بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

النضال الطبقي في فرنسا 1848 – 1850

« السابق التالي »

إلغاء حق الاقتراع العام في 1850

(تتمة الفصول الثلاثة السابقة، مأخوذة من “العرض” المنشور في العدد الأخير، المزدوج، 5 – 6، من مجلة “الجريدة الرينانية الجديدة. استعراض سياسي واقتصادي”. وهي تصف في البدء الأزمة التجارية الكبيرة التي نشبت في إنجلترا عام 1847؛ وبتأثير هذه الأزمة في القارة الأوروبية تفسر تأزم المضاعفات السياسية الجمركية وتحولها إلى ثورات في شباط وآذار 1848، ثم تبين كيف أدى ازدهار التجارة والصناعة الذي بدأ في 1848 واشتد في 1849 إلى شل النهوض الثوري، جاعلا بالتالي انتصار الرجعية أمرًا ممكنًا، ثم تتناول فرنسا على الخصوص بما يلي: (هذا المقطع كتبه إنجلس على سبيل المقدمة لأجل طبعة 1895 – الناشر).

وقد أخذت الأعراض ذاتها تظهر في فرنسا منذ 1849، ولا سيما منذ بداية 1850. فإن صناعة باريس تعمل بكل طاقتها، ومصانع الأقمشة القطنية في روان ومولهاوزن تعمل كذلك بصورة جيدة جدًا، رغم أن الأسعار العالية على المادة الأولية كانت عقبة سواء في إنجلترا أم هناك؛ هذا مع العلم أن الإصلاح الجمركي الواسع في إسبانيا وتخفيض الرسوم على مختلف سلع البذخ في المكسيك أسهما بنصيب خاص في تطورها الازدهار في فرنسا. وقد ازداد تصدير البضائع الفرنسية إلى هذين السوقين زيادة كبيرة. وأدى نمو الرساميل في فرنسا إلى جملة كاملة من مشاريع المضاربة كان الدافع إليها استثمار مناجم الذهب في كاليفورنيا على نطاق واسع. ونشأت كثرة من الشركات التي تتوجه مباشرة، بأسهمها الصغيرة وأدلتها المزينة بالشعارات الاشتراكية، إلى أكياس نقود البرجوازيين الصغار والعمال، ولكنها تتلخص على العموم في ذلك الاحتيال الصرف الملازم للفرنسيين والصينيين فقط. بل أن إحدى هذه الشركات تحظى بحماية الحكومة الصريحة. وفي الأشهر التسعة الأولى من عام 1848 بلغت رسوم الاستيراد في فرنسا 63 مليون فرنك، وفي الأشهر التسعة الأولى من عام 1849 – 95 مليون فرنك، وفي الأشهر التسعة الأولى من عام 1850 – 93 مليون فرنك. وفضلاً عن ذلك، ازدادت من جديد في شهر أيلول 1850 أكثر من مليون بالقياس إلى الشهر نفسه من عام 1849، كذلك ازداد الاستيراد في عام 1849 وازداد أيضًا وأيضًا في عام 1850.

إن استئناف مصرف فرنسا الدفع نقدًا (أي مقايضة النقود الورقية بالنقود المعدنية – الناشر) بموجب قانون 6 آب 1850 هو أقوى دليل مقنع على الازدهار الناشئ من جديد. ففي 15 آذار (مارس) 1848 نال المصرف الحق في التوقف عن الدفع نقدًا. فإن كمية الأوراق النقدية الموجودة قيد التداول، بما فيها الأوراق النقدية لدى المصارف الإقليمية، كانت تبلغ آنذاك 373 مليون فرنك (14920000 جنيه إسترليني). وفي 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1849 كان قيد التداول 482 مليون فرنك أو 19680000 جنيه إسترليني، وفي 2 أيلوي (سبتمبر) 1850 – 496 مليون فرنك أو 19840000 جنيه إسترليني، أي بزيادة قدرها حوالي 5 ملايين جنيه إسترليني؛ هذا مع العلم أنه لم يلاحظ أي انخفاض في قيمة الأوراق النقدية، بل بالعكس؛ فإن ازدياد تداول الأوراق النقدية قد رافقه تراكم الذهب والفضة أكثر فأكثر في أقبية المصرف، بحيث أن الاحتياطي المعدني بلغ في صيف 1850 حوالي 14 مليون جنيه إسترليني، وهو مبلغ لا سابق له في فرنسا. إن كون المصرف قد استطاع على هذا النحو أن يزيد تداول أوراقه وكذلك رأسماله الدائن مبلغ 123 مليون فرنك أو 5 ملايين جنيه إسترليني يثبت بشكل باهر مدى صحة قولنا في أحد إعداد المجلة السابقة (راجعوا هذا الكتاب، ص ص 127 – 133 – الناشر) بأن الأريستقراطية المالية لم تحطمها الثورة، وليس هذا وحسب، بل بالعكس، ازدادت قوة. وهذه النتيجة تزداد اتضاحًا من الاستعراض التالي للتشريع الفرنسي بصدد المصارف في السنوات الأخيرة. ففي 10 حزيران (يونيو) 1847 نال المصرف حق إصدار أوراق من فئة الـ200 فرنك. وقبل ذاك، كانت أصغر قيمة للأوراق النقدية 500 فرنك. وبموجب مرسوم صادر في 15 آذار (مارس) 1848، أعلنت أوراق مصرف فرنسا وسيلة قانونية للدفع، وحرر المصرف من واجب إبدالها بالنقد المعدني. وحدد حقه في إصدار الأوراق النقدية بمبلغ 350 مليون فرنك، وفي الوقت نفسه نال حق إصدار أوراق من فئة الـ100 فرنك. وأمر المرسوم الصادر في 27 نيسان بدمج المصارف الإقليمية بمصرف فرنسا. وبموجب مرسوم آخر، صادر في 2 أيار (مايو) 1948، رفع حقه في إصدار الأوراق حتى 442 مليون فرنك. وبموجب المرسوم الصادر في 22 كانون الأول 1849 رفع الحد الأقصى للإصدار إلى 525 مليون فرنك. وأخيرًا أقر قانون 6 آب 1850 من جديد حق مقايضة الأوراق النقدية بالنقود المعدنية. إن هذه الوقائع – ازدياد تداول الأوراق النقدية بلا انقطاع، تمركز كل التسليف الفرنسي في يد المصرف وتراكم كل الذهب الفرنسي والفضة الفرنسية في أقبيته – دفعت السيد برودون إلى القول بأنه يجب الآن على المصرف أن يخلع جلده القديم كجلد الحية، ويتحول إلى مصرف شعبي برودوني. أما في الواقع، فإن برودون لم يكن بحاجة حتى إلى أن يكون مطلعًا على تاريخ القيود المصرفية في إنجلترا من 1797 على 1819 ([1])؛ إنما كان ينبغي له فقط أن يلقي نظرة إلى الجانب الآخر من القناة لكي يرى أن هذا الواقع الذي لم يسمع هو بمثله من قبل في تاريخ المجتمع البرجوازي لا يعدو أن يكون غير الدرجة العليا من ظاهرة برجوازية عادية ظهرت الآن للمرة الأولى في فرنسا وحدها. ونحن نرى أن النظريين الثوريين المزعومين الذين صاروا بعد الحكومة المؤقتة ذوي الكلمة المسموعة في باريس كانوا جهلاء في مسألة طابع الإجراءات المتخذة ونتائجها مثلهم مثل السادة من الحكومة المؤقتة.

فرغم ازدهار الصناعة والتجارة الذي حل الآن في فرنسا، يعاني سواد السكان، 25 مليونًا من الفلاحين، من الانحطاط الشديد. فإن الغلال الطيبة في السنوات الأخيرة قد خفضت أسعار الحبوب في فرنسا أكثر مما في إنجلترا؛ ووضع الفلاحين، الغارقين في الديون، والذين أنهكهم المرابون وأرهقتهم الضرائب، لأبعد من أن يكون من الممكن اعتباره وضعًا باهرًا. ولكن هذه الطبقة من السكان، كما بين تاريخ السنوات الثلاث الأخيرة بما يكفي من الوضوح، عاجزة قطعًا عن المبادرة الثورية.

إن مرحلة الأزمة، مثلها مثل مرحلة الازدهار، تحل في القارة بعد حلولها في إنجلترا. فإن العملية تجري دائمًا بادئ ذي بدء في إنجلترا؛ فإن إنجلترا هي خالقة الكون البرجوازي. وفي القارة، تدخل مختلف أطوار الحلقة التي تنجم على الدوام المرة تلو المرة عن المجتمع البرجوازي في الشكل الثاني والثالث. أولاً، تصدر القارة إلى إنجلترا أكثر بما لا قياس له مما تصدر إلى أي بلد آخر. ولكن التصدير إلى إنجلترا رهن بدوره بوضع إنجلترا، ولا سيما في أسواق ما وراء المحيط. ثم تصدر إنجلترا إلى بلدان ما وراء المحيط أكثر بما لا قياس له مما تصدر إلى القارة بأسرها؛ وعليه كانت مقادير التصدير القاري إلى هذه البلدان تتوقف دائمًا على تصدير إنجلترا إلى ما وراء المحيط. ولهذا، إذا كانت الأزمات تولد الثورات في القارة أولاً، فإن سبب الأزمات يقع مع ذلك في إنجلترا. ولا بد للكوارث العنيفة أن تحدث بالطبع في أطراف الجسم البرجوازي قبل أن تحدث في قلبه حيث إمكانيات التعويض أكبر. ومن جهة ثانية، تشكل درجة تأثير الثورات القارية في إنجلترا مع ذلك ميزان حرارة يبين بأي قدر تعرض هذه الثورات بالفعل للخطر أسس النظام البرجوازي ذاتها أو بأي قدر لا تمس غير تشكيلاته السياسية.

وفي مثل هذا الازدهار العام الذي تتطور في ظله قوى المجتمع البرجوازي المنتجة تطورًا باهرًا بقدر ما يمكن ذلك في نطاق العلاقات البرجوازية، لا يمكن حتى أن يتناول الكلام الثورة الفعلية. فإن هذه الثورة ليست ممكنة إلا في المراحل التي يدخل فيها هذان العاملان، القوى المنتجة العصرية وأشكال الإنتاج البرجوازية، في تناقض بينهما. فإن المخاصمات التي لا نهاية لها التي ينصرف إليها الآن ممثلو كتل حزب النظام القاري، مسيئين بعضهم إلى سمعة بعض، لا تؤدي أبدًا إلى ثورات جديدة؛ بل بالعكس؛ فإن هذه المخاصمات ممكنة لسبب واحد فقط، هو أن أساس العلاقات الاجتماعية في اللحظة المعنية متين جدًا و- هذا ما لا تعرفه الرجعية – برجوازي جدًا. وأن جميع المحاولات الرجعية لوقف التطور البرجوازي ستتحطم من كل بد على هذا الأساس، مثلها مثل كل غضب الديموقراطيين الأخلاقي وكل بياناتهم النارية. إن ثورة جديدة غير ممكنة إلا أثر أزمة جديدة. ولكن نشوبها محتم مثله مثل نشوب هذه الأخيرة.

لنعد الآن إلى فرنسا.

إن الشعب الذي أجبر على إجراء انتخابات جديدة في 28 نيسان قد قضى بنفسه على انتصاره الذي أحرزه بالتحالف مع البرجوازية الصغيرة في انتخابات العاشر من آذار. وقد انتخب فيدال لا في باريس وحسب، بل وفي الراين الأسفل. فإن لجنة باريس التي كان “الجبل” والبرجوازية الصغيرة ممثلين فيها بصورة واسعة، قد حملته على قبول تفويض الراين الأسفل. وفقد انتصار العاشر من آذار أهميته الحاسمة؛ ومن جديد أرجئ القرار النهائي، وضعف توتر الشعب، واعتاد الانتصارات الشرعية عوضًا عن الانتصارات الثورية. وأخيرًا، أدى ترشيح أوجين سو، الاشتراكي الخيالي العاطفي البرجوازي الصغير، إلى القضاء كليًا على المغزى الثوري للعاشر من آذار وعلى إعادة الاعتبار لانتفاضة حزيران؛ وفي أفضل الأحوال، كان بمستطاع البروليتاريا أن نعتبر هذا الترشيح نكتة لإرضاء العاملات المغناجات. وضد هذا الترشيح الحسن النية، عمد حزب النظام، وقد ازداد جرأة نظرًا لسلوك الإخصام المائع، إلى تقديم مرشح كان لا بد له أن يجسد انتصار حزيران. وهذا المرشح الهزلي كان والد عائلة ليكلير السبارطي الذي مزقت الصحافة مع ذلك دروعه وخوذاته البطولية إربًا إربًا والذي مني في الانتخابات بهزيمة باهرة. وقد ألهم النصر الجديد في انتخابات الثامن والعشرين من نيسان “الجبل” والبرجوازية الصغيرة. وأخذ “الجبل” يهلل في قرارة نفسه لاعتقاده أنه سيتمكن من بلوغ هدفه بالسبيل الشرعي الصرف، دون أن يستثير ثورة جديدة من شأنها أن تدفع البروليتاريا من جديد إلى مقدمة المسرح؛ وكان “الجبل” واثقًا بأنه سيجلس في الانتخابات الجديدة في عام 1852، بواسطة الحق الانتخابي العام، السيد ليدرو – رولان في كرسي الرئاسة ويضمن أكثرية “جبلية” في الجمعية. أما حزب النظام الذي أقنعته الانتخابات الجديدة وترشيح سو ومزاج “الجبل” والبرجوازية الصغيرة بأن هؤلاء الأخيرين قرروا لزوم جانب الهدوء والسكينة في جميع الظروف، فقد رد على الانتصارين الانتخابيين بقانون انتخابي ألغي الحق الانتخابي العام.

ولقد كانت الحكومة على درجة من الاحتراس بحيث أنها لم تأخذ مشروع القانون هذا على مسؤوليتها. فقد قامت بتنازل مزعوم في صالح الأغلبية بتخويلها أمر دراسة هذا المشروع إلى رؤساء الأغلبية، البورجراف السبعة عشر ([2]). وعليه، ليست الحكومة هي التي اقترحت على الجمعية الوطنية، بل أغلبية الجمعية هي التي اقترحت على نفسها بنفسها إلغاء الحق الانتخابي العام.

في 8 أيار أحيل مشروع القانون إلى المجلس. فهبت الصحافة الاشتراكية – الديموقراطية كلها، كرجل واحد، تقنع الشعب بأن يسلك سلوكًا لائقًا، ويحافظ على الهدوء المهيب، ويبقى لا مباليًا واثقًا بممثليه. وكان كل مقال من هذه الجرائد اعترافًا بأن الثورة تقضي قبل كل شيء على ما يسمى بالصحافة الثورية، وأن المقصود الآن بالتالي هو الحفاظ على نفسها بنفسها. إن الصحافة الثورية المزعومة قد باحت بسرها. ووقعت بنفسها على نفسها حكم الموت.

في 21 أيار طرح “الجبل” مسألة المناقشة المسبقة، وطالب برفض مشروع القانون كله لأنه يخالف الدستور. فرد حزب النظام على هذا بأن الدستور سوف ينتهك عند الاقتضاء وأنه لا داعي الآن إلى انتهاكه لأنه يمكن تفسير الدستور بأي صورة كانت، وأن الأغلبية وحدها صالحة للبت فيما إذا كان هذا التفسير أو ذاك صحيحًا. وقابل “الجبل” هجمات تيير ومونتالامبير الوحشية الجامحة بإنسانية مثقفة وحسنة التهذيب. وقد استند إلى تربة الحق؛ فدله حزب النظام على التربة التي ينبت عليها الحق، دله على الملكية البرجوازية. فأخذ “الجبل” يتضرع: هل يريدون، يا ترى، أن يستثيروا الثورة مهما كلف الأمر؟ فرد حزب النظام: أنها لن تأخذنا على حين غرة.

في 22 أيار، وضع حد لمناقشة المسألة مسبقًا بأغلبية 462 صوتًا ضد 227. إن نفس أولئك الناس الذين برهنوا بفائق المهابة وبفائق الإسهاب أن الجمعية الوطنية وكل نائب بمفرده سيتخلون عن صلاحياتهم ما أن يتخلوا عن الشعب الذي منحهم الصلاحيات، يواصلون الجلوس بهدوء في مقاعدهم، وعوضًا عن أن يتحركوا بأنفسهم، شرعوا يعرضون فجأة على البلد أن يتحرك، بواسطة العرائض على وجه الضبط؛ وقد بقوا جامدين بلا حركة حتى عندما مر القانون نفسه في 31 أيار بصورة باهرة. لقد حاولوا أن يثأروا لأنفسهم من الاحتجاج الذي سجلوا فيه عدم اشتراكهم في انتهاك الدستور، ولكن هذا الاحتجاج لم يدلوا به هو أيضًا على المكشوف، بل دسوه سرًا في جيب الرئيس.

إن الجيش المؤلف من مائة وخمسين ألف رجل في باريس، وتأجيل الحل النهائي إلى ما لا نهاية له، ودعوات الصحافة إلى التزام جانب الهدوء، وتخاذل “الجبل” والنواب المنتخبين حديثًا، وهدوء البرجوازية الصغيرة المهيب، ولا سيما النهوض التجاري والصناعي، كل هذا كان يعرقل كل محاولة ثورية من جانب البروليتاريا.

أدى الحق الانتخابي العام رسالته. فقد مرت مرت أغلبية الشعب بمدرسته التعليمية التي لا يمكنه أن يقوم بدورها إلا في العهد الثوري. وكان لا بد أن تقضي عليه أما الثورة وأما الرجعية.

وقد أظهر “الجبل” المزيد من الهمة والعزيمة عندما وقع الحادث التالي بعد فترة وجيزة. فمن على منبر الجمعية نعت وزير الحربية دوبول ثورة شباط بالكارثة المشؤومة. ولم يعط الرئيس دوبان الكلمة لخطباء “الجبل” الذين أعربوا، مثلما هو حالهم دائمًا، عن غضبهم الأخلاقي بضجة قوية. فاقترح جيراردان على “الجبل” أن يغادر القاعة على الفور بكامل قوامه. النتيجة: بقي “الجبل” في مكانه، بينما رمي بجيراردان إلى خارجها بوصفه غير جدير بالاحترام.

كان قانون الانتخاب بحاجة إلى إضافة أخرى. إلى قانون جديد للصحافة. وهذا الأخير ما لبث أن ظهر. إن مشروع قانون الحكومة، الذي جعلته تعديلات حزب النظام في كثير من بنوده أشد صرامة، قد زاد الضمانات المالية، ونص على استيفاء رسوم ختم خاصة عن الروايات التي تطبع بشكل حلقات متسلسلة، وفرض ضريبة على جميع المؤلفات الصادرة بطبعات أسبوعية وشهرية في حدود عدد معين من الملازم، وأقر، أخيرًا، أنه يجب أن تكون كل مقالة في جريدة مرفقة بتوقيع كاتبها. أن الأحكام المتعلقة بالضمانات المالية قد قتلت ما يسمى بالصحافة الثورية؛ ورأى الشعب في هلاكها عقابًا على إلغاء الحق الانتخابي العام. ولكن القانون الجديد لم يقتصر، لا بميوله ولا بفعله، على هذا القسم من الصحافة. فطالما كانت الصحافة اليومية مغفلة، فقد كانت لسان حال رأي عام واسع وغير معين؛ كانت السلطة الثالثة في الدولة. وكان التوقيع على كل مقالة يحول الجريدة إلى مجرد مجموعة من مؤلفات أدبية لأشخاص متفاوتي الشهرة. وكانت كل مقالة تنحط إلى مستوى إعلان صحفي. وحتى الآن، كانت الجرائد موضع تداول بوصفها نقودًا ورقية للرأي العام؛ أما الآن، فقد تحولت إلى كمبيالات فردية مشكوك فيها إلى هذا الحد أو ذاك، وتتوقف درجة جودتها ورواجها، لا على سمعة ساحب الكمبيالة وحسب، بل أيضًا على سمعة مجيرها. وأخذت صحافة حزب النظام تحرض، لا من أجل إلغاء الحق الانتخابي العام وحسب، بل أيضًا من أجل اتخاذ أقصى الإجراءات ضد الصحافة “الرديئة”. ولكن حتى الصحافة “الجيدة” بإغفالها المشؤوم للغاية لم تكن تروق لحزب النظام ولا سيما لبعض ممثليه من الأقاليم. كان حزب النظام يرغب في التعامل مع الكاتب المستأجر فقط، كان يريد أن يعرف اسم الكاتب ومكان إقامته وأوصافه. وعبثًا ذرفت الصحافة “الجيدة” الدموع على نكران الجميل الذي يجازون به خدماتها. فقد مر القانون، ونزلت ضربة مطلب توقيع المقالات عليها بالذات في المقام الأول. وكانت أسماء الكتاب السياسيين الجمهوريين مشهورة جدًا، ولكن الشركات المبجلة „Journal des Débats“ „Assemblée Nationale“([3])، „Constitutionnel“([4])، وإلخ، وإلخ، وجدت نفسها، رغم كل حكمتها السياسية التي تحظى بواسع الدعاية، في وضع سخيف للغاية عندما ظهرت كل هذه الرفقة السرية فجأة بمظهر pennz – a – liners (الكاتب البنسي: كاتب يحرر في الصحف لقاء بنس واحد لكل سطر – كاتب مستأجر – الناشر) مأجورين ومحنكين من طراز غرانيه دي كاسانياك، يدافعون عن كل شيء لقاء الدفع نقدًا، أو بمظهر مزق قديمة من طراز كابفيغ يعتبرون أنفسهم من رجالات الدولة، أو بمظهر كساري جوز مغناجين من طراز السيد ليموان من „Débats“.

وعند مناقشة قانون الصحافة، كان “الجبل” قد بلغ درجة من الانحطاط المعنوي بحيث كان لا بد له أن يكتفي بالتصفيق للخطب الباهرة العنيفة التي كان يلقيها أحد مشاهير أنصار لويس فيليب القدامى، السيد فكتور هوغو.

ومنذ إقرار قانون الانتخاب وقانون الصحافة، خرج الحزب الثوري والديموقراطي من المسرح الرسمي. وبعد نهاية الدورة بفترة قصيرة، وقبل التفرق كل إلى بيته، أصدرت كتلتا “الجبل” – الديموقراطيون الاشتراكيون والاشتراكيون الديموقراطيون، بيانين، testimonia paupertatis (شهادة فقر حال – الناشر) اثنتين، أثبتتا فيهما أنه إذا كان النجاح والقوة لم يكونا يومًا إلى جانبهما، فقد وقفتا دائمًا بالمقابل إلى جانب الحق السرمدي وجميع الحقائق السرمدية على اختلافها.

لنعد الآن إلى حزب النظام. كتبت مجلة “الجريدة الرينانية الجديدة” في العدد 3، الصفحة 16: “ضد مطامع الأورليانيين والشرعيين المتحدين في العودة إلى العرش، يدافع بونابرت عن الأساس الحقوقي لسلطته الفعلية، أي عن الجمهورية؛ وضد مطامع بونابرت بالعودة إلى العرش، يدافع حزب النظام عن الأساس الحقوقي لسيادته المشتركة أي عن الجمهورية؛ الشرعيون ضد الأورليانيين، والأورليانيون ضد الشرعيين يدافعون عن status quo أي عن الجمهورية. وجميع كتل حزب النظام هذه التي لكل منها في قرارة نفسها ملكها الخاص وعودتها الخاصة إلى العرش، تعارض كل منها مطامع منافسيها الاغتصابية والتمردية بسيادة البرجوازية العامة، المشتركة، بالشكل الذي تشل فيه جميع ادعاءاتهم المختلفة بعضها بعضًا وتحفظ بعضها بعضًا، أي بالجمهورية.

بل أنه لم يخطر في بال تيير أي حقيقة انطوت عليها كلماته: “نحن الملكيين حصن الجمهورية الدستورية الحقيقي”.

هذه الكوميديا من الجمهوريين رغم أنوفهم، هذا الكره status quo وهذا التوطيد الدائم له؛ وهذه المصادمات الدائمة بين بونابرت والجمعية الوطنية؛ وهذا الخطر الذي يتجدد باستمرار ويتهدد حزب النظام بالانشقاق إلى أجزائه المكونة، وهذا التلاحم الجديد الدائم بين كتله؛ ومحاولات كل منها لتحويل كل انتصار على العدو المشترك إلى هزيمة لحلفائها المؤقتين، والحسد المتبادل، والمكائد، والملاحقة، والسيوف المشهورة بلا كلل، وبالنتيجة قبلة لاموريت ([5]) دائمًا، – كل هذه الكوميديا القبيحة لم تتطور قط بصورة كلاسيكية بالقدر الذي تطورت به في سياق الأشهر الستة الأخيرة.

ومع ذلك، اعتبر حزب النظام قانون الانتخاب انتصارًا على بونابرت. فحين أحالت حكومة بونابرت إلى لجنة السبعة عشر أمر صياغة مشروع قانونها والمسؤولية عنها، ألم تتنازل بالتالي، يا ترى، عن السلطة؟ أو لم يتقوم السند الرئيسي لبونابرت ضد الجمعية في كونه منتخب ستة ملايين؟ – وكان بونابرت ينظر من جهته إلى قانون الانتخاب كتنازل في صالح الجمعية، تنازل اشترى به التناسق بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. وعلى سبيل المكافأة، طلب المغامر السافل زيادة راتبه إلى ثلاثة ملايين فرنك. فهل كان في مقدور الجمعية الوطنية أن تدخل في نزاع مع السلطة التنفيذية في وقت أعلنت فيه هذه الجمعية أغلبية الشعب الفرنسي الساحقة خارج القانون؟ تملكها الغضب؛ وقد خيل أنها عزمت اتخاذ أقصى الإجراءات؛ رفضت لجنتها الاقتراح؛ وأخذت الصحافة البونابرتية بدورها وضعة رهيبة، مشيرة إلى الشعب المنهوب، المحروم من حقه الانتخابي. وجرت كثرة من المحاولات الصاخبة للتفاهم؛ وفي آخر المطاف، تنازلت الجمعية في الواقع، ولكنها انتقمت في الوقت نفسه من حيث المبدأ. فعوضًا عن زيادة الراتب بصورة مبدئية دائمة إلى ثلاثة ملايين في السنة، صوتت بالموافقة على منح بونابرت علاوة إضافية مقطوعة فقط قدرها 2160000 فرنك. ولم تكتف الجمعية بذلك؛ بل أنها لم تقم بهذا التنازل إلا عندما أيدها شانغارنيه، جنرال حزب النظام، والحامي الطفيلي لبونابرت. وهكذا، تم التصويت على منح هذين المليونين، لا إكرامًا لبونابرت، بل إكرامًا لشانغارنيه.

وهذه الصدقة المرمية عن غير رغبة إنما قبلها بونابرت بروح الواهب تمامًا. فقد استأنفت الصحافة البونابرتية حملاتها على الجمعية الوطنية؛ وعندما قدم أثناء مناقشة قانون الصحافة تعديل بصدد التواقيع موجة في المقام الأول ضد الجرائد من المرتبة الثانية، التي تمثل مصالح بونابرت الخاصة، حملت الصحيفة البونابرتية الرئيسية „Pouvoir“ على الجمعية الوطنية بضراوة لا كابح لها. فاضطر الوزراء إلى التبرؤ من هذه الجريدة أمام الجمعية الوطنية؛ وأحيل المحرر المسؤول في „Pouvoir“ إلى المحاكمة أمام الجمعية الوطنية وحكم عليه بالحد الأقصى من الغرامة النقدية وقدره 5000 فرنك. وفي اليوم التالي، نشرت „Pouvoir“ مقالة أشد وقاحة ضد الجمعية وعلى سبيل أخذ الثأر، أقامت الحكومة دعاوي جزائية على بضع جرائد شرعية لمخالفتها الدستور.

وأخيرًا، طرحت مسألة تأجيل جلسات المجلس. وكان بونابرت بحاجة إلى هذا التأجيل لكي يتصرف بدون أي عائق من جانب الجمعية. وكان حزب النظام بحاجة إليه جزئيًا لأجل مؤامراته الكتلوية، وجزئيًا بسبب مصالح مختلف النواب الشخصية. وكان الطرفان بحاجة إليه لأجل توطيد وتوسيع انتصارات الرجعية في الأقاليم. ولهذا أرجأت الجمعية جلساتها من 11 آب إلى 11 تشرين الثاني. ولكن لما كان بونابرت لم يخف البتة أنه يسعى إلى التخلص من رقابة الجمعية الوطنية الثقيلة الوطأة، فقد أضفت الجمعية على تصويتها بالثقة طابع عدم الثقة بالرئيس. فلم يدخل أي بونابرتي في اللجنة الدائمة المؤلفة من ثمانية وعشرين شخصًا، والتي ظلت تحرس فضائل الجمهورية أثناء العطلة (البرلمانية). وعوضًا عن البونابرتيين، انتخب حتى بضعة جمهوريين من „Siecle“ و“National“ لأجل تقديم البرهان للرئيس على مناصرة الأغلبية للجمهورية الدستورية.

قبل تأجيل جلسات المجلس بوقت قليل، ولا سيما الآن بعد تأجيلها، خيل أن كتلتي حزب النظام الكبيرتين – الأورليانيين والشرعيين – مستعدتان للتصالح على أساس اندماج العائلتين الملكيتين اللتين كانت هاتان الكتلتان تناضلان تحت راياتهما. فقد حفلت الجرائد بمشاريع للمصالحة كان يتناولها البحث عند سرير لويس فيليب المريض في سانت ليوناردس، ولكن وفاة لويس فيليب فجأة بسطت الوضع. فقد كان لويس فيليب مغتصبًا، وكان هنري الخامس ضحيته؛ أما كونت باريس، فقد كان الوريث الشرعي لهنري الخامس، لعدم وجود أولاد عند هذا الأخير. وقد زالت الآن كل ذريعة لأجل الاعتراض على دمج مصالح الأسرتين. ولكن الكتلتين فهمتا الآن على وجه الضبط، في آخر المطاف، إن ما يفرّق بينهما ليس التعلق العاطفي بهذه العائلة الملكية أو تلك، وأن الأمر بالعكس، وهو أن مصالحهما الطبقية المختلفة هي التي فرقت بين الأسرتين. إن الشرعيين الذين مضوا يقدمون آيات الاحترام لهنري الخامس في فيسبادن، قد تلقوا هناك، مثلهم مثل منافسيهم الأورليانيين في سانت ليوناردس، نبأ وفاة لويس فيليب؛ فشكلوا على الفور وزارة ([6])in partibus infidelium (حرفيًا: في بلاد الكفار، أي ما وراء حدود البلاد، في المهجر – الناشر) دخل فيها معظم أعضاء لجنة حراس فضائل الجمهورية، المذكورة آنفًا، ولم تتباطأ، عند حدوث نزاع واحد في الحزب، عن إصدار بيان صريح للغاية بالحق بنعمة الله. وقد هلل الأورليانيون لمناسبة الفضيحة المشينة التي استثارها هذا البيان ([7]) في الصحافة، ولم يخفوا البتة عذاءهم السافر للشرعيين.

أثناء عطلة الجمعية الوطنية، افتتحت الجمعية التمثيلية في المحافظات جلساتها. وأيدت أغلبيتها إعادة النظر في الدستور، المحدودة بتحفظات متفاوتة الشأن، أي أنها أيدت عودة الملكية دون أن تعطيها تعريفًا أدق، وأيدت “حل المسألة”، مدركة مع ذلك أنها غير صالحة إطلاقًا ومغرقة في الجبانة حتى تجد هذا الحل. فهرعت الكتلة البونابرتية إلى تفسير هذه الرغبة في إعادة النظر على إنها رغبة في تمديد صلاحيات بونابرت الرئاسية.

لم يكن بوسع الطبقة السائدة في أي حال من الأحوال أن تجيز الحل الدستوري الشرعي – أي استقالة بونابرت في أيار 1852، وانتخاب رئيس جديد في الوقت نفسه من قبل جميع ناخبي البلد، وإعادة النظر في الدستور من قبل مجلس خاص، منتخب لهذا الغرض، في خلال الأشهر الأولى من الرئاسة الجديدة. فقد كان من شأن يوم انتخاب الرئيس الجديد أن يغدو يوم لقاء بين جميع الأحزاب المتعادية: الشرعيين، الأورليانيين، الجمهوريين البرجوازيين، الثوريين. وبالنتيجة كان لا بد لها أن تلجأ حتمًا إلى العنف. ولو أفلح حتى حزب النظام في أن يتحد حول مرشح حيادي ما يقف بمعزل عن العائلتين الملكيتين، لهب بونابرت ضده. فقد كان حزب النظام مكرهًا، في نضاله ضد الشعب، على زيادة قوة السلطة التنفيذية باستمرار. وكل تقوية للسلطة التنفيذية تقوي حاملها، بونابرت. ولهذا، كانت كل خطوة يتخذها حزب النظام لأجل تقوية بأسه العام تقوي الوسائل القتالية لدى بونابرت مع ادعاءاته الأسرية، وتزيد حظه في الحيلولة بالقوة في اللحظة الحاسمة دون الحل الدستوري. وآنذاك لن يتردد بونابرت في نضاله ضد حزب النظام عن انتهاك أحد أسس الدستور مثلما لم يتردد حزب النظام في نضاله ضد الشعب عن انتهاك أساس آخر للدستور، بإلغائه الحق الانتخابي العام. وكان بوسعه، حسب كل احتمال، أن يستند حتى إلى الحق الانتخابي العام ضد الجمعية. خلاصة القول أن الحل الدستوري يضع على كف عفريت كل status quo السياسي؛ ولكن التشوش والفوضى والحرب الأهلية تتراءى للبرجوازي وراء تقلقل status quo. ويتراءى له أن جميع مشترياته ومبيعاته، وكمبيالاته، وزواجاته، وعقوده عند كاتب العدل، ورهوناته العقارية، وريعه العقاري، وإيجار بيوته، وأرباحه، وجميع عقوده ومصادر دخله ستوضع على كف عفريت منذ الأحد الأول من شهر أيار 1852، ولكنه لا يستطيع تعريض نفسه لمثل هذا الخطر. فوراء تقلقل status quo السياسي، يمكن خطر إفلاس المجتمع البرجوازي كله. إن الحل الوحيد الممكن بالنسبة للبرجوازية، إنما هو إرجاء الحل. فليس في وسع البرجوازية أن تنقذ الجمهورية الدستورية إلا بانتهاك الدستور، بتمديد سلطة الرئيس. وهذه هي بالذات آخر كلمة صحافة حزب النظام بعد جميع المناقشات الجدية والطويلة بصدد “حلول المسألة”، التي عكفت عليها عند انتهاء دورة المجالس العامة. وعليه يرى حزب النظام الجبار نفسه مضطرًا، لما فيه خجله، إلى أن يأخذ جديًا بالحسبان شخصية بونابرت المزعوم المضحكة، الخسيسة، المكروهة منه.

وهذه الشخصية القذرة أخطأت بدورها فيما يتعلق بالأسباب الحقيقية التي جعلت دور الرجل الضروري يعود إليها أكثر فأكثر. فبينما كان حزبه على ما يكفي من الفطنة والذكاء لكي ينسب تعاظم شأن بونابرت إلى الوضع الناشئ، كان بونابرت نفسه يؤمن بأنه مدين بذلك فقط لتأثير اسمه السحري ولمحاكاته نابليون بلا كلل. وكانت همته تتزايد يومًا بعد يوم. فقد رد على الحج إلى فيسبادن وسانت لوناردس بجولاته في شتى أرجاء فرنسا. وكان البونابرتيون قلما يعلقون الآمال على سحر شخصه إلى حد أنهم كانوا يرسلون وراءه في كل مكان المصفقين، أعضاء جمعية العاشر من كانون الأول (ديسمبر) ([8])، هذه المنظمة لحثالة البروليتاريا، مالئين بهم قطارات السكك الحديدية وعربات البريد. وكانوا يضعون على لسان دميتهم خطابات مختلفة كانت، حسب الاستقبال الذي يلقاه الرئيس في هذه المدينة أو تلك، تعلن الوداعة الجمهورية تارة والثبات والمثابرة طورًا شعارًا لسياسة الرئيس. ورغم جميع المناورات، كانت هذه الرحلات تشبه المواكب المظفرة أقل ما تشبه.

وبما أن بونابرت كان على يقين من أنه أفلح على هذا النحو في تحميس الشعب، فقد عكف على التحريض في صفوف الجيش. فنظم في سهل ساتوري، قرب فرساي، استعراضات كبيرة للقوات المسلحة حاول فيها أن يرشي الجندي بالمقانق المحشوة بالثوم والشمبانيات ولفافات السيجار. لقد كان نابليون الحقيقي يعرف كيف يشجع الجنود المنهوكين في خضم أعباء حملاته الاغتصابية بمظاهر مفاجئة من الدالة الأبوية؛ أما نابليون المزعوم، فقد كان يتصور أن القوات المسلحة قد شكرته بهتافاتها “عاش نابليون، عاشت المقائق! أي عاشت المقائق (Wurst)، عاش البهلول Hanswurst!”.

وقد أدت هذه الاستعراضات إلى كشف التنافر المكتوم زمنًا طويلاً بين بونابرت ووزير الحربية دوبول من جهة، وشانغارنيه من جهة أخرى. وفي شخص شانغارنيه، وجد حزب النظام رجله الحيادي فعلاً الذي لم يكن من الممكن حتى أن يتناول الكلام ادعاءاته الأسرية. وفضلاً عن ذلك، أصبح شانغارنيه، بفضل سلوكه في 29 كانون الأول و13 حزيران 1849، قائدًا عسكريًا كبيرًا لحزب النظام، إسكندرًا ثانيًا، يقطع بتدخله الفظ، كما يظن البرجوازي الوجل، عقدة الثورة الغوردية ([9]). أما بالفعل، فهو شخص حقير مثل بونابرت، وقد جعل من نفسه قوة بأسلوب رخيص للغاية، وقدمته الجمعية الوطنية للإشراف على الرئيس. وهو نفسه تصنع – مثلاً، في المناقشات بصدد راتب الرئيس – أداء دور حامي بونابرت، وأخذ يعامله ويعامل وزراءه بمزيد ومزيد من التعالي. وعندما كانوا يتوقعون انتفاضة لمناسبة قانون الانتخاب الجديد، منع ضباطه من قبول أي أمر كان من وزير الحربية أو من الرئيس. وأسهمت الصحافة، من جانبها، في تعظيم شخصية شانغارنيه. ونظرًا لعدم وجود شخصيات بارزة نوعًا في حزب النظام، اقتضى الحال منح شخص واحد قوة لا وجود لها عند كل طبقته وتضخيمه بالتالي إلى حد جعله نوعًا من عملاق. هكذا نشأت خرافة شانغارنيه – “حصن المجتمع”. إن الشعوذة الوقحة، والكبرياء المصطنعة المبهمة، اللتين تفضل شانغارنيه وحمل بهما العالم كله على كتفيه، تشكلان نقيضًا مضحكًا للغاية للأحداث التي وقعت أثناء الاستعراض في ساتوري وبعده. فقد برهنت هذه الأحداث بما لا يقبل الجدل أنه تكفي شطة واحدة من قلم بونابرت لإنزال الوليد الغريب للذعر البرجوازي، العملاق شانغارنيه، إلى منزله رجل وسط عادي، ولتحويله، هو البطل الذي ينقذ المجتمع، إلى جنرال متقاعد يعيش على المعاش.

لقد سبق لبونابرت أن انتقم ذات مرة من شانغارنيه باستفزازه وزير حربيته على القيام بمصادمات انضباطية مع المحامي المزعج. فإن الاستعراض الأخير في حقل ساتوري أدى، في آخر المطاف، إلى انفجار العداوة القديمة. ولم يعرف غضب شانغارنيه الدستوري بعد ذاك أي حدود عندما سارت أفواج الخيالة أمام بونابرت مطلقة الهتافات المعادية للدستور “عاش الإمبراطور!”. وتهربًا من المناقشات غير المستطابة بصدد هذه الهتافات في دورة المجلس العتيدة، أقصى بونابرت وزير الحربية دوبول بتعيينه حاكمًا على الجزائر. وعين مكانه جنرالاً عجوزًا من زمن الإمبراطورية، مأمونًا تمامًا ولا يقل عن شانغارنيه في شيء من حيث الخشونة. ولكن، لكي لا يظهر عزل دوبول بمثابة تراجع أمام شانغارنيه، نقل بونابرت في الوقت نفسه الجنرال نيماير، اليد اليمني لمنقذ المجتمع العظيم، من باريس إلى نانت. لقد أذنب نيماير في كونه قد مر في الاستعراض الأخير أمام وريث نابليون لازمًا الصمت الجليدي. وتأثر شانغارنيه شخصيًا بنقل نيماير، فشرع يحتج ويهدد. ولكن عبثًا! فبعد يومين من المفاوضات، صدر المرسوم بنقل نيماير إلى نانت في „Moniteur“ ولم يبق لبطل النظام ما يفعله غير الخضوع للانضباط أو تقديم الاستقالة.

إن نضال بونابرت ضد شانغارنيه هو تتمة لنضاله ضد حزب النظام. ولهذا ستفتتح الدورة الجديدة للجمعية الوطنية في 11 تشرين الثاني بتكهنات منذرة بالسوء. ولكن هذا سيكون عاصفة في فنجان. وعلى العموم ستتكرر اللعبة القديمة. فإن أغلبية حزب النظام ستضطر إلى تمديد صلاحيات الرئيس، رغم زعيق حراس المبادئ في مختلف كتله. وبونابرت، الذي استكان بسبب قلة المال وحدها، سيقبل بدوره تمديد السلطة هذا بوصفه تفويضًا بسيطًا من يد الجمعية الوطنية. وعليه سيرجأ حل المسألة، ويصان status quo؛ وكل من كتلتي حزب النظام ستضعف الأخرى، وتسيء إلى سمعتها، وتفعل المستحيل ضدها؛ وستتفاقم أعمال القمع ضد العدو المشترك، ضد جماهير الأمة، وتنفد في آخر المطاف، طالما لم تبلغ العلاقات الاقتصادية ذاتها من جديد، درجة من التطور في آخر الأمر تتطاير فيها في الهواء من الانفجار الجديد جميع هذه الأحزاب المتخاصمة وجمهوريتها الدستورية.

ولكنه ينبغي أن نضيف، عزاء للبرجوازي، أن كثيرين من صغار الرأسماليين قد حل بهم الخراب في البورصة بسبب الصراع بين بونابرت وحزب النظام، وأن رساميلهم قد انتقلت إلى جيوب كبار ذئاب البورصة.

كتبه ماركس في عام 1850

صدر للمرة الأولى في مجلة

„Neue Rheinische Zeitung.

Politisch-ökonomische Revue“

الإعداد 1، 2، 3، 5 – 6،

لعام 1850

صدر في كراس على حده

بتحرير أنجلس ومع مقدمة له

في برلين عام 1895

 

([1]) كوبلنز. مدينة في ألمانيا الغربية. إبان الثورة البرجوازية الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، كانت مركز المهاجرين المعادين للثورة – ص 152.

([2]) في عام 1797، أصدرت الحكومة البريطانية قانونًا خاصًا بالقيود المصرفية يفرض سعرًا إلزاميًا للبنكنوت ويلغي مبادلة البنكنوت بالذهب. لم تستأنف المبادلة إلا في عام 1819 – ص 156.

([3]) البورغراف. بهذا الاسم أسمى 17 من زعماء الأورليانيين والشرعيين اشتركوا في لجنة الجمعية التشريعية لوضع مشروع قانون انتخابي جديد، وذلك لادعاءاتهم التي لا مبرر لها بالسلطة ولتطلعاتهم الرجعية. وقد أخذ هذا الاسم من مأساة تاريخية بالاسم نفسه الكاتب الفرنسي فكتور هوغر – ص 159.

([4])„L’Assemble Nationale“ (“الجمعية الوطنية”) جريدة يومية ذات اتجاه ملكي شرعي؛ صدرت في باريس من 1848 إلى 1857 – ص 162.

([5])„Le Constitutionnel“ (“الجريدة الدستورية”) جريدة برجوازية يومية فرنسية صدرت في باريس من 1815 إلى 1870؛ أعربت عن آراء البرجوازية المعادية للثورة – ص 162.

([6]) “قبلة لاموريت” – تلميح إلى الواقعة الشهيرة إبان الثورة البرجوازية الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر. فقد اقترح النائب في الجمعية التشريعية لاموريت وضع حد لجميع النزاعات والخلافات الحزبية بقبلة أخوية. وعملاً بدعوته، اندفع ممثلو الأحزاب المتعادية يعانقون بعضهم بعضًا، ولكن هذه “القبلة الأخوية” المنافقة لفها النسيان في اليوم التالي، كما كان ينبغي توقع ذلك – ص 164.

([7]) المقصود هنا مجلس الوزراء الذي عينه الشريعيون تحوطًا لحالة استلام الكونت شامبور لزمام الحكم – ص 166.

([8]) المقصود هنا ما يسمى “ببيان فيسبادن”، وهو تعميم وضعه الشرعيون في فيسبادن وحددوا فيه سياستهم في حال استلامهم لزمام السلطة. استثار هذا البيان مناظرة في الصحافة بسبب احتجاج عدد من الملكيين – ص 167.

([9]) جمعية العاشر من كانون الأول (ديسمبر) (أسميت هكذا على شرف انتخاب حامي الجمعية، لويس بونابرت، رئيسًا للجمهورية الفرنسية في 10 كانون الأول 1848) – جمعية بونابرتية سرية أنشئت عام 1849، وكانت تتألف في الأغلب من عناصر متفسخة طبقيًا ومن ممثلي الطغمة العسكرية ومن المغامرين السياسيين، إلخ… ص 169.

« السابق التالي »