النضال الطبقي في فرنسا 1848 – 1850
مقدمة
بقلم إنجلز([1])
هذا البحث الذي يعاد طبعه هنا كان أول محاولة قام بها ماركس لتفسير مرحلة معينة من التاريخ، على أساس مفهومه المادي، وانطلاقًا من وضع اقتصادي معين. وقد سبق أن طُبقت هذه النظرية في “البيان الشيوعي” بخطوطها الكبرى على التاريخ الجديد كله؛ وفي المقالات المنشورة في “Neue Rheinische Zeitung”([2]) لجأنا ماركس وأنا على الدوام إلى هذه النظرية لأجل توضيح الأحداث السياسية الجارية. أما في هذا البحث، فقد كان المقصود كشف الصلة السببية الداخلية للأحداث السياسية التي وقعت في سياق مرحلة مديدة من التطور التاريخي كانت مرحلة حرجة ونموذجية في آن واحد بالنسبة لأوروبا برمتها، وكان المقصود بالتالي، وفقًا لمفهوم المؤلف، تفسير الأحداث السياسية بفعل أسباب هي اقتصادية في آخر تحليل.
عند الحكم على الأحداث وسلسلة الأحداث في التاريخ الجاري، لا يمكن التوصل أبدًا إلى الأسباب الاقتصادية النهائية. وحتى في الوقت الحاضر، إذ تعطي الصحف المختصة المناسبة هذه الكمية الضخمة من المواد، يستحيل حتى في إنجلترا تتبع سير تطور الصناعة والتجارة في السوق العالمية، تتبع التغيرات التي تطرأ على طرائق الإنتاج، وتتبعها يومًا فيومًا بحيث يمكن في كل لحظة استخلاص النتيجة العامة لهذه العوامل الشديدة التعقد والمتغيرة باستمرار، التي يفعل قسمها الأكبر والأهم، فضلاً عن ذلك، بصورة خفية، في غضون زمن مديد، قبل أن يظهر بفجأة وقوة. وأنه لمن المستحيل أبدًا الحصول على لوحة واضحة عن التاريخ الاقتصادي في مرحلة ما من المراحل وعن الأحداث نفسها في آن واحد؛ فلا يمكن الحصول عليها إلا بعد مرور حقبة من الزمن، بعد جمع المادة والتحقق منها. وهنا يشكل الإحصاء وسيلة معاونة لازمة؛ والحال، يتأخر الإحصاء على الدوام. ولهذا، عند تحليل الأحداث الجارية، يتعين أحيانًا كثيرة جدًا اعتبار هذا العامل الذي يتسم بأهمية حاسمة عاملاً دائمًا، واعتبار الوضع الاقتصادي الذي تكوَّن قبل بداية المرحلة المبحوثة وضعًا معطيًا ثابتًا لا يتغير بالنسبة للمرحلة كلها، أو حتى الاقتصار على مراعاة تلك التغيرات في هذا الوضع التي تنبع من الأحداث الجارية الجلية للعيان، وبالتالي الجلية تمامًا أيضًا. ولهذا يتعين أحيانًا كثيرة جدًا على الطريقة المادية أن تكتفي هنا بحصر النزاعات السياسية في الصراع بين مصالح الطبقات الاجتماعية القائمة ومصالح الفئات الطبقية التي خلقها التطور الاقتصادي، وباعتبار مختلف الأحزاب السياسية كتعبير سياسي ملائم إلى هذا الحد أو ذاك عن هذه الطبقات نفسها وعن فئاتها.
وغني عن البيان أنه لا بد لهذا التجاهل الذي لا مناص منه للتغيرات الطارئة في الوقت نفسه على الوضع الاقتصادي، على هذا الأساس الحقيقي لجميع التطورات المبحوثة، أن يكون مصدرًا للأخطاء. ولكن جميع شروط العرض المعمم للأحداث الجارية تنطوي، لا مناص، على مصادر للأخطاء، الأمر الذي لا يجبر أحدًا، مع ذلك، على الامتناع عن كتابة تاريخ الأحداث الجارية.
وعندما عكف ماركس على كتابة هذا البحث، كان من غير الممكن بمقدار أكبر تجنب مصدر الأخطاء المذكور آنفًا. ففي زمن ثورة 1848 – 1849، كان من المستحيل حقًا وفعلاً تتبع التغيرات الاقتصادية الطارئة في الوقت نفسه أو حتى إبقاؤها في مجال البصر. كذلك كان هذا من المستحيل في الأشهر الأولى من الهجرة القسرية في لندن، أي في خريف وشتاء 1849 – 1850. ولكن ماركس بدأ كتابة بحثه هذا في ذلك الوقت على وجه الضبط. ورغم هذه الظروف غير الملائمة، استطاع ماركس، بفضل معرفته الدقيقة سواء للوضع الاقتصادي في فرنسا عشية ثورة شباط (فبراير) أو لتاريخ هذه البلاد السياسي بعد ثورة شباط، أن يقدم عرضًا للأحداث يكشف صلتها الداخلية بكمال يستحيل التفوق عليه حتى الآن؛ وهذا العرض نجح نجاحًا باهرًا في امتحانين أجراهما ماركس فيما بعد.
الامتحان الأول أجرى ارتباطًا بالواقع التالي وهو أن ماركس وجد من جديد، ابتداء من ربيع 1850، متسعًا من الوقت لأجل الدراسات الاقتصادية، وأنكب في المقام الأول على دراسة التاريخ الاقتصادي للسنوات العشر الأخيرة. وبالنتيجة اتضح له تمامًا من الوقائع ما استخلص نصفه قبل ذلك على البديهة من مادة أبعد من أن تكون كاملة، وأعني به أن الأزمة التجارية العالمية التي نشبت في 1847 هي التي أدت على الأخص إلى نشوب ثورتي شباط (فبراير) وآذار (مارس)، وأن النهوض الصناعي الذي حل من جديد تدريجيًا منذ أواسط 1848 وبلغ الازدهار التام في 1849 و1850 كان قوة منعشة للرجعية الأوروبية التي قويت من جديد. وقد كان لهذا الأمر أهمية حاسمة. فإذا كان لا يزال يتبدى في المقالات الثلاث الأولى (التي صدرت في إعداد كانون الثاني وشباط وآذار – يناير وفبراير ومارس – من مجلة “Neue Rheinische Zeitung. Politisch-ökonomische Revue”([3])، هامبورغ، 1850) انتظار نهوض جديد في العزيمة الثورية في القريب العاجل، فإن اللمحة التاريخية (آيار – تشرين الأول، مايو – أكتوبر) التي كتبناها ماركس وأنا، لأجل العدد المزدوج الذي صدر في خريف 1850 تقطع بحزم وإلى الأبد كل صلة مع هذه الأوهام: “إن ثورة جديدة غير ممكنة إلا أثر أزمة جديدة. ولكن نشوبها محتم مثله مثل نشوب هذه الأخيرة” (راجع هذا الكتاب، ص 158. الناشر). ولكن هذا كان التغيير الجوهري الوحيد الذي أدخلناه. ففي تفسير الأحداث الوارد في المقالات السابقة، لم يكن هناك قطعًا ما يجب تغييره في الصلات السببية المعروضة فيها، كما تبين بقية السرد من 10 آذار (مارس) إلى خريف 1850 المدرجة في اللمحة نفسها. ولهذا أدرجت هذه البقية، بوصفها المقالة الرابعة، في هذه الطبعة ([4]).
وكان الامتحان الثاني أشد صرامة. ففور الانقلاب الذي قام به لويس بونابرت في 2 كانون الأول (ديسمبر) 1851 ([5])، درس ماركس من جديد تاريخ فرنسا من شباط 1848 حتى هذا الحدث الذي اختتم المرحلة الثورية لفترة من الزمن (” الثامن عشر من برومير لويس بونابرت”، الطبعة الثالثة، هامبورغ، ميسنر، 1855). إن هذا الكراس يحلل من جديد، وأن بصورة أوجز، المرحلة المدروسة في بحثنا المعاد طبعه. فقارنوا هذا العرض الثاني المكتوب على ضوء الحدث الحاسم الذي وقع بعد سنة ونيف، بالعرض الأول، تقتنعوا بأن الكاتب لم يغير إلا قليلاً جدًا.
هناك عامل يضفي على هذا البحث أهمية خاصة تمامًا، هو أنه أعطى للمرة الأولى صيغة تلخص بها الأحزاب العمالية، في جميع بلدان العالم، بإيجاز وإجماع، مطلبها بالتحويل الاقتصادي: امتلاك المجتمع لوسائل الإنتاج. وقد جاء في الفصل الثاني، بصدد “الحق في العمل”، المسمى هناك “بالصيغة الخرقاء الأولى التي تلخص بها المطالب الثورية للبروليتاريا”: “ولكن وراء الحق في العمل تكمن السلطة على الرأسمال، ووراء السلطة على الرأسمال – امتلاك وسائل الإنتاج، وإخضاعها للطبقة العاملة المنظمة في جمعياتها، والقضاء بالتالي على العمل المأجور والرأسمال وعلى العلاقات بينهما” (راجع هذا الكتاب، ص 76. الناشر). وهكذا صيغت هنا للمرة الأولى موضوعة تتميز بها الاشتراكية العمالية المعاصرة بصورة حادة سواء عن جميع أنواع الاشتراكية، الإقطاعي والبرجوازي والبرجوازي الصغير إلخ.، أو عن “شيوعية الملكية” الضبابية التي تقدمت بها الشيوعية الطوبوية والعمالية العفوية. وإذا كان ماركس قد شمل بهذه الصيغة فيما بعد امتلاك وسائل التبادل أيضًا، فإن هذا التوسيع للصيغة، الناجم، فضلاً عن ذلك، من تلقاء ذاته من “البيان الشيوعي”، لم يكن غير استنتاج من الموضوعة الأساسية. ومؤخرًا أضاف بعض الحكماء في إنجلترا إلى هذا أنه تنبغي إحالة “وسائل التوزيع” أيضًا إلى المجتمع. ومن المشكوك فيه أن يكون في مستطاع هؤلاء السادة أن يوضحوا ماهية وسائل التوزيع الاقتصادية هذه التي تتميز عن وسائل الإنتاج ووسائل التبادل. ترى، ألا يقصدون وسائل التوزيع السياسية: الضرائب، رعاية الفقراء، بما فيها إعانات ساكسنفالد ([6])، والإعانات الأخرى؟ ولكن وسائل التوزيع هذه هي، أولاً، في الوقت الحاضر بالذات، ملك المجتمع، وتخص الدولة أو المشاعة، وهي ثانيًا الوسائل التي نريد القضاء عليها.
* * *
عندما انفجرت ثورة شباط، كنا نحن جميعنا متأثرين في تصوراتنا حول شروط الحركات الثورية وظروفها وسيرها بالخبرة التاريخية الماضية، ولا سيما بخبرة فرنسا. فهي التي لعبت الدور الرئيسي في كل تاريخ أوروبا ابتداء من عام 1789. وهي التي أعطت آنذاك والآن من جديد إشارة الانقلاب العام. ولهذا كان من الطبيعي والمحتم تمامًا أن تكون تصوراتنا حول طابع وسير الثورة “الاجتماعية”، ثورة البروليتاريا، التي أعلنت في شباط 1848 في باريس، مصبوغة بشكل ساطع بذكريات عن النماذج المسبقة في مرحلة 1789 – 1830. وعندما وجدت الانتفاضة الباريسية صدى في الانتفاضات المظفرة في فيينا وميلانو وبرلين؛ وعندما اجتذبت أوروبا كلها حتى الحدود الروسية إلى الحركة؛ وعندما وقعت بعد ذلك في حزيران (يونيو) في باريس أول معركة كبيرة من أجل السيادة بين البروليتاريا والبرجوازية؛ وعندما بلغت الأمور إلى حد أن انتصار الطبقة البرجوازية ذاته هز البرجوازية في جميع البلدان إلى درجة أنها ارتمت من جديد في أحضان الرجعية الملكية الإقطاعية التي كانت قد أسقطت للتو، – لم يكن من الممكن في ظروف ذلك الوقت أن يخالجنا أي شك في أن المعركة الفاصلة الكبرى قد بدأت وأنه يجب السير بها إلى النهاية في سياق مرحلة ثورية طويلة وحافلة بالتقلبات، وأنه لا يمكن مع ذلك لهذه المعركة أن تنتهي إلا بانتصار البروليتاريا النهائي.
وبعد هزائم 1849، لم نشاطر إطلاقًا أوهام الديمقراطية المبتذلة الملتفة in partibus (In partibus infidelium – في بلد الكفار، أي في الخارج أو في المهجر. الناشر) حول حكومات المستقبل المؤقتة. فقد كانت هذه الديمقراطية تأمل بانتصار عاجل ونهائي يحرزه “الشعب” على “الطغاة”؛ أما نحن، فإننا كنا نأمل بنضال مديد، بعد إزالة “الطغاة”، بين العناصر المتضادة الكامنة في هذا “الشعب” ذاته. كانت الديمقراطية المبتذلة تتوقع يومًا بعد يوم انفجارًا جديدًا، أما نحن، فقد صرحنا في خريف 1850 أن الطور الأول من المرحلة الثورية قد انتهى على كل حال وأنه لن يحدث شيء قبل نشوب أزمة اقتصادية عالمية جديدة. ولهذا تعرضنا للحرم كخونة للثورة من قبل نفس أولئك الذين أقدموا جميعهم تقريبًا بلا استثناء على التصالح فيما بعد مع بيسمارك لأن بيسمارك تكرَّم عليهم بهذا.
ولكن التاريخ بيَّن أننا نحن أيضًا لم نكن على حق وأن وجهة النظر التي كنا نتسمك بها كانت وهمًا من الأوهام. بل أن التاريخ سار إلى أبعد؛ فهو لم يبدد ضلالنا آنذاك وحسب؛ بل غير أيضًا تمامًا الشروط والظروف التي ينبغي للبروليتاريا خوض النضال في ظلها. فإن وسيلة النضال التي استخدمت في عام 1848 قد شاخت الآن من جميع النواحي، وهذه النقطة تستحق، والحالة هذه، دراسة أكثر إسهابًا.
إن جميع الثورات السابقة كانت تقتصر على إحلال سيادة طبقة معينة محل سيادة طبقة أخرى؛ ولكن جميع الطبقات التي سادت حتى الآن لم تكن تشكل غير أقلية ضئيلة بالقياس إلى سواد الشعب المحكوم. وعليه كانت أقلية سائدة تسقط، وتحل أقلية أخرى محلها في دست الحكم وتغير نظم الدولة وفقًا لمصالحها. وفي كل مرة، كانت السيادة تعود إلى ذلك الفريق من الأقلية الذي كان، في ظل الحالة المعنية من التطور الاقتصادي، قادرًا على السيادة ومدعوًا إلى السيادة، ولهذا السبب بالذات، – ولهذا السبب وحده – كانت الأغلبية المحكومة تعمد عند حدوث الانقلاب، أما إلى الاشتراك في الانقلاب في صالح هذا الفريق، وأما إلى الرضوخ بهدوء للانقلاب. ولكن إذا طرحنا جانبًا المضمون الملموس لكل حالة بمفردها، فإن الشكل العام لجميع هذه الثورات قد تلخص في أنها كانت ثورات الأقلية. وإذا كانت الأغلبية أيضًا قد اشتركت فيها، فإنها لم تفعل ذلك – عن وعي أو عن غير وعي – إلا في مصلحة الأقلية؛ ولكن هذا على وجه الضبط أو حتى مجرد سلوك الأغلبية الخامل، انعدام المقاومة من جانبها، هو الذي جعل هذه الأقلية تبدو كأنها تمثل الشعب بأسره.
بعد أول نجاح كبير، كانت الأقلية المنتصرة تنقسم على نفسها عادة؛ فكان قسم منها يرضى بما تم التوصل إليه، وكان القسم الآخر يرغب في المضيّ قدمًا، ويتقدم بمطالب جديدة تناسب، جزئيًا على الأكثر، المصالح الحقيقية أو الموهومة للجماهير الشعبية الواسعة. وفي بعض الحالات، كانت هذه المطالب، وهي أكثر جذرية، تحقق ولكن في معظم الأحوال لفترة قصيرة جدًا من الوقت؛ فإن حزبًا أكثر اعتدالاً كان يحرز الغلبة من جديد، فإذا المكتسبات الأخيرة تزول كليًا أو جزئيًا؛ وآنذاك كان المغلوبون يشرعون في الزعيق بالخيانة أو يفسرون الهزيمة بالصدفة. أما في الواقع، فإن الأمور كانت في معظم الأحوال تسير كما يلي: كان ما يتم الظفر به بنتيجة النصر الأول لا يصبح متينًا ثابتًا إلا بفضل نصر ثان يحرزه حزب أكثر راديكالية؛ وما إن كان يتم التوصل إلى هذا، وما إن كان يتحقق بالتالي ما كان ضروريًا في اللحظة المعنية، حتى كان الراديكاليون يغادرون الحلبة من جديد مع منجزاتهم.
في جميع ثورات الزمن الجديد، ابتداء من الثورة الإنجليزية الكبرى في القرن السابع عشر، تبدت هذه السمات التي كانت تبدو سمات ملازمة لكل نضال ثوري، لا تنفصم عنه. وقد خيل أنها ملازمة أيضًا لنضال البروليتاريا من أجل تحررها خصوصًا وأنه كان من الممكن، في عام 1848 على وجه الضبط، أن يُعد على الأصابع أولئك الذين كانوا يفهمون، وأن بعض الشيء، في أي اتجاه ينبغي البحث عن هذا التحرر. وحتى في باريس، لم يكن من الواضح إطلاقًا للجماهير البروليتاريا ذاتها بعد النصر أيضًا أي سبيل يجب عليها أن تسلكه. ومع ذلك، كانت الحركة بادية للعيان، غريزية، عفوية، يستحيل كبتها. ترى، ألم يكن هذا الوضع الذي كان لا بد أن تتكلل في ظله بالنجاح ثورة تقودها الأقلية، والحق يقال، ولكن لا في مصلحة الأقلية هذه المرة، بل في مصلحة الأغلبية، في مصلحتها الحقيقية، الأصيلة؟ وإذا كانت الجماهير الشعبية الواسعة قد سمحت لنفسها بمثل هذه السهولة في جميع العهود الثورية الطويلة نوعًا بأن تجذبها مغريات فارغة كاذبة رمت بها إليها جماعات من الأقلية مندفعة إلى أمام، ترى، هل كان من الممكن أن تكون أقل تقبلاً لأفكار كانت أدق انعكاس لوضعها الاقتصادي، لأفكار لا تعدو أن تكون تعبيرًا واضحًا ومعقولاً عن مطالبها التي لا تفهمها بعد، ولكن التي تشعر بها هي ذاتها شعورًا مبهمًا؟ صحيح أن مزاج الجماهير الثوري هذا كان يحل محله دائمًا تقريبًا، وبعد فترة وجيزة جدًا في معظم الأحوال، الإرهاق أو حتى الانعطاف إلى الجانب المضاد، ما أن كانت الأوهام تتبدد وتطل خيبة الأمل. ولكن الأمر لم يكن يتعلق هنا بالمغريات الكاذبة، بل بتحقيق مصالح الأغلبية الهائلة، مصالحها الحقيقية، الأصيلة؛ صحيح أن هذه المصالح لم تكن بعد آنذاك واضحة على الإطلاق لهذه الأغلبية الهائلة، ولكنه كان لا بد لها أن تصبح بعد فترة وجيزة واضحة لها الوضوح الكافي في سياق تحقيقها عمليًا، وبفعل الجلاء المقنع. وإذا كان تطور الجمهورية البرجوازية التي انبثقت عن ثورة 1848 “الاجتماعية” قد آل، فضلاً عن ذلك، نحو ربيع 1850، كما برهن ماركس في مقالته الثالثة، إلى انحصار السيادة الفعلية في يد البرجوازية الكبيرة، التي كانت بالإضافة ملكية المزاج، بينا جميع الطبقات الاجتماعية الأخرى، الفلاحون والبرجوازيون الصغار، قد التفت بالعكس حول البروليتاريا، بحيث أنه كان لا بد أن يكون العنصر الحاسم في حال النصر المشترك وبعده، لا هذه الطبقات، بل البروليتاريا التي حنكتها التجربة، – ترى، ألم يكن من الممكن تمامًا في هذه الأحوال الأمل في أن تتحول ثورة الأقلية إلى ثورة الأغلبية؟
لقد بيّن التاريخ أننا نحن وجميع الذين يفكرون مثلنا كنا على غير حق. فقد بيّن بوضوح أن حال التطور الاقتصادي في القارة الأوروبية كانت في ذلك الوقت أبعد من أن تكون ناضجة إلى حد يتيح إلغاء أسلوب الإنتاج الرأسمالي؛ وبين هذا بتلك الثورة الاقتصادية التي شملت القارة بأسرها ابتداء من 1848 ووطدت بالفعل للمرة الأولى للصناعة الكبيرة في فرنسا والنمسا والمجر وبولونيا، ومؤخرًا في روسيا، وحولت ألمانيا مباشرة إلى بلد صناعي من الدرجة الأولى، – وكل هذا على أساس رأسمالي كان لا يزال يملك بعد، على هذا النحو، في 1848، قدرة كبيرة جدًا على التوسع والامتداد. ولكن هذه الثورة الصناعية بالذات هي التي حملت في كل مكان الوضوح إلى العلاقات بين الطبقات: فقد أزالت كثرة من الفئات الوسيطة المتحدرة من عهد المانيفاكتورة، وحتى من الحرفة في أوروبا الشرقية، وولدت برجوازية حقيقية وبروليتاريا حقيقية عاملة في الصناعة الكبيرة، ودفعتهما إلى مقدمة التطور الاجتماعي. ومن جراء هذا، نرى أن النضال بين هاتين الطبقتين الكبيرتين، الذي جري في 1848، علاوة عن إنجلترا، في باريس وحدها، ولربما أيضًا في بعض المراكز الصناعية الكبيرة، قد انتشر الآن في عموم أوروبا وبلغ قدرًا من القوة لم يكن بعد من الممكن تصوره في عام 1848. فآنذاك كانت هناك كثرة من الأناجيل المبهمة لشتى الملل مع ترياقاتها الشاملة؛ أما الآن، فهناك نظرية واحدة يعترف بها الجميع، وواضحة غاية الوضوح، هي نظرية ماركس، التي تصوغ أهداف النضال النهائية بدقة؛ آنذاك، كانت هناك جماهير مقسمة ومتفرقة بفعل الخصائص المحلية والقومية، ولا يجمع بينها غير الشعور بالآلام المشتركة، جماهير غير متطورة، تنتقل بدافع العجز من الحماسة إلى اليأس؛ أما الآن، فهناك جيش أممي كبير واحد موحد من الاشتراكيين، يزحف إلى الأمام بلا مرد ويقوي يومًا بعد يوم من حيث العدد والتنظيم والانضباط والوعي والثقة في النصر. وإذا كان جيش البروليتاريا الكبير هذا لما يبلغ الهدف مع ذلك، وإذا كان مضطرًا، عوضًا عن إحراز النصر بضربة حاسمة واحدة، إلى التحرك إلى أمام ببطء، كاسبًا موقعًا تلو الآخر في غمرة من النضال العنيد القاسي، فإن هذا يثبت نهائيًا إلى أي حد لم يكن من الممكن في 1848 التوصل إلى التحول الاجتماعي بمجرد الهجوم المفاجئ.
برجوازية منقسمة إلى كتلتين ملكيتين سلاليتين ([7])، ولكنها تطالب قبل كل شيء بالهدوء والأمن لأجل شؤونها المالية، وضدها بروليتاريا صحيح أنها مغلوبة على أمرها ولكنها لا تزال رهيبة، ويلتف حولها أكثر فأكثر البرجوازيون الصغار والفلاحون، – خطر دائم بانفجار عنيف لم يبعث مع ذلك أي أمل في حل القضية حلاً نهائيًا، – هكذا كان الوضع الذي كأنما أنشئ لأجل انقلاب الطامع الثالث، الديموقراطي المزيف، لويس بونابرت. ففي 2 كانون الأول (ديسمبر) 1851 وضع حدًا، بواسطة الجيش، للوضع المتوتر وضمن لأوروبا بالهدوء الداخلي: وأسعدها بالمقابل بعهد جديد من الحروب ([8]). فانتهت مؤقتًا مرحلة الثورات من القاعدة، وعقبتها مرحلة الثورات من القمة.
إن العودة إلى الإمبراطورية في عام 1851 أعطت برهانًا جديدًا على عدم نضج التطلعات البروليتارية في ذلك الزمن. ولكنه تعين على الإمبراطورية ذاتها أن تخلق الشروط والظروف التي كان لا بد في ظلها أن تبلغ هذه التطلعات حد النضج. فإن الهدوء الداخلي قد أمن المجال الرحب لنهوض الصناعة من جديد؛ وآلت ضرورة تشغيل الجيش وتوجيه الميول الثورية وجهة السياسة الخارجية إلى نشوب الحروب التي حاولت بونابرت بواسطتها، وبذريعة الدفاع عن “مبدأ القوميات”، أن يحقق بشتى الحيل إلحاقات في صالح فرنسا. وقد استوعب مقلده بيسمارك السياسة نفسها في صالح بروسيا؛ ففي 1866، قام بانقلابة، بثورته من القمة حيال الحلف الألماني وحيال النمسا ([9])، وكذلك حيال المجلس البروسي الذي دخل في نزاع مع الحكومة. ولكن أوروبا كانت صغيرة جدًا على بونابرتين، وإذا بيسمارك يطيح ببونابرت، لما فيه سخرية التاريخ، وإذا غليوم، عاهل بروسيا، لا ينشئ إمبراطورية ألمانيا الصغرى وحسب، بل ينشئ كذلك الجمهورية الفرنسية ([10]). أما النتيجة المشتركة، فقد تلخصت في أن استقلال الأمم الأوروبية الكبيرة ووحداتها الداخلية، باستثناء بولونيا، أصبحا أمرًا واقعًا، ضمن حدود متواضعة نسبيًا، والحق يقال، ولكن، مع ذلك، ضمن حدود على قدر من الاتساع يكفي لكي لا يتعرقل مجرى تطور الطبقة العاملة بفعل تعقيدات ذات صبغة قومية. لقد أمسى حفارو قبر ثورة 1848 منفذي وصيتها. وإلى جانبهم كان ينهض وريث 1848 بشكل رهيب، ونعني به البروليتاريا ممثلة بشخص الأممية(10أ).
بعد حرب 1870 – 1871 اختفى بونابرت عن المسرح، وتبين أن رسالة بيسمارك قد تحققت، فغدا بإمكانه أن يتحول من جديد إلى يونكر عادي. ولكن كومونة باريس ([11]) كانت خاتمة هذه المرحلة. فإن محاولة تيير الغادرة لسرقة مدفعية الحرس الوطني الباريسي ([12]) استتبعت انتفاضة مظفرة. وتبين من جديد أنه لم يبق من الممكن أن تقوم في باريس أي ثورة غير الثورة البروليتارية. وبعد النصر، عادت السيادة إلى الطبقة العاملة من تلقاء ذاتها، دون أن ينازعها منازع. ومن جديد تبين إلى أي حد كانت سيادة الطبقة العاملة هذه غير ممكنة حتى آنذاك، أي بعد انقضاء عشرين سنة على المرحلة الموصوفة في هذا الكراس. فمن جهة تركت فرنسا باريس وشأنها لحكم القدر، مراقبة بلا مبالاة كيف تنزف دماء باريس تحت قنابل ماك ماهون؛ ومن جهة أخرى، استنفدت الكومونة قواها في صراع عقيم بين حزبين انقسمت إليهما هما: حزب البلانكيين (الأغلبية) وحزب البرودونيين (الأقلية)، ولم يكن لا هؤلاء ولا أولئك يعرفون ما ينبغي فعله. وهكذا تبين أن الانتصار السهل في 1871 كان عقيمًا بقدر عقم الهجوم المفاجئ في 1848.
كانوا يأملون أن يدفنوا نهائيًا، مع كومونة باريس، البروليتاريا المناضلة. ولكن نهوضها الأقوى يبدأ، على العكس تمامًا، منذ الكومونة والحرب الفرنسية البروسية. ثم أن تجنيد جميع السكان الصالحين للخدمة العسكرية في الجيوش التي كانت تضم آنذاك ملايين الجنود، واستعمال السلاح الناري وقذائف المدفعية والمتفجرات التي تتميز بقوة فعل لا سابق لها، – كل هذا أحدث انقلابًا تامًا في جميع الشؤون العسكرية. فمن جهة وضع هذا الانقلاب حدًا على الفور للمرحلة البونابرتية من الحروب وأمّن التطور الصناعي السلمي، وجعل من المستحيل قيام أي حرب أخرى غير حرب عالمية لا سابق لقساوتها ويستحيل إطلاقًا التكهن بمآلها. ومن جهة أخرى، أدى هذا الانقلاب إلى تزايد النفقات العسكرية بمتوالية هندسية، واستتبع بصورة لا ندحة عنها ارتفاع الضرائب ارتفاعًا فاحشًا وقذف بالتالي الطبقات غير الميسورة من السكان إلى أحضان الاشتراكية. وقد أمكن لضم الألزاس واللورين إلى ألمانيا، أي لأقرب سبب للسباق المسعور وراء التسلح، إن يؤجج نيران شوفينية البرجوازية الفرنسية والبرجوازية الألمانية حيال بعضهما بعضًا، ولكنه لم يصبح بالنسبة لعمال البلدين غير حلقة واصلة أخرى. وقد غدا يوم الذكرى السنوية لكومونة باريس أول عيد عام مشترك للبروليتاريا بأسرها.
إن حرب 1870 – 1871 وهزيمة الكومونة قد نقلتا مؤقتًا مركز ثقل الحركة العمالية الأوروبية، كما تنبأ ماركس، من فرنسا إلى ألمانيا. ففي فرنسا كان لا بد من سنوات وسنوات لأجل التعافي من عملية إراقة الدم التي أجريت في أيار (مايو) 1871. أما في ألمانيا حيث كان يتسارع أكثر فأكثر تطور الصناعة، التي أمنت لها المليارات الفرنسية المفيدة ([13])، بالإضافة، أحوالاً دافئة حقًا وفعلاً، فقد أخذت الاشتراكية الديمقراطية، على العكس، تتنامى بمزيد من السرعة والدأب والثبات. وبفضل تلك المهارة التي استغل بها العمال الألمان الحق الانتخابي العام المقرر في عام 1866، أصبح نمو الحزب المدهش واضحًا للعالم كله من الأرقام التالية التي لا مراء فيها: 102000 صوت اشتراكي – ديموقراطي في 1871، 352000 في 1874، 493000 في 1877. ثم جاء الاعتراف بهذه النجاحات من أعلى بشكل القانون ضد الاشتراكيين ([14])؛ فتحطم الحزب مؤقتًا، وهبط عدد الأصوات التي نالها في عام 1881 حتى 312000 صوت. ولكن سرعان ما ذلل الحزب هذا الوضع، وإذا نمو سريع حقًا وفعلاً يبدأ في ظل كابوس القانون الاستثنائي، بدون صحافة، وبدون منظمة علنية، وبدون حق الجمعيات والاجتماعات: 550000 صوت في 1884، 763000 في 1887، 1427000 في 1890. وهنا ضعفت يد الدولة. فزال القانون ضد الاشتراكيين، وارتفع عدد الأصوات الاشتراكية حتى 1787000 صوت، أي أكثر من ربع جميع الأصوات المعطاة. واستنفدت الدولة والطبقات السائدة جميع وسائلها، ولكن عبثًا، سدى، هباء. واضطرت السلطات، ابتداء منا الحارس الليلي حتى مستشار الريخ، إلى الارتضاء بأنها حصلت – ومن العمال الحقراء، زيادة في الطين بلة! – على براهين محسوسة على عجزها؛ وهذه البراهين كانت بالملايين. ودخلت الدولة في مأزق؛ أما العمال، فقد شرعوا للتو يسيرون في طريقهم.
ولكن إلى جانب هذه الخدمة الأولى التي قدمها العمال الألمان لقضية الطبقة العاملة بمجرد وجودهم بوصفهم أقوى الأحزاب الاشتراكية وأكثرها انضباطًا وأسرعها نموًا، قدموا لها أيضًا خدمة كبيرة أخرى. فقد أعطوا رفاقهم في جميع البلدان سلاحًا جديدًا –من أمضى الأسلحة – بتبيانهم لهم كيف ينبغي استغلال الحق الانتخابي العام.
إن الحق الانتخابي العام كان قائمًا من زمان في فرنسا، ولكنه كسب هناك شهرة سيئة بعد أن أساءت الحكومة البونابرتية استخدامه. وبعد الكومونة لم يكن هناك حزب عمالي في وسعه استخدامه. وفي أسبانيا، كان هذا الحق مقررًا أيضًا في عهد الجمهورية، ولكن الاستنكاف عن الاشتراك في الانتخابات كان من زمان في أسبانيا قاعدة عامة تتبعها جميع الأحزاب المعارضة الجدية. كذلك نتائج التجربة السويسرية فيما يخص الحق الانتخابي العام كانت أقل ما يمكنه أن يشجع الحزب العمالي؛ وكان العمال الثوريون في البلدان اللاتينية قد اعتادوا اعتبار الحق الانتخابي فخًا وأداة بيد الحكومة للكذب والخداع. أما في ألمانيا، فقد كان الحال آخر. فإن “البيان الشيوعي” كان قد أعلن أن نيل الحق الانتخابي العام، نيل الديموقراطية هو مهمة من أولى وأكبر مهام البروليتاريا المناضلة. وكان لاسال قد تقدم بهذا المطلب من جديد. وعندما اضطر بيسمارك إلى إقرار الحق الانتخابي العام بوصفه الوسيلة الوحيدة لإثارة اهتمام الجماهير الشعبية بمشاريعه، أخذ عمالنا فورًا المسألة على محمل الجد وأرسلوا أوغست بيبل إلى الريخستاغ التأسيسي الأول. ومذ ذاك استغلوا الحق الانتخابي إلى حد أن هذا عاد عليهم بالذات بنفع جزيل وصار مثالاً لعمال جميع البلدان. فإن الحق الانتخابي، كما جاء في البرنامج الماركسي الفرنسي، تم بفضلهم transformé de moyen de duperie qu’il a été jusqu’ici en instrument d’émancipation تحويله من وسيلة للخداع كما كأنها حتى الآن أداة للتحرر ([15]). وحتى لو افترضنا أن الحق الانتخابي العام لم يعد بأي نفع غير النفع الناجم من كونه قد أتاح لنا أن نحسب قوانا مرة كل ثلاث سنوات؛ وأنه، بفضل نمو عدد الأصوات نموًا فجائي السرعة وملحوظًا بانتظام، قوي بالقدر نفسه ثقة العمال في النصر وذعر الأعداء، وصار بالتالي أفضل وسيلة بين وسائلنا للدعاية؛ وأنه أعطانا معلومات دقيقة عن قوانا بالذات وعن قوى جميع أحزاب أخصامنا، وأفسح بالتالي أمامنا مجالاً لا يقاس بأي مجال آخر لأجل تقدير أعمالنا وتصرفنا، ووقانا سواء من التردد في غير أوانه أم من الجرأة الطائشة في غير أوانها، – حتى لو كان هذا هو النفع الوحيد الذي أعطانا إياه حق التصويت، لكان هذا أكثر من كاف. ولكنه أعطانا أكثر بكثير. ففي حقبة التحريض قبل الانتخابات، أعطانا هذا الحق أفضل وسيلة للاتصال بالجماهير الشعبية حيث كانت لا تزال بعيدة عنا، ولإجبار جميع الأحزاب على الدفاع أمام الشعب كله عن آرائها وتصرفاتها في وجه حملاتنا؛ ناهيك بأنه قدم لممثلينا في الريخستاغ مننبرًا كان في وسعهم أن يخاطبوا منه خصومهم في البرلمان والجماهير وراء جدرانه على السواء بقدر أكبر بكثير من الهيبة والنفوذ والحرية مما في الصحافة وفي الاجتماعات. وأي فائدة كانت للحكومة والبرجوازية من قانونهما ضد الاشتراكيين، إذا كان التحريض ما قبل الانتخابات والخطابات الاشتراكية في الريخستاغ تشق فيه الثغرات بلا انقطاع؟
ولكن مع هذا الاستغلال الناجح للحق الانتخابي العام، أخذ يوضع موضع التطبيق أسلوب جديد تمامًا من أساليب نضال البروليتاريا، وهذا الأسلوب تطور فيما بعد بسرعة. فقد وجدوا أن مؤسسات الدولة التي تنظم البرجوازية سيادتها بواسطتها، توفر كذلك إمكانيات أخرى لأجل نضال الطبقة العاملة ضد هذه المؤسسات بالذات. فشرع العمال يشتركون في الانتخابات إلى لاندتاغات _(مجالس) مختلف الدويلات والبلديات ومحاكم العمل، وطفقوا ينافسون البرجوازية على كل منصب انتخابي، إذا اشترك في الانتخابات لأجل إشغاله عدد كاف من العمال. وكانت النتيجة أن أخذت البرجوازية والحكومة تخافان من النشاط العلني لحزب العمال أكثر بكثير مما تخافان من نشاطه غير العلني، أي من النجاحات في الانتخابات أكثر بكثير من النجاحات في الانتفاضة.
لأن ظروف النضال تغيرت هنا أيضًا بصورة جوهرية. فإن الانتفاضة من الطراز القديم، أي النضال في الشارع من وراء المتاريس، الذي كان في كل مكان قبل عام 1848 يبت في المسألة في آخر المطاف، قد ولي زمنه بصورة ملحوظة.
ولن نعلل أنفسنا بالأوهام في هذا المجال: فإن انتصارات الانتفاضة الفعلي على القوات المسلحة في نضال الشارع، أي انتصارًا كالذي يحدث في معركة بين جيشين، هو أمر نادر للغاية. ولكن الثوار نادرًا للغاية أيضًا ما أملوا في انتصار كهذا. فإن القضية كلها كانت تتلخص بالنسبة لهم في زعزعة معنويات القوات المسلحة بالتأثير المعنوي الذي لا يضطلع بأي دور في النضال بين جيشي بلدين متحاربين أو يضطلع على كل حال بدور أقل بكثير. فإذا أمكن هذا، فإن الجنود يرفضون إطلاق النار، أو يضيع الآمرون رؤوسهم فتنتصر الانتفاضة؛ وإلا، فإن الأفضليات الناجمة عن التسلح الأفضل والتدرب الأفضل وعن القيادة الموحدة، وعن الاستخدام المنهاجي للقوى القتالية وعن التقيد بالانضباط تفعل فعلها في صالح القوات المسلحة حتى وأن كان عدد أفرادها أقل. وأكثر ما تستطيع الانتفاضة بلوغه بالمعنى التاكتيكي الصرف إنما هو بناء متراس منفرد ما والدفاع عنه حسب جميع قواعد الفن. فإن المساندة المتبادلة، وتوزيع الاحتياطيات واستعمالها بالطريقة المناسبة، – وبكلمة، تنسيق الأعمال بين مختلف الوحدات والتعاون فيما بينها، الضروريين حتى لأجل الدفاع عن دائرة واحدة ما في المدينة، وبالأحرى لأجل الدفاع عن مدينة كبيرة بكاملها، – إن كل هذا ليس في المنال إلا بقدر ضئيل جدًا، بل أنه في معظم الأحوال مستحيل المنال إطلاقًا؛ وهنا يزول من تلقاء ذاته عنصر حشد القوى القتالية في نقطة حاسمة واحدة. ولهذا كان الدفاع السلبي هو الشكل المهيمن بين أشكال النضال؛ وإذا ما شن هجوم في مكان ما، فلا يشن إلا من قبيل الاستثناء، لأجل الهجمات الصدفية والحملات الجانبية؛ أما على العموم، فإن الهجوم يقتصر على احتلال المواقع التي تخلت عنها القوات المتراجعة. ناهيك بأن القوات المسلحة تملك المدافع والوحدات الهندسية الحسنة التسلح والتدرب، بينا الثوار لا يملكون البتة في جميع الأحوال تقريبًا وسائل النضال هذه. ولذا لا غرابة إذا كانت حتى تلك المعارك من معارك المتاريس التي ضربت فيها أعظم آيات البطولة – في باريس في حزيران (يونيو) 1848، في فيينا في تشرين الأول (أكتوبر) 1848، في درسدن في أيار (مايو) 1849 – قد انتهت بهزيمة الانتفاضة ما أن طرح قادة القوات المسلحة المهاجمة جميع الاعتبارات السياسية جانبًا وشرعوا يعملون انطلاقًا من وجهة النظر الحربية الصرف، وأمكنهم الاعتماد على جنودهم.
إن النجاحات العديدة التي أحرزها الثوار قبل عام 1848 تفسرها أسباب متنوعة جدًا. ففي باريس في تموز (يوليو) 1830 وفي شباط (فبراير) 1848، وكذلك في أغلبية معارك الشوارع في أسبانيا، كان يقف الحرس الوطني بين الثوار والجنود، وكان إما ينتقل مباشرة إلى جانب المنتفضين، وأما يثير بسلوكه السلبي والمتردد التذبذبات في صفوف الجنود أيضًا، وكان بالإضافة يقدم الأسلحة للمنتفضين. وحيث كان هذا الحرس الوطني منذ البداية بالذات ضد الانتفاضة، كما حدث في باريس في حزيران (يونيو) 1848، كانت الانتفاضة تمني بالهزيمة. وفي برلين في عام 1848، انتصر الشعب، جزئيًا بسبب انضمام قوى قتالية جديدة كثيرة إليه في ليلة وصباح 19 آذار (مارس)، وجزئيًا بسبب إعياء الجنود وسوء تموينهم، وجزئيًا أخيرًا بسبب الأوامر التي كانت تشل أعمالهم. ولكن المنتفضين كانوا يحرزون النصر في جميع الأحوال لأن الجنود كانوا يرفضون إطلاق النار، ولأن الآمرين كانوا يفقدون الحزم و التصميم، أو لأن أيديهم كانت مقيدة.
وهكذا، حتى في الأزمنة الكلاسيكية لمعارك الشوارع، كان تأثير المتراس المعنوي أكبر من تأثيره المادي. فقد كان المتراس وسيلة لزعزعة صلابة الجنود. فإذا تسنى له أن يصمد حتى بلوغ هذا الهدف، فقد كان يتم إحراز النصر؛ وإلا، فإن النضال كان ينتهي بالهزيمة. تلك هي النقطة الرئيسية التي يجب أخذها بالحسبان كذلك عند دراسة احتمالات النجاح والإخفاق، عند دراسة معارك الشوارع الممكنة الوقوع في المستقبل (هذه الجملة لم ترد في النص الصادر في مجلة „Die Neue Zeit“ وفي طبعة “النضال الطبقي في فرنسا” الصادرة على حدة في 1895 الناشر).
وأن هذه الاحتمالات كانت في 1849 سيئة جدًا. ففي كل مكان كانت البرجوازية قد انتقلت إلى جانب الحكومات؛ وكان ممثلو “النور والملكية” يحيون ويضيِّفون الجنود العاملين على قمع الانتفاضات. وكان المتراس قد فقد جاذبيته: فلم يعد الجنود يرون وراءه “الشعب” بل أخذوا يرون وراءه العصاة، والمشاغبين، والنهابين، وأنصار التقاسم، ونفايات المجتمع؛ ومع مرور الزمن، كان الضباط قد امتلكوا ناصية تاكتيك القتال في الشوارع، فكفوا عن المضي رأسًا وبلا تغطية إلى متراس مرتجل، وشرعوا يلتفون حوله عبر الحدائق والأفنية والبيوت. وأخذ هذا، إذا ما اقترن ببعض الحذق والدهاء، يتكلل الآن بالنجاح في تسع حالات من كل عشر.
ولكن تغيرات كثيرة أخرى طرأت أيضًا مذ ذاك، وكلها في صالح الجنود. فإذا كانت المدن الكبيرة قد نمت بصورة ملحوظة، فإن عدد أفراد الجيش قد نما بصورة أكبر. فمنذ عام 1848 لم يزداد عدد سكان باريس وبرلين إلى أربعة أمثاله، بينا أزداد عدد أفراد حاميتيهما إلى أكثر من أربعة أمثاله. وبفضل السكك الحديدية، يمكن، في 24 ساعة، زيادة عدد أفراد هاتين الحاميتين أكثر من 100 بالمخئة، وزيادته في 48 ساعة إلى عدد أفراد جيوش ضخمة. وسلاح هذا الجيش الذي نما نموًا فائقًا أصبح أكثر فعالية بما لا يقاس. ففي 1848، – البندقية الزنادية الملساء الماسورة، التي تعبأ من الفوهة؛ والآن البندقية الصغيرة العيار وذات الخزنة، التي تعبأ من الخزنة، وهي بندقية تطلق أبعد من القديمة بأربع مرات وأدق وأسرع بعشر مرات. من قبل، مدفعية ذات كلل وقذائف ضعيفة الفعالية نسبيًا؛ والآن رمانات متفجرة تكفي الواحدة منها لتدمير خير متراس. من قبل معول عسكري الهندسة لشق جدار صامد للنار؛ والآن أصبع ديناميت.
أما في صف الثوار، فإن جميع الظروف والشروط قد تغيرت، على العكس، نحو الأسوأ. فمن المشكوك فيه أن تتكرر الانتفاضة التي تعطف عليها جميع فئات الشعب؛ ويجب الظن أن الفئات المتوسطة لن تلتف أبدًا جميعها بلا استثناء، في غمرة النضال الطبقي، حول البروليتاريا بحيث يزول تقريبًا الحزب الرجعي الملتف حول البرجوازية. وعليه، سيعمل “الشعب” دائمًا بصفوف متفرقة، ولن يكون هناك بالتالي ذلك الرافع الجبار الذي كان شديد الفعالية في عام 1848. وإذا ما انضم إلى جانب المنتفضين عدد أكبر من الجنود الذين مروا بالخدمة العسكرية، فإن تسليحهم سيكون بالمقابل أصعب. ثم أن بنادق الصيد والبنادق الغالية الصنع من مخازن الأسلحة – حتى إذا لم يعطلوها سلفًا، بناء على أوامر البوليس، حتى في حال الإطلاق عن مسافة قريبة، لا يمكن أن تضاهي بنادق الجنود ذات الخزانات. قبل عام 1848، كان بوسع المرء أن يصنع بنفسه منه البارود والرصاص الشحنة الضرورية؛ أما الآن فإن كل بندقية تتطلب خراطيش خاصة لا يشبه بعضها بعضًا إلا من حيث أنها كلها من منتوج الصناعة الكبيرة المعقد، ولا يمكن بالتالي صنعها على الفور بلا إبطاء، ولذا تبقى البنادق بمعظمها غير نافعة إذا لم تتوفر لها خراطيش حربية مناسبة لها بالذات. وأخيرًا، يبدو كأن الشوارع الطويلة، المستقيمة، العريضة في الأحياء المشيدة حديثًا بعد عام 1848 في المدن الكبيرة مكيفة قصدًا وعمدًا لأجل عمل المدافع والبنادق الجديدة. وأنه لمجنون ذلك الثوري الذي يختار بنفسه لأجل قتال المتاريس الأحياء العمالية الجديدة في القسمين الشمالي والشرقي من برلين.
فهل هذا يعني أن نضال الشوارع لن يضطلع في المستقبل بأي دور؟ كلا، أبدًا. فإن هذا يعني فقط أن الظروف والشروط قد أصبحت منذ 1848 أقل ملاءمة بكثير للمحاربين من السكان المدنيين، وأكثر ملاءمة بكثير للجنود. وهكذا لا يمكن أن يؤدي نضال الشوارع المقبل إلى النصر إلا إذا جاءت عناصر أخرى توازن هذه النسبة غير الملائمة بين القوى. ولهذا سيحدث نضال الشوارع في مستهل الثورة الكبيرة أقل مما سيحدث في مجراها اللاحق، وسيتعين القيام به بقوى أكبر بكثير. وينبغي الظن أن هذه القوى ستفضل، كما في سياق الثورة الفرنسية الكبرى كلها، وكما في 4 أيلول (سبتمبر) و31 تشرين الأول (أكتوبر) 1870 في باريس([16])، الهجوم السافر على تاكتيك المتاريس السلبي (كل هذا المقطع لم يرد في نص „Die Neue Zeit“ وفي طبعة “النضال الطبقي في فرنسا” الصادرة على حدة في 1895. الناشر).
فهل يفهم القارئ الآن لماذا تريد الطبقات السائدة أن تستدرجنا من كل بد إلى حيث تنطلق البنادق وتقطع السيوف؟ لماذا يتهموننا الآن بالجبانة لأننا لا نرغب في الخروج إلى الشارع على الفور دون روية واحتراس، حيث تنتظرنا الهزيمة، كما نعرف سلفًا؟ لماذا يتوسلون إلينا بمثل هذا الإلحاح لنوافق في آخر الأمر على الاضطلاع بدور طعام للمدافع؟
ولكن عبثًا وسدى يفرط هؤلاء السادة في طلباتهم وتحدياتهم. فلسنا أغبياء إلى هذه الدرجة. وبنفس القدر من النجاح يمكنهم أن يطلبوا في حرب مقبلة من عدوهم أن يصف قواته في خط كما في عهد فريتز العجوز أو في طوابير من فرق كاملة كما في وغرام وواترلو ([17])، ناهيك بأن يسلحها ببنادق بقداحة صوانية. وإذا كانت قد طرأت تغيرت على الظروف والشروط لأجل الحرب بين الشعوب، فلم تطرأ تغيرات أقل على الظروف والشروط لأجل النضال الطبقي. وقد ولى زمن الهجمات المفاجئة، وزمن الثورات التي تقوم بها أقلية واعية ضئيلة تتراس الجماهير غير الواعية. وحيث يكون المقصود تحويل النظام الاجتماعي تحويلاً تامًا، ينبغي على الجماهير بالذات أن تشترك في هذا، ينبغي عليها بالذات أن تدرك الهدف الذي يدور النضال من أجله، الهدف الذي تهرق دماءها وتضحي بحياتها من أجله (في نص „Die Neue Zeit“ وطبعة “النضال الطبقي في فرنسا” الصادرة على حده في 1895، ورد “الهدف الذي ينبغي عليها النضال من أجله” عوضًا عن “الهدف الذي تهرق دماءها وتضحي بحياتها من أجله” الناشر). وهذا ما علمنا إياه تاريخ السنوات الخمسين الأخيرة. ولكنه لا بد من عمل مديد دائب لكي تفهم الجماهير ما يجب فعله، وهذا العمل على وجه الضبط هو ما نقوم به الآن، ونقوم به بنجاح يدفع خصومنا إلى أحضان اليأس والقنوط.
وفي البلدان اللاتينية أيضًا أخلوا يفهمون أكثر فأكثر أنه تنبغي إعادة النظر في التاكتيك القديم. والمثال الألماني لاستغلال الحق الانتخابي وللاستيلاء على جميع المواقع التي في منالنا يجد تطبيقات له في كل مكان؛ وفي كل مكان تراجعت الحملات غير المحضرة إلى المؤخرة (في نص „Die Neue Zeit“ وطبعة “النضال الطبقي في فرنسا” الصادرة على حده في 1895، لم ترد كلمات “وفي كل مكان تراجعت الحملات غير المحضرة إلى المؤخرة” الناشر). وفي فرنسا، حيث التربة شقها عدد من الثورات منذ مائة سنة ونيف، وحيث لا يوجد حزب لم يكن له ضلع في المؤامرات والانتفاضات وشتى الأعمال الثورية الأخرى؛ في فرنسا حيث الحكومة لا تستطيع البتة، من جراء هذا، أن تعتمد بثقة على الجيش، وحيث الأحوال على العموم لأجل الانتفاضات المفاجئة أكثر ملاءمة بكثير مما في ألمانيا، – حتى في فرنسا يزداد الاشتراكيون اقتناعًا يومًا بعد يوم بأنهم لا يستطيعون أن يحرزوا نصرًا راسخًا إلا إذا اجتذبوا مسبقًا إلى جانبهم جمهورًا واسعًا من الشعب، أي من الفلاحين في الحالة المعنية. وهناك أيضًا يعتبر العمل الدعائي الصبور والنشاط البرلماني أقرب مهام الحزب. ولم تلبث النجاحات إن ظهرت. فلم يتم الظفر بجملة كاملة من البلديات وحسب، بل هناك أيضًا 50 اشتراكيًا في المجلسين، وقد أسقطوا حتى الآن ثلاث وزارات، ورئيسًا للجمهورية. وفي بلجيكا، ظفر العمال في السنة الماضية بالحق الانتخابي وأحرزوا النصر في ربع الدوائر الانتخابية. وللاشتراكيين في سويسرا وإيطاليا والدانمارك وحتى في بلغاريا ورومانيا، ممثلون عنهم في البرلمانات. وفي النمسا، خلصت جميع الأحزاب بالإجماع إلى استنتاج مفاده أنه لم يبق من الممكن قطع الطريق أمامنا إلى الريخسرات. وسنتسرب لا محالة إلى هناك، وينحصر النقاش في معرفة أي باب سنتسرب منه. وحتى إذا انعقد في روسيا الزيمسكي سوبور الشهير، – هذه الجمعية الوطنية التي يعارض نيقولاي الشاب عبثًا في دعوتها إلى الانعقاد، – ففي وسعنا أن نأمل عن ثقة ويقين في أنه سيكون لنا هناك أيضًا ممثلون عنا.
وغني عن البيان أن رفاقنا في الخارج لا يتخلون، من جراء هذا، في أي حال من الأحوال، عن حقهم في الثورة. ذلك أن الحق في الثورة هو “الحق” الوحيد “التاريخي” فعلاً، الحق الوحيد الذي ترتكز عليه جميع الدول الحديثة بلا استثناء، بما فيها مكلنبورغ حيث انتهت ثورة النبلاء في 1755 “بمعاهدة حول الوراثة”، بهذه الوثيقة الإقطاعية المشهودة التي لا تزال سارية المفعول في الوقت الحاضر. أن الحق في الثورة قد ترسخ في الإدراك العام إلى حد أن الجنرال فون بوغوسلافسكي ذاته يستخلص من هذا الحق الشعبي وحده الحق في إجراء انقلاب في مصلحة إمبراطوره.
ولكن، مهما جرى في البلدان الأخرى، فإن الاشتراكية الديمقراطية الألمانية تشغل وضعًا خاصًا، وهذا ما يحدد مهمتها الخاصة للمستقبل القريب العاجل على الأقل. فإن المليوني ناخب الذين ترسلهم إلى صناديق الاقتراع، وكذلك الشباب والنساء الذين يدعمونها مع أنهم ليسوا ناخبين، يشكلون الجمهور الأوفر عددًا والأشد تراصًا، “الفصيلة الصدامية” الحاسمة في الجيش البروليتاري الأممي. وهذا الجمهور يؤلف الآن أكثر من ربع جميع الأصوات المعطاة، وهو ينمو باستمرار، كما تثبت الانتخابات الإضافية إلى الريخستاغ والانتخابات إلى اللاندتاغات (المجالس) في مختلف الدويلات وإلى البلديات ومحاكم العمل. ونموها يجري بصورة عفوية، وبلا انقطاع، وبلا مرد، وفي الوقت نفسه بهدوء، تمامًا مثل أي تطور يجري في الطبيعة. وقد باءت بالفشل جميع محاولات الحكومة لعرقلة هذا النمو. وبوسعنا أن نأمل الآن في كسب مليونين وربع مليون ناخب. وإذا استمر الحال على هذا النحو، فإننا سنكسب في أواخر هذا القرن القسم الأكبر من الفئات المتوسطة في المجتمع، البرجوازية الصغيرة والفلاحين الصغار، ونصير في البلد قوة حاسمة ينبغي على جميع القوى الأخرى أن تنحني أمامها شاءت أم أبت. ومهمتنا الرئيسية، الإسهام بفائق الجهد في هذا النمو إلى أن يعلو من تلقاء ذاته فوق رأس النظام الحكومي السائد، وعدم القضاء على هذه الفصيلة الصدامية المتزايدة قوة يومًا بعد يوم في اشتباكات أمامية، بل الاحتفاظ بها في حرمة وحصانة حتى اليوم الحاسم (في نص „Die Neue Zeit“ وفي طبعة “النضال الطبقي في فرنسا” الصادرة على حده في 1895، لم ترد كلمات “وعدم القضاء على هذه الفصيلة الصدامية المتزايدة قوة يومًا بعد يوم في اشتباكات أمامية، بل الاحتفاظ بها في حرمة وحصانة حتى اليوم الحاسم”. الناشر). إن وسيلة واحدة فقط من شأنها أن توقف مؤقتًا وحتى أن تدفع إلى الوراء لفترة من الزمن نمو القوى الكفاحية الاشتراكية المتواصل في ألمانيا، وهذه الوسيلة هي صدام كبير مع القوات المسلحة، وإهراق الدماء كما في 1871 في باريس. ولكننا سنتغلب على هذا أيضًا مع مرور الزمن إذا ما حدث. فمن المستحيل محو حزب يضم الملايين من على وجه الأرض؛ فلهذا الغرض لا تكفي جميع البنادق ذات الخزنات في أوروبا وأميركا. ولكن من شأن هذا أن يكبح المجرى العادي للتطور، وأن يبقينا في اللحظة الحرجة، كما يمكن الظن، بدون فصيلة صدامية، فتتأجل المعركة الحاسمة (في نص „Die Neue Zeit“ وفي طبعة “النضال الطبقي في فرنسا” الصادرة على حدة في 1895، لم ترد كلمات “وأن يبقينا في اللحظة الحرجة، كما يمكن الظن، بدون فصيلة صدامية”، ووردت كلمة “القرار” عوضًا عن كلمتي “المعركة الحاسمة”. الناشر) وتبتعد وتكلف تضحيات أشد وطأة وإرهاقًا.
إن سخرية التاريخ العالمي تقلب كل شيء رأسًا على عقب. فنحن “الثوريين”، “الانقلابيين” نحرز من النجاحات بالأساليب الشرعية أكثر مما نحرز بالأساليب غير الشرعية أو بالانقلاب. أما الأحزاب التي تسمي نفسها بأحزاب النظام، فإنها تهلك من الوضع الشرعي الذي خلقته بنفسها. وبدافع اليأس تزعق مع أوديلون بارو: la légalité nous tue الشرعية تقتلنا، في حين أننا نحن نكتسب في ظل هذه الشرعية عضلات مرنة وخدودًا حمراء، ونزهر كالحياة الأبدية. وإذا ما انزلقنا نحن في لجة الحماقة إلى حد أن ننجر إلى نضال الشوارع لما فيه صالح هذه الأحزاب، فلا يبقى لهذه الأحزاب في آخر المطاف غير أمر واحد، هو أن تنتهك بنفسها هذه الشرعية المشؤومة.
وفي هذه الأثناء، تضع هذه الأحزاب قوانين جديدة ضد الانقلاب. ومن جديد يوضع كل شيء رأسًا على عقب. ترى، ألم يكن أعداء الانقلاب الألداء الحاليون هم أنفسهم بالأمس انقلابيين، ترى، هل نحن الذين استثرنا الحرب الأهلية في 1866؟ ترى، هل نحن الذين طردنا ملك هانوفر، وكورفورست (أمير) هيسن، ودوق ناساو من أراضيهم الأصلية، الشرعية، الموروثة واستولينا على هذه الأراضي؟ وهؤلاء الذين قلبوا الاتحاد الألماني وثلاثة تيجان هي من نعمة الله يتذمرون الآن من الانقلاب!
(ترى، هل يمكن الصبر عندما يغتاظ غراكوس من الفتنة؟ (يوفينال، الأهجية الثانية). الناشر) Quis tulerit Gracchos de seditione querentes? ومن ذا الذي يمكنه أن يسمح لأنصار بيسمارك بشتم الانقلاب؟
ولكن، ليطبقوا مشاريع قوانينهم ضد الانقلاب، وليجعلوها أشد وحشية وضراوة، وليحولوا جميع القوانين الجزئية إلى مطاط، فإنهم لن يتوصلوا إلا إلى ما يشكل برهانًا جديدًا على عجزهم. فلأجل إيذاء الاشتراكية – الديموقراطية جديًا، ينبغي عليهم اللجوء أيضًا إلى إجراءات مختلفة تمامًا. فضد الانقلاب الاشتراكي – الديموقراطي الذي يعمل في صالحه في الظرف الراهن التقيد بالقوانين على وجه الدقة، لا يمكنهم اللجوء إلا إلى انقلاب تقوم به أحزاب النظام، إلى انقلاب لا يمكن أن يتحقق بدون انتهاك القوانين. أن السيد روسلو، البيروقراطي البروسي، والسيد فون يوغوسلافسكي، الجنرال البروسي، قد بينا لهم الوسيلة الوحيدة التي يمكن استعمالها، على الأرجح، ضد العمال حين لا يسمحون بجرهم إلى نضال الشوارع. مخالفة الدستور، الديكتاتورية، العودة إلى الحكم المطلق (إرادة الملك هي القانون الأعلى! الناشر) regis voluntas suprema lex! المزيد من الجرأة، أيها السادة، فلا مجال هنا للثرثرة، هنا يجب العخمل!
ولكن لا تنسوا أن الإمبراطورية الألمانية، مثلها مثل جميع الدول الصغيرة ومثل جميع الدول الحديثة على العموم، هي نتاج اتفاق: أولاً اتفاق بين الملوك، وثانيًا، اتفاق بين الملوك والشعب. فإذا خالف أحد الطرفين الاتفاق، فإن الاتفاق بمجمله يفقد قوته، ويتحرر الطرف الآخر أيضًا من التزاماته. وهذا ما قدم لنا عليه بيسمارك البرهان الساطع في عام 1866. وعليه، إذا خالفتم دستور الإمبراطورية، فإن الاشتراكية – الديموقراطية ستتحرر هي أيضًا من التزاماتها وسيكون بوسعها أن تتصرف حيالكم حسبما تراه ضروريًا. أما ما ستفعله على وجه التدقيق، فهذا سر من المشكوك فيه أن تفشيه لكم الآن (في نص „Die Neue Zeit“ وفي طبعة “النضال الطبقي في فرنسا” الصادرة على حدة في 1895، لم ترد الجمل الثلاث الأخيرة من هذا المقطع. الناشر).
منذ قرابة 1600 سنة، عمل في الإمبراطورية الرومانية حزب للانقلاب شديد الخطر. فقد قوض هذا الحزب الدين وجميع أسس الدولة، وأنكر صراحة أن تكون إرادة الإمبراطور القانون الأعلى، وكان بلا وطن، كان أمميًا؛ وقد انتشر في جميع أقاليم الإمبراطورية، من بلاد الغال إلى آسيا، وتسرب إلى ما وراء حدودها. وزمنًا طويلاً جاهد خفية وعمل سرًا، ولكنه شعر خلال حقبة مديدة نسبيًا بأنه صار من القوة بحيث يستطيع العمل جهارًا وعلنًا. فإن حزب الانقلاب هذا، المعروف باسم حزب المسيحيين، قد كسب لنفسه عددًا كبيرًا من الأنصار في صفوف القوات المسلحة أيضًا: فقد غدت فيالق برمتها مسيحية. وعندما كانوا يرسلونها إلى حضور احتفالات الكنيسة السائدة الوثنية من أجل أداء المراسم العسكرية، كان الجنود المنتمون إلى حزب الانقلاب يتجاسرون ويعلقون على خوذاتهم علامات خاصة هي الصلبان، دليلاً على احتجاجهم. بل أن المضايقات العادية في الثكنات من جانب الرؤساء كانت تبقى بلا جدوى. ولم يبق بوسع الإمبراطور ديوقليسيانوس أن يرى بهدوء كيف يتقوض النظام والطاعة والانضباط في صفوف قواته، فاتخذ تدابير حازمة قبل فوات الأوان. فقد أصدر قانونًا ضد الاشتراكيين – أي ضد المسيحيين. ومنعت اجتماعات الانقلابيين، وأغلقت أماكن اجتماعاتهم بل أنها دمرت، ومنعت الشارات المسيحية – الصلبان وغير ذلك – كما منعت في سكسونيا المناديل الجيبية الحمراء. وحُرم المسيحيون من حق شغل الوظائف الحكومية، ولم يكن بوسعهم أن يكونوا حتى جنودًا أولين. وبما أنه لم يكن هناك بعد في ذلك الوقت قضاة مروضون كما ينبغي حسب أصول “التحيز”، قضاة يرتأى وجودهم مشروع القانون الذي تقدم به السيد فون كيللر بشأن درء الانقلابات ([18])، فقد كان ممنوعًا بكل بساطة على المسيحيين أن يفتشوا عن الحماية في المحكمة. ولكن هذا القانون الاستثنائي بقي هو أيضًا بلا جدوى. وبدافع التهكم والازدراء، كان المسيحيون ينزعون نص القانون عن الجدران، بل أنهم، كما يقال، حرقوا في نيقوميديا قصرًا كان يقيم فيه الإمبراطور حينذاك. وحينذاك انتقم من المسيحيين باضطهادهم بالجملة في عام 303 بعد الميلاد. وقد كان ذلك آخر اضطهاد من هذا النوع. وكان أثره قويًا إلى حد أن الأغلبية الساحقة من الجيش كانت تتألف بعد 17 سنة على انقضائه من المسيحيين، وإلى حد أن قسطنطين، الحاكم المطلق التالي لعموم الإمبراطورية الرومانية، الذي لقّبه رجال الكنيسة بقسطنطين الكبير، أعلن المسيحية دين الدولة.
لندن، 6 آذار (مارس) 1895
فريدريك أنجلس
صدرت (مع اختصارات) في مجلة
„Die Neue Zeit“
المجلد 2، العددان 27 و28 لعامي
1894 – 1895، وفي كتاب:
Kasr Marx, „Die Klassenkämpfe in Frankreich 1848 bis 1850“ Berlin, 1859
([1]) المقدمة. كتبها أنجلس لأجل طبعة خاصة للمؤلف صدرت في برلين عام 1895. عند نشر المقدمة، طلبت إدارة الحزب الاشتراكي – الديموقراطي الألماني بإلحاح من أنجلس أن يخفف لهجة المقدمة المفرطة في الثورية، حسب رأي الإدارة، وأن يصوغها بأسلوب أكثر احتراسًا. وقد وافق أنجلس، اضطرارًا منه إلى أخذ رأي الإدارة بعين الاعتبار، على حذف عدد من الجمل والأسطر في المسودة وعلى تعديل بعض الصيغ. ولم تنشر المقدمة بنصها الكامل إلا في عام 1930 في الاتحاد السوفييتي – ص 3.
([2])„Neue Rheinische Zeitung. Organ der Demokratie“ (نوي رينيشه زيتونغ”. “الجريدة الرينانية الجديدة. لسان حال الديموقراطية”). صدرت يوميًا في مدينة كولونيا بتحرير كارل ماركس ابتداء من أول حزيران (يونيو) 1848 إلى 19 أيار (مايو) 1849 – ص 3.
([3])„Neue Rheinische Zeitung. Politisch-ökonomische Revue“ (“نوي رينيشه زيتونغ”. “الجريدة الرينانية الجديدة” – مجلة سياسية اقتصادية) – مجلة أسسها ماركس وأنجلس في كانون الأول (ديسمبر) 1849 وأصدراها حتى تشرين الثاني (نوفمبر) 1850. في هذه المجلة، نشر “النضال الطبقي في فرنسا” بشكل مقالات – ص 5.
([4]) في عام 1895، نشر أنجلس طبعة خاصة من مؤلف ماركس “النضال الطبقي في فرنسا”، فأدخل في هذه الطبعة، على سبيل الفصول الثلاثة الأولى، مقالات من سلسلة مقالات ماركس “من 1848 إلى 1849” المنشورة في مجلة „Neue Rheinische Zeitung. Politisch-ökonomische Revue“ الإعداد الأول والثاني والثالث (ويذكرها أنجلس في الحالة المعنية)، وعلى سبيل المقال أو الفصل الرابع القسم الذي كتبه ماركس عن فرنسا من “العرض الدولي الثالث” الموضوع لأجل العدد 5 – 6 من هذه المجلة. وأنجلس هو الذي وضع عنوان المقال الأخير – ص 6.
([5]) في الثاني من كانون الأول (ديسمبر) (1851، حل لويس بونابرت (وكان يشغل منصب الرئيس) الجمعية التشريعية ومجلس الدولة وأعلن حالة الطوارئ في 32 محافظة، وإلخ.. وفي 14 كانون الثاني (يناير) 1852، أقر الدستور الجديد الذي حصر كامل السلطة في يد الرئيس؛ وفي الثاني من كانون الأول 1852، نودي بلويس بونابرت إمبراطورًا على فرنسا باسم نابليون الثالث – ص 6.
([6]) المقصود هنا الإعانات المالية الحكومية التي يسميها أنجلس من باب السخر باسم عقار بيسمارك الواقع في ساكسنفالد (غاب ساكسونيًا) بجوار هامبورغ والذي أهداه إياه غليوم الثاني – ص 7.
([7]) المقصود هنا الشرعيون (Légitimistes) أنصار سلالة بوربون (الليجيتيم) légitime (“الشرعية”) التي حكمت فرنسا حتى عام 1792، وكذلك في عهد العودة (1814 – 1830)، والأورليانيون، أنصار سلالة أو أسرة أورليان، التي حكمت فرنسا منذ ثورة تموز (يوليو) 1ذ830 وأطاحت بها ثورة 1840 – ص 13.
([8]) في عهد نابليون الثالث، اشتركت فرنسا في حرب القرم ضد روسيا (1854 – 1855)، وشنت الحرب على النمسا من أجل إيطاليا (1859)، واشتركت مع بريطانيا في الحروب ضد الصين (1856 – 1858، 186، وبدأت تحتل الهند الصينية، وأرسلت حملة إلى سوريا ولبنان (1860 – 1861) وحملة إلى المكسيك (1862 – 1867)، وأخيرًا شنت الحرب على بروسيا في 1870 – 1871 – ص 13.
([9]) الحلف الألماني – كان يضم 39 دويلة ألمانية. وقد أنشئ في مؤتمر فيينا عام 1815. لعبت النمسا الدور الرئيسي في الحلف. إن إنشاء الحلف الألماني لم يؤد إلى توحيد ألمانيا، بل وطد على العكس تجزؤ ألمانيا السياسي والاقتصادي لحفاظه على كيان ووجود العشرات والعشرات من الدويلات الألمانية المستقلة. في عام 1866، أنشأت بروسيا تحت زعامتها، بعد انتصارها في الحرب النمساوية البروسية، الحلف الألماني الشمالي من الدويلات الواقعة شمالي نهر الماين – ص 14.
([10]) بنتيجة الانتصار على فرنسا في الحرب الفرنسية البروسية (1870 – 1871)، أدخلت في الحلف الألماني الشمالي الدويلات الألمانية الجنوبية الأربع التي كانت باقية خارجه، وعلى هذا أنشئت الإمبراطورية الألمانية التي استثنيت منها النمسا، ومن هنا اسم “الإمبراطورية الألمانية الصغرى”. كانت هزيمة نابليون الثالث حافزًا للثورة التي نشبت في فرنسا وأطاحت بلويس بونابرت وأقامت الجمهورية – ص 14.
(10أ) المقصود هنا الأممية الأولى التي أسسها ماركس وأنجلس؛ دامت من 1864 إلى 1872 – ص 14.
([11]) كومونة باريس. حكومة ثورية للطبقة العاملة، دامت من 18 آذار (مارس) إلى 28 أيار (مايو) 1871. وبالمعنى الواسع يطلقون كذلك اسم كومونة باريس على الثورة البروليتارية في 18 آذار 1871 وعلى مرحلة ديكتاتورية البروليتاريا التي أعقبتها – ص 14.
([12]) الحرس الوطني – قوات متطوعة مدنية مسلحة ذات قيادة منتخبة، أنشئت في فرنسا في عام 1789. ودامت بانقطاعات حتى عام 1871 في شباط (فبراير) 1871، تشكلت اللجنة الوطنية للحرس الوطني التي ترأست انتفاضة البروليتاريا في 18 آذار (مارس) 1871. بعد قمع كومونة باريس حل الحرس الوطني – ص 14.
([13]) بعد الهزيمة في الحرب الفرنسية البروسية (1870 – 1871)، دفعت فرنسا لألمانيا غرامة حربية قدرها 5 مليارات فرنك – ص 16.
([14]) القانون الاستثنائي ضد الاشتراكيين استن في ألمانيا في عام 1878. بموجب هذا القانون، منعت جميع منظمات الحزب الاشتراكي – الديموقراطي، ومنظمات العمال الجماهيرية، والصحافة العمالية، وصودرت المطبوعات الاشتراكية، وتعرض الاشتراكيون – الديموقراطيون لأعمال القمع والتنكيل. وفي عام 1890 ألغي هذا القانون تحت ضغط الحركة العمالية – ص 16.
([15]) هذه الجملة مستقاة من مقدمة برنامج حزب العمال الفرنسي التي كتبها ماركس. أقر الحزب برنامجه هذا في مؤتمره في الهافر عام 1880. – ص 18.
([16]) في 4 أيلول (سبتمبر) 1870، أطيح بحكومة لويس بونابرت وأعلنت الجمهورية في فرنسا بفضل نضال الجماهير الشعبية الثوري. وفي 31 تشرين الأول (أكتوبر)، قام البلانكيون بمحاولة استثارة انتفاضة ضد الحكومة البرجوازية، ولكن المحاولة أخفقت – ص 24.
([17]) معركة فاغرام (1809) ومعركة واترلو (1815) – معركتان كبيرتان جدًا في الحروب التي خاضتها فرنسا في عهد نابليون الأول – ص 24.
([18]) في 5 كانون الأول (ديسمبر) 1894، أحيل إلى الريخستاغ (البرلمان) الألماني مشروع قانون جديد ضد الاشتراكيين؛ فكان نصيبه الرفض في 11 أيار (مايو) 1895 – ص 31.