة و معرفة بالأفكار الثورية أعينهم على رؤية للعالم مغايرة تماما. يستوجب الأمر أن يكون الثوريون منخرطين في النضال للقطع مع الأحزاب الإصلاحية القديمة، ويمروا من تجربة السعي لبناء بديل مع الناس الذين ما زالوا بالأقل شبه متأثرين بالأفكار الإصلاحية –لكن دون إخفاء رؤيتهم المغايرة وينتهزوا كل الفرص لكسب الناس إليها عبر منشوراتهم ولقاءاتهم ونقاشاتهم الفردية.

 

للأسف، لا تبدو حصيلة أقصى اليسار بأوربا جيدة بهذا المضمار، لا سيما في الفترة الأخيرة. وكما شاهدنا في إيطاليا دخل حزب إعادة البناء الشيوعي حقبة أفول قبل سنة. يقول مايك غونزاليس عن الحزب الاشتراكي الاسكتلندي:« ظلت أعداد المنخرطين بمستواها قبل سنة- ونصف الأعضاء فقط يدفعون اشتراكاتهم». إن هكذا أفول متوقع عند التركيز أساسا على النشاط الانتخابي، وتلك عما يبدو بجلاء متزايد حالة الحزب الاشتراكي الاسكتلندي. وحققت العصبة الشيوعية الثورية LCR بفرنسا نتائج أفضل بقليل. إذ تضاعف حجمها على الأرجح بعد أن صوت 3 ملايين لصالح اليسار الثوري عام 2002. ورغم كل شيء يظل عدد 3000 «مناضل» نسبة ضعيفة جدا قياسا بمن يعتبرون أنفسهم في استطلاعات الرأي «قريين جدا» من اليسار الثوري. إن بقاء أقصى اليسار في الهوامش ناتج عن إخفاقه في نسج علاقات مع قسم بالأقل ممن صوتوا لصالحه، و في إيجاد وسيلة خرطهم في نضالات غير انتخابية، وكسبهم إلى مواظبة قراءة صحفه. وفي بريطانيا وألمانيا (وفي البرازيل مع الحزب الجديد الاشتراكية والحرية)، يجب بذل أقصى الجهد لاقتياد الناس إلى بناء التدخلات الانتخابية الجديدة. لكن ذلك غير كاف. إذ يتعين أيضا تشجيعهم على المشاركة في أشكال نضالية أخرى. وليس ذلك بالأمر السهل دوما. غالبا ما يعتبر الناس المتحدرون من التزام في سياسة إصلاحية أن النشاط يتحدد بوتيرة المواعيد الانتخابية. لكن ما لم يقم أقصى اليسار بذلك سيظل يبني على أسس واهية.

 

بناء الحزب بقصد بناء الحركة

 

تبرز الحاجة إلى منظمة سياسية وللتدخل عند كل منعطف نضالات. لوحظ ذلك مرارا عديدة في بريطانيا خلال السنوات الثلاث الأخيرة. كان تدخل حاسم لحزب العمال الاشتراكي SWP أساسيا في بناء الحركة المناوئة للحرب بعد أحداث 11 سبتمبر. وحتى برنار كاسان يعترف «بالفعالية المذهلة لحزب العمال الاشتراكي SWP، القادر على تنظيم تظاهرات جماهيرية ضد الحرب» رغم ما سماه «أعدادنا المحدودة». لكن فعاليتنا كانت وقفا على قدرتنا على رد الفعل بسرعة وسياسيا في كل مرحلة. عقدنا اجتماعا حزبيا لنستعد لحرب بوش ثلاثة أيام بعد أحداث 11 أيلول (شتنبر)، ومن ثمة بادرنا إلى دعوة أناس آخرين إلى اجتماع أوسع بقصد مقاومة العدوان الأمريكي على أفغانستان. ثم وجب علينا خلال أولى لقاءات تنظيم الحملة الجديدة تأجيل نقاشات لمنع تبني الحملة شعارات ضيقة للغاية بقصد استقطاب عدد كبير من الأشخاص. وفيما بعد أثيرت نقاشات حول معرفة إذا ما كان يجب توجيه الاهتمام نحو النشاط الجماهيري أو أشكال عمل مباشر لأقلية، وحول مدى لزوم مواصلة الأنشطة بعد نهاية الحرب على أفغانستان. وعلى نحو متواصل، طرحت حجج ضد من كانوا على استعداد، بشكل أو بآخر، لتقديم تنازلات لنزعة كره الإسلام. ومؤخرا طرحت نقاشات حول مدى ملاءمة تأسيس تحالف Respect – نقاشات في الآن ذاته مع من يدافعون دوما عن مسعى «إحياء» النزعة العمالية (نسبة إلى حزب العمال) ومع العصبويين الذين لا يدركون أهمية برنامج محدود قادر على جذب أكبر عدد من الناشطين.

 

ما من نقاش ُفرض على الحركة الجارية من خارج –سواء النقاش بجنوة مساء قتل كارلو جيليوني حول مسألة التخلي عن النضال (كما اقترح عمدة اليسار الديمقراطي بجنوة) أو العودة إلى الشارع اليوم التالي بعدد اكبر (موقف دافع عنه فوستو بيرتونيتي من حزب إعادة البناء الشيوعي، وأنيوليطو من المنتدى الاجتماعي بجنوة). إن من يتحدثون عن «تلاعب» أو «تدخل خارجي للأحزاب في الحركة» في تلك الحالات يشتكون، في الواقع، من عجزهم هم على «التلاعب» بالحركة لحملها على اتخاذ اتجاه مغاير.

 

لكن، إن كانت هكذا نقاشات تطرح «عفويا»، فإن إدراك سبل الرد عليها، يتوقف بالعكس، على نظرة عامة للوضع لا تتأتي سوى بدمج أحداث آنية في إطار نظري عام. هكذا كان رد فعل حزب العمال الاشتراكي SWP على ما برز من حجج في كل مرحلة من مراحل بناء الحركة المناوئة للحرب منذ 11 سبتمبر يتغذى من نقاشات سابقة داخل الحزب (بما في ذلك في جريدته) حول الإمبريالية، والإسلام السياسي والجبهة الموحدة. إن النجاح في بناء احتجاجات ضخمة، متعلق جزئيا، بحجج جرت بلورتها سابقا في لقاءات غالبا ما كانت صغيرة.

 

وكما يقول غرامشي:

إن عنصر الوعي ضروري، أي العنصر «الإيديولوجي»: وبعبارات أخرى، إدراك شروط النضال والعلاقات الاجتماعية التي يعيش فيها العمال، والاتجاهات الأساسية الفاعلة في نظام تلك العلاقات، وسيرورة التطور التي ينخرط فيها المجتمع نتيجة وجود تناحرات متعذرة الحل داخله، الخ. لا شك أنه لا يمكن مطالبة كل عامل بوعي تام بالوظائف المعقدة لطبقته في تطور الإنسانية. لكن يجب مطالبة أعضاء الحزب بذلك… يمكن للحزب ويجب عليه، بوصفه كلا، أن يجسد ذلك الوعي الأسمى. وإلا فلن يكون في طليعة الجماهير بل خلفها، ولن يقودها بل سيتبعها. وبالتالي، يجب على الحزب استيعاب الماركسية…

 

إن النقاش حول الإصلاح والثورة لا يرتبط بإمكانات النضال لأجل السلطة مستقبلا، هنا أو في مكان آخر، وحسب، بل يتجلى أيضا في شكل فهم كل مرحلة من مراحل النضال الحالي – أو حول مسألة معرفة ما يجب، هل التركيز على تعبئة النضالات الجماهيرية من أسفل، أم على مناورات داخل المؤسسات القائمة. قد يسقط في المقاربة الثانية في مراحل رئيسية من النضال حتى الأشد كفاحية ممن يحمل وعيهم عناصر إصلاحية. وهذا لا يعني تبني سياسة تشهير في علاقتنا بهم. إنه يعني فتح نقاش ومحاولة كسبهم.

 

يجب في كل لحظة تذكر أن ليس ثمة جبهة وحيدة في النضال ضد النظام. وليس ثمة النضال ضد هذه الحرب الرهيبة وحسب، و ضد موجة الجرائم العنصرية، و تدنى الأجور، و سلسلة التسريحات، و منع الشعوب الأصلية من استعمال لغتها الأم، و الإهانة العنصرية التي تتعرض لها أقلية دينية أو اثنية. إن النضالات حول كل من تلك المسائل تشهد بالضرورة درجات عليا و أخرى دنيا. لكنها كلها جزء من النضال ضد نظام كلي واحد، وفي كل نضال ثمة أقلية بالغة الأهمية يمكن اكتسابها لذلك التصور وللانخراط في النضال الشامل. وبعبارات أخرى، يمكن كسبها للإسهام في بناء منظمة ثورية.

 

لكن ذلك لن يتأتى سوى إذا أدرك الثوريون أنفسهم الأهمية الرئيسية لبناء تلك المنظمة. لن يبرز الحزب من النضال عفويا، رغم أن التقاطب الذي يجعل الحزب ضروريا نتاج عفوي لكل نضال، إلى حد ما. يجب على أعضاء الحزب، إذ يشاركون في النضال، الاجتماع على حدة، والتنظيم على حدة، كي يكونوا قادرين على جعل تجاربهم مشتركة والتوصل إلى تحليل شكل توحد النضالات بوصفها أجزاء من الكفاح الكلي. ثم عليهم انتهاز كل فرص لنقل ذاك التحليل إلى آخرين ملتزمين في نضالات مختلفة – عبر عقد لقاءات ومنتديات نقاش وتدخلات منظمة في اجتماعات النقابة أو الحركة، قبل كل شيء عبر بيع منتظم لجريدة الحزب في النضالات.إن ذلك الشكل، دون سواه، يتيح ضمان كسب العناصر الأكثر نشاطا والأكثر وعيا في جبهة نضال إلى أفق يقودهم إلى الانخراط في جبهات أخرى.

 

إن هكذا تفاعل هام إذا كانت نظرية الحزب تتطور على نحو صائب. ويجب إخضاع تحليلات الماضي دوما للاختبار على محك النضالات الجارية. وتخرط كل حركة صاعدة عددا كبيرا من الأشخاص الذين يفكرون ويناضلون على نحو إبداعي، طارحين مسائل أخرى جديدة ومقدمين حلولا جديدة. لا يمكن للحزب أن يتجاوب مع ذلك الإبداع، ويطور تحليلات قديمة لدمجه فيه، إلا إذا استقطب المشاركين الأكثر دينامية في النضال. و هنا نستشهد مرة أخرى بغرامشي:

 

لا يمكن أن تتعارض النظرية الحديثة (الماركسية)… مع… المشاعر«العفوية» للجماهير… وبينهما فرق في الدرجة، فرق «كمي» وليست نوعيا. يجب ان يمكن «تحول» متبادل، إن جاز القول، انتقال من الأولى إلى الثانية، والعكس بالعكس.

 

يجب على الحزب ألا «يستهين» بهكذا مشاعر، بل عليه أن «يرفعها إلى المستوى الأعلى بإدراجها في السياسة». ولن يسعه ذلك إلا إن كان ثمة تفاعل مستمر في الاتجاهين بين الحركات الجماهيرية والحزب. و ينطوي ذلك على مستتبعات هامة فيما يخص تنظيم الحزب ذاته إن أُريد أن يكون ورقة رابحة ضرورية وليس عبئا على النضال بمعنى الكلمة الأوسع.

 

ثمة بالضرورة تقسيم للعمل داخل كل منظمة ثورية. و يستلزم التدخل في النضالات التي تتطور بسرعة –هجومية أو دفاعية كانت- وجود مركز للحزب. ليس ثمة وسائل أخرى لترجمة الإستراتيجية إلى تكتيك، وإيصالهما بالجريدة، وبمناشير وملصقات، ومحاولة دمج جبهات نضال مختلفة، وتعميم مبادرات بعض فروع الحزب في فروع أخرى. و يتعذر هذا دون جهاز سياسي دائم، مكون ممن يقرر الحزب أنهم أقدر المناضلين على استخلاص العام من الخاص انطلاقا من تجارب النضال وتحويل ذلك إلى إستراتيجية وتكتيكات –أي دون قيادة حزبية. كما يجب على أعضاء الحزب أنفسهم الالتزام بانضباط في تنفيذ ما يتخذ المركز من قرارات. هذا الفعل الموحد هو الذي يتيح دون سواه للحزب بمجمله التأكد من سلامة قرارات المركز. إذا كان كل رفيق يفعل ما يشاء، فلا يمكن بأي وجه إدراك التدخلات الصحيحة وتلك الخاطئة. وبعبارات أخرى، لا حزب فعال دون درجة معينة من المركزة والانضباط الداخلي.

 

لكن ما من قيادة ممركزة قادرة على التوصل إلى قرارات صائبة ما لم يكن ثمة صعود مستمر لتجارب المناضلين الميدانية إلى المركز. ويجب على المناضلين إدراك دواعي ما ينفذون من قرارات، و أن يكونوا قادرين على وضع القيادة أمام مسؤولياتها كلما بدت لهم قراراتها غير مطابقة لتجربتهم الجماعية. هذا وقف على النقاش الحر داخل الحزب، الذي يجعل الأعضاء في المركز و بجميع جبهات النضال، منخرطين في سيرورة تثقيف متبادل متواصلة. يجب أن يكون الحزب ديمقراطيا و ممركزا أيضا. ليس حقا للرفاق التعبير عن اختلافاتهم بتلك الطريقة وحسب، بل ذلك واجب عليهم. ليس ثمة شكل آخر لتطوير ما لا غنى عنه من نقاش للتوصل إلى استنتاجات سياسية صائبة.

 

غالبا ما يوجه المناضلون غير الأعضاء بمنظمات ثورية صنفين مختلفين من الانتقادات إليها. فمن جهة، يتذمرون من كون المنظمات الثورية غير ديمقراطية، وتفرض قراراتهما على أعضائها وعلى الحركة على نحو تعسفي. ومن جهة أخرى، في المقابل، ينددون بانهماكها في نقاشات تكتلية دائمة. غالبا ما تكون الرؤيتان مجرد كاريكاتور مبني على إشاعات حول ما يجري في بعض المجموعات بالغة العصبوية. لكن إذا كان لنقد من الاثنين ما يبرره، فمعناه أن المنظمة الثورية لم تف بالمهمة التي وكلت لنفسها– مهمة تجميع أفضل مناضلي كل جبهة بقصد تنسيق نضالهم بفعالية من أجل مجتمع أفضل. و ليس الأمر سيئا للمنظمة وحسب، بل يحرم أيضا الحركة من أداة لا غنى لها عنها.

 

« السابق التالي »