بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

النضال الطبقي في فرنسا 1848 – 1850

« السابق التالي »

عواقب 13 حزيران 1849

في كانون الأول أظهر رأس الجمهورية الدستورية الجانوسي ([1]) وجهًا واحدًا فقط من وجهيه، الوجه التنفيذي وعليه ملامح لويس بونابرت المفلطحة المبهمة. وفي 28 آيار 1849، كشف وجهه الثاني، الوجه التشريعي المكسو بندوب خلفتها وراءها عربدات عهد العودة وملكية تموز. وكانت الجمعية الوطنية التشريعية قد أنجزت، مع انتهاء أجلها، تأسيس الجمهورية الدستورية أي الشكل الجمهوري للدولة الذي ثبتت فيه دستوريًا سيادة الطبقة البرجوازية، وبالتالي، السيادة المشتركة للكتلتين الملكيتين اللتين تؤلفان البرجوازية الفرنسية، سيادة الشرعيين والأورليانيين المتحدين أي سيادة حزب النظام. وبينما صارت الجمهورية الفرنسية على هذا النحو ملكًا لائتلاف الحزبين الملكيين، شن الائتلاف الأوروبي من الدول المعادية للثورة زحفًا صليبيًا عامًا ضد آخر ملاجئ ثورات آذار. فاقتحمت روسيا المجر، وتحركت القوات البروسية ضد جيش أنصار الدستور الإمبراطوري، وقصف أودينو روما بالمدفعية واقتربت الأزمة الأوروبية بجلاء من نقطة الانعطاف الحاسم، واتجهت أنظار أوروبا كلها نحو باريس، وأنظار باريس كلها نحو الجمعية التأسيسية.

في 11 تموز، صعد ليدرو – رولان إلى منبرها. ولم يلق خطابًا، بل اكتفى بأن صاغ اتهامًا ضد الوزراء، اتهامًا عاريًا، بلا تزويق، مدعومًا بالوقائع، مكثفًا، خطيرًا.

الهجوم على روما هجوم على الدستور، والهجوم على الجمهورية الرومانية هجوم على الجمهورية الفرنسية. المادة الخامسة من الدستور تنص على ما يلي: “لن تستخدم الجمهورية الفرنسية يومًا قواتها المسلحة ضد حرية أي شعب كان”، ولكن الرئيس يوجه القوات الفرنسية ضد الحرية الرومانية. المادة 54 من الدستور تحظر على السلطة التنفيذية إعلان حرب، كل حرب، بدون موافقة الجمعية الوطنية (وهنا وفيما بعد، حتى نهاية المؤلف، يقصد بالجمعية الوطنية الجمعية الوطنية التشريعية (Assemblée Législative) التي دامت من 28 أيار (مايو) 1849 إلى 2 كانون الأول (ديسمبر) 1851 – الناشر). وقرار Constituante الصادر في 8 أيار يأمر الوزراء قطعًا بإعادة الحملة الرومانية بأسرع ما يمكن إلى هدفها الأول، وهو بالتالي يمنع قطعًا الحرب ضد روما، ولكن أودينو يقصف روما بالمدافع. وعلى هذا النحو، دعا ليدرو – رولان الدستور ذاته كشاهد اتهام ضد بونابرت ووزرائه. وبوصفه خطيب الدستور المصقع، وجه إلى الأغلبية الملكية في الجمعية الوطنية البيان الرهيب التالي: “إن الجمهوريين سيجبرون على احترام الدستور بجميع الوسائل، وحتى بقوة السلاح!”. “بقوة السلاح!”، ردد صدى “الجبل” مئات المرات. وردت الأغلبية بضجة رهيبة؛ ودعا رئيس الجمعية الوطنية ليدرو – رولان إلى التقيد بالنظام؛ وكرر ليدرو – رولان بيانه المتحدي، ووضع في الختام على طاولة الرئيس اقتراحًا بإحالة بونابرت ووزرائه إلى المحاكمة. واقترعت الجمعية الوطنية بـ361 صوتًا ضد 203 أصوات في مسألة قصف روما بالمدفعية على مجرد الانتقال إلى القضايا الأخرى الواردة في جدول الأعمال.

هل كان ليدرو – رولان يأمل، يا ترى، في هزم الجمعية الوطنية بواسطة الدستور، وفي هزم الرئيس بواسطة الجمعية الوطنية؟

يقينا أن الدستور كان يمنع كل تطاول على حرية الشعوب الأخرى، ولكن الجيش الفرنسي، على حد قول الوزارة، لم يهاجم في روما “الحرية”، بل هاجم “استبداد الفوضى”. أو لم يكن “الجبل” قد فهم بعد، يا ترى، رغم كل خبرته في الجمعية التأسيسية، أن تفسير الدستور لا يعود إلى من وضعوه، بل يعود فقط إلى من قبلوه؟ وأنه يجب تفسير نصه بمعناه القابل للحياة وأن المعنى البرجوازي هو معناه الوحيد القابل للحياة؟ وأن بونابرت والأغلبية الملكية في الجمعية الوطنية كانا المفسرين الحقيقيين للدستور مثلما الكاهن هو المفسر الحقيقي للأناجيل والقاضي المفسر الحقيقي للقانون؟ والجمعية الوطنية التي خرجت للتو من أحضان الانتخابات العامة، ترى، هل كان يترتب عليها أن تعتبر أنها مقيدة بوصية Constituante بعد موتها في حين خالف رجل مثل أوديلون بارو إرادتها في حياتها؟ وحين استشهد ليدرو – رولان بقرار Constituante الصادر في 8 أيار، هل نسي، يا ترى، أن هذه Constituante ذاتها قد ردت في 11 أيار اقتراحه الأول بإحالة بونابرت ووزرائه إلى المحاكمة، وأنها برأت الرئيس والوزراء وصادقت بالتالي على أن قصف روما بالمدفعية كان عملاً “دستوريًا”، وأنه من حيث جوهر الأمر لم يفعل غير أن استأنف الحكم الصادر، علمًا بأنه استأنفه من Constituante الجمهورية أمام Législative الملكية؟ إن الدستور نفسه يدعو الانتفاضة إلى مساعدته، بدعوته كل مواطن، في مادة خاصة، إلى حمايته. ولقد استند ليدرو – رولان على هذه المادة. ولكن، من جهة أخرى، أو ليست السلطات العامة مؤسسة، يا ترى، من أجل حماية الدستور، أو لا تبدأ مخالفة الدستور، يا ترى، إلا متى انتفضت إحدى السلطات الدستورية على سلطة أخرى؟ والحال، كان رئيس الجمهورية ووزراء الجمهورية والجمعية الوطنية للجمهورية على وفاق وانسجام.

إن ما حاول “الجبل” تنظيمه في 11 حزيران، كان “انتفاضة في حدود العقل الخالص” أي “انتفاضة برلمانية خالصة”. ولقد عرض على أغلبية الجمعية، وقد تملكها الذعر من احتمال انتفاضة مسلحة تقوم بها الجماهير الشعبية، أن تقضي في شخص بونابرت ووزرائه على سلطتها بالذات وعلى مغزى انتخابها بالذات. أو لم تحاول Constituante بالسبيل نفسه أن تبطل انتخاب بونابرت، بإصرارها ببالغ العناد على استقالة وزارة بارو وفالو؟

ولكن أليست هناك أمثلة من زمن Constituante تبين أن الانتفاضات البرلمانية قد أحدثت تغييرًا جذريًا في العلاقات بين الأغلبية والأقلية، – فلماذا لا يفلح “الجبل” الشاب فيما أفلح فيه “الجبل” الشيخ؟ – ناهيك بأن الظرف كان يبدو مناسبًا لمثل هذا المشروع. كان هيجان الشعب في باريس قد بلغ درجة من الشدة بحيث أخذ يبعث القلق؛ وحسب توزع الأصوات في الانتخابات، لم يكن الجيش ميالاً إلى الحكومة، وكانت أغلبية الجمعية التشريعية لا تزال حديثة العهد إلى حد لا تستطيع معه أن تنتظم، ناهيك بأنها كانت تتألف من شيوخ. وإذا نجح “الجبل” في انتفاضته البرلمانية، فإن دفة الحكم ستنتقل إلى يده مباشرة. أما البرجوازية الصغيرة الديموقراطية فإنها من جانبها لم تكن ترغب في شيء ببالغ اللهفة، كما هو حالها دائمًا، رغبتها في أن يجري الصراع فوق رأسها، في الغيوم، بين ظلال أعضاء البرلمان. وأخيرًا، تبلغ البرجوازية الصغيرة الديموقراطية، وممثلها، “الجبل”، سواء بسواء، هدفهما العظيم عن طريق الانتفاضة البرلمانية، وهو تحطيم بأس البرجوازية، بدون إطلاق يدي البروليتاريا، أو بالتلويح بها من بعيد فقط؛ وهكذا كان يمكن استغلال البروليتاريا دون أن تشكل خطرًا.

بعد اقتراع الجمعية الوطنية في 11 حزيران، حدث لقاء بين بضعة أعضاء من “الجبل” وبين مندوبين عن جمعيات العمال السرية. وقد ألح هؤلاء على الشروع بالانتفاضة في المساء ذاته. فرفض “الجبل” هذه الخطة قطعًا. فلم يشأن أن يتخلى عن قيادة الحركة، مهما كلف الأمر؛ وكان ينظر إلى حلفائه بارتياب كما ينظر إلى أعدائه، وكان على حق في ذلك. فإن ذكرى حزيران 1848 لم تهيج يومًا صفوف البروليتاريا الباريسية بمثل القوة التي كانت تهيجها بها آنذاك. ومع ذلك، كانت مرتبطة مع “الجبل” بحلف. وكان “الجبل” يمثل في البرلمان أغلبية المحافظات، وكان قد زاد نفوذه في الجيش، وكان يملك القسم الديموقراطي من الحرس الوطني، وأخيرًا كان إلى جانبه نفوذ الحوانيت المعنوي. وكان الشروع بالانتفاضة خلافًا لمشيئة “الجبل” يعني بالنسبة للبروليتاريا، التي كانت، فضلاً عن ذلك، قد قلقت صفوفها بسبب الكوليرا وبسبب البطالة التي طردت قسمًا كبيرًا منها من باريس، تكرار أيام حزيران 1848 بلا جدوى، ولكن هذه المرة بدون تلك الظروف التي دفعتها آنذاك إلى النضال المستميت. ولقد فعل المندوبون العمال الأمر الوحيد الذي كان معقولاً. فقد أجبروا “الجبل” على تشويه سمعته أي على الخروج من نطاق النضال البرلماني إذا ردت الجمعية صك اتهامه. وطوال يوم الثالث عشر من حزيران، وقفت البروليتاريا موقف المراقبة والارتياب ذاته، وانتظرت وقوع اشتباك جددي لا رجعة عنه بين الحرس الوطني الديموقراطي والجيش لكي تندفع في هذه الحال إلى حلبة النضال وتدفع الثورة إلى أبعد من الهدف البرجوازي الصغير المفروض عليها. وفي حال النصر، كانت هناك كومونة بروليتارية منظمة كان ينبغي عليها أن تمارس نشاطها إلى جانب الحكومة الرسمية. فإن المدرسة الدموية لحزيران 1848 قد علمت عمال باريس.

في 12 حزيران قدم الوزير لاكروس بنفسه في الجمعية التشريعية اقتراحًا بالانتقال إلى مناقشة صك الاتهام على الفور. وفي الليل كانت الحكومة قد اتخذت جميع الإجراءات لأجل الدفاع والهجوم. وقد صممت أغلبية الجمعية الوطنية على حمل الأقلية المتمردة على الخروج إلى الشارع، ولم يكن قد بقي في مستطاع الأقلية أن تتراجع؛ فقد ألقيت القرعة؛ وقد رد 377 صوتًا ضد 8 صك الاتهام؛ وإذا “الجبل” الذي استنكف عن التصويت، يندفع، مفعمًا بالغضب والقد، إلى قاعات الدعاية في “الديموقراطية المسالمة”، إلى هيئة تحرير „Démocratie Pacifique“([2]).

إن الانصراف من قاعة البرلمان قد حطم قوة “الجبل” مثلما فقد العملاق أنتيه ([3]) قوته، عندما انفصل عن الأرض، عن أمه الأرض. وإذا إضراب شمشون ([4]) ضمن جدران الجمعية التشريعية، أي “الجبليون”، يصبحون مجرد تافهين ضيقي الأفق في قاعات “الديموقراطية المسالمة”. واحتدمت مناقشات طويلة، صاخبة، فارغة. كان “الجبل” ممتلئًا عزما على توفير الاحترام للدستور، دون التردد عن اللجوء إلى أي وسيلة، “ما عدا القوة المسلحة فقط”. وفي هذا العزم دعمه بيان ووفد “أصدقاء الدستور” ([5]). إن حطام زمرة „National“، حزب الجمهوريين البرجوازيين هم الذين سموا أنفسهم “بأصدقاء الدستور”. فبينما صوت ستة من ممثليها السالمين في البرلمان ضد رد صك الاتهام وصوت الباقون جميعهم إلى جانب رده، وبينما وضع كافينياك سيفه تحت تصرف حزب النظام، تمسك أعضاء الزمرة من خارج البرلمان، وهم أكبر عددًا وشأنًا، بالفرصة التي سنحت لهم للخروج من وضعهم كمنبوذين سياسيين، وللاندساس في صفوف الحزب الديموقراطي. وبالفعل، ألم يكونوا حاملي الدروع الطبيعيين لهذا الحزب المتخفي وراء دروعهم، وراء مبدئهم، وراء الدستور!

حتى الصباح بالذات، تعذب “الجبل” بآلام المخاض. فولد “نداء إلى الشعب” ظهر في صباح الثالث عشر من حزيران في زاويتين معزولتين من جريدتين اشتراكيتين. وقد أعلن هذا النداء الرئيس والوزراء وأغلبية الجمعية التأسيسية “خارج الدستور” (hors la Constitution) ودعا الحرس الوطني والجيش إلى “النهوض”، وكذلك الشعب في الختام. “عاش الدستور!”. هذه كانت كلمة السر التي أقرها، وكلمة السر هذه لم تكن تعني إلا شيئًا واحدًا: “لتسقط الثورة!”.

ولقد توافق ما أسمى بالمظاهرة السلمية التي نظمها البرجوازيون الصغار في 13 حزيران، مع نداء “الجبل” الدستوري. وقد كانت هذه المظاهرة عبارة عن موكب في الشوارع ابتدأ من شاتو دو عبر البولفارات. فإن 30000 شخص، معظمهم من رجال الحرس الوطني غير المسلحين، قد ساروا عبر البولفارات مختلطين مع أعضاء الفروع العمالية السرية، وصائحين: “عاش الدستور!”. كان المتظاهرون أنفسهم يصيحون بهذا الشعار بصورة آلية، وببرودة، وليس من صميم القلب، وعوضًا عن أن تتعاظم هذه الصيحات وتصبح كقصف الرعود الهادر، لقيت صدى ساخرًا في صفوف الشعب المتجمع على الأرصفة. والغناء المتعدد الأصوات كان ينقصه الصوت الصدري. وعندما وصل الموكب إلى مبنى اجتماعات “أصدقاء الدستور” وظهر على شرفته مناد مأجور للدستور راح يصب على الحجاج سيلاً من الهتافات “عاش الدستور!” ملوحًا بكل قوته بقبعته التي تشبه قبعات المصفقين المأجورين ورافعًا عقيرته حتى ليمزق رئتيه الغريبتين، خُيل أن المشتركين في الموكب أنفسهم قد شعروا للحظة بكل هزلية الوضع الناشئ. ومعلوم أي استقبال غير برلماني أعده للموكب في زاوية شارع دي لا بي والبولفارات فرسان وجنود شانغارنيه؛ ومعلوم كيف تفرق المتظاهرون في طرفة عين شذر مذر، وأطلقوا، أثناء فرارهم فقط، صيحات “إلى السلاح!” تنفيذًا للنداء البرلماني الصادر في 11 حزيران والداعي إلى الانتفاضة.

وتفرقت أغلبية أعضاء “الجبل” المحتشدين في شارع دوهازار في اللحظة التي كان فيها تفريق الموكب السلمي بالعنف، والإشاعات الغامضة عن قتل المواطنين العزل من السلاح في البولفارات، والبلبلة المشتدة أكثر فأكثر في الشارع، – وكل شيء ينبئ باقتراب الانتفاضة. ولقد صان ليدرو – رولان على رأس فريق صغير من النواب، شرف “الجبل”. فتحت حماية المدفعية الباريسية التي كانت تشغل باليه ناسيونال، ذهبوا إلى متحف الفنون والمهن الذي كان ينبغي أن يصل إليه اللواءان الخامس والسادس من الحرس الوطني. ولكن عبثًا انتظر “الجبليون” اللوائين الخامس والسادس. فإن رجال الحرس المحترسين هؤلاء قد تركوا ممثليهم وشأنهم، ومدفعية باريس نفسها أعاقت الشعب عن بناء المتاريس، وجعل الهرج والمرج والاضطراب والهوشة من المستحيل اتخاذ أي قرار، وتحركت قوات المشاة إلى الأمام شاهرة الحراب واعتقل قسم من النواب، وتخفي القسم الآخر. وهكذا انتهى الثالث عشر من حزيران.

ولئن كان الثالث والعشرون من حزيران 1848 يوم انتفاضة البروليتاريا الثورية، فإن الثالث عشر من حزيران 1849 كان يوم انتفاضة البرجوازيين الصغار الديموقراطيين؛ وكل من هاتين الانتفاضتين كانت تعبيرًا كلاسيكيًا خالصًا عن كنه الطبقة التي قامت بها.

في مدينة ليون وحدها، بلغت الأمور حد الاصطدام العنيد، الدامي. فهنا تقف البرجوازية الصناعية والبروليتاريا الصناعية مباشرة وجهًا لوجه، والحركة العمالية لا تندرج، كما في باريس، في إطار الحركة العامة ولا تتحدد بها؛ ولهذا فقد الثالث عشر من حزيران هنا في انعكاسه طابعه الأولي. أما في الأنحاء الأخرى من الأقاليم التي وجد فيها الثالث عشر من حزيران صدى له، فإنه لم يشعل شيئًا، بل كان برقًا باردًا.

في 13 حزيران، انتهت المرحلة الأولى من حياة الجمهورية الدستورية التي بدأت حياتها العادية في 28 أيار 1849 مع افتتاح الجمعية التشريعية. وكل هذه المقدمة مليئة بنضال صاخب بين حزب النظام و”الجبل”، بين البرجوازية والبرجوازية الصغيرة؛ وعبثًا قاومت البرجوازية الصغيرة إقامة الجمهورية البرجوازية التي تآمرت البرجوازية الصغيرة نفسها بلا انقطاع في صالحها في زمن الحكومة المؤقتة وفي زمن اللجنة التنفيذية، والتي قاتلت هي نفسها من أجلها بضراوة ضد البروليتاريا في أيام حزيران. ولقد حطم يوم الثالث عشر من حزيران مقاومتها وجعل من ديكتاتوريتها الملكيين الموحدين التشريعية أمرًا واقعًا. ومنذ هذه اللحظة، تصبح الجمعية الوطنية مجرد لجنة سلامة عامة لحزب النظام.

أعلنت باريس الرئيس والوزراء وأغلبية الجمعية الوطنية في “حالة متهيمن”؛ وأعلن هؤلاء باريس في “حالة حصار”. وأعلن “الجبل” أغلبية الجمعية التشريعية “خارج الدستور”، وأحالت الأغلبية بدورها “الجبل” إلى المحكمة العليا لخرقه الدستور وحرمت من حماية القانون كل ما كان أكثر حيوية في هذا الحزب. ولم يبق من “الجبل” غير جسد بلا رأس ولا قلب. وذهبت الأقلية إلى حد القيام بمحاولة انتفاضة برلمانية، وجعلت الأغلبية استبدادها البرلماني قانونًا. وسنت نظامًا داخليًا برلمانيًا جديدًا يقضي على حرية الكلام ويخول رئيس الجمعية الوطنية حق معاقبة النواب لمخالفة النظام بالمنع من الكلام، وبالغرامات المالية، وبالحرمان من الراتب، وبالطرد المؤقت من الجلسات، وبالاعتقال. وعلقت فوق جسد “الجبل” قضيبًا عوضًا عن السيف. وكان الواجب يقضي على نواب “الجبل” السالمين أن يتنازلوا عن صلاحياتهم بشكل يلفت النظر. ولو فعلوا هذا، لكان عجل في انحلال حزب النظام. كان لا بد أن ينحل هذا النظام إلى أجزائه المكونة الأولية في الوقت الذي لا يبقى فيه أي شيء، وإن ظلا لمقاومة، لكي يوحده.

كذلك انتزعت من البرجوازية الصغيرة الديموقراطية قوتها المسلحة مع قوتها البرلمانية في آن واحد؛ فقد حلت المدفعية الباريسية وألوية الحرس الوطني الثامن والتاسع والثاني عشر. أما لواء الأريستقراطية المالية الذي اعتدى في 13 حزيران على مطبعة بولية ورو، وحطم ماكنات الطباعة، وحطم مقرات هيئات تحرير الجرائد الجمهورية واعتقل فيها المحررين والصفافين والطباعين والمرسلين والموزعين، فقد حظي، على العكس، بالتشجيع من على منبر الجمعية الوطنية. وفي عموم فرنسا، تكرر هذا التسريح لرجال الحرس الوطني المشتبه بأنهم يميلون إلى الجمهورية.

قانون جديد للصحافة، قانون جديد للجمعيات، قانون جديد لحالة الحصار، ازدحام السجون الباريسية، طرد المهاجرين السياسيين، تعطيل جميع الجرائد التي تمضي أبعد من „National“، إخضاع مدينة ليون وخمس محافظات مجاورة لاستبداد الانكشارية الفظ، ومراقبة النيابة العامة في كل مكان، وتطهير جيش الموظفين من جديد بعد تطهيره مرار وتكرارًا، – هذه هي الأساليب المحتمة، المتكررة على الدوام، التي تلجأ إليها الرجعية الظافرة، والتي غدت أساليب رتيبة لا يجدر التذكير بها بعد مجزرة حزيران ومنافي حزيران إلا لأنها كانت هذه المرة موجهة لا ضد باريس وحسب، بل أيضًا ضد المحافظات، لا ضد البروليتاريا وحسب، بل أيضًا وفي المقام الأول ضد الطبقات المتوسطة.

إن نشاط الجمعية الوطنية التشريعي كله في حزيران وتموز وآب كان حافلاً بقوانين زجرية خولت الحكومة حق إعلان حالة الحصار، وكمت أفواه الصحف أشد من ذي قبل، وقضت على حق تأليف الجمعيات.

ولكن ما يميز هذه المرحلة، ليس الاستفادة العملية من النصر بل الاستفادة المبدئية منه، وليس قرارات الجمعية الوطنية بل تعليل هذه القرارات، وليس العمل بل الكلام، وليس حتى الكلام بل اللهجة والحركات التي تحيي الكلام. عرض العقائد الملكية بوقاحة لا حد لها، إهانات الازدراء الأريستقراطية الموجهة إلى الجمهورية، إفشاء أهداف العودة بدلال واستهتار، – وبكلمة، انتهاك الآداب الجمهورية بتبجح – هذا ما يضفي على هذه المرحلة لونًا خاصًا وطابعًا خاصًا. كانت صيحة مغلوبي الثالث عشر من حزيران القتالية: “عاش الدستور!”. وهذا ما أغني الغالبين عن نفاق اللغة الدستورية، أي الجمهورية. لقد تغلبت الثورات المضادة على المجر وإيطاليا وألمانيا، ورأت العودة على أبواب فرنسا. وقامت منافسة حقيقية بين زعماء كتل النظام؛ وقد حاولوا، مزاحمين بعضهم بعضًا، أن يقدموا البرهان على ميولهم الملكية بالوثائق بواسطة „Moniteur“، وأن يعترفوا ببعض الخطايا الليبرالية التي اقترفوها في زمن الملكية، وأن يندموا عليها، ويطلبوا المغفرة عنها أمام الله والناس. ولم يمر يوم دون أن يعلنوا من على منبر الجمعية الوطنية أن ثورة شباط كانت مصيبة عامة، دون أن يصرح ملاك عقاري من الشرعيين في الريف بمهابة وتفاخر أنه لم يعترف يومًا بالجمهورية، دون أن يتحدث شخص ما من جاحدي وخونة ملكية تموز الجبناء عن مآثره المتأخرة التي لم يعقه عن تحقيقها غير حب لويس فيليب للناس أو مفارقات من هذا القبيل. فكأن ما كان جديرًا بالدهشة في أيام شباط، ليس شهامة الشعب المظفر، بل تفاني واعتدال الملكيين الذين سمحوا له بأن ينتصر على نفسه. وقد اقترح أحد ممثلي الشعب تحويل قسم من النقود المعدة لأجل مساعدة الجرحى في أيام شباط إلى الحراس البلديين الذين أدوا في تلك الأيام خدمة للوطن. واقترح آخر إقامة تمثال لدوق أورليان على ظهر حصان في ساحة كاروسل. ونعت تيير الدستور بخرقة من الورق القذر. وتعاقب الأورليانيون على المنبر لكي يعترفوا بدسائسهم ضد الملكية الشرعية، والشرعيون لكي يلوموا أنفسهم على أن مقاومتهم للملكية غير الشرعية قد عجلت في سقوط الملكية بوجه عام؛ واعترف تيير بأنه تآمر ضد موليه، واعترف موليه بمؤامراته ضد غيزو، واعترف بارو بمؤامراته ضد الثلاثة جميعهم. وأعلن هتاف “عاشت الجمهورية الاجتماعية الديموقراطية!” مخالفًا للدستور؛ ولو حق هتاف “عاشت الجمهورية!” بوصفه هتافًا اشتراكيًا – ديموقراطيًا. وفي الذكرى السنوية لمعركة واترلو، صرح أحد النواب بقوله: “أنا لا أخاف من تدخل البروسيين قدر خوفي من دخول المهاجرين الثوريين إلى فرنسا”. وردًا على الشكاوي من الإرهاب المنظم في مدينة ليون والمحافظات المجاورة، قال باراغه ديليه: “أنا أفضل الإرهاب الأبيض على الإرهاب الأحمر” („J’aime mieux la etrreur blanche que la terreur rouge“)، وكانت الجمعية الوطنية تصفق بجنون كلما انطلقت من شفتي أحد خطبائها أبيات هجائية ساخرة ضد الجمهورية، ضد الثورة، ضد الدستور، من أجل الملكية، من أجل الحلف المقدس. وكل مخالفة لأقل الشكليات الجمهورية – مثلاً، مخاطبة النواب بكلمتي “أيها المواطنون” – كانت تثير إعجاب وتهليل فرسان النظام.

إن الانتخابات التكميلية التي جرت في باريس في 8 تموز في ظل حالة الحصار والتي امتنع عن الاقتراب فيها قسم كبير من البروليتاريا، واحتلال روما من قبل الجيش الفرنسي، ودخول الآباء الأجلاء الحمر ([6]) إلى روما، وفي معيتهم إرهاب الرهبان ومحاكمهم التفتيشية، – كل هذا جمع الانتصارات الجديدة إلى انتصار حزيران، كل هذا قوّى نشوة حرب النظام.

وأخيرًا، قرر الملكيون في أواسط آب رفع جلسات الجمعية الوطنية لمدة شهرين – جزئيًا لكي يحضروا جلسات مجالس المحافظات التي اجتمعت للتو، وجزئيًا لأنهم تعبوا للغاية بعد قصف وعربدة ميولهم الملكية طوال أشهر عديدة. وبسخرية غير مستورة، تركوا لجنة من خمسة وعشرين نائبًا من صفوة حزبي الشرعيين والأورليانيين، أمثال موليه وشانغارنيه وإضرابهما، بصفة نائبة للجمعية الوطنية، بصفة حارسة للجمهورية. وكانت السخرية أعمق مما خطر في بالهم. فلقد حكم التاريخ عليهم بأن يسهموا في إسقاط الملكية التي يحبونها، وأعدهم لحماية الجمهورية التي يكرهونها.

ومع رفع جلسات الجمعية التأسيسية، انتهت المرحلة الثانية من حياة الجمهورية الدستورية، مرحلة هيجانها الملكي.

ألغيت حالة الحصار في باريس من جديد، ومن جديد استأنفت الصحافة عملها. وأثناء تعطيل الجرائد الاشتراكية – الديموقراطية، وفي مرحلة الإجراءات القمعية والعربدة الملكية، تحولت „Siecle“ الممثلة الأدبية القديمة للبرجوازية الصغيرة ذات النزعة الملكية الدستورية إلى النزعة الجمهورية؛ وأصبحت „Presse“، لسان حال الإصلاحيين البرجوازيين القديم، أكثر ديموقراطية، في حين أن „National“، لسان حال الجمهوريين البرجوازيين الكلاسيكي القديم، اتخذت صبغة اشتراكية.

وبقدر ما كانت النوادي العلنية تصبح مستحيلة، كانت تنتشر وتقوي الجمعيات السرية. إن تعاونيات العمال الإنتاجية التي كانت تتشكل كشركات تجارية صرف والتي لم تكن لها أي أهمية اقتصادية، قد اضطلعت في الميدان السياسي بدور حلقات واصلة بالنسبة للبروليتاريا. فإن الالث عشر من حزيران قد أطاح بالقمة الرسمية لمختلف الأحزاب نصف الثورية، في حين نبت بالمقابل على كتفي الجماهير السالمة رأس لها. وخوف فرسان النظام بفظائع الجمهورية الحمراء، ولكن الأعمال الوحشية الخسيسة والفظائع الشنيعة التي ارتكبتها الثورة المضادة الظافرة في المجر وبادن وروما غسلت “الجمهورية الحمراء” حتى البياض. فأخذت طبقات المجتمع الفرنسي المتوسطة المستاءة تفضل وعود الجمهورية الحمراء مع فظائعها المفترضة على فظائع الملكية مع انقطاع الرجاء عمليًا منها. وما من اشتراكي فعل في فرنسا لأجل الدعاية الثورية أكثر مما فعله هايناو. لكل موهبة حسب أعمالها!

وفي هذه الأثناء، استغل لويس بونابرت عطلة الجمعية الوطنية لقيام في شهر آب بجولات في الأقاليم، وذهب أشد الشرعيين حماسة إلى أيمس لتقديم واجبات العبادة لسليل القديس لويس ([7])، وانصرف سواد النواب من حزب النظام إلى حبك الدسائس في مجالس المحافظات التي اجتمعت للتو. كان ينبغي حمل هذه المجالس على قول ما لم تتجرأ أكثرية الجمعية الوطنية على لفظه، كان ينبغي أن تطالب بإعادة النظر في الدستور على الفور. فبموجب الدستور، لم يكن من الممكن القيام بإعادة النظر هذه إلا في عام 1852، وفي جلسة تعقدها الجمعية الوطنية خصيصًا لهذا الغرض. ولكن إذا قالت أغلبية مجالس المحافظات بإعادة النظر، – ألن يجبر صوت فرنسا الجمعية الوطنية، يا ترى، على التضحية بعفاف الدستور؟ إن الجمعية الوطنية كانت تنتظر من هذه الجمعيات الإقليمية نفس ما كانت تنتظره الراهبات، في “هنرياد” فولتير، من الباندرو ([8]). ولكن إضراب بنتوفري في الجمعية الوطنية، ما عدا قلة منهم، اصطدموا في الأقاليم بعدد من إضراب يوسف ليس أقل ([9]). أن الأغلبية الساحقة لم تشأ أن تفهم الإرشادات الملحقة. إن إعادة النظر في الدستور كانت تحول دونها نفس الأداة التي كان ينبغي لها أن تخرجه إلى الفور: أي تصويت مجالس المحافظات. لقد أبدت فرنسا، فرنسا البرجوازية على كل حال، رأيها، وأبدته ضد إعادة النظر.

في مستهل تشرين الأول افتتحت الجمعية الوطنية التشريعية جلساتها tantum mutatus ab illo! (ولكن كم تغيرت! – الناشر). فقد تغيرت سيماؤها كليًا. إن رفض مجالس المحافظات غير المتوقع لإعادة النظر في الدستور قد أعادها إلى داخل حدود الدستور وذكرها بحدود وجودها. وكانت زيارات الشرعيين إلى المحج في أيمس قد أثارت الريبة في نفوس الأورليانيين، وكانت اتصالات الأورليانيين مع لندن ([10]) قد أقلقت الشرعيين، وكانت جرائد الكتلتين تنفخ في النار وتزن ادعاءات طامحيها المتبادلة. وكان الورليانيون يستاؤون مع الشرعيين من مساعي البونابرتيين التي ظهرت في رحلات الرئيس في الصيف، وفي محاولاته الواضحة إلى هذا الحد أو ذاك لكي يطرح عن نفسه عنان الدستور، وفي لغة الجرائد البونابرتية المتغطرسة؛ وكان لويس بونابرت، من جهته، يستاء من الجمعية الوطنية التي لم تكن تعترف بحق التآمر إلا للشرعيين والأورليانيين، ومن الوزارة التي كانت تخونه دائمًا في صالح هذه الجمعية الوطنية. وأخيرًا، حدث انشقاق في الوزارة بسبب السياسة الرومانية وبسبب ضريبة الدخل التي اقترحها الوزير باسي والتي كان المحافظون يلعنونها باعتبارها ضريبة اشتراكية.

ولقد كان من أولى اقتراحات وزارة بارو في الجمعية التشريعية التي استأنفت جلساتها، طلب اعتماد قدره 300000 فرنك لأجل دفع معاش أرملة الدوق أورليان. فوافقت الجمعية الوطنية على من الممكن أن يقال لبونابرت بأوضح من ذلك أنه لم يكسب شيئًا من وجوده في البلد، وأنه إذا كان الملكيون المتحدون بحاجة إليه هنا، في كرسي الرئاسة، بصفته شخصًا حياديًا، فإنه كان ينبغي أن يبقى المدعون الحقيقيون بالعرش محجوبين عن الأنظار غير المطلعة بضباب المنفى.

في أول تشرين الثاني، أجاب لويس بونابرت الجمعية التشريعية برسالة أعلن فيها بتعابير قارصة جدًا نبأ استقالة وزارة بارو وتأليف وزارة جديدة. كانت وزارة بارو – فالو وزارة الائتلاف الملكي، وكانت وزارة دوبول وزارة بونابرت وأداة الرئيس ضد الجمعية التشريعية، وزارة الباعة.

والآن لم يبق بونابرت مجرد الشخص الحيادي الذي كانه في 10 كانون الأول 1848. فبصفته رئيس السلطة التنفيذية، أصبح مركز مصالح معينة؛ ومكافحة لافوضى أجبرت حزب النظام نفسه على تقوية نفوذه؛ وإذا لم يعد بونابرت يتمتع بشعبية فإن حزب النظام كان غير ذي شعبية. أو لم يكن بوسعه، يا ترى، أن يأمل بأن التنافس بين الأورليانيين والشرعيين من جهة، وضرورة العودة الملكية بأي شكل كان، من جهة ثانية، سيكرهان الكتلتين معًا على الاعتراف بالمدعي الحيادي؟

منذ أول تشرين الثاني 1849 تبدأ المرحلة الثالثة في حياة الجمهورية الدستورية (وقد انتهت هذه المرحلة في 10 آذار (مارس) 1850). وتبدأ اللعبة العادية للمؤسسات الدستورية التي كان غيزو يطريها أشد الإطراء، أي المشاحنات بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. ولكن هذا ليس كل ما في الأمر. فضد مطامع الأورليانيين والشرعيين المتحدين في العودة إلى العرش، يدافع بونابرت عن الأساس الحقوقي لسلطته الفعلية أي عن الجمهورية؛ وضد مطامع بونابرت بالعودة إلى العرش، يدافع حزب النظام عن الأساس الحقوقي لسيادته المشتركة أي عن الجمهورية؛ الشرعيون ضد الأورليانيين، والأورليانيون ضد الشرعيين يدافعون عن status quo أي عن الجمهورية. وجميع كتل حزب النظام هذه التي لكل منها في قرارة نفسها ملكها الخاص وعودتها الخاصة إلى العرش، تعارض كل منها مطامع منافسيها الاغتصابية والتمردية بسيادة البرجوازية العامة المشتركة، بالشكل الذي تشل فيه جميع ادعاءاتهم المختلفة بعضها بعضًا وتحفظ بعضها بعضًا، أي بالجمهورية.

وكما يعترف كانط بالجمهورية بوصفها شكل الدولة العقلاني الوحيد، بوصفه مبدأ مسلمًا به للعقل العملي لا يتحقق أبدًا ولكن تحقيقه ينبغي أن يكون دائمًا هدفنا وموضع مطامعنا، كذلك الملكية هي بالنسبة لهؤلاء الملكيين مبدأ مسلمًا به.

ينجم بالتالي أن الجمهورية الدستورية التي خرجت من أيدي الجمهوريين البرجوازيين بشكل صيغة أيديولوجية فارغة، قد أصبحت في أيدي الملكيين المتحدين شكلاً حيًا للدولة مليئًا بالمضمون. بل أنه لم يخطر في بال تيير أي حقيقة انطوت عليها كلماته: “نحن الملكيين حصن الجمهورية الدستورية الحقيقي”.

وفد كان لسقوط وزارة الائتلاف ولظهور وزارة الباعة على الحلبة معنى آخر أيضًا. ففي الوزارة الجديدة، عُين فولد وزيرًا للمالية. أن تنصيب فولد وزيرًا للمالية كان يعني وضع الثروة الوطنية الفرنسية رسميًا في يدي البورصة، وإدارة أملاك الدولة بواسطة البورصة وفي مصلحة البورصة. ومع تعيين فولد، أعلنت الأريستقراطية المالية في „Moniteur“ عن عودتها. وهذه العودة استكملت بنفسها بالضرورة جميع العودات الأخرى وكانت معها حلقة في سلسلة الجمهورية الدستورية.

إن لويس فيليب لم يتجاسر مرة واحدة على تنصيب ذئب حقيقي من ذئاب البورصة (loup cervus) وزيرًا للمالية. وكما كانت ملكيته اسمًا مثاليًا لأجل سيادة قمة البرجوازية، كذلك كان ينبغي أن تحمل المصالح المميزة في وزارته أسماء مثالية تدل على انعدام المصلحة الشخصية. أما في الجمهورية البرجوازية، فقد برز في كل مكان في مقدمة المسرح ما كانت الملكيتان المختلفتان، الشرعية والأورليانية، تخفيانه وراء الكواليس. وقد أنزلت الجمهورية البرجوازية إلى الأرض ما كانت هاتان ترفعانه إلى السماء. واستعاضت عن أسماء القديسين بالأسماء البرجوازية الخالصة للمصالح الطبقية السائدة.

إن كل عرضنا قد بيّن بأي نحو لم تقض الجمهورية منذ اليوم الأول بالذات لوجودها على سيادة الأريستقراطية المالية، وليس هذا وحسب، بل العكس وطدتها. ولكنها قامت بتنازلات في صالحها خلافًا لإرادتها، خاضعة للقضاء والقدر. أما مع فولد، فقد عادت المبادرة الحكومية إلى يد الأريستقراطية المالية.

وقد يسأل سائل: كيف استطاع الائتلاف البرجوازي أن يحتمل ويصبر على سيادة الأريستقراطية المالية، التي كانت ترتكز في عهد لويس فيليب على إقصاء سائر فئات البرجوازية عن السلطة أو على إخضاعها؟

الجواب عن هذا بسيط.

قبل كل شيء، تشكل الأريستقراطية المالية نفسها جماعة قائدة هامة في قلب الائتلاف الملكي الذي تسمى سلطته الحكومية العامة بالجمهورية. أو لم يكن خطباء وزعماء الأورليانيين، يا ترى، حلفاء وشركاء قدماء للأريستقراطية المالية؟ أليست هي ذاتها، يا ترى، سلامي الأورليانيين الذهبية؟ أما الشرعيون فقد اشتركوا عمليًا، في عهد لويس فيليب، في جميع عربدات المضاربات في البورصة والمناجم والسكك الحديدية. إن التحالف بين الملكية العقارية الكبيرة والأريستقراطية المالية هو، على العموم، ظاهرة طبيعية. والدليل – إنجلترا، الدليل – النمسا أيضًا.

في بلد كفرنسا، يقف فيه الإنتاج الوطني على درجة منخفضة لا تتناسب مع مقدار دبي الدولة ويشكل فيه ريع الدولة أهم مادة للمضاربة، وتشكل فيه البورصة السوق الرئيسية لأجل توظيف الرأسمال الراغب في النمو بصورة غير منتجة، – في بلد كهذا، لا بد بالضرورة أن يكون لعدد لا يحصى من الأفراد من جميع الطبقات البرجوازية ونصف البرجوازية مصلحة في دين الدولة، في مضاربات البورصة، في المالية. وجميع هؤلاء المشتركين من الدرجة الثانية في مضاربات البورصة، ألا يجدون، يا ترى، سندهم وزعيمهم الطبيعي في تلك الكتلة التي تمثل هذه المصالح ذاتها، ولكن بمقاييس هائلة، بكل كمالها وتمامها؟

ما هو سبب انتقال ملك الدولة إلى يد الأريستقراطية المالية؟ دين الدولة المتعاظم على الدوام. وأين يكمن سبب دين الدولة هذا؟ في تفوق نفقاتها على غيراداتها تفوقًا دائمًا هو بدوره عاقبة وسبب نظام قروض الدولة.

ولتحاشي هذا الدين، ينبغي على الدولة أما أن تحد من نفقاتها، أي أن تبسط وتخفض الجهاز الحكومي، وتحكم أقل ما يمكن، وتبقى في سلك الموظفين أقل عدد ممكن، وتتدخل في شؤون المجتمع المدني أقل ما يمكن. ولكنه لم يكن بمستطاع حزب النظام أن يسلك هذا السبيل؛ كان يتعين عليه أن يقوي أكثر فأكثر إجراءاته القمعية، وتدخله الرسمي بشخص الدولة، وحضوره في كل مكان في شخص أجهزة الدولة، بقدر ما كانت تشتد المخاطر التي تتهدد من جميع الجوانب سيادته وظروف وجود طبقته. ولا يجوز تقليل عدد رجال الدرك في الوقت الذي تتكاثر فيه الجرائم ضد الفرد والملكية.

وأما أنه ينبغي على الدولة أن تحاول الاستغناء عن الديوان وأن تقر لفترة من الزمن ولو توازنا عابرًا في الميزانية، بإلقاء عبء الضرائب الاستثنائية على كواهل أكثر طبقات السكان يسرا. ولكن هل يتعين على حزب النظام، لأجل إنقاذ الثروة الوطنية من استثمار البورصة، أن يضحي بثروته الخاصة على مذبح الوطن؟ Pas si bete (ليس غبيًا إلى هذا الحد!).

خلاصة القول، لم يكن من الممكن قيام انقلاب في شؤون دولة فرنسا بدون انقلاب جذري في الدولة الفرنسية. ولكن بشؤون الدولة هذه يرتبط بالضرورة دين الدولة، وبدين الدولة – المضاربة على ديون الدولة، وسيادة دائني الدولة، والمصرفيين، وتجار النقود، وذئاب البورصة. إلا أن كتلة واحدة فقط من حزب النظام كانت لها مصلحة مباشرة في سقوط الأريستقراطية المالية، هي كتلة الصناعيين. ونحن لا نقصد لا الصناعيين المتوسطين ولا الصناعيين الصغار، بل كبار الصناعيين الذين كانوا يشكلون في عهد لويس فيليب قاعدة عريضة للمعارضة الأسرية. فإن مصالحهم كانت تقتضي، بلا ريب، تخفيض نفقات الإنتاج وبالتالي تخفيض الضرائب التي تدخل في كلفة الإنتاج، وتخفيض ديون الدولة التي تدخل فوائدها في هذه الضرائب، – وبتعبير آخر، – كانت مصالحهم تقتضي سقوط الأريستقراطية المالية.

في إنجلترا، – وكبار الصناعيين الفرنسيين برجوازيون صغار بالقياس مع منافسيهم الإنجليز، – نرى بالفعل صناعيين، من طراز كوبدن أو برايت وإضرابهما، على رأس حملة صليبية ضد المصرف وضد أريستقراطية البورصة. ولماذا لا نرى مثيلاً لهذا في فرنسا؟ في إنجلترا تهيمن الصناعة، في فرنسا، الزراعة. في إنجلترا تحتاج الصناعة إلى حرية التجارة، في فرنسا إلى رسوم الحماية الجمركية، إلى الاحتكار الوطني مع الاحتكارات الأخرى. إن الصناعة الفرنسية لا تسود على الإنتاج الفرنسي، ولهذا لا يسود الصناعيون الفرنسيون على البرجوازية الفرنسية. ولكي يحموا مصالحهم من سائر كتل البرجوازية، ليس في مقدورهم أن يسيروا على رأس الحركة كما يفعل الإنجليز، وأن يقدموا بالتالي مصالحهم الطبقية إلى المرتبة الأولى؛ إنما يترتب عليهم أن يسيروا في ذيل الثورة ويخدموا مصالح مناقضة لمصالح طبقتهم العامة. وفي شباط، لم يفهموا وضعهم، ولكن شباط لقنهم درسًا بليغًا. ومن ذا الذي يتهدده الخطر من جانب العمال، أكثر من يتهدد، إن لم يكن رب العمل، الرأسمالي الصناعي؟ ولهذا انضم الصناعي في فرنسا بالضرورة إلى أعنف متعصبي حزب النظام. صحيح أن كبار الماليين يبترون ربحه، ولكن ما عسى أن يكون هذا بالمقارنة مع القضاء عليه كليًا من قبل البروليتاريا؟

في فرنسا، يقوم البرجوازي الصغير بما هو عادة من شأن البرجوازي الصناعي؛ والعمال يقومون بما هو عادة من مهام البرجوازي الصغير؛ فمن ذا الذي يحل مهمة العامل؟ لا أحد. إنها لا تحل في فرنسا، بل تعلن هنا فقط. وليس من الممكن في أي مكان حلها داخل الحدود القومية؛ إن حرب الطبقات في قلب المجتمع الفرنسي ستتحول إلى حرب عالمية بين الأمم. ولن يبدأ الحل إلا متى وضعت الحرب العالمية البروليتاريا على رأس الشعب السائد على السوق العالمية، على رأس إنجلترا. ولكن الثورة التي لن تجد هنا خاتمتها بل بدايتها المنظمة فقط، لن تكون ثورة قصيرة الأمد. إن الجيل الحالي يشبه أولئك اليهود الذين ساقهم موسى عبر الصحراء. ويتعين عليه، لا أن يستولى على العالم الجديد وحسب، بل أن يخرج كذلك من الساح لكي يخلي المكان لأولئك الذين نضجوا من أجل العالم الجديد.

لنعد إلى فولد.

في 14 تشرين الثاني 1849، صعد فولد إلى منبر الجمعية الوطنية وعرض نظامه المالي: مديح لنظام الضرائب القديم! الاحتفاظ بضريبة الخمور! رفض ضريبة الدخل التي اقترحها باسي!

إن باسي هو أيضًا لم يكن ثوريًا، وكان وزيرًا قديمًا للويس فيليب. وكان من عداد البوريتانيين المتزمتين من طراز دوفور ومن عداد الأصدقاء الحميمين لتست الذي كان كبش فداء ملكية تموز! (في 8 تموز (يوليو) 1847، بدأت في مجلس الشيوخ في باريس محاكمة بارمنتيه والجنرال كوبيير – بتهمة رشوة الموظفين بغية الحصول على امتياز الملح – ومحاكمة وزير الأشغال العامة في ذلك الوقت تست، بتهمة قبضة رشوة منهما. وأثناء المحاكمة، حاول تست أن ينتحر. وقد حكم على الجميع بغرامات نقدية كبيرة؛ وفضلاً عن ذلك، حكم على تست بالسجن ثلاث سنوات (ملاحظة أنجلس لطبعة 1895)). وقد أطرى باسي هو أيضًا النظام الضرائبي القديم، واقترح هو ايضًا الاحتفاظ بضريبة الخمور، ولكنه رفع الستار في الوقت نفسه عن عجز الدولة المالي. وأعلن أنه لا يمكن تجنب إفلاس الدولة إلا بواسطة ضريبة جديدة، هي ضريبة الدخل. إن فولد، الذي عرض فيما مضى على ليدرو – رولان إعلان إفلاس الدولة، اقترح على الجمعية التشريعية إعلان عجز الدولة المالي. ووعد بمدخرات تكشف سرها فيما بعد: مثلاً، انخفضت النفقات 60 مليونًا، وازداد الدين الجاري 200 مليون، – شعوذات تثير الشكوك في تصفيف الأرقام، في جمع الحسابات، الأمر الذي أدى في آخر المطاف إلى قروض جديدة.

في عهد فولد لم تتصرف الأريستقراطية المالية، بالطبع، إلى جانب الكتل المتنافسة الأخرى من البرجوازية، بنفس الوقاحة والاستهتار كما في عهد لويس فيليب. ولكن النظام بقي هو هو: تعاظم ديون الدولة على الدوام كما من قبل، العجز المالي المستور كما من قبل. ولكن، مع مرور الزمن، أخذ الاحتيال البورصي القديم يعمل بمزيد من السفور. والأدلة: القانون المتعلق بسكة جديد أفينيون، والتقلبات الغامضة في أسعار سندات الدولة التي أصبحت في وقت من الأوقات موضوع الساعة في باريس كلها، وأخيرًا، مضاربة فولد وبونابرت الفاشلة على انتخابات العاشر من آذار.

ومع عودة الأريستقراطية المالية رسميًا، كان لا بد للشعب الفرنسي أن يواجه من جديد، بعد فترة وجيزة، الرابع والعشرين من شباط.

فإن Constituante، في سورة الكرة لوريثتها، كانت قد ألغت ضريبة الخمور في 1850. أن إلغاء الضرائب القديمة لم يؤمن الأموال لتسديد الديون الجديدة. وإذا كريتون، وهو من بلهاء حزب النظام، يقترح، قبل تعليق جلسات الجمعية التشريعية، الإبقاء على ضريبة الخمور. فقبل فولد هذا الاقتراح باسم الوزارة البونابرتية؛ وفي 20 كانون الأول 1849، في يوم الذكرى السنوية لإعلان بونابرت رئيسًا، قررت الجمعية الوطنية بعث ضريبة الخمور.

أما محامي هذا البعث، فلم يكن ماليًا، بل زعيم اليسوعيين مونتالامبير. وكانت حججه مذهلة ببساطتها. الضريبة هي صدر الأم الذي يطعم الحكومة؛ والحكومة هي أداة القمع، وأجهزة السلطة، والجيش، والبوليس، والموظفون والقضاة والوزراء، والكهنة. إن التطاول على الضريبة هو تطاول الفوضويين على حراس النظام الذين يحمون إنتاج المجتمع البرجوازي، المادي والروحي، من تطاولات البرابرة البروليتاريين. الضريبة إنما هي الآلة الخامس إلى جانب الملكية والعائلة والنظام والدين. أما ضريبة الخمور، فهي، بلا ريب، ضريبة، ولكنها ضريبة غير عادية، بل ضريبة قديمة مفعمة بروح الملكية، ضريبة محترمة. عاشت ضريبة  الخمور! هورا ثلاثًا، ومرة أخرى هورا!

عندما يريد الفلاح الفرنسي أن يتصور الشيطان، فإنه يصوره بصورة جابي الضرائب. ومنذ أن أعلن مونتالامبير الضريبة إلهًا، أصبح الفلاح كافرًا، ملحدًا، ورمي بنفسه في أحضان الشيطان، أي في أحضان الاشتراكية. أن دين النظام قد فقد الفلاح بخفة وطيش، واليسوعيون فقدوه بخفة وطيش، وبونابرت فقده بخفة وطيش. إن العشرين من كانون الأول 1849 قد شوه إلى الأبد سمعة العشرين من كانون الأول 1848. أن “ابن أخي عمه” لم يكن بين أعضاء أسرته أول من قتلته ضريبة الخمور، الضريبة التي تفوح منها، على حد قول مونتالامبير، رائحة خطر الثورة. فقد قال نابليون الكبير، الحقيقي، في جزيرة القديسة هيلانة، أن بعث ضريبة الخمور كانت، أكثر من أي شيء آخر، سبب سقوطه لأنها صرفت عنه فلاحي فرنسا الجنوبية. وحتى في عهد لويس الرابع عشر، كانت هذه الضريبة الهدف الرئيسي لكرة الشعب (راجع مؤلفات بواغلبير وفوبان). وقد ألغتها الثورة الأولى، ولكن نابليون بعثها في 1808 بشكل معدل نوعًا. وعندما حل عهد العودة في فرنسا، لم يشق الطريق لها القوزاق المتبخترون ([11]) وحسب، بل شقتها لها كذلك الوعود بإلغائها. ويقينًا أن الأريستقراطية ليست ملزمة بالوفاء بالوعود المغدقة على المرتبة الدنيا المحرومة من الحقوق. إ، عام 1830 قد وعد بإلغاء ضريبة الخمور. ولكنه لم يكن ليروق لهذا العام أن يحقق ما قيل وأن يقول ما يحقق. ووعد عام 1848 بإلغاء ضريبة الخمور مثلما وعد بكل شيء. وأخيرًا Constituante التي لم تعد بشيء، أمرت في وصيتها، كما سبق وقلنا، بإلغاء ضريبة الخمور ابتداء من أول كانون الثاني 1850. ولكن الجمعية التشريعية أقرتها من جديد قبل أول كانون الثاني بعشرة أيام على وجه الضبط. وهكذا حاول الشعب الفرنسي عبثًا أن يطرد هذه الضريبة: فعندما كان يرميها من الباب، كانت تعود من الشباك.

وليس عبثًا أن كانت ضريبة الخمور موضع كره الشعب. ففيها كانت تتجمع جميع الجوانب المقيتة من النظام الضرائبي الفرنسي. فإن أسلوب جبايتها مكروه، وأسلوب توزيعها أريستقراطي لأن نسبة التكليف المئوية واحدة سواء بالنسبة لأبسط الخمور أم بالنسبة لأغلاها؛ ومن هنا ينجم أنها تتزايد بمتوالية هندسية، بقدر ما تقل ملكية المستهلك؛ إنها ضريبة تصاعدية بالمقلوب. وهي مكافأة على غش وتزوير الخمور، ولذا تستتبع على الدوام تسمم الطبقات الكادحة. وهي تخفض الاستهلاك بإقامتها عند بوابات كل مدينة يربو عدد سكانها على 40000 نسمة مكاتب لتحصيل رسم الإنتاج (octrois الدخولية)، وبتحويلها كل مدينة من هذا النوع إلى بلد غريب تحميه رسوم الحماية من الخمور الفرنسية. إن كبار تجار الخمور، وبالأحرى صغار merchands de vin، وأصحاب الخانات هم جميعهم أعداء الداء لضريبة الخمور. وأخيرًا، تقلص ضريبة الخمور سوق تصريف المنتوج بتخفيضها الاستهلاك. وهي إذ تحرم عمال المدن من إمكانية شراء الخمور، تحرم الفلاحين صناع الخمور من إمكانية بيعه. والحال، يبلغ عدد صناع الخمور في فرنسا حوالي 12 مليونًا. ولذا كان كره الشعب كله لضريبة الخمور مفهومًا، وكان مفهومًا على الأخص حقد الفلاحين العنيف عليها. ناهيك بأنهم لم يروا في بعث ضريبة الخمور حادثًا فريدًا، عرضيًا إلى هذا الحد أو ذاك. فللفلاحين تقاليد تاريخية خاصة تنتقل من الأب إلى الابن، وفي هذه المدرسة التاريخية نشأت قناعة مفادها إن كل حكومة تعد بإلغاء ضريبة الخمور حين تريد خداع الفلاحين وأنها تحتفظ بها أو تبعثها ما أن تخدعهم. ومن ضريبة الدخل يشتم الفلاح رائحة الحكومة، ويستشف اتجاهها. فإن بعث ضريبة الخمور في 20 كانون الأول كان يعني: لويس بونابرت – هو مثل الآخرين. ولكنه لم يكن مثل الآخرين، بل كان من اختراع الفلاحين؛ بيد أن الفلاحين استرجعوا، بالعرائض المغطاة بملايين التواقيع ضد الضريبة، أصواتهم التي أعطوها منذ سنة “لابن أخي عمه”.

إن سكان الريف، أي أكثر من ثلثي جميع سكان فرنسا، يتألفون بصورة رئيسية ممن يسمون بملاكي الأرض الأحرار. فإن جيلهم الأول الذي حررته ثورة 1789 من الفرائض الإقطاعية بدون أي مقابل، قد حصل على الأرض مجانًا. ولكن الأجيال التالية دفعت بصورة ثمن الأرض ما كان أجدادهم أنصاف الأقنان يدفعونه بشكل الريع والعشر والسخرة، وإلخ.. وبقدر ما كان ينمو عدد السكان من جهة، ويتزايد تقسيم الأرض من جهة أخرى، بقدر ما كان يرتفع ثمن قطعة الأرض الصغيرة، لأنه بقدر ما كانت تصغر هذه القطع، بقدر ما كان يشتد الطلب عليها. ولكن، مع ارتفاع سعر القطع الفلاحية من الأرض، تعاظم بالضرورة دين الفلاح أي الرهن العقاري، – سواء اشترى قطعة الأرض مباشرة أم حسبها له شركاؤها في التركة كرأسمال. إن الدين الذي ينيخ بثقله على الأرض يسمى الرهن العقاري أو التأمين العقاري. وكما تراكمت الامتيازات حول قطع الأرض القروسطية، كذلك يتراكم الرهن العقاري حول قطع الأرض المعاصرة. – ومن جهة أخرى، إن قطعة الأرض في ظل نظام الأراضي المقسمة هي بالنسبة للفلاح مجرد أداة للإنتاج. ولكن بقدر ما تتجرأ الأرض، بقدر ما تقل خصوبتها. فإن استعمال الآلات لحراثة التربة، وتقسيم العمل، والإجراءات الكبيرة لتجويد التربة، وكذلك بناء قنوات التصريف والري – كل هذا يصبح أصعب فأصعب منالاً، وتتعاظم النفقات غير المنتجة على حراثة الأرض بنفس النسبة التي يتعاظم بها تجرؤ أداة الإنتاج هذه ذاتها. وكل هذا يجري بصرف النظر عما إذا كان مالك قطعة الأرض يملك رأسمالاً أم لا. ولكن بقدر ما تستمر عملية تجزؤ الأرض، بقدر ما تصبح الأرض مع الأدوات الزراعية الحقيرة للغاية الرأسمال الوحيد اللاستثمارة القزمة، وتقل إمكانية توظيف الرأسمال في الأرض، وتتجلى عند الفلاح الصغير قلة الأرض والنقود والمعارف الضرورية لأجل الاستفادة من نجاحات الهندسية الزراعية، وتتقهقر حراثة الأرض. وأخيرًا يقل الدخل الصافي بنفس النسبة التي يتزايد بها الاستهلاك الإجمالي، بنفس النسبة التي تصرف بها ملكية عائلة الفلاح كل عائلته عن ممارسة الأعمال الأخرى، مع أن هذه الملكية لا تؤمن عيشها.

إذن، بقدر ما ينمو عدد السكان ويتزايد تجزؤ الأرض، بقدر ما يرتفع سعر أداة الإنتاج، الأرض، وتقل خصوبتها، وتتدهور الزراعة وتتعاظم الديون الفلاحية. وما كان نتيجة يغدو بدوره سببًا. وكل جيل يترك المزيد والمزيد من الديون للجيل اللاحق، وكل جيل جديد يبدأ حياته في أوضاع أكثر صعوبة وأقل ملاءمة، والدين يولد الدين؛ وحين لا يبقى في وسع الفلاح أن يرهن قطعة أرضه الصغيرة ضمانة لديون جديدة، أي أن يحملها رهونات عقارية جديدة، فإنه يقع مباشرة في براثن المرابي وتتعاظم بالتالي فوائد الرباء.

ينجم من هنا أن الفلاح الفرنسي يقدم للرأسماليين، بصورة الفوائد على الرهونات العقارية، وبصورة الفوائد على القروض غير المؤمنة برهن عقاري والمأخوذة من المرابي، لا الريع العقاري وحسب، لا الربح الصناعي وحسب، وبكلمة، – لا الدخل الصافي كله وحسب، بل وحتى قسمًا من أجرته؛ وقد هبط بالتالي إلى مستوى المستأجر الأرلندي، وكل هذا بصورة ملاك خاص.

وهذه العملية تسارعت في فرنسا بسبب تفاقم عبء الضرائب والنفقات القضائية الناجمة جزئيًا ومباشرة عن الشكليات التي يطوق بها التشريع الفرنسي الملكية العقارية، وجزئيًا عن النزاعات التي لا عد لها بين مالكي قطع الأراضي الصغيرة المتلاصقة والمتقاطعة في كل مكان، وجزئيًا عن الولع بالدعاوي الملازم للفلاحين الذين تنحصر كل متعة الملكية بنظرهم في الدفاع المتعصب عن الملكية الموهومة، عن حق الملكية.

بموجب  إحصاءات 1840، بلغ منتوج الزراعة الفرنسية الإجمالي 5237178000 فرنك. ومن هذا المبلغ يجب طرح 3552 مليون فرنك لنفقات الحراثة، بما فيها استهلاك الزراع. يبقى المنتوج الصافي وقدره 1685178000 فرنك يجب إسقاط 550 مليون فرنك منها لفوائد الرهونات العقارية، و100 مليون لموظفي المحاكم، و350 مليونًا للضرائب، و107 ملايين لرسوم كتاب العدل ورسوم الدمغة ورسوم الرهونات العقارية، وإلخ.. يبقى ثلث المنتوج الصافي – 538 مليونًا؛ فلا يبلغ الدخل الصافي بكل فرد من السكان حتى 25 فرنكًا ([12]). يقينا أن هذا الإحصاء لا يشمل الرباء غير المؤمن بالرهونات العقارية، ولا نفقات المحامين، وإلخ..

وإنه لمفهوم الآن وضع الفلاحين الفرنسيين حتى أضافت الجمهورية إلى أعبائهم السابقة أعباء جديدة. واضح أن استثمار الفلاحين لا يمتاز عن استثمار البروليتاريا الصناعية إلا من حيث الشكل. فالمستثمر هو نفسه: الرأسمال. إن مختلف الرأسماليين يستثمرون مختلف الفلاحين بواسطة الرهونات العقارية والرباء؛ إن طبقة الرأسماليين تستثمر طبقة الفلاحين بواسطة ضرائب الدولة. إن حق الملكية الفلاحية هو طلسم وضع الفلاحين حتى الآن في قبضة الرأسمال؛ وباسم هذه الملكية، استعداهم الرأسمال على البروليتاريا الصناعية. فقط سقوط الرأسمال يمكنه أن ينهض الفلاح، فقط الحكومة المعادية للرأسمال، الحكومة البروليتارية يمكنها أن تضع حدًا لفقره الاقتصادي ولانحطاطه الاجتماعي. إن الجمهورية الدستورية إنما هي ديكتاتورية مستثمريه المتحدين؛ أما الجمهورية الاجتماعية – الديموقراطية، الحمراء، فهي ديكتاتورية حلفائه. وكفتا الميزان تهبطان أو ترتفعان حسب تلك الأصوات التي يرميها الفلاح في صندوق الاقتراع. فعليه أن يقرر مصيره بنفسه. – هكذا قال الاشتراكيون في الرسائل الهجائية، والتقاويم الأدبية والروزنامات وفي شتى الكراريس. وقد أصبحت هذه الأفكار أسهل منالاً على فهم الفلاح بفضل مؤلفات حزب النظام الجدلية؛ فقد خاطب هو أيضًا الفلاح، وإذا به، بمبالغاته الفظة وتشويهه الوقح للأفكار والتطلعات الاشتراكية يتطابق على وجه الضبط مع الميل الفلاحي الحقيقي ويؤجج تحرق الفلاح إلى الثمرة المحرمة. ولكن أوضح الأدلة إنما قدمتها الخبرة التي اكتسبتها طبقة الفلاحين لدن استعمال حق الاقتراع، إنما قدمتها تلك الخيبات التي انهالت عليها الواحدة تلو الأخرى في سياق تطور الثورة العاصف. إن الثورات هي قاطرات التاريخ.

إن الانعطاف التدريجي في مزاج الفلاحين قد تجلى في مختلف العلائم. فلقد تبدى في انتخابات الجمعية التشريعية، وتبدي في حالة الحصار التي أعلنت في خمس محافظات حول مدينة ليون، وتبدى بعد الثالث عشر من حزيران ببضعة أشهر في انتخاب محافظة الجيروند “الجبلي” عوضًا عن الرئيس السابق “للمجلس الفريد” („Chambre Introuvale“) (بهذا الاسم عرف في التاريخ المجلس المنتخب عام 1815، بعد تنازل نابليون للمرة الثانية عن العرش مباشرة؛ وكان مجلسًا رجعيًا ومتطرفًا في نزعته الملكية إلى حد التعصب الأعمى (ملاحظة أنجلس لطبعة 1895))، وتبدى في 20 كانون الأول 1849 في انتخاب نائب أحمر، عوضًا عن النائب الشرعي الراحل، في محافظة غار، في أرض ميعاد الشرعيين هذه، ومسرح التنكيل الرهيب للغاية بالجمهوريين في عام 1794 وعام 1795، وبؤرة الإرهاب الأبيض في عام 1815، حيث كانوا يقتلون على المكشوف الليبراليين والبروتستانتيين. إن دبيب روح الثورة في هذه الطبقة الأكثر جمودًا قد تجلى بأسطع ما يكون بعد بعث ضريبة الخمور. أن الإجراءات والقوانين الحكومية الصادرة في كانون الثاني وشباط 1850 كانت موجهة بوجه الحصر تقريبًا ضد المحافظات والفلاحين، الأمر الذي يشكل أقوى برهان على استيقاظهم.

إن تعميم دوبول الذي وضع الدركي في وضع مفتش رهيب حيال المحافظ والقائمقام، وحيال رئيس البلدية في المقام الأول، والذي أقام نظام التجسس حتى في أنأى زوايا أبعد القرى؛ والقانون ضد معلمي المدارس الذي يخضعهم، هم مربي طبقة الفلاحين، وزعماءها الروحيين وأيديولوجييها ومستشاريها، لتعسف المحافظ والذي يطاردهم، هم بروليتاريي طبقة العلماء، أشبه بطريدة مطاردة، من قرية إلى  أخرى؛ ومشروع القانون ضد رؤساء البلديات الذي يعلق فوق رؤوس هؤلاء سيف ديموقليس ([13]) للاستقالة، والذي يعارضهم في كل لحظة، هم رؤساء الجماعات الفلاحية، برئيس الجمهورية وبحزب النظام؛ والمرسوم الذي حول الدوائر العسكرية الـ17 في فرنسا إلى أربع باشاويات ([14]) وجعل من الثكنة والمعسكر المؤقت في العراء صالوناً وطنيًا للفرنسيين؛ وقانون المدارس الذي أعلن به حزب النظام أن الجهل وتبليد فرنسا بالعنف شرط ضروري لوجوده في ظل نظام الحق الانتخابي العام، – ماذا كانت تعني جميع هذه القوانين والإجراءات؟ محاولات يائسة لإخضاع المحافظات وفلاحي المحافظات لحزب النظام من جديد.

لقد كانت هذه، بوصفها من وسائل القمع، وسائل حقيرة لم تصب الهدف. فإن الإجراءات الكبيرة، كالاحتفاظ بضريبة الخمور وضريبة الـ45 سنتيما، ورفض عرائض الفلاحين بإعادة المليار لهم ونبذها بتهكم وازدراء، وإلخ، – كل هذه الشظايا التشريعية أصابت طبقة الفلاحين دفعة واحدة، بالجملة، من المركز. أما القوانين والإجراءات المذكورة أعلاه، فقد أضفت على الهجوم والمقاومة طابعًا عامًا، وجعلت منهما موضوع الأحاديث في كل كوخ، ولقحت كل قرية بالثورة، ونقلت الثورة إلى القاعدة وصبغتها بالصبغة الفلاحية.

ومن جهة أخرى، ألا تثبت مشاريع بونابرت هذه وإقرارها من قبل الجمعية الوطنية اتفاق سلطتي الجمهورية الدستورية حيث تتعلق المسألة بقمع الفوضى أي بقمع جميع تلك الطبقات التي تثور على ديكتاتورية البرجوازية؟ أو لم يؤكد سولوك للجمعية الوطنية، يا ترى، بعد رسالته الفظة ([15]) على الفور، إخلاصه لقضية النظام في الرسالة التي أرسلها بعد ذاك في الحال إلى كارليه([16])، هذه الصورة الكاريكاتورية القذرة والخسيسة عن فوشيه، مثلما لويس بونابرت نفسه كان صورة كاريكاتورية تافهة عن نابليون؟

إن قانون المدارس يبين لنا تحالف الكاثوليكيين الشباب مع الفولتيريين القدماء. وهل كان من الممكن أن تكون سيادة البرجوازية المتحدة غير الاستبداد المتحد للعودة المتصادقة مع اليسوعيين ولملكية تموز المضاربة بحرية الرأي؟ والسلاح الذي زودت به الشعب بعض الكتل البرجوازية ضد بعضها الآخر في الصراع فيما بينها من أجل السلطة العليا، – أو لم يكن يتعين عليها، يا ترى، أن تنتزعه من أيدي الشعب ما دام قد واجه ديكتاتوريتها المتحدة؟ وما من شيء، وحتى رفض القانون المتعلق بالاتفاقات الحبية، أغاظ الحانوتي الباريسي مثل هذه المغازلة مع اليسوعية.

وفي غضون ذلك، كانت المصادمات بين مختلف كتل حزب النظام وكذلك بين الجمعية الوطنية وبونابرت لا تزال قائمة. فلم يعجب الجمعية أن بونابرت عمد، بعد القيام بانقلابه مباشرة، بعد تعيينه وزارة بونابرتية محضة، ودعا إليه مشوهي الملكية المعينين حديثًا محافظين، وطرح، كشرط لخدمتهم، التحريض من أجل انتخابه رئيسًا للمرة الثانية، مع أن الدستور يمنع هذا التحريض؛ ولم يعجبها أن كارليه دشن تعيينه بإغلاق أحد نوادي الشرعيين؛ ولم يعجبها أن بونابرت أسس جريدة خاصة به اسمها „Le Napoléon“ كشفت للجمهور مطامع الرئيس السرية، في حين أنه كان يتعين على الوزراء أن يتنكروا لها من على منابر الجمعية التشريعية؛ ولم يعجب الجمعية أن بونابرت ظل معاندًا ولم يصرف وزراءه رغم جميع التصويتات بعدم الثقة؛ ولم تعجبها محاولة اكتساب عطف صف الضباط بزيادة أربعة “سو” على راتبهم اليومي واكتساب عطف البروليتاريا بالانتحال من “أسرار باريس” لأوجين سو، – بتأسيس “مصرف الشرف”؛ وأخيرًا لم تعجبها تلك الوقاحة التي قدم بها، بواسطة وزراء بونابرت، اقتراحًا بنفي متمردي حزيران الباقين على قيد الحياة إلى الجزائر، لأجل جعل الجمعية التشريعية غير شعبية بالجملة، بينما ضمن الرئيس بنفسه لنفسه الشعبية بالمفرق بإصداره بضعة قرارات بالعفو الإفرادي. فألقى تيير كلمات حافلة بالتهديد عن “الانقلابات” („coups d’état“)، وعن “الأعمال الطائشة” („coups de tete“)، وانتقمت الجمعية التشريعية لنفسها من بونابرت بأن رفضت كل مشروع قانون قدمه خدمة لمصلحته بالذات، ودرست بارتياب صاخب كل مشروع قدمه خدمة للمصالح العامة، خوفًا من أن يخدم المشروع المعني مآرب سلطة بونابرت الشخصية بحجة تعزيز السلطة التنفيذية. وخلاصة القول أنها انتقمت بمؤامرة الاحتقار.

وقد امتعض حزب الشرعيين بدوره من كون الأورلياينيين، وهم أكثر حذاقة ولباقة، قد وضعوا أيديهم من جديد على مناصب الدولة جميعها تقريبًا، وامتعض من نمو المركزية، في حين أنهم كانوا يتوقعون نجاح قضيتهم من اللامركزية. وبالفعل ولدت الثورة المضادة المركزية بالعنف، أي أنها أعدت إليه الثورة. فهي إذ فرضت سعرًا إلزاميًا للأوراق المصرفية، مركزت حتى ذهب وفضة فرنسا في مصرف باريس وأنشأت بالتالي خزينة حربية جاهزة للثورة.

وأخيرًا امتعض الأورليانيون من كون مبدئهم القائل بالأسرة الفرعية يواجهه مبدأ الشرعية الظاهر من جديد، ومن كونهم هم أنفسهم يقاطعونهم على الدوام ويستخفون بهم كما يستخف السيد الإقطاعي بزوجته البرجوازية الأصل.

لقد رأينا خطوة فخطوة كيف أخذ الفلاحون وصغار البرجوازيين، والفئات المتوسطة في المجتمع على العموم، يقفون إلى جانب البروليتاريا، وكيف وصلوا إلى حد التناحر السافر مع الجمهورية الرسمية، وعاملوها كما يعاملون الأعداء. الاستياء من ديكتاتورية البرجوازية، الحاجة إلى تحويل المجتمع، الحفاظ على المؤسسات الجمهورية الديموقراطية بوصفها أداة هذا التحويل، التلاحم حول البروليتاريا بوصفها القوة الثورية الحاسمة، – هذه هي السمات العامة التي تصف ما يسمى حزب الديموقراطية الاجتماعية، حزب الجمهورية الحمراء. إن “حزب الفوضى” هذا، كما نعته أخصامه، هو ائتلاف بين مصالح مختلفة، مثله مثل حزب النظام. من أتفه إصلاحات الفوضى الاجتماعية القديمة حتى إسقاط النظام الاجتماعي القديم، من الليبرالية البرجوازية حتى الإرهاب الثوري – ذلك هو البون الشاسع الذي يفصل بين الطرفين اللذين يشكلان نقطة الانطلاق ونقطة النهاية “لحزب الفوضى”.

إلغاء رسوم الحماية – اشتراكية! لأنه يتطاول على احتكار الكتلة الصناعية من حزب النظام. ضبط اقتصاد الدولة – اشتراكية! لأنه يمس احتكار الكتلة المالية من حزب النظام. استيراد القمح واللحم من الخارج بحرية – اشتراكية! لأنه ينتهك احتكار الكتلة الثالثة من حزب النظام، كتلة كبار ملاكي الأراضي. إن مطالب أنصار حرية التجارة، الحزب التقدمي من البرجوازية الإنجليزية، تبدو في فرنسا مطالب اشتراكية بحتة. الفولتيرية – اشتراكية! لأنها تهاجم الكتلة الرابعة من حزب النظام، الكتلة الكاثوليكية. حرية الصحافة، حرية الجمعيات، التعليم العام – اشتراكية، اشتراكية! فكل هذا اعتداء على الاحتكار العام لحزب النظام!

في سياق الثورة، نضج الوضع بدرجة من السرعة بحيث اضطر أصدقاء الإصلاحات من جميع التلاوين، والفئات المتوسطة مع أبسط مطالبها، إلى الالتفاف حول راية أكثر أحزاب الانقلاب تطرفًا، حول الراية الحمراء.

ولكن مهما تنوعت اشتراكية عناصر “حزب الفوضى” المكونة الرئيسية، إذا أخذنا بعين الاعتبار الظروف الاقتصادية والمطالب الثورية العامة الناجمة منها لهذه الطبقة أو تلك أو لهذه الكتلة من الطبقة أو تلك، فإنها بقيت في نقطة واحدة هي هي، فقد أعلنت نفسها وسيلة لتحرير البروليتاريا ونادت بهذا التحرير هدفها. خداع عن وعي وقصد عند البعض، خداع للنفس عند البعض الآخر المقتنع بأن العالم المحول حسب حاجاتهم هو خير العوالم من أجل الجميع، وبأنه يحقق جميع المطالب الثورية ويقضي على جميع النزاعات الثورية.

فوراء الجمل الاشتراكية العامة المتماثلة إلى هذا الحد أو ذاك في دويها التي يطلقها “حزب الفوضى”، تكمن، أولاً، اشتراكية جرائد „National“ و“Press“ و“Siecle“، التي تسعى، بهذا القدر أو ذاك من الانسجام والتتابع، إلى الإطاحة بسيادة الأريستقراطية المالية وإلى تحرير الصناعة والتجارة من القيود القديمة. إنها اشتراكية الصناعة والتجارة والزراعة التي يضحي أسيادها المنضمون إلى حزب النظام بمصالحها، لأن هذه المصالح لم تعد تتطابق مع احتكاراتهم الخاصة. وعن هذه الاشتراكية البرجوازية التي تجتذب، ككل نوع آخر من الاشتراكية، قسمًا معينًا من العمال ومن البرجوازيين الصغار، تختلف الاشتراكية الصرف، الاشتراكية البرجوازية الصغيرة، الاشتراكية! Par excellence (على الأغلب – الناشر). إن الرأسمال ينهب هذه الطبقة، بصورة رئيسية، بوصفه مدينًا، ولهذا تطالب هذه الطبقة بمؤسسات للتسليف؛ والرأسمال يضغط عليها بمزاحمته، ولهذا تطالب بجمعيات تدعمها الدولة؛ والرأسمال يتغلب عليها بالتمركز، ولهذا تطالب بضرائب تصاعدية، وبالحد من حقوق الوراثة، وبتنفيذ أعمال كبيرة من قبل الدولة وإجراءات أخرى تكبح بالعنف نمو الرأسمال. وبما أنها تحلم بتحقيق اشتراكيتها بصورة سلمية – باستثناء ثورة ما ثانية غير مديدة من نوع ثورة شباط، – فهي، بالطبع، تتصور العملية التاريخية المقبلة بصورة تطبيق أنظمة يختلقها أو سبق واختلقها النظريون الاجتماعيون، أما جماعات وأما كلا بمفرده. وعليه يغدو هؤلاء الاشتراكيون اختياريين أو أنصارًا لأنظمة اجتماعية قائمة، أنصارًا للاشتراكية العقائدية التي كانت تعبيرًا نظريًا عن البروليتاريا طالما لم تكن البروليتاريا قد نمت إلى حد حركتها التاريخية الحرة بالذات.

وهذه الطوبوية، هذه الاشتراكية العقائدية التي تخضع الحركة كلها إجمالاً لأحد عناصرها، والتي تستعيش عن الإنتاج الاجتماعي الإجمالي بنشاط دماغ مدع بمفرده، والتي – وهذا هو الرئيسي – تقضي في خيالها، بواسطة أحابيل صغيرة وعاطفيات كبيرة، على نضال الطبقات الثوري بكل ضرورته، هذه الاشتراكية العقائدية، لا تفعل من حيث جوهر الأمر غير أن تضفي سمة مثالية على المجتمع المعاصر، وتعطي لوحة عنه خالية من الظلال وتحاول تحقيق مثلها الأعلى خلافًا لواقع هذا المجتمع بالذات. وفي حين تتنازل البروليتاريا عن هذه الاشتراكية للبرجوازية الصغيرة، وفي حين يبين الصراع بين مختلف الزعماء الاشتراكيين أن كلاً مما يسمى بالأنظمة هو تأكيد دعي لأحد العوامل العابرة في الانقلاب الاجتماعي خلافًا لعامل آخر، – تتحد البروليتاريا أكثر فأكثر حول الاشتراكية الثورية، حول الشيوعية التي عمدتها البرجوازية ذاتها باسم بلانكي. هذه الاشتراكية إنما هي إعلان الثورة المستمرة، الديكتاتورية الطبقية للبروليتاريا، بوصفها درجة ضرورية للانتقال إلى القضاء على جميع علاقات الإنتاج التي تقوم عليها هذه الفوارق، إلى القضاء على جميع العلاقات الاجتماعية المطابقة لعلاقات الإنتاج هذه، إلى إجراء انقلاب في جميع الأفكار النابعة من هذه العلاقات الاجتماعية.

إن نطاق عرضنا لا يسمح لنا بتناول هذه المسألة بمزيد من التفصيل.

لقد رأينا ما يلي: كما وقفت الأريستقراطية المالية بصورة محتمة على رأس حزب النظام، كذلك وقفت البروليتاريا على رأس “حزب الفوضى”. وبينما مختلف الطبقات المتحدة في العصبة الثورية تكتلت حول البروليتاريا، وبينما المحافظات أخذت تصبح أقل فأقل أمانة، والجمعية التشريعية ذاتها أخذت تقابل ادعاءات سولوك الفرنسي بمزيد من التذمر، – اقتربت الانتخابات التكميلية التي أرجئت وأعيقت زمنًا طويلاً، لإملاء أمكنة “الجبليين” المطرودين في 13 حزيران.

أما الحكومة التي يحتقرها أعداؤها، والتي يهينها ويذلها لدى كل خطوة أصدقاؤها المزيفون، فإنها لم تر غير وسيلة واحدة للخروج من هذا الوضع المتقلقل الذي لا يطاق، هي العصيان. فقد كان من شأن العصيان في باريس أن يوفر الذريعة لإعلان حالة الحصار في باريس وفي المحافظات والتحكم على هذا النحو بالانتخابات. ومن جهة أخرى، كان لا بد لأصدقاء النظام أن يقدموا على تنازلات في صالح الحكومة التي أحرزت الغلبة على الفوضى، وألا قاموا هم أنفسهم بدور الفوضويين.

وأنكبت الحكومة على العمل. في مطلع شباط 1850، تستفز الشعب بقطعها أشجار الحرية ([17]). عبثًا! فإذا كانت أشجار الحرية قد أضاعت أمكنتها، فإن الحكومة نفسها قد أضاعت رأسها، وتراجعت في ذعرها أمام استفزازها بالذات. وقد قابلت الجمعية الوطنية بعدم ثقة جليدي محاولة بونابرت الخرقاء هذه للتحرر. كذلك نزع أكاليل Immortels([18]) عن عمود حزيران لم يحرز نجاحًا أكبر. فقد استثار هذا في قسم من الجيش مظاهرات وطنية وقدم للجمعية الوطنية ذريعة للتصويت بصورة سافرة إلى هذا الحد أو ذاك على عدم الثقة بالوزارة. وعبثًا هددت الصحافة الحكومية بإلغاء حق الانتخاب العام وبتدخل القوزاق. وعبثًا وجه دوبول في الجمعية التشريعية تحديًا سافرًا إلى أعضاء اليسار؛ وعبثًا دعاهم إلى الشارع وأعلن أن الحكومة قد استعدت لاستقبالهم استقبالاً لائقًا. فإن دوبول لم يتوصل إلى شيء، اللهم إلى دعوته من قبل رئيس الجمعية إلى التقيد بالنظام، وقد سمح حزب النظام بشماتة صامتة لأحد نواب اليسار بالسخر من مطامع بونابرت الاغتصابية. وعبثًا، أخيرًا، تنبأت الحكومة بقيام الثورة في 24 شباط. فكل ما توصلت إليه الحكومة، هو أن الشعب لم يحتفل بذكرى 24 شباط بأي شكل كان.

إن البروليتاريا لم تقع في الاستفزاز إلى الفتنة؛ فقد كانت تعتزم القيام بالثورة.

إن استفزازات الحكومة، التي لم تفعل غير أن عززت الاستياء العام من النظام القائم، لم تمنع اللجنة الانتخابية، الخاضعة كليًا لتأثير العمال، من تقديم المرشحين الثلاثة التاليين لباريس: ديفلوت، فيدال، كارنو. كان ديفلوت قد نفي في حزيران ثم عفي عنه بنتيجة إحدى النزوات البونابرتية الهادفة إلى كسب الشعبية؛ وكان صديقًا لبلانكي، وكان قد اشترك في قضية 15 أيار. وكان فيدال معروفًا ككاتب شيوعي، كمؤلف لكتاب “حول توزيع الثروة”؛ وكان سكرتير لويس بلان في لجنة اللوكسمبورغ. أما كارنو، ابن عضو الكونفانسيون منظم النصر، وأقل أعضاء حزب „National“ سوء سمعة، ووزير المعارف في الحكومة المؤقتة واللجنة التنفيذية، فقد كان بفضل مشروع قانونه الديموقراطي بصدد المدارس احتجاجًا حيًا على قانون اليسوعيين بصدد المدارس. هؤلاء المرشحون الثلاثة كانوا يمثلون ثلاث طبقات عقدت حلفًا فيما بينها: على رأسه متمرد حزيران وممثل البروليتاريا الثورية؛ وغلى جانبه، اشتراكي عقائدي وممثل البرجوازية الصغيرة الاشتراكية؛ وإلى جانبه، اشتراكي عقائدي وممثل البرجوازية الصغيرة الاشتراكية؛ وأخيرًا، المرشح الثالث، ممثل حزب الجمهوريين البرجوازيين الذين اكتسبت صيغهم الديموقراطية مغزى اشتراكيًا أثناء الاصطدامات بحزب النظام وفقدت دلالتها الخاصة من زمان. كان ذلك ائتلافًا عامًا ضد البرجوازية والحكومة، كما في شباط. ولكن البروليتاريا هي التي كانت تقف هذه المرة على رأس العصبة الثورية.

ورغم جميع الجهود التي بذلها الأعداء، فاز المرشحون الاشتراكيون. بل أن الجيش صوّت مع متمرد حزيران وضد وزيره بالذات، وزير الحربية، لاييت. فتملك الذهول حزب النظام كأنما أصابته الصاعقة. ولم تجلب له الانتخابات في المحافظات العزاء؛ فقد أعطت “الجبليين” الأغلبية.

انتخابات العاشر من آذار 1850! لقد كان هذا حكمًا بفسخ حزيران 1848: فإن من نفوا وقتلوا متمردي حزيران قد عادوا إلى الجمعية الوطنية، ولكن مقوسي الظهر، برفقة المنفيين، بمبادئ المنفيين على شفاههم. وكان هذا حكمًا بفسخ الثالث عشر من حزيران 1849: فإن “الجبل” الذي طردته الجمعية الوطنية قد عاد إلى الجمعية الوطنية، ولكنه عاد لا كآمر الثورة، بل كالنافخ الطليعي في بوقها. وكان هذا حكمًا بفسخ العاشر من كانون الأول: فإن نابليون قد فشل في شخص وزيره لاييت. إن تاريخ فرنسا البرلماني لا يعرف غير حادثة واحدة مماثلة لهذه الحادثة، هي فشل دوسيه، وزير شارل العاشر، في 1830. وأخيرًا، كانت انتخابات العاشر من آذار 1850 حكمًا بفسخ انتخابات الثالث عشر من أيار التي أعطت حزب النظام الأغلبية. إن انتخابات العاشر من أذار كانت احتجاجًا على أغلبية الثالث عشر من أيار. وكان العاشر من أذار ثورة. فوراء أوراق الاقتراع كانت تكمن بلاطات الشارع.

“إن تصويت العاشر من أذار يعلن علينا الحرب” – صاح سيغور داغيسو، الذي هو من أكثر أعضاء حزب النظام تقدمًا.

منذ العاشر من أذار 1850، يدخل الحزب الدستوري في طور جديد، في طور انحلاله. مختلف كتل الأغلبية تتحد من جديد بعضها مع بعض ومع بونابرت؛ وتنقذ النظام من جديد؛ وبونابرت هو من جديد شخصيتها الحيادية. وإذا كانت تتذكر نزعتها الملكية، فذلك لسبب واحد فقط، هو أنها يئست بإمكانيات الجمهورية البرجوازية؛ وإذا كان بونابرت يتذكر بأنه مدع بالعرش، فذلك لسبب واحد فقط، هو أنه ييأس بإمكانية بقائه رئيسًا.

وعلى انتخاب متمرد حزيران ديفلوت، رد بونابرت، بناء على أمر من حزب النظام، بتعيين باروش في منصب وزير الداخلية، – باروش الذي كان متهم بلانكي وباربيس وليدرو – رولان وغينار. وعلى انتخاب كارنو ردت الجمعية التشريعية، بإقرار قانون المدارس، وعلى انتخاب فيدال بمنع الصحافة الاشتراكية. ويحاول حزب النظام بأصوات صحافته البواقة أن يخمد ذعره بالذات. وتصيح إحدى الجرائد الناطقة بلسانه: “السيف مقدس”. وتعلن جريدة أخرى منها: “يجب على حماة النظام أن يبدأوا بالهجوم على حزب الحمر”. ويصيح ديك ثالث من ديوك النظام: “بين الاشتراكية والمجتمع، تدور رحى النضال المستميت، الفاصل، رحى حرب لا انقطاع فيها ولا هوادة فيها؛ وفي هذه الحرب اليائسة، ينبغي أن يهلك أحدهما؛ فإذا لم يقض المجتمع على الاشتراكية، فإن الاشتراكية ستقضي على المجتمع”. أبنوا متاريس النظام، متاريس الدين، متاريس العائلة! يجب القضاء على 127000 من الناخبين الباريسيين! ليلة برتيليمي ([19]) على الاشتراكيين؟ وإذا حزب النظام يؤمن بالفعل للحظة واحدة بأن النصر مضمون له.

وإذا صحفة تنقض بأشد ما يكون من الغيظ والجنون على “حانوتيي باريس”. إن حانوتيي باريس قد انتخبوا متمرد حزيران ممثلاً عنهم! وهذا يعني أن تكرار حزيران 1848 غير ممكن؛ هذا يعني أن تكرار الثالث عشر من حزيران 1849 غير ممكن؛ هذا يعني أن نفوذ الرأسمال المعنوي قد تحطم، وأن البرلمان البرجوازي لا يمثل غير البرجوازية؛ هذا يعني أن الملكية الكبيرة قد هلكت، لأن تابعتها، – الملكية الصغيرة – تفتش عن خلاصها في معسكر المحرومين من الملكية.

وإذا حزب النظام يلجأ، بالطبع، إلى أسلوبه التقليدي الذي لا ندحة له عنه – فإنه يصيح: “المزيد من القمع!”. “تجب مضاعفة أعمال القمع عشرة إضعاف!”. ولكن قوته القمعية قلت عشر مرات بينما ازدادت المقاومة مائة مرة. أفلا تحتاج أداة القمع الرئيسية ذاتها، الجيش، إلى القمع؟ وإذا حزب النظام يقول كلمته الأخيرة: “يجب تحطيم الحلقة الحديدية التي تخنقنا، حلقة الشرعية. الجمهورية الدستورية مستحيلة، يجب علينا أن نناضل بسلاحنا الحقيقي. فمنذ شباط 1848، ناضلنا ضد الثورة بسلاحها هي وفي ميدانها هي، وقبلنا مؤسساتها هي؛ والدستور قلعة تحمي المحاصرين لا المحاصرين! في بطن حصان طروادة، تسللنا إلى إيليون المقدسة ([20])، ولكننا خلافًا لمثال أجدادنا، الإغريق (هنا تلاعب في الكلام: فإن كلمة grecs تعني الإغريق وتعني كذلك المحتالين في القمار. (ملاحظة إنجلس لطبعة 1895))، لم نستول على مدينة العدو، بل وقعنا نحن أنفسنا في الأسر”.

ففي أساس الدستور، يقوم الحق الانتخابي العام. والقضاء على الحق الانتخابي العام إنما هو آخر كلمة حزب النظام، آخر كلمة الديكتاتورية البرجوازية.

إن الحق الانتخابي العام قد اعترف بحق البرجوازية في هذه الديكتاتورية في 4 أيار (مايو) 1848، وفي 20 كانون الأول (ديسمبر) 1848 وفي 13 أيار (مايو) 1849، وفي 8 تموز (يوليو) 1849. إن الحق الانتخابي العام قد حكم بنفسه على نفسه في 10 آذار (مارس) 1850. سيادة البرجوازية كاستنتاج ونتيجة للحق الانتخابي العام، كعمل حاسم يفصح عن إرادة الشعب المطلقة، – ذلك هو مغزى الدستور البرجوازي. ولكن أي مغزى يبقى للدستور حين لا يعود مضمون هذا الحق الانتخابي، مضمون إرادة الشعب المطلقة هذه، يقتصر على سيادة البرجوازية؟ أو ليس من واجب البرجوازية المباشر، يا ترى، إن تنظيم الحق الانتخابي بحيث يبتغي الأمر المعقول، أي سيادتها؟ والحق الانتخابي العام، الذي يقضي كل مرة على السلطة السياسية القائمة ويبعثها كل مرة من جديد من قلبه، ألا يقضي بالتالي، يا ترى، على كل استقرار، ألا يضع في كل دقيقة على كف عفريت كل السلطة القائمة، ألا يقوض السلطة، ألا يهدد بتحويل الفوضى ذاتها إلى سلطة؟ ومن ذا الذي سيواصل الشك في هذا بعد العاشر من آذار 1850؟

إن البرجوازية، إذ ترفض الحق الانتخابي العام الذي تجلببت بجلبابه حتى ذاك والذي استمدت منه قدرتها الكلية، إنما تعترف على المكشوف قائلة: “إن ديكتاتوريتنا قد قامت حتى الآن بناء على إرادة الشعب، ولكنها ستتوطد من الآن وصاعدًا ضد إرادة الشعب”. وبكل منطق تفتش لنفسها الآن عن الدعائم، لا في فرنسا، بل في خارجها، ما وراء الحدود، في الغزو الأجنبي.

إن كوبلنتس الثانية هذه ([21]) التي اختارت فرنسا ذاتها مقرًا لها، إنما تثير ضدها، مع النداء إلى الغزو الأجنبي، جميع المشاعر القومية. وبهجومها على الحق الانتخابي العام، تعطي حجة عامة لأجل ثورة جديدة، في حين أن الثورة تحتاج إلى حجة كهذه على وجه الضبط. فإن كل حجة جزئية من شأنها أن تفرق كتل العصبة الثورية وتدفع خلافاتها إلى البروز. ولكن الحجة العامة تضم الطبقات نصف الثورية، وتتيح لها خداع نفسها فيما يتعلق بطابع الثورة العتيدة المحدد، فيما يتعلق بعواقب تصرفاتها بالذات. إن كل ثورة تحتاج إلى مسألة وليمية. والحق الانتخابي العام إنما هو المسألة الوليمية في الثورة الجديدة.

ولكن الكتل البرجوازية المتحدة أصدرت بنفسها حكمًا على نفسها بتخليها عن الشكل الوحيد الممكن لسلطتها الموحدة، بتخليها عن الشكل الأقوى والأكمل لسيادتها الطبقية، عن الجمهورية الدستورية، وبرجوعها إلى الوراء، إلى شكل أدنى، ناقص، أضعف، إلى الملكية. أنها تشبه ذلك العجوز الذي أراد أن يستعيد نضارة الشباب فأخذ بدلته الطفولية وحاول أن يرتديها على جسده الهرم. ولم تكن لدى جمهوريتها غير مأثرة واحدة، هي أنها كانت دفيئة لأجل الثورة.

إن العاشر من آذار 1850 يحمل الكتابة التالية: Apres moi le déluge!. فليكن من بعدي الطوفان!

 

([1]) يانوس – Janus– إله روماني قديم كانوا يصورونه بوجهين موجهين في اتجاهين متعاكسين؛ بالمعنى المجازي – شخص ذو وجهين، منافق – ص 109.

([2]) اجتمع قادة حزب “الجبل” في مساء الثاني عشر من حزيران (يونيو) 1849 في قاعة هيئة تحرير جريدة أتباع فوريه اليومية „La Démocratie Pacifique“ (“الديموقراطية المسالمة”) التي كانت تصدر في باريس من 1843 إلى 1854 وكان كونسيديران رئيس تحريرها. رفض المشتركون في الاجتماع اللجوء إلى قوة السلاح وقرروا الاكتفاء بمظاهرة سلمية – ص 114.

([3]) انته – في المثولوجيا الإغريقية، بطل لا يقهر طالما يلامس أمه – الأرض التي تمنحه قوى جديدة – ص 114.

([4]) شمشون – بطل من التوراة تنسب إليه قوة جسدية خارقة الطبيعة – ص 114.

([5]) في البيان المنشور في جريدة „Le Peuple“ (“الشعب”) في 13 حزيران (يونيو) 1849، دعت “الرابطة الديموقراطية لأصدقاء الدستور” مواطني باريس إلى الاشتراك في المظاهرة السلمية للاحتجاج على “الادعاءات الوقحة” التي تتقدم بها السلطة التنفيذية – ص 114.

([6]) يقصد ماركس لجنة البابا بيوس التاسع المؤلفة من ثلاثة كرادلة والتي عمدت، بتأييد الجيش الفرنسي، وبعد سحق جمهورية روما، إلى بعث النظام الرجعي في روما. كان الكرادلة يرتدون جبة حمراء – ص 120.

([7]) المقصود هنا الكونت شامبور (الذي سمي نفسه هنري الخامس)، المدعي بعرش فرنسا من الفرع الأكبر والأقدم من سلالة بوربون. وكانت مدينة أيمس، إلى جانب مدينة فيسبادن في ألمانيا الغربية، مقرًا دائمًا لشامبور – ص 122.

([8]) الباندور – سلاح خاص من وحدات المشاة غير النظاميين في الجيش النمساوي – ص 123.

([9]) فوطيفار. حسب التوراة، موظف مصري اشترى يوسف ابن يعقوب – ص 123.

([10]) بعد ثورة شباط (فبراير) 1848 فر لويس فيليب من فرنسا وعاش في كليرمونت، بضواحي لندن – ص 123.

([11]) من قصيدة للشاعر الألماني غرفيغ – ص 124.

([12]) القوزاق – سلاح خاص من الخيالة في زمن روسيا القيصرية. اشترك الفيلق القوزاقي بقيادة الجنرال بلانوف في تحطيم جيوش نابليون الأول – ص 134.

([13]) الحاصل لا يتفق مع الأرقام: ينبغي أن يكون الرقم 578178000 لا 538000000؛ يبدو أنه وقع خطأ طباعي في الأرقام. ولكن هذا لا يؤثر في الاستنتاج العام: ففي كل من الحالين، يبلغ الدخل الصافي بكل فرد من السكان أقل من 25 فرنكًا – ص 138.

([14]) داموكليس – حسب الأسطورة الإغريقية القديمة، رجل من بطانة ديونيسيوس، ملك سرقوسة. رغبة في إقناع داموكليس، الذي كان يحسد ديونيسيوس، بوهن وبطلان السعادة البشرية، أجلس ديونيسيوس داموكليس على عرشه معلقًا بشعرة حصان سيفًا قاطعًا فوق رأسه. وهكذا أصبح تعبير “سيف داموكليس” مرادفًا للخطر الدائم القريب والرهيب – ص 140.

([15]) في عام 1850، قسمت الحكومة أراضي فرنسا إلى خمس دوائر عسكرية كبيرة، مما أدى إلى تطويق باريس والمحافظات المتاخمة لها بالدوائر الأربع الأخرى التي عين في رئاستها أشد الرجعيين غلوًا وتطرفًا. وقد نوهت الصحافة الجمهورية بالشبه بين سلطة هؤلاء الجنرالات الرجعيين غير المحدودة وبين سلطة الباشوات الأتراك الاستبدادية، فسمت هذه الدوائر بالباشاليكات – ص 140.

([16]) أطلقت الصحافة المعادية لبونابرت على لويس بونابرت اسم سوليك، ديكتاتور هايتي، الذي اشتهر بقساوته. وقد أفاد لويس بونابرت في رسالته إلى الجمعية التشريعية بتاريخ 31 تشرين الأول (أكتوبر) 1849 أنه أقال حكومة بارو وشكل وزارة جديدة – ص 141.

([17]) في رسالة بتاريخ 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1849، دعا كارليه، مدير بوليس باريس، المعين حديثًا، إلى إنشاء “عصبة اجتماعية ضد الاشتراكية” – ص 141.

([18]) أشجار الحرية – غرست في شوارع باريس بعد انتصار ثورة شباط (فبراير) 1848. وكان غرس أشجار الحرية – عادة أشجار السنديان أو الحور – قد أصبح تقليدًا في فرنسا في عهد الثورة البرجوازية بأواخر القرن الثامن عشر – ص 147.

([19]) عمود تموز (يوليو) الذي نصب في باريس عام 1840، في ساحة الباستيل، تخليدًا لذكرى شهداء ثورة تموز (يوليو) 1830، جري تزيينه بأكاليل من زهور “الأيمورتيل” Immortels “الخالدة” منذ ثورة شباط (فبراير) 1848 – 147.

([20]) ليلة برتلماوس. مجزرة عامة للبروتستانتيين قام بها الكاثوليك في ليلة 24 آب (أغسطس) 1572 (ليلة عيد القديس برتلماوس) – ص 150.

([21]) غليون (طروادة) – مدينة في آسيا الصغرى. تقول الأسطورة أن اليونانيين استولوا على طروادة بواسطة حصان خشبي اختبأ فيه المحاربون. ساق سكان طروادة الحصان إلى المدينة؛ وفي الليل خرج المحاربون من بطن الحصان وفتحوا أبواب المدينة أمام القوات اليونانية. وهكذا أصبح تعبير “حصان طروادة” تعبيرًا سلبيًا للإشارة إلى أعمال المكر والخداع تحت قناع الطيبة وحسن النية – ص 151.

« السابق التالي »